مقدمة
لقد كان لحدث البشارة في أنجيل لوقا وقعه الهام في التاريخ الكنسيّ من الناحية الكتابيّة، اللاّهوتيّة، الأدبيّة وحتى الفنّية. حدث، كما أوردنا، من الأهميّة بغاية لأنّه حدث لا يتعلّق حصراً بمريم العذراء من ناحية شخصها التاريخي، ولو حصرنا البشارة بواقع مريم التاريخيّ لغاب عنّا المعنى اللاّهوتيّ والأنتروبولوجيّ الأعمق الّذي يحمله هذا الحدث المحوريّ في عالم الإيمان المسيحيّ.
لنفهم هذا الحدث بمعناه الأعمق لا بدّ أولاّ من الإشارة الى الخلفيّة الكتابيّة والثقافيّة التي يستند اليها، ومن ثمّ الإشارة الى المعنى اللاّهوتيّ الكريستولوجيّ الماريولوجيّ وصولاً، في مرحلة ثالثة الى المعنى التطبيقيّ الوجوديّ من ناحية تجسيد للإنسان العلائقيّ، مخلوق في علاقة مع الله، مدعوّ الى تجسيد البشارة وتفعيل الكلمة المعلنة في علاقته الوجوديّة مع الآخر المختلف.
الخلفيّة الكتابيّة
عدة تعابير يستعملها لوقا في نصّ البشارة تعيدنا بطريقة غير مباشرة الى عدّة اسفار من العهد القديم لاسيما الى قصة الخلق في سفر التكوين، والى رواية الخروج وولادة الشعب.
فالرقم ستة الذي يستعمله لوقا، والذي اذا قرأناه على هدي رمزية الأرقام المعتمدة في الكتاب المقدس عامة يجعلنا نعود الى اليوم السادس، يوم اخراج الانسان من العدم الى الوجود. والدليل الثاني الذي يجعلنا نربط نص البشارة بنص الخلق هو قول الملاك "روح الحب يظلّلك" والذي يذكّرنا بروح السيد المرفرف على المياه في بداية الخلق.
مع المحافظة على البعد التاريخي لنص العهد الجديد يجدر بنا التنويه الى ان قصة البشارة هذه كتبت لجماعة لم تعرف المسيح شخصياً وفي طور قبول البشارة، وفي اطار توضيح المفاهيم اللاهوتية مستندةً خاصة الى العهد القديم، وبالتالي لا يمكن أن نفهم هذا النص دون استخراج الأبعاد اللاهوتية التي تتوضح على ضوء لاهوت العهد القديم.
محتوى البشارة يتلخّص في ثلاثة إعلانات يرتبط كلّ واحد منها بحدث محوريّ في ماضي الشعب في العهد القديم:
- روح الرب يحلّ عليك: يعيدنا الى سفر الخروج وروح الرّب الحالّ على المياه، تعود بنا الى الخلق وفترة الخروج من العدم الى الوجود وبالتالي الى الدخول في علاقة صداقة بين الله الخالق والإنسان المخلوق على نطاق الشخص البشري إنما على المستوى الفرديّ.
كلمة الرّب أخرجت الإنسان من العدم الى الوجود، كلمة تنتظر تجسّدها في ملء الزّمن. كيف؟
- وقوّة العليّ تظلّلك يعيدنا الى قوّة الله المرافق للشعب في خروجه من أرض العبوديّة المظلّل خباء المحضر وتابوت العهد بعمودي النار والغمام. هي قصة وعد الله وكلمته التي تحوّلت جماعة. ومن ناحية الإنسان العلائقيّ، يتكوّن هنا الكائن في علاقة مغلقة، في شعب واحد وشريعة واحدة، حيث لا مجال للإختلاف ولا وجود للمختلف. تكوّن الشعب صار ايضاً بالكلمة، بالكلمة الإلهيّة، وفي العبريّة rb'D' تعني كلمة وتعني أيضاً وصيّة، والشعب الخارج من أرض العبوديّة تكوّن كشعب على قمة سيناء، حين نال موسى الكلمات العشر، الوصايا العشر. هذا الحدث التأسيسيّ للجماعة المؤمنة بالله بقي كلمة تنتظر تجسّدها في ملء الزمن، بمريم المؤمنة القابلة الكلمة- الوصيّة، المسيح نفسه، كلمة الله ووصيّته، وصيّة المحبّة المتجسّدة.
- والمولود القدّوس منك يُدعى ابن الله: وهذا الإعلان يعود بنا الى وعود الأنبياء بشكل طبيعي، إنّما أيضاً تتميم نبوءة ناتان النبيّ لداود بأن من نسله يأتي من يرث الى الأبد ولا يكون لملكه انقضاء. تجدر الإشارة الى ان الأصل اليونانيّ يقول: وحرفيّا: وما هو خارج قدّوس منك سيُدعى ابن الله. ليست بالشكل المذكّر للتعبير عن الخارج كأنّه المولود الخارج، بل هي بحال ال Neutre ما هو قدّوس وليس الّذي هو قدّوس. هذا الإستعمال لم يكن بالطبع ناتج عن جهل بأدنى مباديء اللّغة، إنّما لأن هذه الولادة، الحدث المحوريّ في خلاص البشريّة، الّذي تمّ في ملء الزمن ولمرّة واحدة من الناحيّة التاريخيّة يجب ان يتمّ في حياة المؤمن كلّ يوم بشكل آخر، بشكل روحيّ لا جسديّ، لذلك يقول الملاك لكلّ مؤمن، ومن خلال كلمته لمريم: "ما هو قدّوس يولد منك، وهو من الله".
البشارة من الكلمة الى التجسّد
رسالتان اساسيتان يقدمهما نص البشارة:
مريم الخليقة المجدّدة
- مريم الخليقة المجدّدة بدل الخليقة الاولى التي جرحتها خطيئة آدم وحواء الأولى، هي جنة عدن الجديدة التي نبتت في وسطها شجرة الحياة الجديدة، المسيح المخلص. وبالتالي فحدث البشارة هو ليس حدث مريمي او ماريولوجي، انما هو حدث مسيحاني كريستولوجي، فالهدف من خلال البشارة كان تحضير الارض الجديدة، الأرض العاقلة والحرة التي تقبل بايمانها وطاعتها كلمة الرّب توجه اليها. مريم من خلال كلمة الملاك Kekharitomene المملوءة نعمة تظهر طاهرة من كل وصمة وبالتالي قادرة على قبول الطاهر وقدّوس الرب في وسطها.
وكما كان آدم باكورة تراب عدن، تراب اخذ منه الرب وجبل، كذلك تصبح مريم في هذا النص عدن الطاهرة منها يخرج آدم الجديد. وكما ظلت عدن طاهرة بعد سقوط آدم وحواء، حفظت وجعل على بابها كروب النار (خر3، 24 ) كذلك بقيت مريم مصانة بعد تجسّد الابن فيها.
مريم حواء الجديدة:
مخطط الرّب في خلقه الانسان كان اشراك الانسان المخلوق في الوهة الخالق، مكان حلول الكلمة في حشا العذراء ساعة البشارة وسيلة دخول الخالق والمخلوق في علاقة تأليه لجنسنا البشري، "ليصبح للانسان بالنعمة ما هو لله في الطبيعة" كما يقول افرام السرياني. وان كانت مريم قد صارت عدن طاهرة اخرى، بها أخذت عدن الاولى، معناها الحق، فهي صارت حواء جديدة، أكملت ما فشلت حواء على القيام به، اي الانتقال من سماع البشارة وتجسيدها كلمة وواقعاً وجودياً.
فحواء علمت ارادة الله انما أمالت أذنها الى كلمات الحية، علمت بارادة الله وأبقتها على المستوى النظري المعرفي، وأصغت لكلمات الحيّة ووثقت بها، فدخل الموت عبر أذنها الى قلبها، ووجودها، فحملت الشر وولدت الموت للعالم.
أما مريم فقد أصغت لارادة الرب واطاعت هذه الارادة بالايمان، جعلت نفسها في خدمة البشارة لا مسلّطة عليها، اصغت للكلمة فدخلت الكلمة من اذنها الى قلبها، الى كيانها ووجودها، سمعت الكلمة، تأملت بها، وثقت وآمنت بها، دخلت من اذنها الى عقلها فاستنار والى قلبها فامتلأ فرحاً بحسب قول الملاك: "افرحي"، وحملت الكلمة في حشاها وولدتها للعالم كلمة حياة متجسّدة في الواقع اليومي. ايمان مريم وثقتها، ووضعها لذاتها في خدمة الارادة الالهية جعلها تشترك في تحول العلاقة البشرية مع الله من مجرد علاقة معرفة عقلية "او نظرية" عبر الشريعة فقط، الى علاقة حب الهي، علاقة تنتقل بالنظري الى العملي وتجسد الكلمة في عالمنا الارضي.
مريم، ضمانة اتمام نبوءة ناتان لداود بأن منه يخرج من يرث عرش داود الى الابد ولا يكون لملكه انقضاء. والكلمة التي قالها الملاك لمريم: "يجلس على عرش داود ابيه ولا يكون لملكه انقضاء" تجد جذورها في سفر صموئيل الثاني، نبوءة ناثان تعني الانتقال من العهد الى الاتمام الفعلي، انتقال سوف يتم بالمسيح ساعة بشارة الملاك لمريم.
البشارة "قول" يتجسّد، لكان من الأفضل ان نقول "كلمة " تتجسد، فالكلمة في المفهوم الكتابي هي الكلمة – الفكر – العقل – الحديث. الكلمة المنطقية، العقلية، الروحية والنظرية، الكلمة الماورائية، المطلقة، الكلمة القدوسة بالمعنى الاصلي لكلمة dabar العبرية اي المنفصلة المختلفة عن طبيعتنا البشرية.
هذا التمييز بين البعدين: البُعد المطلق غير المخلوق والبُعد الجسدي يعود بنا الى التمييز الاغريقي بين الـ Logos والـ Sarx بحكم جوهرهما غير قابلين للالتقاء، وهنا كان جديد لوقا، واهمية حدث البشارة من الناحية الثقافية، زاوج الفكر اليوناني المحتقر للمادة والفكر الكتابي السامي القائل بالـ Shekinah أي بحلول الله وسط شعبه كما في سفر التكوين: الاله المرافق للانسان السائر معهما في حديقة عدن، وكما في سفر الخروج، الله الحالّ في خباء المحضر وسط الصحراء، والله الحال في خلال الوصية في وسط تابوت العهد الصاعد الى اورشليم، دون ان تمسه يد انسان والمبارك بيت عوبيد آدوم حين حل فيه (2صم 6، 10)، في رواية لوقا نعود الى هذا الحقيقة، ال ـ Shekinahحلول الـ Logos في جسد مريم، يحولها الى خباء محضر جديد، الى تابوت عهد يحتوي الـ Logos الكلمة الجديدة، الوصية الجديدة Dabar المتجسد بالمسيح الكلمة الذي صار جسداً.
- كلمة الايمان التي تصبح جسداً
مع مريم العذراء الامرأة المؤمنة ومثال البشرية في قبول كلمة الله في حياتها ننتقل من مفهوم مجتزأ للايمان، مفهوم ذي بعد منطقي (Logikos = مرتبط بالـ Logos بمفهومه اليوناني)، معرفي Abstrait الى الايمان المتجسد، والعهد الجديد يقدم من خلال مريم مثالاً لكل انسان يدخل في علاقة مع الله:
- يعرف (عقل) يسمع (اختبار شخصي) – يتأمل (علاقة مع الله) – يقبل (طاعة الايمان التي تتخطى العقل)
- يحمل الكلمة في داخله، في حياته ووجوده، يجسد الكلمة في حياته ويتحول هو الى مثالها.
هذا هو السبيل الذي خطته مريم فصارت قدوة للبشرية في امكانية الدخول في علاقة مع الله وتجسيد كلمته في داخلها كيانيا من ناحية تحولها الى صورة كاملة.
اما التشديد على زيارة مريم لاليصابات فهو لكونه حدثاً لا ينفصل عن حدث البشارة ولو لم تنطلق مريم لظل حدث البشارة عقيم. فتجسّد الكلمة في داخلها لا يمكن ان يكون تجسداً عقيماً، ميتاً أو منغلقاً على الذات.
مريم المثال في الدخول في علاقة مع المختلف
القدوس qadosh في الكتاب المقدس تعني "المنفصل"، "المختلف بالطبيعة"، "المفصول" لذلك فالبكر فاتح الرحم يدعى الـ qadosh اي المفصول، وحين تكون الكلمة صفة الهية فهي تعني المفصول بطبيعته اي الطبائع الاخرى. بشارة جبرائيل للعذراء مريم، الى جانب البعدين الاولين: تجديد الخليقة بحلول الروح وخلق الشعب كتجسيد للكلمة logos ، ها هو البعد الثالث التحويلي، الذي يعني الانتقال من الكلمة الى التجسد، يدخل الانسانية، من خلال مريم بعلاقة مع المختلف، تفتح الطريق بالطريقة الأسمى لامكانية دخول البشرية بعلاقة متجسدة مع الطبيعة الالهية، بشارة مريم هو بداية تحقيق الارادة الخالقة الازلية وتتميم هدف الخلق: اشراك الانسان بالحياة الالهية، ليصبح للانسان بالنعمة ما لله بالطبيعة.
هذا الدخول بعلاقة مع المختلف المطلق، دفع بمريم الى الانطلاق الى المختلف المخلوق:
هي الصبية تنطلق الى العجوز، ذات الحشا الخصب تنطلق الى ذات الحشا الميت، نتيجة البشارة الانطلاق نحو الآخر المختلف، حدث البشارة هو دعوة لكل انسان يدخل في علاقة مع الله لكيما يحطّم كل حواجز الاختلاف: اختلاف اللون والعرق والجنس والدين والطبقة الاجتماعية.
من غير الممكن ان يدخل الانسان في علاقة انسانية مع الآخر المخلتف ان لم تكن هذه العلاقة انعكاساً للبعد العلائقي الالهي – الانساني. في حشا مريم تجسدت فعلاً هذه العلاقة الالهية والانسانية في شخص يسوع المسيح ابن مريم. وهكذا يتجلى البعد الأعمق لحدث البشارة: تحويل الانسان من مجرد كائن في هذا العالم الى كائن علائقي يكتمل نقصه بلقاء المختلف، المختلف النسبي، اي الآخر، والمختلف المطلق، الله الذي دخل تاريخنا البشري من بوابة البشارة كيما من خلال حرية بشريتنا، حرية مريم نصبح قادرين على تجسيد كلمة الله في حياتنا وفي مجتمعنا.
Comment