وتمضي الحياة قدماً، وباستمرار يرافق جريها السريع تغيّر في تعابير العيش والعادات والفرح والحزن. وأكثر من هذا تتغيّر المفاهيم والقيم والأخلاق من جيل إلى جيل. وبلغت وتيرة هذا التغيّر، في عصرنا الحاليّ، سرعة لم تعهدها في العصور الماضية. إذ ساهم التطوّر الصناعي، وبخاصّة التكنولوجيّ منه، في سرعة انتقال المعلومة، أيّاً كانت، من مكان إلى آخر. وبات ما يحدث في طرف الكرة الأرضيّة يصير معلوماً بتفاصيله وبالصورة الحيّة في كل أنحاء المعمورة، وكأن العالم أصبح قرية صغيرة.
هذا التسارع الرهيب جعل الشعوب تتأثر بقيم تلك الأكثر تطوّراً وامتلاكاً للمعلومات ومصادر القوة الحاليّة. من هنا تخشى كثير من الأمم على تراثها وقيمها وحضارتها من غزو الشعوب الأقوى والأغنى.
هذا يصحّ على الأديان أيضاً. فالناس الناشئون في بلاد الغرب، على سبيل المثال، حيث حرّيّة التفكير مطلقة، وحيث الإباحية الجنسية مطلقة، لا ينظرون إلى الأفكار الدينية الجديدة باستهجان حتى لو كانت تخالف أبسط قواعد الإيمان المتعارف عليها. ولا يعتبرون القضايا التي تخص الجنس من المحرمات الاجتماعية كما يراها الشرقيون. والإلحاد المتفشي يشجع رعاة الكنيسة على تبنّي واستنباط سبل رعائية جديدة، قادرة على أن تؤدي دوراً في جذب الناس إلى الإيمان، وبخاصة الشبيبة. في ظل هذا التأثير الإلحادي الطاغي قد لا تعطى أهمية كافية إلى النتائج المتأتية من هذا الانجذاب الأعمى إلى الغرب.
لذلك ما يحدث في كنائس بلاد الغرب، يصل إلينا وقد نجد فيه مرات عديدة أموراً حسنة، تساهم في ترغيبنا بإتباعه والاقتداء به. هذا من جهة، ومن جهة أخرى كوننا معّرضين، بحكم التاريخ، إلى التطلع إلى الغرب كمصدر للحضارة والرقي يجب إتباعه، يجعلنا في وضعية أصحاب عقدة النقص تجاهه، فنريد تقليده في كل شيء. هذا يعطل لدينا حس نقده لنعرف ما هو الصالح لديه وما هو الطالح، ما هو المفيد لنا منه وما هو الضار.
في الكنيسة قيم ثابتة لا تتغير. وفيها تعابير حياة تتغير بتغير الأزمان والعصور والمناخ والظروف. فالعقائد المسيحية لا تتغير فالمسيح ابن الله، الأقنوم الثاني من الثالوث القدوس، قد تجسّد في زمن ليخلص البشر من عبودية الشر.عقيدة ثابتة ودائمة دوام المسيحية. لكن شرح هذه العقيدة وتقديمها للسامعين قد يتغير باستعمال اللغة والأمثلة وطريقة التقديم. فما يفهمه المؤمن قد لا يفهمه الملحد، وما يفهمه المسيحي بتعبير ما قد يقع في أذن غير المسيحي موقعاً مختلفاً....
لذلك كان للبشارة ميدان واسع. لأن تقديم بشارة الخلاص للناس، وتركيزها وتنميتها فيهم، يحتاج إلى معرفة واستخدام لغة وطرائق تفكير وعادات ومفاهيم الذين توَجّه البشارة إليهم. كما تحتاج هذه العملية إلى استخدام الوسائل المعاصرة، والطرائق المألوفة... بما ينفع البشارة ولا يغير في مضمونها وروحها. هذا كله تقوم الكنيسة به من أجل هدف واحد هو خلاص البشر.
نسوق هذا الكلام لندقّ جرس الإنذار بسبب ما رأيناه مؤخراً هنا وثمة، وبسبب تفشي نوع من البشارة الرخيصة. ففي موسم الميلاد الماضي، روّجت إحدى المحطات الدينية لمهرجان ميلادي ضخم عنوانه "بيروت ترتل". استمر تقديم الترتيل فيه على مدى عشرة أيام وفي كنائس متنوعة من العاصمة، وكانت هذه المحطة مشكورة تنقله إلى جانب تقديم غيره من جوقات الترتيل، والاحتفالات الميلادية. ما لفت نظر الكثيرين فيما نُقل على الشاشة الصغيرة من احتفالات كنسية ميلادية، نلخصه فيما يلي:
+ بعض هذه الاحتفالات لم يكن لا ميلادياً ولا حتى دينياً، فما قُدم فيه كان بعض الأغاني المتنوعة من تراث محليّ. أغان ليست مبتذلة بالتأكيد، ولكنها لا تحمل حتى نَفساً روحياً.
+ بعض هذه الاحتفالات كان يُقدم بكل "طبيعية" أمام المائدة المقدسة، وكأن الحضور في مسرح خشبته هيكل الكنيسة المقدس.
ووصل الأمر في أحد هذه الاحتفالات، أن من كانت، بحسب الدعوة، مفروضاً بها أن تكون "المرتّلة" ظهرت أمام المائدة المقدسة لتغنّي "لبيروت" لا للمسيح، وهي ترتدي فستان سهرة ليس صارخاً، لكنه لا يليق حتى بمُصلية في الكنيسة، لما فيه من لمعان وتجسيم، وقد وضعت من أنواع الماكياج ما تضعه أية مغنية على المسرح.
أكثر من هذا، في أحد الاحتفالات المخصص للمعوقين كانت مجموعة من الشبان والشابات ترقص رقصاً إيقاعياً محتشماً جداً على وقع أغنية الهيئة المنظمة للحفل، وذلك على أرضية هيكل بازيليك سيدة حريصا.
لماذا نسوق الأمثلة؟؟ لنقول إننا نحوّل بيوت الرب إلى مسارح، ومناسبات خلاصنا إلى حفلات توازي الحفلات الدنيوية. وهذا يعني أننا وبأيدينا ندّمر روحانية بيت الرب، وننقل إليه وإلى شعب الله أجواء " العالم"، بعد أن نظن أننا قد نصرناه ببضع كلمات وألحان.
فالشعب الذي يعتاد أن يحضر احتفالاً بهذا الشكل في الكنيسة، وقد يقعد بشكل مريح له، كأن يضع رجلاً على رجل، ويشاهد أناساً يتحركون ويتمشون ويتصرفون بهذه الحرية أمام المائدة المقدسة، حيث تتحول القرابين إلى جسد الرب ودمه، وحيث نستنزل الروح القدس عليها وعلى المؤمنين، كيف لهم أن يتخشّعوا أمامها؟ وكيف لروح الورع أن يبقى حياً فيهم؟ والسؤال الذي لم أجد له جواباً هو لماذا نستخدم الكنائس للاحتفالات الموسيقية؟ أو لا توجد في المؤسسات الكنسية الكثيرة قاعات ومسارح؟
وعندما تصير الأغنيات بديلاً عن التراتيل، والمرتلون يتشبهون بالمغنين والمغنيات فإلى أين سنصل؟ ألسنا نثبت روح العالم بأيدينا في نفوس المؤمنين؟ أو لسنا نقتل روحانية الكنيسة بروحانية سطحية عاطفية رخيصة؟؟
ونتعجب بعد ذلك من قلة المصلين، ومن سطحية المؤمنين!! ونتشكى من طغيان المادية وانحسار الروحانية عن أنفس الشعب المؤمن!!
تتم هذه التصرفات بغطاء الحداثة ومماشاة العصر والشبيبة، حتى صار الشيوخ مضطرين إلى أن يكونوا مراهقين فقط في الكنيسة، لأنها تماشي المراهقين وتنسى إيصالهم إلى النضج المسيحي المطلوب.
هذا أمر، والأمر اللافت الثاني هو كثرة النشاطات الإنسانية التي تتم عن محبة سامية خالصة. وهو أمر حسن جداً. ولكن ألا يجب أن ننتبه إلى أننا شيئاً فشيئاً نستبدل بروح الجهاد الروحي روح العمل الإنساني؟ ألا نُهمل روح الصلاة والتنقية والخلوات الروحية وتنمية القداسة الشخصية في المؤمنين، على حساب نشاطات إنسانية مسيحية. هل يعفينا عمل المحبة من ممارسة الصلاة؟ هل المسيحية مجرد أعمال محبة؟ هل تأتي المحبة من العمل في مؤسساتها فقط؟ أم تنبع من مصدرها الذي هو الله وتالياً يغتذي المؤمن منه في ممارسة الأسرار وحياة التوبة وتوقع الأبدية، فيترجم هذا كله أعمال محبة في عالم الأرض، ليحوّله بقدر استطاعته إلى صورة عن الملكوت؟
عدم الانتباه إلى الروح هذا، والغرق في النشاطات السهلة نزع عن المسيحية عند كثير من المسيحيين طابع القداسة والروحانية وجعلها جمعيّة إنسانية ليس إلا. فبات أناس كثيرون من شعوب "مسيحية" يطلبون الروحانية وعمق معنى الحياة في أديان وروحانيات آسيوية وشرقية، لأنهن ما عادوا يجدونها في كنائسهم. تُفيد الإحصاءات أن عدد الفرنسيين الذين اعتنقوا البوذية قد بلغ الستمائة ألف في فرنسا فباتوا الطائفة الثانية بعد الكاثوليك والبروتستانت؟
هذه هي الحداثة التي تشدد على إتباع مبادئ العالم الساقط في نشر البشارة المسيحية، بدل أن يستلهم أبناء الكنيسة مبادئ المسيح ويجسدوها في عالم الحداثة هذا من أجل أن يعمدوه!!
إلى أي سنصل إن بدأنا باعتماد هذه العقلية في البشارة. بدأنا بالترانيم، ثم صارت موسيقى الترانيم موسيقى شعبية دنيوية، وأخيراً بدأنا بمشاهدة رقصات على وقع أنغام هذه الترانيم الدينية في نشاطات مدارس ورعايا مسيحية... لن أتكلم عن تمثيليات من سيرة الرب يسوع على الأرض، وما في بعضها من ميوعة وأضرار تخصّ أشخاص القديسين والأبرار التي تُمثّل أدوارها. وأي هدف روحي نبتغي في عرض أزياء ثياب البحر لموضة الصيف على مسرح مدرسة راهبات وبتنفيذ من طلاب وطالبات المدرسة وبإخراج وإشراف راهبة؟
في حديث لي مع كاهن أميركي صديق كان قد اهتدى إلى الأرثوذكسية منذ سنوات عدة، شدّد على أن كنيسته القديمة (الكنيسة الأسقفية) كانت كنيسة محافظة وتقليدية إلى زمن قصير. وعندما بدأت رياح التغيير والعصرنة فيها وصلت خلال عشر سنوات فقط إلى قبول المرأة الشاذة جنسياً كاهناً فيها؟؟؟ وصار تعداد مؤمنيها مليوناً بعد أن كانوا خمسة ملايين. من ربح؟؟ ومن خسر؟؟ أترك الجواب للقارئ.
سألت راهبة بريطانية لماذا لا ترتدي راهباتكن في بريطانيا اللباس الرهباني؟ ولماذا تُعَلمنون المجتمع بأيديكم؟ ولماذا تخفون المظاهر التي تدّل على المسيح والإيمان المسيحي من مجتمعكم؟ فلم يكن عندها من جواب سوى أن اللباس مجرد شكل والمهم هو القلب. حاولت جاهداً أن أفهمها أن اللباس يعبّر عن صيغة اللابس ويعطي شهادة حقيقية في مجتمع علماني كمجتمعهم فلم تستطع التجاوب واستمرت تقول: المهم الداخل وما فيه وكأنها ببغاء لم تحفظ إلا جملة واحدة. كانت ويا للأسف كما نقول في العامية قد "تَروكَبَت".
لماذا يلبس السيخ والهندوس والمسلمون وجميع أتباع الديانات ما يدلّ على ديانتهم؟ أذكر كم من الناس الذين كانوا يسألونني في الولايات المتحدة عن لباسي وعن الأرثوذكسية وما هي، وكان اللباس سبيلاً للبشارة.
مختصر القول من كل ما ذكرت، هو أن الكنيسة ليست بنت البارحة، وفيها من التراث الروحي والعقائدي، ومن الخبرات الحيّة المعاشة، الكثير الذي يجب أن نستعين به عند قيامنا بأي جديد فيها. والجدّة حتى الخارجية لازمة لأن لكل عصر لغته ومفاهيمه وقيمه وتحدياته. علينا أن نستنبط الأسلوب المناسب للإنسان المعاصر، ولكن نستنبطه من صميم إيماننا وروحانيتنا مستعينين بفهم واع ٍ للواقع ومتطلبّاته. مميزين بين ما نستخدمه كأداة للوصول والهدف الذي يحتاج إليه لنقله إلى ما هو أرفع.علينا أن نعمّد الواقع والمجتمع والإنسان، لا أن نفعل العكس. فرق كبير بين أن نصنع "كنيسة من أجل عالمنا" وأن نسعى جاهدين كي نحوّل العالم أو نطعّمه على الأقل، ليصير متناغماً مع إيمان كنيستنا. الكنيسة واسطة الخلاص لهذا العالم، وليس العكس.
هناك أمثلة كثيرة حول الانزلاق نحو الانحراف. فلنتساءل: لماذا نستسهل أن نعمل ما نراه مناسباً ونستصعب استشارة دوي الخبرة الروحية؟ لماذا لا نلجأ إلى المستنيرين؟ ولماذا لا نسمع إلى الذين يخالفوننا الرأي؟ أليس الذين يخالفوننا الرأي هم القادرون على تنبيهنا إلى مواطن غلطنا أو انحرافنا؟ فرق كبير بين حفل باسم المسيح ليرفع المؤمنين إليه وحفل باسمه ليجمع المؤمنين فقط.
+سابا
مطران بصرى حوران وجبل العرب والجولان
نقلته عن افتتاحية نشرة العربية -العدد الثالث من السنة العاشرة 2010
هذا التسارع الرهيب جعل الشعوب تتأثر بقيم تلك الأكثر تطوّراً وامتلاكاً للمعلومات ومصادر القوة الحاليّة. من هنا تخشى كثير من الأمم على تراثها وقيمها وحضارتها من غزو الشعوب الأقوى والأغنى.
هذا يصحّ على الأديان أيضاً. فالناس الناشئون في بلاد الغرب، على سبيل المثال، حيث حرّيّة التفكير مطلقة، وحيث الإباحية الجنسية مطلقة، لا ينظرون إلى الأفكار الدينية الجديدة باستهجان حتى لو كانت تخالف أبسط قواعد الإيمان المتعارف عليها. ولا يعتبرون القضايا التي تخص الجنس من المحرمات الاجتماعية كما يراها الشرقيون. والإلحاد المتفشي يشجع رعاة الكنيسة على تبنّي واستنباط سبل رعائية جديدة، قادرة على أن تؤدي دوراً في جذب الناس إلى الإيمان، وبخاصة الشبيبة. في ظل هذا التأثير الإلحادي الطاغي قد لا تعطى أهمية كافية إلى النتائج المتأتية من هذا الانجذاب الأعمى إلى الغرب.
لذلك ما يحدث في كنائس بلاد الغرب، يصل إلينا وقد نجد فيه مرات عديدة أموراً حسنة، تساهم في ترغيبنا بإتباعه والاقتداء به. هذا من جهة، ومن جهة أخرى كوننا معّرضين، بحكم التاريخ، إلى التطلع إلى الغرب كمصدر للحضارة والرقي يجب إتباعه، يجعلنا في وضعية أصحاب عقدة النقص تجاهه، فنريد تقليده في كل شيء. هذا يعطل لدينا حس نقده لنعرف ما هو الصالح لديه وما هو الطالح، ما هو المفيد لنا منه وما هو الضار.
في الكنيسة قيم ثابتة لا تتغير. وفيها تعابير حياة تتغير بتغير الأزمان والعصور والمناخ والظروف. فالعقائد المسيحية لا تتغير فالمسيح ابن الله، الأقنوم الثاني من الثالوث القدوس، قد تجسّد في زمن ليخلص البشر من عبودية الشر.عقيدة ثابتة ودائمة دوام المسيحية. لكن شرح هذه العقيدة وتقديمها للسامعين قد يتغير باستعمال اللغة والأمثلة وطريقة التقديم. فما يفهمه المؤمن قد لا يفهمه الملحد، وما يفهمه المسيحي بتعبير ما قد يقع في أذن غير المسيحي موقعاً مختلفاً....
لذلك كان للبشارة ميدان واسع. لأن تقديم بشارة الخلاص للناس، وتركيزها وتنميتها فيهم، يحتاج إلى معرفة واستخدام لغة وطرائق تفكير وعادات ومفاهيم الذين توَجّه البشارة إليهم. كما تحتاج هذه العملية إلى استخدام الوسائل المعاصرة، والطرائق المألوفة... بما ينفع البشارة ولا يغير في مضمونها وروحها. هذا كله تقوم الكنيسة به من أجل هدف واحد هو خلاص البشر.
نسوق هذا الكلام لندقّ جرس الإنذار بسبب ما رأيناه مؤخراً هنا وثمة، وبسبب تفشي نوع من البشارة الرخيصة. ففي موسم الميلاد الماضي، روّجت إحدى المحطات الدينية لمهرجان ميلادي ضخم عنوانه "بيروت ترتل". استمر تقديم الترتيل فيه على مدى عشرة أيام وفي كنائس متنوعة من العاصمة، وكانت هذه المحطة مشكورة تنقله إلى جانب تقديم غيره من جوقات الترتيل، والاحتفالات الميلادية. ما لفت نظر الكثيرين فيما نُقل على الشاشة الصغيرة من احتفالات كنسية ميلادية، نلخصه فيما يلي:
+ بعض هذه الاحتفالات لم يكن لا ميلادياً ولا حتى دينياً، فما قُدم فيه كان بعض الأغاني المتنوعة من تراث محليّ. أغان ليست مبتذلة بالتأكيد، ولكنها لا تحمل حتى نَفساً روحياً.
+ بعض هذه الاحتفالات كان يُقدم بكل "طبيعية" أمام المائدة المقدسة، وكأن الحضور في مسرح خشبته هيكل الكنيسة المقدس.
ووصل الأمر في أحد هذه الاحتفالات، أن من كانت، بحسب الدعوة، مفروضاً بها أن تكون "المرتّلة" ظهرت أمام المائدة المقدسة لتغنّي "لبيروت" لا للمسيح، وهي ترتدي فستان سهرة ليس صارخاً، لكنه لا يليق حتى بمُصلية في الكنيسة، لما فيه من لمعان وتجسيم، وقد وضعت من أنواع الماكياج ما تضعه أية مغنية على المسرح.
أكثر من هذا، في أحد الاحتفالات المخصص للمعوقين كانت مجموعة من الشبان والشابات ترقص رقصاً إيقاعياً محتشماً جداً على وقع أغنية الهيئة المنظمة للحفل، وذلك على أرضية هيكل بازيليك سيدة حريصا.
لماذا نسوق الأمثلة؟؟ لنقول إننا نحوّل بيوت الرب إلى مسارح، ومناسبات خلاصنا إلى حفلات توازي الحفلات الدنيوية. وهذا يعني أننا وبأيدينا ندّمر روحانية بيت الرب، وننقل إليه وإلى شعب الله أجواء " العالم"، بعد أن نظن أننا قد نصرناه ببضع كلمات وألحان.
فالشعب الذي يعتاد أن يحضر احتفالاً بهذا الشكل في الكنيسة، وقد يقعد بشكل مريح له، كأن يضع رجلاً على رجل، ويشاهد أناساً يتحركون ويتمشون ويتصرفون بهذه الحرية أمام المائدة المقدسة، حيث تتحول القرابين إلى جسد الرب ودمه، وحيث نستنزل الروح القدس عليها وعلى المؤمنين، كيف لهم أن يتخشّعوا أمامها؟ وكيف لروح الورع أن يبقى حياً فيهم؟ والسؤال الذي لم أجد له جواباً هو لماذا نستخدم الكنائس للاحتفالات الموسيقية؟ أو لا توجد في المؤسسات الكنسية الكثيرة قاعات ومسارح؟
وعندما تصير الأغنيات بديلاً عن التراتيل، والمرتلون يتشبهون بالمغنين والمغنيات فإلى أين سنصل؟ ألسنا نثبت روح العالم بأيدينا في نفوس المؤمنين؟ أو لسنا نقتل روحانية الكنيسة بروحانية سطحية عاطفية رخيصة؟؟
ونتعجب بعد ذلك من قلة المصلين، ومن سطحية المؤمنين!! ونتشكى من طغيان المادية وانحسار الروحانية عن أنفس الشعب المؤمن!!
تتم هذه التصرفات بغطاء الحداثة ومماشاة العصر والشبيبة، حتى صار الشيوخ مضطرين إلى أن يكونوا مراهقين فقط في الكنيسة، لأنها تماشي المراهقين وتنسى إيصالهم إلى النضج المسيحي المطلوب.
هذا أمر، والأمر اللافت الثاني هو كثرة النشاطات الإنسانية التي تتم عن محبة سامية خالصة. وهو أمر حسن جداً. ولكن ألا يجب أن ننتبه إلى أننا شيئاً فشيئاً نستبدل بروح الجهاد الروحي روح العمل الإنساني؟ ألا نُهمل روح الصلاة والتنقية والخلوات الروحية وتنمية القداسة الشخصية في المؤمنين، على حساب نشاطات إنسانية مسيحية. هل يعفينا عمل المحبة من ممارسة الصلاة؟ هل المسيحية مجرد أعمال محبة؟ هل تأتي المحبة من العمل في مؤسساتها فقط؟ أم تنبع من مصدرها الذي هو الله وتالياً يغتذي المؤمن منه في ممارسة الأسرار وحياة التوبة وتوقع الأبدية، فيترجم هذا كله أعمال محبة في عالم الأرض، ليحوّله بقدر استطاعته إلى صورة عن الملكوت؟
عدم الانتباه إلى الروح هذا، والغرق في النشاطات السهلة نزع عن المسيحية عند كثير من المسيحيين طابع القداسة والروحانية وجعلها جمعيّة إنسانية ليس إلا. فبات أناس كثيرون من شعوب "مسيحية" يطلبون الروحانية وعمق معنى الحياة في أديان وروحانيات آسيوية وشرقية، لأنهن ما عادوا يجدونها في كنائسهم. تُفيد الإحصاءات أن عدد الفرنسيين الذين اعتنقوا البوذية قد بلغ الستمائة ألف في فرنسا فباتوا الطائفة الثانية بعد الكاثوليك والبروتستانت؟
هذه هي الحداثة التي تشدد على إتباع مبادئ العالم الساقط في نشر البشارة المسيحية، بدل أن يستلهم أبناء الكنيسة مبادئ المسيح ويجسدوها في عالم الحداثة هذا من أجل أن يعمدوه!!
إلى أي سنصل إن بدأنا باعتماد هذه العقلية في البشارة. بدأنا بالترانيم، ثم صارت موسيقى الترانيم موسيقى شعبية دنيوية، وأخيراً بدأنا بمشاهدة رقصات على وقع أنغام هذه الترانيم الدينية في نشاطات مدارس ورعايا مسيحية... لن أتكلم عن تمثيليات من سيرة الرب يسوع على الأرض، وما في بعضها من ميوعة وأضرار تخصّ أشخاص القديسين والأبرار التي تُمثّل أدوارها. وأي هدف روحي نبتغي في عرض أزياء ثياب البحر لموضة الصيف على مسرح مدرسة راهبات وبتنفيذ من طلاب وطالبات المدرسة وبإخراج وإشراف راهبة؟
في حديث لي مع كاهن أميركي صديق كان قد اهتدى إلى الأرثوذكسية منذ سنوات عدة، شدّد على أن كنيسته القديمة (الكنيسة الأسقفية) كانت كنيسة محافظة وتقليدية إلى زمن قصير. وعندما بدأت رياح التغيير والعصرنة فيها وصلت خلال عشر سنوات فقط إلى قبول المرأة الشاذة جنسياً كاهناً فيها؟؟؟ وصار تعداد مؤمنيها مليوناً بعد أن كانوا خمسة ملايين. من ربح؟؟ ومن خسر؟؟ أترك الجواب للقارئ.
سألت راهبة بريطانية لماذا لا ترتدي راهباتكن في بريطانيا اللباس الرهباني؟ ولماذا تُعَلمنون المجتمع بأيديكم؟ ولماذا تخفون المظاهر التي تدّل على المسيح والإيمان المسيحي من مجتمعكم؟ فلم يكن عندها من جواب سوى أن اللباس مجرد شكل والمهم هو القلب. حاولت جاهداً أن أفهمها أن اللباس يعبّر عن صيغة اللابس ويعطي شهادة حقيقية في مجتمع علماني كمجتمعهم فلم تستطع التجاوب واستمرت تقول: المهم الداخل وما فيه وكأنها ببغاء لم تحفظ إلا جملة واحدة. كانت ويا للأسف كما نقول في العامية قد "تَروكَبَت".
لماذا يلبس السيخ والهندوس والمسلمون وجميع أتباع الديانات ما يدلّ على ديانتهم؟ أذكر كم من الناس الذين كانوا يسألونني في الولايات المتحدة عن لباسي وعن الأرثوذكسية وما هي، وكان اللباس سبيلاً للبشارة.
مختصر القول من كل ما ذكرت، هو أن الكنيسة ليست بنت البارحة، وفيها من التراث الروحي والعقائدي، ومن الخبرات الحيّة المعاشة، الكثير الذي يجب أن نستعين به عند قيامنا بأي جديد فيها. والجدّة حتى الخارجية لازمة لأن لكل عصر لغته ومفاهيمه وقيمه وتحدياته. علينا أن نستنبط الأسلوب المناسب للإنسان المعاصر، ولكن نستنبطه من صميم إيماننا وروحانيتنا مستعينين بفهم واع ٍ للواقع ومتطلبّاته. مميزين بين ما نستخدمه كأداة للوصول والهدف الذي يحتاج إليه لنقله إلى ما هو أرفع.علينا أن نعمّد الواقع والمجتمع والإنسان، لا أن نفعل العكس. فرق كبير بين أن نصنع "كنيسة من أجل عالمنا" وأن نسعى جاهدين كي نحوّل العالم أو نطعّمه على الأقل، ليصير متناغماً مع إيمان كنيستنا. الكنيسة واسطة الخلاص لهذا العالم، وليس العكس.
هناك أمثلة كثيرة حول الانزلاق نحو الانحراف. فلنتساءل: لماذا نستسهل أن نعمل ما نراه مناسباً ونستصعب استشارة دوي الخبرة الروحية؟ لماذا لا نلجأ إلى المستنيرين؟ ولماذا لا نسمع إلى الذين يخالفوننا الرأي؟ أليس الذين يخالفوننا الرأي هم القادرون على تنبيهنا إلى مواطن غلطنا أو انحرافنا؟ فرق كبير بين حفل باسم المسيح ليرفع المؤمنين إليه وحفل باسمه ليجمع المؤمنين فقط.
+سابا
مطران بصرى حوران وجبل العرب والجولان
نقلته عن افتتاحية نشرة العربية -العدد الثالث من السنة العاشرة 2010
Comment