أوّلاً: مفهوم القلب في العهد القديم
- أولاً: باطن وأعماق الإنسان وكلّ ما يجول في داخله. وبكلمة الرب لنا في العهد القديم: "أحبب الربّ إلهك من كلّ قلبك"، أي بكلّ كيانك وبكلّ ما فيك من مقوّمات داخليّة، وكلّ ما فيك من عمق يجب أن يوظّف في محبّة الله. للقلب أيضاً بعد عاطفي لأن الإنسان يحبّ من خلال قلبه، والطاقة الأساسيّة في الإنسان هي قلبه، فإنسان من دون قلب هو إنسان ناقص.
- ثانياً: القلب يعني التعبير عن الذكريات. فالأفكار والمشاريع تنطلق من القلب. بحسب الكتاب المقدّس، القلب يفكّر يشعر يخطّط يحبّ ويتذكّر.
- ثالثاً: القلب للتفكير. الله أعطانا قلباً لنفكّر (يشوع بن سيراخ).
- رابعاً: القلب وآراؤه عند الله، أي تدبير الله الخلاصي الذي يدوم من جيل إلى جيل من خلال القلب. سمة القلب امتداد المعرفة. مَن يملك قلباً فهو يملك المعرفة. إليكم بعض الأمثال الكتابيّة: "يا بنيّ اعطني قلبك"، ليس المقصود عمليّة عطاء مادي إنّما المقصود إنتبه إليّ، إلى تعليمي وإلى وصاياي واجعلني حاضراً في حياتك.
"القلب المتحجّر"، القلب الحجريّ الفكر، المنغلق.
- خامساً: قلب الإنسان يعني شخصيّة الإنسان الواعية العاقلة والحرّة أي اليقظة الحكيمة حرّة التصرّف.
القلب هو الموضع الذي يلتقي فيه الإنسان مع الله. هذا اللقاء يصبح كامل الفاعليّة، عندما ندمجه بالقلب البشري لابن الله. إن قلبي يُنجَز ويرى كماله وعزّه وكرامته عندما يلتصق ويتّحد بقلب يسوع البشري الذي حصل عليه بتجسّده.
في الكتاب المقدّس بعهديه القديم والجديد القلب هو مجموعة قدرات النفس من تفكير ومعرفة وقوّة وتمييز. بحسب تثنية الإشتراع يطلب الله أن نفتّش عليه بكلّ قلبنا، وهذا يعني أن نعيش بتوافق مع شريعته.
المطلوب منّا الآن كعائلة وجماعة إقامة عهد مع الله على تبديل القلب من قلب حجري إلى قلب بشري إلى قلب مسيحي. من قلب حجري أناني منغلق إلى قلب بشري يحسّ ويشعر ويتشارك ويتضامن مع الآخر إلى قلب مسيحي: "تعلّم منّي إنّي وديع ومتواضع القلب". وهذا هو مختصر اللاهوت والأنبياء.
جاء في العهد القديم: "أجعل شريعتي في قلوبهم وأكتبها على قلوبهم" (إرميا 31/33). "أعطي قلباً آخراً جديداً" أي أحوّل القلب من حجري إلى بشري. "إصنعوا لكم قلباً جديداً" (حزقيال 18/31) وأيضاً: "أعطيكم قلباً جديداً وأجعل في أحشائكم روحاً جديداً وأنزع من لحمكم قلب الحجر وأعطيكم قلب البشر" (حزقيال 36). إذاً نحن مدعوّون من خلال العهد القديم إلى اقتناء قلباً جديداً.
ثانياً: العهد الجديد - يسوع والقلب-
بالتجسّد امتلك يسوع قلباً والصفة الأساسيّة عند قلب يسوع هي الحنان. فتأتي في العهد الجديد عبارة: "رقّ قلبه" عند رؤيته المآسي. والله – بحسب العهد القديم – يملك حشا أمّ.
يقول الرب: "أحب إلهك من كل قلبك"، "اغفر لأخيك من كل قلبك" أي من كل كيانك. "القلب النقي يعاين الله". ونردّد مع صاحب المزمور: "قلباً نقياً أخلق فيّ يا الله". القلب هو الذي يجعل الإنسان على اتصال حميم بالآب. هذا الكلام يطابق كلام القدّيس بولس القائل: "أحبّكم في قلب يسوع المسيح... وليكن فيكم من شعور وأحاسيس يسوع المسيح".
- البعد اللاهوتي:
عبارة قلب يسوع لا يجب أن تؤخذ بإطارها العاطفي الخارجي، الربّ يحترم كل الحالات الداخليّة للإنسان. ولكن كجماعة علينا التعلّم والتثقّف والغوص إلى الداخل. العبادات التقويّة جيّدة ولكن عبادة قلب يسوع لا تقتصر عليها، إنّما تتمّ في إطار رسالة الإنجيل وهي مأخوذة من مصدرين هما سرّ الفداء والقربان المقدّس. المسيح ليس مقسّماً إنّما هو واحد. لكن الإنسان ببعده العاطفي البشري يرتاح إلى عبادة قلب يسوع ورأس يسوع المكلّل بالشوك ودموع مريم وغيرها من العبادات العاطفيّة...
لاهوتياً عبادة قلب يسوع تعني عبادة الحب أو القلب الإلهي وهي مأخوذة من محطّتين أساسيّتين هما الفداء والقربان.
العمليّة ليست عمليّة عبادة تقويّة ظاهرية مفروضة علينا، إنّما هي تنطلق من إيماني بيسوع المسيح كرب ومخلّص. وبقدر إيماني به تكون محبّتي له.
استمرّت عبادة قلب يسوع رغم كلّ المعاكسات التي اعترضتها لأن العمليّة هي عمليّة حبّ إلهيّة نابعة من قلب بشريّ هو قلب يسوع الذي عرّفني وكشف لي عن حب الله. على الإنسان أن يدرك بأن الله يحبّه بقلب بشري وهذه نتيجة التجسّد، الطبع الإلهي امتزج بالطبع البشري لكي يتّحد الطبع البشري بدوره بالطبع الإلهي.
ورداً على السؤال: "أحقاً الله يحبّني؟" نجد الجواب في قلب يسوع المفتوح على الجلجلة للجميع، فهو يحب الفقراء والخطأة والمرضى ويستقبلهم ويعطيهم الأفضليّة والأكثر من ذلك هو يجعلهم قادرين على أن يقبلوا ذواتهم تحت نظر رحمته. عندما أقتنع بمحبّة الله لي، أكون بذلك أقول لتكن مشيئتك في حياتي، وهنا يتمّ التشارك ومشروع التوأمة بين قلبي وقلب يسوع وهذا بفضل الإيمان فقط وليس بفضل المظاهر التقويّة الخارجيّة التي تعتبر جيّدة إذا ما كانت تعبّر عن الداخل، لأنّه لا يمكننا أبداً الانطلاق من الخارج إلى الداخل.
إنسان اليوم بحاجة إلى الحبّ والأمل وهذا ما يوفّره له قلب يسوع.
قلب يسوع هو الجواب والضمانة التي يقدّمها الله لكل إنسان يعاني الألم والضيق ويريد أن يُحِبّ ويُحَبّ.
في الإنجيل نصّان يؤسّسان عبادة قلب يسوع .
- الأوّل: "تعلّموا منّي إني وديع ومتواضع القلب" هناك توصية، أي تعلّم منّي أنا المعلّم والمرجع ولا تنجرف وراء قلوب آخرى.
- الثاني: طعنة يسوع على الصليب. الطعنة تعني الحبّ البطولي ليسوع كونه طعن قلبه البشري بعد موته. سمح يسوع بأن يُطعن قلبه بالحربة لأنّه أراد أن يضحّي حتّى النهاية. ومن هنا أنا ملزم بأن أحبّ يسوع حتى النهاية وبقدر ما أملك، لأن المحبّة تقتضي بإعطاء الحياة لمن نحبّ، وإعطاء الحياة يتضمّن إعطاء البسمة التضحية المساعدة التضامن الجهد المال المشاركة والمواهب... . هذا الحبّ يرى ترجمته أيضاً في قلب يسوع البشري المأخوذ من قلب مريم أي أن مرجعه هوَ الإنسان. من المهمّ جداً أن أعرف أن هذا القلب الذي ألتجىء إليه واطلب رحمته هو قلب مأخوذ من إنسان وهو مريم العذراء. الطعنة بحسب إنجيل يوحنّا تركزّ على الجنب والقلب، ويوحنا يركّز على نتائج الطعنة وهما الدم والماء. هذه الطعنة تعيدنا إلى نبؤءة زكريّا: "لينظروا من طعنوا" وإلى نبؤة آشعيا: "طعن لأجل معاصينا". إذا تمّ التنبّؤ عن هذا القلب الذي أخذه يسوع من جسد مريم كما قال سمعان الشيخ لمريم: "وأنت سيجوز في قلبك رمحاً". يقول يوحنا تعليقاً على نتيجة الطعنة وخروج الدمّ والماء: "من كان عطشاناً فليأت إليّ ويشرب"، "ومن يؤمن بي تجري منه أنهار ماء الحياة"، أي أن الإنسان الذي يحبّ لا يستطيع إلاّ أن يعطي فيض من شلالات الحبّ المرموز إليه بالماء، أي الحياة والخصوبة. إذاً من هذا القلب المطعون خرج حبّ المخلّص. عندما طعن الجندي يسوع أدخل الحربة في قلبه وإدخال الحربة يعني الموت ولكن بعد هذه الطعنة وعند خروج الحربة خرج أيضاً الماء والدم أي الحياة.
كإنسان مسيحيّ في سنة 2003 ماذا يطلب منّي قلب يسوع غير العبادات الخارجيّة؟
- أوّلاً: كونه أخرج دماً وماءً فهو يطلب منّي أن أملك عطشاً للرب الإله الحيّ وأستمد منه الحياة لأن الحياة وحدها تكسر العطش أي الموت. مطلوب منّي الذهاب إلى الينبوع الحيّ أي قلب يسوع الذي نستقي منه الحياة التي تتدفّق من على الصليب حيث طعن. ولم يذكر يسوع عبثاً كلمة أنا عطشان. لقد سبق وقالها للسامريّة، وعلى الصليب يردّد أنا عطشان أي أنّه عطشان للحب.
- ثانياً: الذي يطلبه منّي قلب يسوع هو أن أقتدي بقلبه الوديع والمتواضع. يسوع هو نور وتعليم أي أنّه المرجع. يطلب منّا مار بولس أن نشعر مثل يسوع أي أن نملك نفس الشعور ونفس الإحساس الذي ليسوع لأنّه هكذا نقتني قلباً مثل قلب يسوع بأفكار ورغبات سامية. إن عبادتنا لقلب يسوع تكون ناقصة وباطلة إن لم تكن مدعومة بهذا القلب الإلهي. يقوم الإقتداء على التأمّل أي أن أنظر إلى قلب يسوع وأحدّد جرحه، أعرف ما يجرحه مجدّداً ويسبّب له النزف وأتحاشاه. والتأملّ هو الخروج من الذات أي الأنانيّة، للتفرّغ بالنظر إلى من نحب، وأعني بنظر البصيرة أي الإيمان. نتيجة الإقتداء والتأمّل بقلب يسوع أحصل على قلباً جديداً منفتحاً ومضحيّاً، لأن تعليم يسوع لنا ليس تعليماً نظرياً فيسوع شخص عملي وبكلامه لنا كان يقصد فعلياّ ماذا يقول.
في الإرتداد والتوبة، القلب الجديد يجب أن يقوم على أنقاض القلب الحجري أي الإنسان القديم، وهو لا يتحقّق ونحصل عليه إلاّ عندما نقوم بعمليّة زرع قلب يسوع مكان قلبنا.
- ثالثاً: الثقة به "إذا كان الله معنا فمن يقدر علينا"، "من الذي يستطيع أن يفصلنا عن محبّة المسيح أضيق أم أجوع أم اضطهاد...". يسوع يدعونا إلى الثقة به أي "لا تخف أيّها القطيع الصغير". الثقة تتطلّب معرفة تقودنا إلى التسليم الكامل بين يديّ الرب. من متطلبات وشروط هذه الثقة، التنكّر للأنانيّة واشتهاء ما هو أساسي وجوهري. وإليكم طلبة جميلة وهي أن نطلب الله من الله لأنّ لا أحد يستطيع أن يقدّم الله سوى الله.
- رابعاً: التكرّس لا يقتصر على الرهبان والراهبات بل كل مَن يجعل ذاته حصّة الله وخاصة الله وينتمي إليه هو مكرّس. التكرّس الصحيح لا يقوم على تكريس بيت أو مسبحة أو سيّارة إنّما الإنتماء إلى يسوع وعيش شعاره ولتكن مشيئته. الإنتماء هو عمليّة داخليّة اي تسليم الذات وقبول كل ما يحدث لي من مرارة على ان أقدّمها ليسوع كفعل حب. الإنتماء والتكرّس الصحيحين هما التسليم الكامل للربّ بالسجود والصلاة ألخ... . لا يتمّ التكرّس بقراءة نص أو كلمات يقولها المتكرّس الراهب أو المنتسب إلى جمعية أو أخويّة ما، إنّما بعيش حياة جديدة وإعطاءها معنى جديداً أي أن أترك مكاناً للمسيح ليكبر وينمو حبّه وحضوره فيَّ، فلا أفسح في المجال لأشياء أخرى لتنمو فيّ وذلك بالتخلّي والتجرّد ونكران الذات.
- خامساً: الإتحّاد بالمسيح من خلال القربان. فالقربانة هي قلب وجسد يسوع وعبادة القلب الإلهي مرتكزة على عبادة القربان فهاتان العبادتان تتكاملان ويقول أحد الباباوات: "القربان هو العطيّة الثمينة لقلب يسوع".
- سادساً: المحبّة الأخويّة. فالصلاة وحدها لا تكفي يجب أن تكون مقرونة بالعمل، "فليس كل من يقول لي يا ربّ يا ربّ يدخل ملكوت السماوات" والعمل بمشيئة الله يعني المحبّة الاخويّة. وهذه هي أصول المسيحيّة: الله والقريب. والإنسان الذي يتكرّس داخلياّ وحقيقةً لقلب يسوع يعرف تماماً معنى العيش مع الآخر.
- سابعاً: العطاء الكامل اقتداءً بقلب يسوع الذي أعطى قلبه وسمح بأن يُطعن.
تاريخ عيد قلب يسوع:
انتشرت عبادة قلب يسوع في القرن السابع عشر والرائدة هي القديسة مارغريت ماري ألاَكوك التي ظهر لها يسوع وطلب منها التعبّد لقلبه. وهذه القديسة فرنسيّة الأصل ولدت سنة 1647 من عائلة تقيّة ترهّبت بدير راهبات الزيارة في عمر 43 تعيّد لها الكنيسة في 17 تشرين الأوّل، ويوم أبرزت نذورها الرهبانيّة كتبت بواسطة دمها: " كلّ شيء من الله ولا شيء منّي كلّ شيء لله ولا شيء لي كل شيء من أجل الله ولا شيء من أجلي". وكتبت في موضع آخر: "كلّ ما تقدّمت أرى أن الحياة الخالية من حبّ يسوع هي أشقى الشقاء". ظهورات المسيح لهذه القديسة كثيرة وتذكر منها الكنيسة أربع ظهروات، كان يسوع من خلالها يشير إلى قلبه النافر من صدره معبّراً عن أسفه الشديد لنكران الناس له. هو السيّد نفسه حدّد للقديسة مارغريت ماري الإحتفال بعيد قلبه الأقدس يوم الجمعة الواقع بعد عيد القربان بأسبوع وبناءً على ذلك بدأت راهبات الزيارة الإحتفال بهذا العيد اعتباراً 1685.
حول عيد الجسد أو القربان:
خميس الأسرار كان العيد الوحيد للقربان المقدّس. وفي سنة 1208 ظهر الرب يسوع للطوباويّة جولياني في بلجيكا ما بين سنة 1208 و 1210 وقال لها أن تباشر العمل بتأسيس عيد احتفالي كبير على إسم القربان المقدّس. وفي بلجيكا أيضاً، كان هنالك شاب شمّاس من طلاب الكهنوت يدعى جاك بانتاليان وكان متحمّساً جداً لعبادة القربان. ومع مرور السنين وفي سنة 1261 أصبح هذا الشاب البابا واتخذ إسم قربانس الرابع وبقي حماسه للقربان مشتعلاً في صدره. وفيما كان يمضي فصل الصيف في أورفياتّو في إيطاليا صادف هنالك وجود أحد الكهنة المشكّكين بحقيقة وجود يسوع في الإفخارستيّا يحتفل بالذبيحة ولمّا قدّس هذا الكاهن الخبز توقّف ونادى قائلاً: "هل هذا حقاّ أنت يا ربي؟" وإذا بالبرشانة المقدّسة تحمرّ ويسيل منها الدم حتّى تبلّلت الصمدة وأغطية المذبح وما زالت هذة الصمدة المخضّبة بدم المسيح محفوظة في علبة زجاجيّة في كاتدرائية أورفياتّو حتّى يومنا هذا. وتجدر الإشارة إلى أن هذه الأعجوبة ليست الأولى من نوعها. وعلى أثر هذه الأعجوبة أصدر البابا قربانس الرابع براءة رسوليّة في 11 آب 1264 عمّم من خلالها على الكنيسة جمعاء هذا العيد باسم عيد جسد المسيح. وأراد البابا نفسه وضع طلبة وزيّاح للقربان المقدّس فأتى بأقدس وأفضل راهبين أحدهم دومنيكاني ويدعى مار توما الأكويني شفيع ومعلّم الكنيسة وآخر فرنسيسكاني يدعى بون أفنتورا. وطلب من كل واحد أن يضع صيغة للطلبة وللزيّاح وتمّ تبنّي طلبة مار توما إذ كانت الأفضل ولا نزال حتّى يومنا هذا نردّد نفس الطلبة والتي تمّت ترجمتها لللغة العربية سنة 1881 من قبل المطران جرمانس فرحات. عسى أن يكون قلب وجسد يسوع شفيع ورفيق عيلتنا وأخينا الأكبر ولتكن أعياده المجيدة سوراً وحصناً لنا لكي نكون بدورنا أناجيل ناطقة وأخباراً مفرحة أينما كنّا. آمين.
Comment