المجوس في قصّة ميلاد السيد المسيح
يُخبرنا القدّيس متّى الإنجيلي بأنّ مجوسًا قد أتوا مِن المشرق إلى بيت لحم بهداية نجم رأوه في السماء، وسجدوا ليسوع وقدّموا له هدايا مِن ذهب ولبان ومرّ. فمن هم أولئك المجوس وما علاقة قصّتهم باليهود والأمم؟ هل كان النجم الذي قادهم نجمًا عاديًّا أم قوّة سماويّة اتّخذت شكل نجم، وإلى ماذا رمَزَ ذلك؟
ما يخبرنا التاريخ عن هذا الشأن لا يشفي غليلاً، إلاَ أن التقليد يُلقي بعض الضوء على بعض جوانبه.
هناك تقليدان يتناولان البحث في أصل المجوس، الأوّل شرقيّ (سريانيّ) والثّاني غربيّ. فالتقليد الشرقيّ يقول أنّ المجوس كانوا إثني عشر (كما يقول يعقوب الرهاوي) عالمًا آثوريًّا مِن الأشراف تبعوا النجم الذي ظهر لهم حتى بلغوا مدينة الرّها (أورفا الحالية) الواقعة في بلاد ما بين النهرين العليا حيث بلغهم أن في فلسطين مجاعة، فقرّ رأيهم على إرسال ثلاثة منهم فقط ليحملوا هداياهم إلى الطفل يسوع الملك، ورجع الباقون إلى حيث أتوا آسفين على عدم استطاعتهم رؤية المولود العجيب. وعند السريان جدولان بأسماء الإثني عشر مجوسًا بينهما بعض الاختلاف البسيط، وأكثر الأسماء في الجدولين آرامي بحت.
أما التقليد الغربي فيقول أن المجوس ثلاثة أقبلوا على أغلب الاحتمال من المناطق المجاورة لمدينة بابل، وكانوا إمّا أمراءً أوعلماءً أو كهنة يعبدون آلهة شرقية قديمة، وعلى الأغلب كانوا مِن عبدة النار. ونظرًا إلى أن التقليدين، أي الشرقي والغربي، ينقلان لنا أسماءً آراميّة سريانيّة لهؤلاء المجوس، فعلى الأرجح أنهم كانوا مِن أصل آثوريّ أو آرامي. والأسماء التي نقلها الغربيون هي: مَلْكُون Malkoon ، وكَصْبَارْ Kaspar، وبَغْدَاسَار Baghdasar . فـ "مَلكُون" (مَليك) هو تصغير كلمة مَلْكو الآرامية ومعناها مَلِك، و "كَصْبَارْ " هو مختصر "كَوْكَبْ صْفَار" وهو اسم آرامي مركّب معناه كوكب الصباح. أمّا "بَغْدَاسَار" فهي لفظة مصحفة وأصلها "بَلْطَاشَاصّر" معناها على رأي البعض "المنعم عليه مِن بيلْ."
وقبل أن نكتب المزيد عن المجوس، إليكم بعض الملاحظات عن النجم الذي ظهر لهم وقادهم إلى حيث ولد السيد المسيح:
لم يكن النجم الذي رآه المجوس نجمًا عاديًّا وإنّما قوّة سماويّة (أو ملاكًا) على الأرجح أظهرت نفسها على صورة نجم، وذلك استنادًا على ما يلي:
1 ـ كان اتجاه مسار هذا النجم مِن الشرق إلى الغرب (من الشمال الشرقي إلى الجنوب الغربي على وجه الدقّة)، بينما تسير جميع النجوم مِن الغرب إلى الشرق.
2 ـ ظهر النجم في رابعة النهار وليس في الليل، وكان أكثر تألّقًا من الشمس، ولذلك أمكن رؤيته في النهار.
3 ـ استمرّ النجم في الظهور والاختفاء بحسب حاجة المجوس إليه. وحين بلغ أورشليم اختفى لأنّ المجوس توقّفوا عن السفر ليسألوا الملك هيرودس عن مكان يسوع. وعندما تابع المجوس رحلتهم إلى بيت لحم، ظهر لهم النجم مرّة أخرى ليرشدهم. وربّما كان اختفاء النجم مُتَعَمّدًا لإجبار المجوس على التوقف والاستعلام عن مكان يسوع من اليهود لغرض الإعلان عن ميلاده. فالنجم والحالة هذه كان يعمل وفق خطّة مرسومة.
4 ـ هبط النجم مِن علياء السماء ووقف فوق الموضع الذي كان فيه الصبي يسوع، وإلاّ فكيف يمكنه أنْ يُعيّن الموضع بدقة وهو في علوٍّ شاهق؟ وهذا ما ألمح إليه القدّيس متّى الإنجيلي حين كتب: "فلمّا سمعوا هذا من الملك، ذهبوا، فإذا النجم الذي كانوا رأوه في المشرق يتقدّمهم حتّى جاء ووقف فوق الموضع الذي كان فيه الصبيّ" (متّى 2: 9).
وهكذا كان هبوط النجم شهادة عظمى ترك أثرًا عميقًا في نفوس المجوس حتى خرّوا ساجدين للصبيّ، ولا عجب في ذلك فهم لم يسجدوا لطفل عاديّ وهذا واضح من الهدايا التي قدّموها له، فهذه الهدايا لا تُقدّم مطلقًا لطفلٍ في أقمطة، أوحتّى لصبيٍّ في الثانية من عمره، كما يذهب إليه بعض المفسّرين الذين يعتقدون أنّ المجوس جاؤوا إلى يسوع وهو في الثانية من عمره وليس ليلة ميلاده (يؤيّد هذا الرّأي القديسان مار أفرام السرياني ومار يعقوب السروجي الملفان).
المغزى من ظهور النجم
لظهور النجم معان عديدة منها:
1 ـ يُشير ظهور النجم إلى أنّ الله تعالى قد أنهى كون اليهود شعبه المختار، وفتح الباب أمام الأمم ليكونوا هم شعبه المختار، فأدّب اليهود بهم لرفضهم المسيح رغم كلّ النبوءات. لقد شاء الله أن يُؤنّب اليهود بإحضاره المجوس بهداية النجم وجعلهم يقطعون آلاف الأميال ليأتوا ويسجدوا ليسوع، تمامًا مثلما عنّفهم بإيمان أهل نينوى وأممٍ أخرى، فقال: "رجال نينوى سيقومون في الدين مع هذا الجيل ويحكمون عليه لأنهم تابوا بكرز يونان، وههنا أعظم من يونان" (متى 12: 41).
وعنّفهم أيضًا بالمرأة السامريّة والمرأة الكنعانيّة وملكة التَيمن، فكلّ هؤلاء آمنوا بآيات بسيطة، بينما رفض اليهود أن يؤمنوا حتى بآيات عظيمة.
2 ـ ألم تكن هناك وسائل أخرى يجتذب بها الله المجوس؟ لم يكن باستطاعة المجوس الاستماع إلى أقوال الأنبياء إذ لم يُرسل لهم واحد منهم، ولا كان من الممكن إرسال ملاك لهم ليُكلّمهم عن هذه الأمور، فهذه الوسائل كلّها ما كانت معروفة لديهم، ولهذا لجأ الله إلى وسيلة مألوفة عندهم ويفهمونها جيّدًا وهي النجوم وحركاتها لأنهم كانوا على معرفة بعلم الفلك.
3 ـ ماذا كانت الفائدة المرجوَّة من قطع المجوس آلاف الأميال؟ هل جاؤوا ليروا ملكًا؟ إنهم رأوا فقط طفلاً في أقمطة! هل عاملوه معاملة الملوك لعلمهم أنه سيصبح ملكًا في المستقبل؟ هذا احتمال بعيد لأنه لم يُتَوّج المسيح ملكًا قط بمعنى أنه جهّز جيوشًا واقتنى جيادًا وعبيدًا. وحتى إذا كان سيُصبح ملكًا فسوف يكون معاديًا لهم وبعيدًا كلّ البعد من بلادهم، ناهيك عن الأخطار الجسيمة التي تعرّضوا لها، فقد رأوا كيف أن الملك هيرودس اضطرب وكلّ أورشليم معه، فأيّة ميتة كانت تنتظرهم. ماذا كانوا يأملون إليه بعد أن وجدوا مغارة ومذودًا وأمًّا فقيرة معدمة وطفلاً ملفوفًا في أقمطة؟ وما هو الداعي للسجود للطفل وتقديم الهدايا له؟ كم كانت مناقب هؤلاء الرجال وحكمتهم عظيمة! فقد عرّضوا أنفسهم لمخاطر جسيمة تاركين بيوتهم وقومهم وخارجين بدون هدف محدّد وكلّ همّهم طاعة ما أوحاه إليهم الله، الذي غرس الإيمان في قلوبهم فأتوا ساجدين للطفل يسوع مقدّمين له الهدايا.
هكذا أحاط بيسوع الطفل في بيت لحم رعاة ومجوس، فالرّعاة مثّلوا القريبين، أي اليهود، والمجوس مثّلوا البعيدين، أي الأمم، وكلا الطرفين التقيا بيسوع، حجر الزاوية "الذي جعل الإثنين واحدًا ... البعيدين والقريبين" (إفسس 2: 14، 17)
4 ـ إننا نلاحظ أن المجوس عادوا في طريق أخرى، وهذا يرمز إلى تغيير في حياتهم. فمَن تواصل مع السيد المسيح لا يعود إلى طرائقه السابقة. فقبل لقائهم بالمسيح الطفل كانوا محاطين بالخوف والمخاطر من كلّ جانب، ولكنهم بعد اللقاء به والسجود له وجدوا راحةً وسلامًا، وأصبحوا له كهنة يقدّمون إليه الهدايا (القرابين).
تعقيبات تفسيريّة
قد يتساءل المرء: لماذا هرب المجوس وكذلك يسوع من هيرودس الملك؟ هناك سببان يفسّران ذلك، الأول: لم يشأ يسوع أن تظهر معجزاته في هذه المرحلة المبكّرة من حياته لئلاّ يشك الناس في ناسوته. السبب الثاني هو: لكي يعلّمنا أنه علينا أن نتوقّع المتاعب والضيقات من بداية السير في طريق المسيح. لقد طارده هيرودس وما كان آنذاك إلاّ طفلاً صغيرًا فهرب منه، وكذلك أمّه فقد تركت بيتها وابتعدت عن وطنها وتحمّلت مشقة السفر لمسافات بعيدة، وهكذا فعل أيضًا يوسف والمجوس . هذا كلّه حدَثَ لكي إذا ما سمع المرء عن هذه الأحداث وصار أهلاً ليكون خادمًا لله، وواجه المتاعب والمصاعب، صمد أمامها ولم يستسلم لها، ولكي لا يقول في نفسه: من حقّي أن أُتَوَّج لقاء خدماتي. فالمجوس الذين تلقّوا أمرًا مِن الله في رؤياهم بعدم العودة إلى هيرودس لم يقعوا في الشكّ بل أطاعوا الأمر، كما لم يقولوا في نفوسهم: إذا كان هذا الصبيّ عجائبيًّا وفي هذا القدر من القوّة والمقدرة، فلماذا نهرب أو نعود سرًّا إلى بلادنا؟ وهكذا فعل أيضًا يوسف، إنه لم يجادل مع الملاك مرتابًا، ولم يقل له البتتة: أنت تقول أنه سيُخلّص شعبه، وها هو لا يخلّص نفسه، بلّ سافر هاربًا.
يُخبرنا القدّيس متّى الإنجيلي بأنّ مجوسًا قد أتوا مِن المشرق إلى بيت لحم بهداية نجم رأوه في السماء، وسجدوا ليسوع وقدّموا له هدايا مِن ذهب ولبان ومرّ. فمن هم أولئك المجوس وما علاقة قصّتهم باليهود والأمم؟ هل كان النجم الذي قادهم نجمًا عاديًّا أم قوّة سماويّة اتّخذت شكل نجم، وإلى ماذا رمَزَ ذلك؟
ما يخبرنا التاريخ عن هذا الشأن لا يشفي غليلاً، إلاَ أن التقليد يُلقي بعض الضوء على بعض جوانبه.
هناك تقليدان يتناولان البحث في أصل المجوس، الأوّل شرقيّ (سريانيّ) والثّاني غربيّ. فالتقليد الشرقيّ يقول أنّ المجوس كانوا إثني عشر (كما يقول يعقوب الرهاوي) عالمًا آثوريًّا مِن الأشراف تبعوا النجم الذي ظهر لهم حتى بلغوا مدينة الرّها (أورفا الحالية) الواقعة في بلاد ما بين النهرين العليا حيث بلغهم أن في فلسطين مجاعة، فقرّ رأيهم على إرسال ثلاثة منهم فقط ليحملوا هداياهم إلى الطفل يسوع الملك، ورجع الباقون إلى حيث أتوا آسفين على عدم استطاعتهم رؤية المولود العجيب. وعند السريان جدولان بأسماء الإثني عشر مجوسًا بينهما بعض الاختلاف البسيط، وأكثر الأسماء في الجدولين آرامي بحت.
أما التقليد الغربي فيقول أن المجوس ثلاثة أقبلوا على أغلب الاحتمال من المناطق المجاورة لمدينة بابل، وكانوا إمّا أمراءً أوعلماءً أو كهنة يعبدون آلهة شرقية قديمة، وعلى الأغلب كانوا مِن عبدة النار. ونظرًا إلى أن التقليدين، أي الشرقي والغربي، ينقلان لنا أسماءً آراميّة سريانيّة لهؤلاء المجوس، فعلى الأرجح أنهم كانوا مِن أصل آثوريّ أو آرامي. والأسماء التي نقلها الغربيون هي: مَلْكُون Malkoon ، وكَصْبَارْ Kaspar، وبَغْدَاسَار Baghdasar . فـ "مَلكُون" (مَليك) هو تصغير كلمة مَلْكو الآرامية ومعناها مَلِك، و "كَصْبَارْ " هو مختصر "كَوْكَبْ صْفَار" وهو اسم آرامي مركّب معناه كوكب الصباح. أمّا "بَغْدَاسَار" فهي لفظة مصحفة وأصلها "بَلْطَاشَاصّر" معناها على رأي البعض "المنعم عليه مِن بيلْ."
وقبل أن نكتب المزيد عن المجوس، إليكم بعض الملاحظات عن النجم الذي ظهر لهم وقادهم إلى حيث ولد السيد المسيح:
لم يكن النجم الذي رآه المجوس نجمًا عاديًّا وإنّما قوّة سماويّة (أو ملاكًا) على الأرجح أظهرت نفسها على صورة نجم، وذلك استنادًا على ما يلي:
1 ـ كان اتجاه مسار هذا النجم مِن الشرق إلى الغرب (من الشمال الشرقي إلى الجنوب الغربي على وجه الدقّة)، بينما تسير جميع النجوم مِن الغرب إلى الشرق.
2 ـ ظهر النجم في رابعة النهار وليس في الليل، وكان أكثر تألّقًا من الشمس، ولذلك أمكن رؤيته في النهار.
3 ـ استمرّ النجم في الظهور والاختفاء بحسب حاجة المجوس إليه. وحين بلغ أورشليم اختفى لأنّ المجوس توقّفوا عن السفر ليسألوا الملك هيرودس عن مكان يسوع. وعندما تابع المجوس رحلتهم إلى بيت لحم، ظهر لهم النجم مرّة أخرى ليرشدهم. وربّما كان اختفاء النجم مُتَعَمّدًا لإجبار المجوس على التوقف والاستعلام عن مكان يسوع من اليهود لغرض الإعلان عن ميلاده. فالنجم والحالة هذه كان يعمل وفق خطّة مرسومة.
4 ـ هبط النجم مِن علياء السماء ووقف فوق الموضع الذي كان فيه الصبي يسوع، وإلاّ فكيف يمكنه أنْ يُعيّن الموضع بدقة وهو في علوٍّ شاهق؟ وهذا ما ألمح إليه القدّيس متّى الإنجيلي حين كتب: "فلمّا سمعوا هذا من الملك، ذهبوا، فإذا النجم الذي كانوا رأوه في المشرق يتقدّمهم حتّى جاء ووقف فوق الموضع الذي كان فيه الصبيّ" (متّى 2: 9).
وهكذا كان هبوط النجم شهادة عظمى ترك أثرًا عميقًا في نفوس المجوس حتى خرّوا ساجدين للصبيّ، ولا عجب في ذلك فهم لم يسجدوا لطفل عاديّ وهذا واضح من الهدايا التي قدّموها له، فهذه الهدايا لا تُقدّم مطلقًا لطفلٍ في أقمطة، أوحتّى لصبيٍّ في الثانية من عمره، كما يذهب إليه بعض المفسّرين الذين يعتقدون أنّ المجوس جاؤوا إلى يسوع وهو في الثانية من عمره وليس ليلة ميلاده (يؤيّد هذا الرّأي القديسان مار أفرام السرياني ومار يعقوب السروجي الملفان).
المغزى من ظهور النجم
لظهور النجم معان عديدة منها:
1 ـ يُشير ظهور النجم إلى أنّ الله تعالى قد أنهى كون اليهود شعبه المختار، وفتح الباب أمام الأمم ليكونوا هم شعبه المختار، فأدّب اليهود بهم لرفضهم المسيح رغم كلّ النبوءات. لقد شاء الله أن يُؤنّب اليهود بإحضاره المجوس بهداية النجم وجعلهم يقطعون آلاف الأميال ليأتوا ويسجدوا ليسوع، تمامًا مثلما عنّفهم بإيمان أهل نينوى وأممٍ أخرى، فقال: "رجال نينوى سيقومون في الدين مع هذا الجيل ويحكمون عليه لأنهم تابوا بكرز يونان، وههنا أعظم من يونان" (متى 12: 41).
وعنّفهم أيضًا بالمرأة السامريّة والمرأة الكنعانيّة وملكة التَيمن، فكلّ هؤلاء آمنوا بآيات بسيطة، بينما رفض اليهود أن يؤمنوا حتى بآيات عظيمة.
2 ـ ألم تكن هناك وسائل أخرى يجتذب بها الله المجوس؟ لم يكن باستطاعة المجوس الاستماع إلى أقوال الأنبياء إذ لم يُرسل لهم واحد منهم، ولا كان من الممكن إرسال ملاك لهم ليُكلّمهم عن هذه الأمور، فهذه الوسائل كلّها ما كانت معروفة لديهم، ولهذا لجأ الله إلى وسيلة مألوفة عندهم ويفهمونها جيّدًا وهي النجوم وحركاتها لأنهم كانوا على معرفة بعلم الفلك.
3 ـ ماذا كانت الفائدة المرجوَّة من قطع المجوس آلاف الأميال؟ هل جاؤوا ليروا ملكًا؟ إنهم رأوا فقط طفلاً في أقمطة! هل عاملوه معاملة الملوك لعلمهم أنه سيصبح ملكًا في المستقبل؟ هذا احتمال بعيد لأنه لم يُتَوّج المسيح ملكًا قط بمعنى أنه جهّز جيوشًا واقتنى جيادًا وعبيدًا. وحتى إذا كان سيُصبح ملكًا فسوف يكون معاديًا لهم وبعيدًا كلّ البعد من بلادهم، ناهيك عن الأخطار الجسيمة التي تعرّضوا لها، فقد رأوا كيف أن الملك هيرودس اضطرب وكلّ أورشليم معه، فأيّة ميتة كانت تنتظرهم. ماذا كانوا يأملون إليه بعد أن وجدوا مغارة ومذودًا وأمًّا فقيرة معدمة وطفلاً ملفوفًا في أقمطة؟ وما هو الداعي للسجود للطفل وتقديم الهدايا له؟ كم كانت مناقب هؤلاء الرجال وحكمتهم عظيمة! فقد عرّضوا أنفسهم لمخاطر جسيمة تاركين بيوتهم وقومهم وخارجين بدون هدف محدّد وكلّ همّهم طاعة ما أوحاه إليهم الله، الذي غرس الإيمان في قلوبهم فأتوا ساجدين للطفل يسوع مقدّمين له الهدايا.
هكذا أحاط بيسوع الطفل في بيت لحم رعاة ومجوس، فالرّعاة مثّلوا القريبين، أي اليهود، والمجوس مثّلوا البعيدين، أي الأمم، وكلا الطرفين التقيا بيسوع، حجر الزاوية "الذي جعل الإثنين واحدًا ... البعيدين والقريبين" (إفسس 2: 14، 17)
4 ـ إننا نلاحظ أن المجوس عادوا في طريق أخرى، وهذا يرمز إلى تغيير في حياتهم. فمَن تواصل مع السيد المسيح لا يعود إلى طرائقه السابقة. فقبل لقائهم بالمسيح الطفل كانوا محاطين بالخوف والمخاطر من كلّ جانب، ولكنهم بعد اللقاء به والسجود له وجدوا راحةً وسلامًا، وأصبحوا له كهنة يقدّمون إليه الهدايا (القرابين).
تعقيبات تفسيريّة
قد يتساءل المرء: لماذا هرب المجوس وكذلك يسوع من هيرودس الملك؟ هناك سببان يفسّران ذلك، الأول: لم يشأ يسوع أن تظهر معجزاته في هذه المرحلة المبكّرة من حياته لئلاّ يشك الناس في ناسوته. السبب الثاني هو: لكي يعلّمنا أنه علينا أن نتوقّع المتاعب والضيقات من بداية السير في طريق المسيح. لقد طارده هيرودس وما كان آنذاك إلاّ طفلاً صغيرًا فهرب منه، وكذلك أمّه فقد تركت بيتها وابتعدت عن وطنها وتحمّلت مشقة السفر لمسافات بعيدة، وهكذا فعل أيضًا يوسف والمجوس . هذا كلّه حدَثَ لكي إذا ما سمع المرء عن هذه الأحداث وصار أهلاً ليكون خادمًا لله، وواجه المتاعب والمصاعب، صمد أمامها ولم يستسلم لها، ولكي لا يقول في نفسه: من حقّي أن أُتَوَّج لقاء خدماتي. فالمجوس الذين تلقّوا أمرًا مِن الله في رؤياهم بعدم العودة إلى هيرودس لم يقعوا في الشكّ بل أطاعوا الأمر، كما لم يقولوا في نفوسهم: إذا كان هذا الصبيّ عجائبيًّا وفي هذا القدر من القوّة والمقدرة، فلماذا نهرب أو نعود سرًّا إلى بلادنا؟ وهكذا فعل أيضًا يوسف، إنه لم يجادل مع الملاك مرتابًا، ولم يقل له البتتة: أنت تقول أنه سيُخلّص شعبه، وها هو لا يخلّص نفسه، بلّ سافر هاربًا.
Comment