قد تعرّض أقنوم الروح القدس، وهو الأقنوم الثالث من الثالوث الأقدس، لهجوم حاد من الهراطقة فى القرون الأولى من المسيحية الأمر الذى تصدى له آباء الكنيسة الكبار مثل العلامة ديديموس الضرير والقديس أثناسيوس الرسولى بابا الأسكندرى العشرون[1] والقديس باسيليوس الكبير أسقف قيصرية[2] والقديس غريغوريوس اللاهوتى[3] والقديس أمبروسيوس أسقف ميلان[4] وغيرهم. بل أن الكنيسة عبّرت عن إيمانها بالروح القدس وعمله فى الكنيسة من خلال التحديد الذى أقره المجمع المسكونى الثانى عام
381م ذلك التحديد الذى أُضيف إلى ما أقره المجمع المسكونى الأول عام 325م فى نيقية والخاص بأقنومى الآب والابن، وجاءت النصوص الليتورجية بعد ذلك لكى تعبّر وتؤكد على هذا الإيمان الثالوثى أى الإيمان أيضًا بألوهية الروح القدس كما ورد فى النص النهائى لقانون الإيمان أو فى الصلوات والذكصولوجيات فأعطت كل هذه النصوص، للروح القدس المجد والكرامة والعزة والسجود مع الآب والابن معبّرة بذلك عن إيمان الكنيسة بوحدة الجوهر ومؤكدة فعل الروح القدس الإلهى فى كل شخص وكل سر من أسرار الكنيسة.
نشأة وتطور الهرطقات التى أنكرت ألوهية الروح القدس:
لا يمكن أن نفصل هرطقة إنكار ألوهية الروح القدس عن هرطقة إنكار ألوهية الابن التى نادى وعلّم بها آريوس فى بداية القرن الرابع الميلادى. فلقد تضمنت تعاليم الآريوسيين تعاليمًا أنكرت ألوهية الروح القدس وأقنوميته أيضًا، غير أنها ركزت فى بادئ الأمر على إنكار ألوهية الابن استمرارًا للهجوم الذى تعرض له "لاهوت الابن" من قِبل هرطقات كثيرة منذ القرن الثانى الميلادى. ويوضِّح القديس أثناسيوس الرسولى موقف الآريوسيين من عقيدة ألوهية الروح القدس فيقول: [ إن هذا التفكير ليس غريبًا على الآريوسيين لأنهم أنكروا كلمة الله فإنه من الطبيعى أن ينطقوا بنفس التجديف ضد روحه][5]. وبينما كانت الكنيسة تنعم بانتصار العقيدة الأرثوذكسية فى المجمع المسكونى الأول 325م وإقرار قانون الإيمان النيقاوى كان المعارضون لتحديدات هذا المجمع يحاولون الدفاع عن أنفسهم وآرائهم الفاسدة متخذين من "عقيدة " تنكر على الروح القدس ألوهيته معقلاً دفاعيًا أخيرًا. وتمثلت الهرطقات التى أنكرت ألوهية الروح القدس فى مجموعتين:
أ ـ التروبيكيون Τροπικοί:
هذا الاسم اليونانى الذى أطلقه القديس أثناسيوس على المجموعة التى أنكرت ألوهية الروح القدس يعنى "المحرفون" حيث كانوا يقومون بتفسير آيات الكتاب المقدس فى غير سياقها محرّفين معناها لتدعيم أفكارهم الخاطئة . ظهرت هذه المجموعة فى مصر وقد كانوا أولاً ضمن الجماعة التى حاربت قانون الإيمان النيقاوى فيما يختص بألوهية الابن ثم انفصلوا عنهم عام 358م منكرين ألوهية الروح القدس. ولقد قضى القديس أثناسيوس على أفكارهم الخاطئة، وفى مجمع محلى بالأسكندرية عام 362م تمت إدانة تعاليمهم التى نادت بأن الروح القدس مخلوق من العدم وأنه ملاك أعلى من بقية الملائكة فى الرتبة وإن كانوا يحسبونه ضمن الأرواح الخادمة (عب14:1) ونتيجة لذلك فهو بحسب رأيهم من جوهر مختلف عن جوهر الآب والابن كما أنه لا يشبه الابن.
ب ـ المقدونيون:
فى الربع الأخير من القرن الرابع الميلادى ظهرت مجموعة أخرى عُرفت باسم محاربى الروح (Πνευματομάχοι) واشتهرت بالمقدونيين على اسم مقدونيوس رئيس أساقفة القسطنطينية تلك المدينة التى كانت مركز تجمع أغلب أتباع هذه الهرطقة.
لم يعترف المقدونيون بأن الروح رب، كما أنهم رفضوا أن يُمجد مع الآب، فبالنسبة لهم، الروح القدس، ليس عاملاً مع الله (συνεργός) وذلك لأنه لا يخلق ولا يعطى حياة.
الروح القدس حسب تعاليمهم هو مثل الملائكة خادم (ὑπηρέτης) لله وأداة (ἅργανον) له ومع ذلك لا يُعتبر ملاكًا وهو غير مشابه للآب والابن فهو إلهى (θείον) ولكن ليس إلهًا (θεός)[6].
ألوهية الروح القدس فى النصوص الليتورجية:
لقد حفظ لنا التقليد (التسليم) الكنسى الإيمان الذى تسلمته الكنيسة من المسيح بواسطة الرسل والآباء القديسين. ومنذ وقت مبكر نجد أن هذا التقليد يثبت وباستمرار ألوهية الروح القدس، إذ هى مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بعقيدة الثالوث الأقدس، ويتضح هذا الاستمرار فى تعاليم الآباء الرسوليين كما يظهر فى الممارسات والطقوس التى كانت تُجرى فى الكنيسة الأولى سواء كانت من خلال نصوص مكتوبة أو بطريقة شفاهية وتناقلها المسيحيون عبر العصور.
ومن أهم هذه الممارسات والطقوس والصلوات الخاصة بتقديس القرابين فى القداس الإلهى والتى تُسمى باستدعاء الروح القدس وهذه الصلوات وصلت إلينا بدون انقطاع منذ عهد الرسل، كذلك صلوات المعمودية والتغطيسات الثلاثة والتماجيد (الذكصولوجيات) والبركة الرسولية المعطاة باسم الآب والابن والروح القدس
وفى دفاعه عن ألوهية الروح القدس يستعين القديس باسيليوس الكبير بهذه الطقوس والممارسات لكى يواجه الأفكار الخاطئة لأصحاب هرطقة محاربى الروح مستندًا إلى أن هذه العقائد قد تناقلت من فم إلى فم بين المُعمّدين تحت طابع السر ولم تكن يومًا موضوعًا لتحديد أو إعلان من قِبل الكنيسة، غير أن عامل اشتداد الصراع مع الهراطقة، أدى إلى تطور هذه النصوص الليتورجية، فأُضيفت نصوص أخرى وصلوات تتضمن أمورًا إيمانية وعقائدية، ولنفس السبب أيضًا بدأت الكنيسة تلاوة الصلاة الربانية وقانون الإيمان بما يحوي من تحديدات لاهوتية صاغتها المجامع المسكونية الأول والثانى، وذلك بصورة علانية خلال ممارساتها الليتورجية بعد أن كان يُتلى أمام الأسقف فقط عند ممارسة طقس المعمودية، كما ظهرت الذكصولوجيات والتى هى من أرفع النصوص العقائدية فى مواجهة مؤلفات الهراطقة.
فالليتورجيا إذًا، كجزء من التقليد (التسليم)، تحفظ لنا عقيدة الكنيسة عن ألوهية الروح القدس كما يتضح من خلال التركيز على الأمور الآتية:
1 ـ إعطاء المجد والكرامة مع الآب والابن:
" المجد للآب والابن والروح القدس "
هذه الذكصولوجية قديمة جدًا فى الكنيسة وتؤكد وحدة الجوهر الإلهى للثالوث الأقدس مع تمايز الأقانيم. وقد دافع القديس باسيليوس عن ألوهية الروح القدس مستشهدًا باستخدام هذه الذكصولوجية منذ القِدم فى الكنيسة فوصف الروح القدس بأنه ὀμότιμιος أى مساوى فى الكرامة والمجد للآب والابن. وإلى اليوم نردد فى القداس الإلهى وكل صلواتنا نفس هذه الذكصولوجية ونعطى المجد والسجود للروح القدس مع الآب والابن قائلين " نسجد لك أيها المسيح مع أبيك الصالح والروح القدس".
وأيضًا فى الرشومات وفى دورة الحمل يقول الكاهن "مجدًا وكرامة كرامة ومجدًا للثالوث الأقدس الآب والابن والروح القدس".
2 ـ وحدة الجوهر الإلهى للأقانيم الثلاثة دليل ألوهية الروح القدس:
تعبّر صلوات الليتورجيا عن هذه الحقيقة باستمرار وتذكر بكل وضوح أن الروح القدس هو ὁμοούσιος أى واحد فى الجوهر مع الآب والابن.
والجدير بالذكر أن القديس باسيليوس الكبير فى مواجهته لهرطقة محاربى الروح الذين أنكروا ألوهية الروح القدس قد تحاشى استخدام هذا التعبير المشهور والذى استخدمه من قبل القديس أثناسيوس الرسولى ليُعبّر به عن وحدة الجوهر الإلهى بين الآب والابن فى محاربته للآريوسيين الذين أنكروا ألوهية الابن. والسبب فى تحاشى باسيليوس لاستخدام هذا التعبير هو أن تعبير ὁμοούσιος هوموأوسيوس لاقى مقاومة كبيرة من الآريوسيين وأتباعهم فبحكمة شديدة استخدم القديس باسيليوس تعبيرات أخرى ليؤكد بها ألوهية الروح القدس وهى تعبيرات:
ὀμότιμια، Συνδοξάζονται، συνπροσκυνούνται، أى:
المتساوون فى المجد، المُمجدون معًا، والمسجود لهم معًا.
وذلك لتحاشى تفاقم المشكلة مع جماعات محاربى الروح. غير أن نص الليتورجيا يتضمن تعبير ὁμοούσιος هوموأوسيوس، الواحد فى الجوهر، وفى أكثر من موضع، وتفسير ذلك هو أن المصلين الذين يؤمنون بوحدة الجوهر الإلهى بين الآب والابن، وقد اعتادت مسامعهم على هذا التعبير لن يجدوا أية صعوبة فى ترديد نفس المصطلح ليُعبّر عن ألوهيته.
لهذا نجد أن القداس الإلهى يضع أمامنا هذه الجملة لنختم بها صلواتنا وطلباتنا "هذا الذى من قِبله المجد والكرامة والعزة والسجود تليق بك معه مع الروح القدس المحيى المساوى لك".
وأيضًا " هذا الذى أنت مبارك معه مع الروح القدس المحيى المساوى لك " وتتكرر هذه العبارة (20) مرة خلال القداس الإلهى، ونجدها أيضًا فى تحليل صلاة باكر، والغروب، والنوم، وغيرها.
3 ـ الروح القدس رب محيى:
تعبير آخر تؤكد به الليتورجيا على ألوهية الروح القدس هو تعبير أن الروح القدس " محيى ζωοποιός " فالله وحده هو الحياة وهو فقط القادر على أن يُعطى الحياة، فإن السيد المسيح قد قال عن نفسه " أنا هو الطريق والحق والحياة"، فالروح القدس بسبب وحدة الجوهر الإلهى للأقانيم الثلاثة فهو روح الحياة[7].
وفى صلاة الساعة الثالثة نصرخ للروح القدس قائلين " أيها الملك السماوي المعزى روح الحق.. كنز الصالحات ومعطى الحياة.. "، ويُضاف هذا التعبير أيضًا فى قانون الإيمان حيث نردد قائلين: " نؤمن بالروح القدس الرب المحيى"، وفى تحليل الساعة السادسة أيضًا.
4 ـ كمال الثالوث:
وألوهية الروح القدس ومساواته فى الجوهر لأقنومى الآب والابن يجعل الثالوث كاملاً فلا الابن أقل من الآب ولا الروح أقل من الابن. الروح القدس، الأقنوم الثالث من الثالوث الأقدس، ينبثق من الآب بغير انفصال. لا يوجد أى انفصال بين أقنوم وآخر، لكن يوجد تمايز فى الأقانيم، هذا التمايز فى الأقانيم مع كمال الثالوث تعبّر عنه الليتورجيا قائلة: " لأنه مبارك الآب والابن والروح القدس الثالوث الكامل... نسجد له ونمجده" " Je `fcmarwout ... etjhk ebol " .
5 ـ عمل الروح القدس بالاشتراك مع الآب والابن:
يقول القديس أمبروسيوس فى كتابه عن الروح القدس: [وإذا كان كل مخلوق قابل للتغير إلاّ أن الروح القدس صالح وغير قابل للتغير، ولا يمكن أن تخضع طبيعته للتغير الناتج عن الضعف أو الخطية، لأنه هو الذى يغفر الضعفات كلها ويمحو الخطايا، وكيف يكون خاضعًا للتغير وهو الذى بالتقديس يعمل فى المخلوقات، ويغيرها بالنعمة دون أن يتغير هو نفسه][8].
وهذا معناه أن الروح القدس فى طبيعته يختلف عن بقية المخلوقات وهو ليس من المخلوقات القابلة للتغير بطبيعتها لأن كل ما هو مخلوق هو متغير. الروح القدس رب، وإله بالطبيعة وغير متغير، وبالتالى فالصلاح فيه غير متغير لأنه ناتج من طبيعته غير المتغيرة ولهذا فهو يقدس المخلوقات ولا يتقدس.
وعمل الروح القدس الإلهى لا يخص الروح القدس وحده بل يخص الآب والابن أيضًا وذلك بسبب وحدة الجوهر والقوة والمجد والعمل. فالكنيسة تضع فى صلوات الساعة الثالثة هذه الصلاة الرائعة التى تثبت ألوهية الروح القدس وعمله فى نفس الوقت متذكرة ساعة عمله الإلهى فى التلاميذ فى نفس تلك الساعة. معترفة بألوهيته كملك سمائى معزى، روح الحق الذى لا يحده مكان بل الحاضر فى كل مكان، وفى عبارات دقيقة وعميقة وذات مفهوم لاهوتى، تخاطب الروح القدس بأنه "كنز الصالحات"، "معطى الحياة".
ولأنه هو كذلك فإننا ندعوه مباشرة ليمارس عمله الإلهى والذى لا يستطيع أى من المخلوقات القيام به فتقول "هلم تفضل وحل فينا، طهرنا من كل دنس أيها الصالح وخلص نفوسنا".
وهكذا تنقل لنا الليتورجيا الإيمان كله عبر عصور الكنيسة، وتحفظ لنا وجدان الآباء وحسهم الروحى السليم، فهى خبرة لا يمكن نقلها بالكلام وإنما بالممارسة والتذوق الدائم لشركة الثالوث.
381م ذلك التحديد الذى أُضيف إلى ما أقره المجمع المسكونى الأول عام 325م فى نيقية والخاص بأقنومى الآب والابن، وجاءت النصوص الليتورجية بعد ذلك لكى تعبّر وتؤكد على هذا الإيمان الثالوثى أى الإيمان أيضًا بألوهية الروح القدس كما ورد فى النص النهائى لقانون الإيمان أو فى الصلوات والذكصولوجيات فأعطت كل هذه النصوص، للروح القدس المجد والكرامة والعزة والسجود مع الآب والابن معبّرة بذلك عن إيمان الكنيسة بوحدة الجوهر ومؤكدة فعل الروح القدس الإلهى فى كل شخص وكل سر من أسرار الكنيسة.
نشأة وتطور الهرطقات التى أنكرت ألوهية الروح القدس:
لا يمكن أن نفصل هرطقة إنكار ألوهية الروح القدس عن هرطقة إنكار ألوهية الابن التى نادى وعلّم بها آريوس فى بداية القرن الرابع الميلادى. فلقد تضمنت تعاليم الآريوسيين تعاليمًا أنكرت ألوهية الروح القدس وأقنوميته أيضًا، غير أنها ركزت فى بادئ الأمر على إنكار ألوهية الابن استمرارًا للهجوم الذى تعرض له "لاهوت الابن" من قِبل هرطقات كثيرة منذ القرن الثانى الميلادى. ويوضِّح القديس أثناسيوس الرسولى موقف الآريوسيين من عقيدة ألوهية الروح القدس فيقول: [ إن هذا التفكير ليس غريبًا على الآريوسيين لأنهم أنكروا كلمة الله فإنه من الطبيعى أن ينطقوا بنفس التجديف ضد روحه][5]. وبينما كانت الكنيسة تنعم بانتصار العقيدة الأرثوذكسية فى المجمع المسكونى الأول 325م وإقرار قانون الإيمان النيقاوى كان المعارضون لتحديدات هذا المجمع يحاولون الدفاع عن أنفسهم وآرائهم الفاسدة متخذين من "عقيدة " تنكر على الروح القدس ألوهيته معقلاً دفاعيًا أخيرًا. وتمثلت الهرطقات التى أنكرت ألوهية الروح القدس فى مجموعتين:
أ ـ التروبيكيون Τροπικοί:
هذا الاسم اليونانى الذى أطلقه القديس أثناسيوس على المجموعة التى أنكرت ألوهية الروح القدس يعنى "المحرفون" حيث كانوا يقومون بتفسير آيات الكتاب المقدس فى غير سياقها محرّفين معناها لتدعيم أفكارهم الخاطئة . ظهرت هذه المجموعة فى مصر وقد كانوا أولاً ضمن الجماعة التى حاربت قانون الإيمان النيقاوى فيما يختص بألوهية الابن ثم انفصلوا عنهم عام 358م منكرين ألوهية الروح القدس. ولقد قضى القديس أثناسيوس على أفكارهم الخاطئة، وفى مجمع محلى بالأسكندرية عام 362م تمت إدانة تعاليمهم التى نادت بأن الروح القدس مخلوق من العدم وأنه ملاك أعلى من بقية الملائكة فى الرتبة وإن كانوا يحسبونه ضمن الأرواح الخادمة (عب14:1) ونتيجة لذلك فهو بحسب رأيهم من جوهر مختلف عن جوهر الآب والابن كما أنه لا يشبه الابن.
ب ـ المقدونيون:
فى الربع الأخير من القرن الرابع الميلادى ظهرت مجموعة أخرى عُرفت باسم محاربى الروح (Πνευματομάχοι) واشتهرت بالمقدونيين على اسم مقدونيوس رئيس أساقفة القسطنطينية تلك المدينة التى كانت مركز تجمع أغلب أتباع هذه الهرطقة.
لم يعترف المقدونيون بأن الروح رب، كما أنهم رفضوا أن يُمجد مع الآب، فبالنسبة لهم، الروح القدس، ليس عاملاً مع الله (συνεργός) وذلك لأنه لا يخلق ولا يعطى حياة.
الروح القدس حسب تعاليمهم هو مثل الملائكة خادم (ὑπηρέτης) لله وأداة (ἅργανον) له ومع ذلك لا يُعتبر ملاكًا وهو غير مشابه للآب والابن فهو إلهى (θείον) ولكن ليس إلهًا (θεός)[6].
ألوهية الروح القدس فى النصوص الليتورجية:
لقد حفظ لنا التقليد (التسليم) الكنسى الإيمان الذى تسلمته الكنيسة من المسيح بواسطة الرسل والآباء القديسين. ومنذ وقت مبكر نجد أن هذا التقليد يثبت وباستمرار ألوهية الروح القدس، إذ هى مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بعقيدة الثالوث الأقدس، ويتضح هذا الاستمرار فى تعاليم الآباء الرسوليين كما يظهر فى الممارسات والطقوس التى كانت تُجرى فى الكنيسة الأولى سواء كانت من خلال نصوص مكتوبة أو بطريقة شفاهية وتناقلها المسيحيون عبر العصور.
ومن أهم هذه الممارسات والطقوس والصلوات الخاصة بتقديس القرابين فى القداس الإلهى والتى تُسمى باستدعاء الروح القدس وهذه الصلوات وصلت إلينا بدون انقطاع منذ عهد الرسل، كذلك صلوات المعمودية والتغطيسات الثلاثة والتماجيد (الذكصولوجيات) والبركة الرسولية المعطاة باسم الآب والابن والروح القدس
وفى دفاعه عن ألوهية الروح القدس يستعين القديس باسيليوس الكبير بهذه الطقوس والممارسات لكى يواجه الأفكار الخاطئة لأصحاب هرطقة محاربى الروح مستندًا إلى أن هذه العقائد قد تناقلت من فم إلى فم بين المُعمّدين تحت طابع السر ولم تكن يومًا موضوعًا لتحديد أو إعلان من قِبل الكنيسة، غير أن عامل اشتداد الصراع مع الهراطقة، أدى إلى تطور هذه النصوص الليتورجية، فأُضيفت نصوص أخرى وصلوات تتضمن أمورًا إيمانية وعقائدية، ولنفس السبب أيضًا بدأت الكنيسة تلاوة الصلاة الربانية وقانون الإيمان بما يحوي من تحديدات لاهوتية صاغتها المجامع المسكونية الأول والثانى، وذلك بصورة علانية خلال ممارساتها الليتورجية بعد أن كان يُتلى أمام الأسقف فقط عند ممارسة طقس المعمودية، كما ظهرت الذكصولوجيات والتى هى من أرفع النصوص العقائدية فى مواجهة مؤلفات الهراطقة.
فالليتورجيا إذًا، كجزء من التقليد (التسليم)، تحفظ لنا عقيدة الكنيسة عن ألوهية الروح القدس كما يتضح من خلال التركيز على الأمور الآتية:
1 ـ إعطاء المجد والكرامة مع الآب والابن:
" المجد للآب والابن والروح القدس "
هذه الذكصولوجية قديمة جدًا فى الكنيسة وتؤكد وحدة الجوهر الإلهى للثالوث الأقدس مع تمايز الأقانيم. وقد دافع القديس باسيليوس عن ألوهية الروح القدس مستشهدًا باستخدام هذه الذكصولوجية منذ القِدم فى الكنيسة فوصف الروح القدس بأنه ὀμότιμιος أى مساوى فى الكرامة والمجد للآب والابن. وإلى اليوم نردد فى القداس الإلهى وكل صلواتنا نفس هذه الذكصولوجية ونعطى المجد والسجود للروح القدس مع الآب والابن قائلين " نسجد لك أيها المسيح مع أبيك الصالح والروح القدس".
وأيضًا فى الرشومات وفى دورة الحمل يقول الكاهن "مجدًا وكرامة كرامة ومجدًا للثالوث الأقدس الآب والابن والروح القدس".
2 ـ وحدة الجوهر الإلهى للأقانيم الثلاثة دليل ألوهية الروح القدس:
تعبّر صلوات الليتورجيا عن هذه الحقيقة باستمرار وتذكر بكل وضوح أن الروح القدس هو ὁμοούσιος أى واحد فى الجوهر مع الآب والابن.
والجدير بالذكر أن القديس باسيليوس الكبير فى مواجهته لهرطقة محاربى الروح الذين أنكروا ألوهية الروح القدس قد تحاشى استخدام هذا التعبير المشهور والذى استخدمه من قبل القديس أثناسيوس الرسولى ليُعبّر به عن وحدة الجوهر الإلهى بين الآب والابن فى محاربته للآريوسيين الذين أنكروا ألوهية الابن. والسبب فى تحاشى باسيليوس لاستخدام هذا التعبير هو أن تعبير ὁμοούσιος هوموأوسيوس لاقى مقاومة كبيرة من الآريوسيين وأتباعهم فبحكمة شديدة استخدم القديس باسيليوس تعبيرات أخرى ليؤكد بها ألوهية الروح القدس وهى تعبيرات:
ὀμότιμια، Συνδοξάζονται، συνπροσκυνούνται، أى:
المتساوون فى المجد، المُمجدون معًا، والمسجود لهم معًا.
وذلك لتحاشى تفاقم المشكلة مع جماعات محاربى الروح. غير أن نص الليتورجيا يتضمن تعبير ὁμοούσιος هوموأوسيوس، الواحد فى الجوهر، وفى أكثر من موضع، وتفسير ذلك هو أن المصلين الذين يؤمنون بوحدة الجوهر الإلهى بين الآب والابن، وقد اعتادت مسامعهم على هذا التعبير لن يجدوا أية صعوبة فى ترديد نفس المصطلح ليُعبّر عن ألوهيته.
لهذا نجد أن القداس الإلهى يضع أمامنا هذه الجملة لنختم بها صلواتنا وطلباتنا "هذا الذى من قِبله المجد والكرامة والعزة والسجود تليق بك معه مع الروح القدس المحيى المساوى لك".
وأيضًا " هذا الذى أنت مبارك معه مع الروح القدس المحيى المساوى لك " وتتكرر هذه العبارة (20) مرة خلال القداس الإلهى، ونجدها أيضًا فى تحليل صلاة باكر، والغروب، والنوم، وغيرها.
3 ـ الروح القدس رب محيى:
تعبير آخر تؤكد به الليتورجيا على ألوهية الروح القدس هو تعبير أن الروح القدس " محيى ζωοποιός " فالله وحده هو الحياة وهو فقط القادر على أن يُعطى الحياة، فإن السيد المسيح قد قال عن نفسه " أنا هو الطريق والحق والحياة"، فالروح القدس بسبب وحدة الجوهر الإلهى للأقانيم الثلاثة فهو روح الحياة[7].
وفى صلاة الساعة الثالثة نصرخ للروح القدس قائلين " أيها الملك السماوي المعزى روح الحق.. كنز الصالحات ومعطى الحياة.. "، ويُضاف هذا التعبير أيضًا فى قانون الإيمان حيث نردد قائلين: " نؤمن بالروح القدس الرب المحيى"، وفى تحليل الساعة السادسة أيضًا.
4 ـ كمال الثالوث:
وألوهية الروح القدس ومساواته فى الجوهر لأقنومى الآب والابن يجعل الثالوث كاملاً فلا الابن أقل من الآب ولا الروح أقل من الابن. الروح القدس، الأقنوم الثالث من الثالوث الأقدس، ينبثق من الآب بغير انفصال. لا يوجد أى انفصال بين أقنوم وآخر، لكن يوجد تمايز فى الأقانيم، هذا التمايز فى الأقانيم مع كمال الثالوث تعبّر عنه الليتورجيا قائلة: " لأنه مبارك الآب والابن والروح القدس الثالوث الكامل... نسجد له ونمجده" " Je `fcmarwout ... etjhk ebol " .
5 ـ عمل الروح القدس بالاشتراك مع الآب والابن:
يقول القديس أمبروسيوس فى كتابه عن الروح القدس: [وإذا كان كل مخلوق قابل للتغير إلاّ أن الروح القدس صالح وغير قابل للتغير، ولا يمكن أن تخضع طبيعته للتغير الناتج عن الضعف أو الخطية، لأنه هو الذى يغفر الضعفات كلها ويمحو الخطايا، وكيف يكون خاضعًا للتغير وهو الذى بالتقديس يعمل فى المخلوقات، ويغيرها بالنعمة دون أن يتغير هو نفسه][8].
وهذا معناه أن الروح القدس فى طبيعته يختلف عن بقية المخلوقات وهو ليس من المخلوقات القابلة للتغير بطبيعتها لأن كل ما هو مخلوق هو متغير. الروح القدس رب، وإله بالطبيعة وغير متغير، وبالتالى فالصلاح فيه غير متغير لأنه ناتج من طبيعته غير المتغيرة ولهذا فهو يقدس المخلوقات ولا يتقدس.
وعمل الروح القدس الإلهى لا يخص الروح القدس وحده بل يخص الآب والابن أيضًا وذلك بسبب وحدة الجوهر والقوة والمجد والعمل. فالكنيسة تضع فى صلوات الساعة الثالثة هذه الصلاة الرائعة التى تثبت ألوهية الروح القدس وعمله فى نفس الوقت متذكرة ساعة عمله الإلهى فى التلاميذ فى نفس تلك الساعة. معترفة بألوهيته كملك سمائى معزى، روح الحق الذى لا يحده مكان بل الحاضر فى كل مكان، وفى عبارات دقيقة وعميقة وذات مفهوم لاهوتى، تخاطب الروح القدس بأنه "كنز الصالحات"، "معطى الحياة".
ولأنه هو كذلك فإننا ندعوه مباشرة ليمارس عمله الإلهى والذى لا يستطيع أى من المخلوقات القيام به فتقول "هلم تفضل وحل فينا، طهرنا من كل دنس أيها الصالح وخلص نفوسنا".
وهكذا تنقل لنا الليتورجيا الإيمان كله عبر عصور الكنيسة، وتحفظ لنا وجدان الآباء وحسهم الروحى السليم، فهى خبرة لا يمكن نقلها بالكلام وإنما بالممارسة والتذوق الدائم لشركة الثالوث.
Comment