إن سر الإفخارستيا هو سر حضور يسوع المسيح القائم من بين الأموات من خلال الخبز والخمر المكرسين. فكيف نفهم هذا الحضور؟.. هل هو رمزي أم حقيقي؟..
قبل أن نعرض الإختلافات بشأن هذا السر بين الطوائف المسيحية دعونا نعرض ما يتفق عليه المسيحيون بخصوص سر الإفخارستيا :
1- إن هذا السر قد رسمه الرب يسوع و أمر تلاميذه أن يمارسوه بصورة منتظمة دائمة.
2- أن هذا السر يفوق وصف الكلام و ما تعصر به العلوم اللاهوتية يناله المؤمن أكثر من أي تفسير أو أيضاح بواسطة القلب المنفتح أمام الله فهو بنسكب فينا بروحه ونعمته التي تغيرنا.
3- أن هذا السر منذ عصر الرسول بولس هو إخبار بموت المسيح وقيامته وتذكار قلبي علينا أن نمارسه بكل خشوع ووقار لئلا نأخذ دينونة لأنفسنا غير مميزين جسد الرب فهذا السر يجب أن يعود بنا إلى الصليب ونرى بعين الإيمان تلك الحياة التي بذلت لكي نحيا نحن بها وذلك الجسد الطاهر الذي صلب لكي ننال به خلاصا أبديا و فداء حقيقيا.
4- هذا السر هو قوتنا الروحية نتناوله بالشكر والاعتراف بالجميل فحضور المسيح معنا من خلال هذا السر ضروري لخلاص لخلاص المؤمنين وهو الذي قال: "لأنكم بدوني لا تقدرون أن تفعلوا شيئا"، بل هو حياتنا هو الكرمة الحقيقية ونحن الأغصان. وهذه الأغصان تبقى حية ما دامت ملتصقة بالكرمة، فالغصن يتناول غذاؤه من الكرمة، كذلك نحن نتناول غذائنا بالمسيح. فهذا السر حيوي فعال، بدونه لا نقدر على العيش بصحة روحية كما يريدها الرب إلهنا.
5- إن هذا السر هو شركة مقدسة ليس فقط مع المسيح بل مع بعضنا بعضا، مع جمهور العابدين معنا في الكنيسة بل مع جميع المؤمنين بإسمه أينما كانو في كنيسته المقدسة.
والآن فلنعرض وجهات النظر للطوائف الثلاثة (كاثوليك، بروتستانت، أرثوذكس ) بخصوص حضور المسيح الحقيقي في سر الإفخارستيا:
1- اللاهوت الكاثوليكي:
لقد شغل هذا الموضوع اللاهوت الكاثوليكي في الغرب منذ القرن التاسع فأكد بعض اللاهوتيين (الحضور الحقيقي ) وقالوا أن ما يصير حاضرا في الإفخارستيا هو جسد المسيح نفسه الذي ولد من مريم العذراء. فيما أكد غيرهم الحضور الرمزي والروحي وقالوا أن ما يحضر في الخبز والخمر هو قوة وفاعلية جسد المسيح ودمه وأشهر الذين قالوا بالحضور الرمزي هو بيرنجيه Berenger لاهوتي مدرسة تور في فرنسا فقال أن ما نتناوله هو "صورة المسيح" فحكم عليه في عدة مجامع ثم أرغم في مجمع اللاتران سنة 1059 على الاعتراف بأن "الخبز والخمر على الهيكل بعد التكريس ليسا فقط سر ربنا يسوع المسيح بل جسده ودمه الحقيقيان اللذان بشكل حسي يمسهما ويكسرهما أيدي الكهنة ويأكلها المؤمنين"، لكنه عاد فأنكر اعترافه هذا ثم عاد عن إنكاره وقبل تحديد مجمع رومه 11 شباط 1079 الذي ميز بين الجوهر والأشكال فالمسيح حاضر في حقيقة الجوهر أما الأشكال فهي أشكال الخبز والخمر.
إن اللاهوت الكاثوليكي منذ القرون الوسطى يفسر حضور المسيح في الإفخارستيا إستنادا إلى هذا التميز الذي أخذه عن فلسفة أرسطوطاليس بين الجوهر والأعراض. فحضور المسيح في الإفخارستيا هو حضور حقيقي أي بجسده ودمه، ولكن ليس بشكل مادي وحسي فما نأكله هو حقا جسد الرب ودمه ولكن تحت أشكال أو أعراض الخبز والخمر. إن ما يتحول هو جوهر الخبز والخمر أما الأعراض فتبقى على ما هي عليه، وبهذا التحول الجوهري لا يعود على جوهر الخبز والخمر بل جوهر السيد المسيح الذي يستطيع الإيمان وحده أن يعرفه ويتصل به. إن السيد المسيح حاضر في الإفخارستيا بجسده ودمه ولكن ليس على غرار حضور أجسادنا في الزمان والمكان.. وللرد على الذين كانوا يطلبون أن يروا بأعين الجسد المسيح في القربان، أو يشيعون حدوث عجائب كظهور طفل في القربان،ة أو خروج دم منها، خصص توما الأكويني مقالة كاملة في "خلاصته اللاهوتية" الشهيرة للتأكيد أن الخبز يتحول إلى جسد المسيح الممجد الذي لايمكن أن يرى بأعين الجسد وأنه من المستحيل أن يخرج دم من القربانة المقدسة.
2- لاهوت الكنائس البروتستنتية :
لم يرفض لوثر "الحضور الحقيقي" لجسد المسيح في سر الأفخارستيا لكنه رفض مفهوم "التحول الجوهري"، ففي نظره جوهر الخبز والخمر لا يتحولان بل يضاف إليهما جوهر جسد المسيح و دمه، ويفسر وجود جوهرين معاً من خلال مثل الحديد الذي يوضع في النار فيبقى جوهره على ما هو عليه ولكن يضاف إليه جوهر النار كما يشبه وجود جوهرين في الإفخارستيا بوجود طبيعتين في شخص المسيح الطبيعة الإلهية والطبيعة الإنسانية.
لقد حرمت الكنيسة الكاثوليكية تعليم لوثر في المجمع التريدنتيني (1545 -1563 )الذي تبنى التحول الجوهري كتعبير أوحد عن سر حضور المسيح الحقيقي في سر الإفخارستيا أما الكنائس اللوثرية فأعلنت إيمانها بحضور المسيح في (صيغة الإتفاق ) عام 1577 في العبارة التالية: "إن جسد المسيح يقدم للمؤمنين في القرابين الإفخارستية معها وتحتها".
هناك كنائس بروتستانتية تؤثر التكلم عن نوع من "الحضور الروحي" غير المحدود في جسد المسيح ودمه من خلال الخبز والخمر فإن عبارة "خذوا كلوا هذا هو جسدي، خذوا اشربوا هذاهو دمي" التي قالها السيد المسيح، لا يمكن أن تفهم بالمعنى الحرفي، ولقد أدرك التلاميذ هذا فالمسيح عندما قال هذه العبارة كان ما يزال حيا بينهم ثم أن المسيح بعد أن صلى على الكأس قال: "من الآن لا أشرب من نتاج الكرمة هذا"، فهو لا يزال يسميها نتاج الكرمة بعد أن صلى وشكر، لذلك فإن هذه الكنائس تؤمن أن الخبز والخمر لا يتحولان حرفيا وماديا إلى ذات لاهوت المسيح وناسوته، ولا يحتويان على ذات جسد المسيح ودمه، لكنها تؤمن أن الروح القدس يرافق العشاء الرباني بحالة روحية، ويوصل الفوائد الروحية إلى قلوب المؤمنين الذين يتناولون منه دون أن يطرأ على الخبز والخمر تغيير ما، فعندما يتناول المؤمنين العشاء الرباني يستقبلون جسد المسيح مع قوته المحيية بطريقة روحية فقد قال السيد المسيح: "جسدي مأكل حق ودمي مشرب حق من يأكل جسدي ويشرب دمي يثبت في وأنا فيه"، ولما قال له التلاميذ إن هذا الكلام صعب أجاب: "الروح هو الذي يحيي أما الجسد فلا يفيد شيئا ،الكلام الذي أكلمكم به هو روح وحياة".. ولقد فسر يوسابيوس القيصري (330 م) قول المسيح هذا بقوله: "كأن المسيح يقول لتلاميذه لاتظنوا أني أتكلم معكم عن الجسد الذي أنا حامله كأن هذا يجب أن يؤكل ولاتظنوا أني أقدم لكم دمي المادي لتشربوه لكن اعلموا أن الكلمات نفسها التي كلمتكم بها هي روح وحياة حتى أن ذات كلامي هو لحم ودم والذي يخصصه لنفسه يقتات كما بطعام سماوي ويكون شريكا في الحياة السماوية".
كما قال القديس أغوسطينوس (420 م): "إن حديث المسيح عن الأكل من جسده لايجوز فهمه حرفيا لأن نعمة الله لا تقبل بالأسنان"..
وقال القديس أثناسيوس (270 م): "إن التناول من جسد المسيح ودمه لايكون إلا روحيا"..
وهذا يعني أن هذا التناول لايكون بالفم مع الاعتقاد في النفس بأن الخبز والخمر هما ذات جسد المسيح ودمه بل أن التناول يكون روحيا أي باستقبال النفس وليس بالفم .
التقى في ليما بالبيرو بتاريخ كانون الثاني 1982 أكثر من 100 لاهوتي مثّلوا عمليا كل التقاليد الكنسية العظمى وقدّموا بالإجماع نصا كان ثمرة 50 سنة من الدراسة والبحث في المعمودية والإفخارستيا والكهنوت وثمرة التقارب اللاهوتي الذي تم خلال عقود من الحوار بهدى الروح القدس.
3- اللاهوت الأرثوذكسي :
يرفض اللاهوت الأرثوذكسي مقولة اللاهوت الكاثوليكي بأن ما يتحول في الإفخارستيا هو فقط جوهر الخبز والخمر فيما أشكال الخنز والخمر تبقى على ما هي عليه، كما يرفض اللاهوت اللوثري الذي يقول بوجود جوهرين معا؛ فالمسيح في نظر اللاهوت الأرثوذكسي لا ينزل من السماء ليحتجب تحت أشكال الخبز والخمر كما يقول الكاثوليك، ولا إلى جانب جوهر الخبز والخمر كما يقول اللوثريون. وتوضح الكاتبة فريدا حداد في كتابها "ذبيحة التسبيح" هذا المفهوم الأرثوذكسي فتقول: "إن حضور المسيح قي القداس الإلهي ليس مجرد ذكرى وإنما هو استقبال الرب الآتي والعبادة الليتورجية حدث فداء تاريخي بكل معنى الكلمة فالمسيح هنا بيننا الآن ولكن يقيننا من وجوده ليس يقينا علميا منطقيا وذهنيا فوجوده نعمة إلهية ونحن خلال القداس نطلب هذه النعمة".. وتضيف: "أن حضور المسيح في الليتورجيا حضور سري فالذين عايشوا يسوع في القرن الأول ما كان باستطاعتهم أن يروا أنه بالحقيقة ابن الله لولا مخاطرة الإيمان التي دعاهم هو إليها، وهكذا نحن أيضا لا نقدر أن نلمس حضوره إلا بعين الإيمان، فبالإيمان نخاطبه في الكتاب المقدس، ونراه مصلوبا في الخبز والخمر، وبالإيمان، نأتي لنستقبل ملك الكل في القداس الإلهي. فالكنيسة الشرقية لم تتسائل قط حول كيفية حضوره فهي تعلم أنه موجود كلما اجتمع اثنان أو ثلاثة لكسر الخبز".
أما أفدوكيموف فيوضح في كتابه "الأرثوذكسية": "إن الخبز الإفخارستي باستدعاء الروح القدس لا يحجب حضورا آخرا، بل يوحد الطعام السماوي وطعام الأرض إذ يجعلهما الشيء نفسه، وتلك هي المعجزة يغطس الكاهن الحمل في دمه وإذا هو الجسد الحي وليس علامة أو خداع الأعراض، وليس هو تجسد ثان للمسيح في الأشكال، بل التحوّل الكامل، تحول الجوهر والأعراض إلى جسد سماوي.. ليست أعراض الخبز هي التي تبقى بل حالة أعيننا التي لا تقوى على تأمل الجسد السماوي المحافظ على خداع الأشكال، إن خطأ العقيدة يقوم على الاهتمام بالموضوع وليس بالشخص، بالخبز وليس بالإنسان.. يجب ألا نحلل المعجزة على غرار التحليل الكيميائي تبعا لحواسنا، بل يجب بالحري، أن نفهم حواسنا بأنها لا ترى المعجزة الحقيقية، الحقيقة السماوية، يقول يوحنا الدمشقي: "إن استدعاء الروح القدس يحقق ما لايمكن أن نقبله إلا بالإيمان وحده".. ويتابع أفدوكيموف: "فمن غير المجدي أن نفلسف هذا الموضوع، إن الغربيين في عقائدهم يحاولون الولوج إلى قلب المعجزة وتفسير ما تعنيه، أما الشرقيون فينظرون بأعن الإيمان ويرون لأول وهلة الجسد والدم ولا شيء سوى ذلك".
4- لاهوت الآباء:
يقول القديس كيرلس الاسكندري: "عندما نضع القرابين أمام الله نصلي بإلحاح لكي تتحول لنا إلى بركة روحية، حتى أننا إذا تناولنا منها نتقدس في أجسادنا وأرواحنا، ثم يقول الكاهن مشيرا إلى القرابين: "هذا هو جسدي... هذا هو دمي...." لكي لا تظن أن ما يظهر أمامك هو مجرد رمز بل لكي تعرف جيدا أنه بفعل قدرة الله الضابط الكل الفائقة كل وصف قد تحوّلت القرابين بالحقيقة إلى جسد المسيح و دمه".
أما القديس كيرلس الأورشليمي (القرن الرابع) فيقول: "بما أن يسوع صرح بذلك وقال عن الخبز: "هذا هو جسدي" فمن يتجاسر ويشك بعد ذلك؟.. وعندما يؤكد هو نفسه بكلام حازم: "هذا هو دمي.." فمن الذي يعارض ويقول إنه ليس دمه؟.. لقد سبق له في قانا الجليل أن حول الماء إلى خمر بفعل إرادته، أفلا يكون جديراً بالتصديق عندما يحوّل الخمر إلى دمه. لقد قام بهذه الآية العجيبة عندما دعي إلى عرس دنيوي، وعندما يهب لأصدقاء العريس أن يتنعموا بجسده ودمه أفلا نعترف به بالأكثر؟ فبكل ثقة إذن نتناول جسد المسيح ودمه، فجسده يعطى لك في صورة الخبز، ودمه يعطى لك قي صورة الخمر؛ حتى إنك إذ تشترك في جسد المسيح ودمه تصير مع المسيح جسدا واحدا و دما واحدا"..
إن قول القديس كيرلس الأورشليمي "جسد المسيح يعطى لنا في صورة الخبز ودم المسيح يعطى لنا في صورة الخمر" يوضح لنا كيف حاول الآباء أن يتخطوا مشكلة الاختيار بين الحقيقة والرمز في سر الإفخارستيا... إن المسيح حاضر حضورا حقيقيا بجسده ودمه، لكنّ هذا الحضور ليس حضورا ماديا بل حضور سري في الصورة والرسم.
ولفهم تعبير الآباء لابد من وضعه في إطار الفلسفة الأفلاطونية التي تأثروا بها، فالحقيقة في نظر أفلاطون لا تكمن في العالم الحسي بل في عالم المثل أو العالم الإلهي، فكأن البشر في مغارة والأشياء الحقيقية خارج المغارة ولا يدرك البشر من الحقائق إلا ظلها وصورتها، إن تشبيه المغارة لا يعني أن ما ندركه هو وهم وخيال، بل إنه الحقيقية عينها ولكن في صورتها.
وقد نجد في مقاطع لبعض الآباء تركيزا على حقيقية حضور المسيح في جسده ودمه ونوعا من الإغفال عن الصورة والرسم، ما ذلك إلا بهدف التأكيد أن لا خلاص للإنسان إلا باتحاده بالله؛ فالجسد الذي نتناوله في الإفخارستيا لا يخلصنا إلا إذا كان حقا جسد المسيح نفسه، يقول القديس غريغوريوس النيصي: "ما هو هذا الدواء لسم الخطيئة المميت العامل في جسدنا؟ إنه بالذات هذا الجسد الممجد الذي ظهر أقوى من الموت وصار لنا ينبوع الحياة، كما أن بعض الخمير حسب قول الرسول يخمر العجين كله هكذا الجسد الذي رفعه الله إلى الخلود متى أدخل في جسدنا يغيره ويحوله كله إلى جوهره الخاص"..
خاتمة
لقد اختلفت الطوائف المسيحية بشأن هذا السر، لكنّ هذا الاختلاف لا يجوز أن يكون سببا في انفصالنا بعضنا عن بعض بل علينا أن نأتي لنقطة تفاهم وتقدير لوجهة نظر الآخرين. فالإفخارستيا هو رمز وإشارة إلى شركة الكنيسة ووحدتها لأننا جميعا نشترك بالخبز الواحد الذي هو صورة جسد المسيح المكسور على الصليب من أجل خلاصنا، فما أجمل أن تتحد الكنيسة المسيحية كلها حول هذا السر المقدس ويكون سبب جمع لا تفرقة حتى ينضم جسد المسيح الواحد إلى كنيسة واحدة جامعة مقدسة رسولية.
قبل أن نعرض الإختلافات بشأن هذا السر بين الطوائف المسيحية دعونا نعرض ما يتفق عليه المسيحيون بخصوص سر الإفخارستيا :
1- إن هذا السر قد رسمه الرب يسوع و أمر تلاميذه أن يمارسوه بصورة منتظمة دائمة.
2- أن هذا السر يفوق وصف الكلام و ما تعصر به العلوم اللاهوتية يناله المؤمن أكثر من أي تفسير أو أيضاح بواسطة القلب المنفتح أمام الله فهو بنسكب فينا بروحه ونعمته التي تغيرنا.
3- أن هذا السر منذ عصر الرسول بولس هو إخبار بموت المسيح وقيامته وتذكار قلبي علينا أن نمارسه بكل خشوع ووقار لئلا نأخذ دينونة لأنفسنا غير مميزين جسد الرب فهذا السر يجب أن يعود بنا إلى الصليب ونرى بعين الإيمان تلك الحياة التي بذلت لكي نحيا نحن بها وذلك الجسد الطاهر الذي صلب لكي ننال به خلاصا أبديا و فداء حقيقيا.
4- هذا السر هو قوتنا الروحية نتناوله بالشكر والاعتراف بالجميل فحضور المسيح معنا من خلال هذا السر ضروري لخلاص لخلاص المؤمنين وهو الذي قال: "لأنكم بدوني لا تقدرون أن تفعلوا شيئا"، بل هو حياتنا هو الكرمة الحقيقية ونحن الأغصان. وهذه الأغصان تبقى حية ما دامت ملتصقة بالكرمة، فالغصن يتناول غذاؤه من الكرمة، كذلك نحن نتناول غذائنا بالمسيح. فهذا السر حيوي فعال، بدونه لا نقدر على العيش بصحة روحية كما يريدها الرب إلهنا.
5- إن هذا السر هو شركة مقدسة ليس فقط مع المسيح بل مع بعضنا بعضا، مع جمهور العابدين معنا في الكنيسة بل مع جميع المؤمنين بإسمه أينما كانو في كنيسته المقدسة.
والآن فلنعرض وجهات النظر للطوائف الثلاثة (كاثوليك، بروتستانت، أرثوذكس ) بخصوص حضور المسيح الحقيقي في سر الإفخارستيا:
1- اللاهوت الكاثوليكي:
لقد شغل هذا الموضوع اللاهوت الكاثوليكي في الغرب منذ القرن التاسع فأكد بعض اللاهوتيين (الحضور الحقيقي ) وقالوا أن ما يصير حاضرا في الإفخارستيا هو جسد المسيح نفسه الذي ولد من مريم العذراء. فيما أكد غيرهم الحضور الرمزي والروحي وقالوا أن ما يحضر في الخبز والخمر هو قوة وفاعلية جسد المسيح ودمه وأشهر الذين قالوا بالحضور الرمزي هو بيرنجيه Berenger لاهوتي مدرسة تور في فرنسا فقال أن ما نتناوله هو "صورة المسيح" فحكم عليه في عدة مجامع ثم أرغم في مجمع اللاتران سنة 1059 على الاعتراف بأن "الخبز والخمر على الهيكل بعد التكريس ليسا فقط سر ربنا يسوع المسيح بل جسده ودمه الحقيقيان اللذان بشكل حسي يمسهما ويكسرهما أيدي الكهنة ويأكلها المؤمنين"، لكنه عاد فأنكر اعترافه هذا ثم عاد عن إنكاره وقبل تحديد مجمع رومه 11 شباط 1079 الذي ميز بين الجوهر والأشكال فالمسيح حاضر في حقيقة الجوهر أما الأشكال فهي أشكال الخبز والخمر.
إن اللاهوت الكاثوليكي منذ القرون الوسطى يفسر حضور المسيح في الإفخارستيا إستنادا إلى هذا التميز الذي أخذه عن فلسفة أرسطوطاليس بين الجوهر والأعراض. فحضور المسيح في الإفخارستيا هو حضور حقيقي أي بجسده ودمه، ولكن ليس بشكل مادي وحسي فما نأكله هو حقا جسد الرب ودمه ولكن تحت أشكال أو أعراض الخبز والخمر. إن ما يتحول هو جوهر الخبز والخمر أما الأعراض فتبقى على ما هي عليه، وبهذا التحول الجوهري لا يعود على جوهر الخبز والخمر بل جوهر السيد المسيح الذي يستطيع الإيمان وحده أن يعرفه ويتصل به. إن السيد المسيح حاضر في الإفخارستيا بجسده ودمه ولكن ليس على غرار حضور أجسادنا في الزمان والمكان.. وللرد على الذين كانوا يطلبون أن يروا بأعين الجسد المسيح في القربان، أو يشيعون حدوث عجائب كظهور طفل في القربان،ة أو خروج دم منها، خصص توما الأكويني مقالة كاملة في "خلاصته اللاهوتية" الشهيرة للتأكيد أن الخبز يتحول إلى جسد المسيح الممجد الذي لايمكن أن يرى بأعين الجسد وأنه من المستحيل أن يخرج دم من القربانة المقدسة.
2- لاهوت الكنائس البروتستنتية :
لم يرفض لوثر "الحضور الحقيقي" لجسد المسيح في سر الأفخارستيا لكنه رفض مفهوم "التحول الجوهري"، ففي نظره جوهر الخبز والخمر لا يتحولان بل يضاف إليهما جوهر جسد المسيح و دمه، ويفسر وجود جوهرين معاً من خلال مثل الحديد الذي يوضع في النار فيبقى جوهره على ما هو عليه ولكن يضاف إليه جوهر النار كما يشبه وجود جوهرين في الإفخارستيا بوجود طبيعتين في شخص المسيح الطبيعة الإلهية والطبيعة الإنسانية.
لقد حرمت الكنيسة الكاثوليكية تعليم لوثر في المجمع التريدنتيني (1545 -1563 )الذي تبنى التحول الجوهري كتعبير أوحد عن سر حضور المسيح الحقيقي في سر الإفخارستيا أما الكنائس اللوثرية فأعلنت إيمانها بحضور المسيح في (صيغة الإتفاق ) عام 1577 في العبارة التالية: "إن جسد المسيح يقدم للمؤمنين في القرابين الإفخارستية معها وتحتها".
هناك كنائس بروتستانتية تؤثر التكلم عن نوع من "الحضور الروحي" غير المحدود في جسد المسيح ودمه من خلال الخبز والخمر فإن عبارة "خذوا كلوا هذا هو جسدي، خذوا اشربوا هذاهو دمي" التي قالها السيد المسيح، لا يمكن أن تفهم بالمعنى الحرفي، ولقد أدرك التلاميذ هذا فالمسيح عندما قال هذه العبارة كان ما يزال حيا بينهم ثم أن المسيح بعد أن صلى على الكأس قال: "من الآن لا أشرب من نتاج الكرمة هذا"، فهو لا يزال يسميها نتاج الكرمة بعد أن صلى وشكر، لذلك فإن هذه الكنائس تؤمن أن الخبز والخمر لا يتحولان حرفيا وماديا إلى ذات لاهوت المسيح وناسوته، ولا يحتويان على ذات جسد المسيح ودمه، لكنها تؤمن أن الروح القدس يرافق العشاء الرباني بحالة روحية، ويوصل الفوائد الروحية إلى قلوب المؤمنين الذين يتناولون منه دون أن يطرأ على الخبز والخمر تغيير ما، فعندما يتناول المؤمنين العشاء الرباني يستقبلون جسد المسيح مع قوته المحيية بطريقة روحية فقد قال السيد المسيح: "جسدي مأكل حق ودمي مشرب حق من يأكل جسدي ويشرب دمي يثبت في وأنا فيه"، ولما قال له التلاميذ إن هذا الكلام صعب أجاب: "الروح هو الذي يحيي أما الجسد فلا يفيد شيئا ،الكلام الذي أكلمكم به هو روح وحياة".. ولقد فسر يوسابيوس القيصري (330 م) قول المسيح هذا بقوله: "كأن المسيح يقول لتلاميذه لاتظنوا أني أتكلم معكم عن الجسد الذي أنا حامله كأن هذا يجب أن يؤكل ولاتظنوا أني أقدم لكم دمي المادي لتشربوه لكن اعلموا أن الكلمات نفسها التي كلمتكم بها هي روح وحياة حتى أن ذات كلامي هو لحم ودم والذي يخصصه لنفسه يقتات كما بطعام سماوي ويكون شريكا في الحياة السماوية".
كما قال القديس أغوسطينوس (420 م): "إن حديث المسيح عن الأكل من جسده لايجوز فهمه حرفيا لأن نعمة الله لا تقبل بالأسنان"..
وقال القديس أثناسيوس (270 م): "إن التناول من جسد المسيح ودمه لايكون إلا روحيا"..
وهذا يعني أن هذا التناول لايكون بالفم مع الاعتقاد في النفس بأن الخبز والخمر هما ذات جسد المسيح ودمه بل أن التناول يكون روحيا أي باستقبال النفس وليس بالفم .
التقى في ليما بالبيرو بتاريخ كانون الثاني 1982 أكثر من 100 لاهوتي مثّلوا عمليا كل التقاليد الكنسية العظمى وقدّموا بالإجماع نصا كان ثمرة 50 سنة من الدراسة والبحث في المعمودية والإفخارستيا والكهنوت وثمرة التقارب اللاهوتي الذي تم خلال عقود من الحوار بهدى الروح القدس.
3- اللاهوت الأرثوذكسي :
يرفض اللاهوت الأرثوذكسي مقولة اللاهوت الكاثوليكي بأن ما يتحول في الإفخارستيا هو فقط جوهر الخبز والخمر فيما أشكال الخنز والخمر تبقى على ما هي عليه، كما يرفض اللاهوت اللوثري الذي يقول بوجود جوهرين معا؛ فالمسيح في نظر اللاهوت الأرثوذكسي لا ينزل من السماء ليحتجب تحت أشكال الخبز والخمر كما يقول الكاثوليك، ولا إلى جانب جوهر الخبز والخمر كما يقول اللوثريون. وتوضح الكاتبة فريدا حداد في كتابها "ذبيحة التسبيح" هذا المفهوم الأرثوذكسي فتقول: "إن حضور المسيح قي القداس الإلهي ليس مجرد ذكرى وإنما هو استقبال الرب الآتي والعبادة الليتورجية حدث فداء تاريخي بكل معنى الكلمة فالمسيح هنا بيننا الآن ولكن يقيننا من وجوده ليس يقينا علميا منطقيا وذهنيا فوجوده نعمة إلهية ونحن خلال القداس نطلب هذه النعمة".. وتضيف: "أن حضور المسيح في الليتورجيا حضور سري فالذين عايشوا يسوع في القرن الأول ما كان باستطاعتهم أن يروا أنه بالحقيقة ابن الله لولا مخاطرة الإيمان التي دعاهم هو إليها، وهكذا نحن أيضا لا نقدر أن نلمس حضوره إلا بعين الإيمان، فبالإيمان نخاطبه في الكتاب المقدس، ونراه مصلوبا في الخبز والخمر، وبالإيمان، نأتي لنستقبل ملك الكل في القداس الإلهي. فالكنيسة الشرقية لم تتسائل قط حول كيفية حضوره فهي تعلم أنه موجود كلما اجتمع اثنان أو ثلاثة لكسر الخبز".
أما أفدوكيموف فيوضح في كتابه "الأرثوذكسية": "إن الخبز الإفخارستي باستدعاء الروح القدس لا يحجب حضورا آخرا، بل يوحد الطعام السماوي وطعام الأرض إذ يجعلهما الشيء نفسه، وتلك هي المعجزة يغطس الكاهن الحمل في دمه وإذا هو الجسد الحي وليس علامة أو خداع الأعراض، وليس هو تجسد ثان للمسيح في الأشكال، بل التحوّل الكامل، تحول الجوهر والأعراض إلى جسد سماوي.. ليست أعراض الخبز هي التي تبقى بل حالة أعيننا التي لا تقوى على تأمل الجسد السماوي المحافظ على خداع الأشكال، إن خطأ العقيدة يقوم على الاهتمام بالموضوع وليس بالشخص، بالخبز وليس بالإنسان.. يجب ألا نحلل المعجزة على غرار التحليل الكيميائي تبعا لحواسنا، بل يجب بالحري، أن نفهم حواسنا بأنها لا ترى المعجزة الحقيقية، الحقيقة السماوية، يقول يوحنا الدمشقي: "إن استدعاء الروح القدس يحقق ما لايمكن أن نقبله إلا بالإيمان وحده".. ويتابع أفدوكيموف: "فمن غير المجدي أن نفلسف هذا الموضوع، إن الغربيين في عقائدهم يحاولون الولوج إلى قلب المعجزة وتفسير ما تعنيه، أما الشرقيون فينظرون بأعن الإيمان ويرون لأول وهلة الجسد والدم ولا شيء سوى ذلك".
4- لاهوت الآباء:
يقول القديس كيرلس الاسكندري: "عندما نضع القرابين أمام الله نصلي بإلحاح لكي تتحول لنا إلى بركة روحية، حتى أننا إذا تناولنا منها نتقدس في أجسادنا وأرواحنا، ثم يقول الكاهن مشيرا إلى القرابين: "هذا هو جسدي... هذا هو دمي...." لكي لا تظن أن ما يظهر أمامك هو مجرد رمز بل لكي تعرف جيدا أنه بفعل قدرة الله الضابط الكل الفائقة كل وصف قد تحوّلت القرابين بالحقيقة إلى جسد المسيح و دمه".
أما القديس كيرلس الأورشليمي (القرن الرابع) فيقول: "بما أن يسوع صرح بذلك وقال عن الخبز: "هذا هو جسدي" فمن يتجاسر ويشك بعد ذلك؟.. وعندما يؤكد هو نفسه بكلام حازم: "هذا هو دمي.." فمن الذي يعارض ويقول إنه ليس دمه؟.. لقد سبق له في قانا الجليل أن حول الماء إلى خمر بفعل إرادته، أفلا يكون جديراً بالتصديق عندما يحوّل الخمر إلى دمه. لقد قام بهذه الآية العجيبة عندما دعي إلى عرس دنيوي، وعندما يهب لأصدقاء العريس أن يتنعموا بجسده ودمه أفلا نعترف به بالأكثر؟ فبكل ثقة إذن نتناول جسد المسيح ودمه، فجسده يعطى لك في صورة الخبز، ودمه يعطى لك قي صورة الخمر؛ حتى إنك إذ تشترك في جسد المسيح ودمه تصير مع المسيح جسدا واحدا و دما واحدا"..
إن قول القديس كيرلس الأورشليمي "جسد المسيح يعطى لنا في صورة الخبز ودم المسيح يعطى لنا في صورة الخمر" يوضح لنا كيف حاول الآباء أن يتخطوا مشكلة الاختيار بين الحقيقة والرمز في سر الإفخارستيا... إن المسيح حاضر حضورا حقيقيا بجسده ودمه، لكنّ هذا الحضور ليس حضورا ماديا بل حضور سري في الصورة والرسم.
ولفهم تعبير الآباء لابد من وضعه في إطار الفلسفة الأفلاطونية التي تأثروا بها، فالحقيقة في نظر أفلاطون لا تكمن في العالم الحسي بل في عالم المثل أو العالم الإلهي، فكأن البشر في مغارة والأشياء الحقيقية خارج المغارة ولا يدرك البشر من الحقائق إلا ظلها وصورتها، إن تشبيه المغارة لا يعني أن ما ندركه هو وهم وخيال، بل إنه الحقيقية عينها ولكن في صورتها.
وقد نجد في مقاطع لبعض الآباء تركيزا على حقيقية حضور المسيح في جسده ودمه ونوعا من الإغفال عن الصورة والرسم، ما ذلك إلا بهدف التأكيد أن لا خلاص للإنسان إلا باتحاده بالله؛ فالجسد الذي نتناوله في الإفخارستيا لا يخلصنا إلا إذا كان حقا جسد المسيح نفسه، يقول القديس غريغوريوس النيصي: "ما هو هذا الدواء لسم الخطيئة المميت العامل في جسدنا؟ إنه بالذات هذا الجسد الممجد الذي ظهر أقوى من الموت وصار لنا ينبوع الحياة، كما أن بعض الخمير حسب قول الرسول يخمر العجين كله هكذا الجسد الذي رفعه الله إلى الخلود متى أدخل في جسدنا يغيره ويحوله كله إلى جوهره الخاص"..
خاتمة
لقد اختلفت الطوائف المسيحية بشأن هذا السر، لكنّ هذا الاختلاف لا يجوز أن يكون سببا في انفصالنا بعضنا عن بعض بل علينا أن نأتي لنقطة تفاهم وتقدير لوجهة نظر الآخرين. فالإفخارستيا هو رمز وإشارة إلى شركة الكنيسة ووحدتها لأننا جميعا نشترك بالخبز الواحد الذي هو صورة جسد المسيح المكسور على الصليب من أجل خلاصنا، فما أجمل أن تتحد الكنيسة المسيحية كلها حول هذا السر المقدس ويكون سبب جمع لا تفرقة حتى ينضم جسد المسيح الواحد إلى كنيسة واحدة جامعة مقدسة رسولية.
Comment