نظـرة إلى التعـليم المسيحيّ فى أيّامـنا
موضوع الثالوث الأقدس بالغ الأهمّيّة في الإيمان المسيحيّ. ذلك بأنَّ أكثر الأسئلة وأحرجها في هذا المَيْدان تدور حول الثالوث الأقدس، سواء أكانت من الأسئلة التي نطرحها على أنفسنا أمّ من التي يطرحها علينا الآخرون. وعلى طول مراحل حياتنا، تلقيْنا الكثير في دروس التعليم الدينيّ وسمعنا ما هو أكثر في العظات. وترسّخ إيماننا بالثالوث الأقدس في حياتنا على مستوى غير واعٍ في أغلب الأحيان، وقد نمارسه تلقائيًا في حياتنا الروحيّة، لكنّنا نفـاجَأ، وربّما إلى حدّ الفزع، حين نجد أنفسنا عاجزين عن إيجاد ردّ مقنع وعلى مستوى منطقيّ من التفكير.
أسئلة كثيرة قد نفاجَأ بها: لماذا التثليث ولا الوحدانيّة المجرّدة؟ وما هى الأسس الفكريّة المقنعة فى هـذا الميدان؟ وما هى مصادر إيماننا بالثالوث الأقدس؟ وما هى انعكاسات هـذا الإيمان على ممارستنا، وعلى حياتنا العمليّة وحياتنا الروحيّة؟.
لا يكفي الاعتماد على الكاهن للحصول منه على جواب، أو فى كلّ مرّة نضيق بهذه الأسئلة، فنسرع إليه لاهثين بحثًا عن الراحة من معاناة القلق الناتج تساؤلات من هذا النوع... لا شكّ أنَّ لدى الكاهن أجوبة، ولكن يجب علينا أنْ نكتشف نحن أنفسنا هذه الأجوبة. حينئذ، وحينئذ فقط، تصير هذه الأجوبة والردود جزءًا حيويًّا من كياننا وحياتنا، يعيش معنا ونعيش معه، ولا يصبح جزءًا منفصلاً عنّا، قد نفقده في أيّة لحظة أو مرحلة من خطوات حياتنا.
هناك أيضًا العديد من القضايا والمشاكل المعاصرة التي تولي اختيار موضوع الثالوث الأقدس أهمّيّة خاصّة. فمن ناحية، قويت التيارات المضادّة للإيمان، ومن ناحية أخرى ضعف التعليم المسيحيّ الذي يُلقّن في المدارس في هذه الأيَّام... وازدادت أعباء الكهنة والرعاة، فمسَّت الحاجة إلى أنْ ينشأ تيّار من العلمانيّين، من أصحاب الفكر الدينيّ المتعمِّق، يتفرّغ لوضع الأساس العقليّ لحياة الشباب الإيمانيّة، ولكلّ مَن يبحث عن أساس فكريّ، منطقيّ، للإيمانيّات المسيحيّة. ومن ثمّة يتفرَّغ الكهنة لحياة تدبير الكنيسة الروحيّ باعتبارها جماعة المؤمنين. قد لا يكون ذلك بمعنى الفصل بين مهمّتَين أو وظيفتَين، كلتاهما على قدر خطير
من الأهمّيّة، بل لايجاد التكامل بين جانبين هامّين في الحياة المسيحيّة: جانب العقل وجانب الروح. ويُمكننا أنْ نرى صورة من هذا التكامل في حياة الكنيسة الأولى. والأمثلة على ذلك عديدة، وتتجسّد في أولئك الذين تفرّغـوا لمهمّة الدفاع عن الإيمان المسيحيّ وقد بدأوا خارجًا عن رجال الإكليروس.
لهذه الأسباب كلّها، كان اختيار موضوع الثالوث الأقدس في محكمة العقل موضوعًا لإعمال الفكر
عجز العقل عن استيعاب كل الحقائق المختصّة بالثالوث.
موضوعنا الذي سننقاشه الآن هو " الثالوث الأقدس في محكمة العقل ". يحاول الإنسان أنْ يضع الثالوث الأقدس، سرّ الله كلّه، في ميزان عقله. وقد يكون هذا طموحًا، إنْ لم يكن غرورًا وكبرياءً، إذ كيف يستطيع الإنسان المحدود، بعقله المحدود، أنْ يقيِّم ويضع في ميزان عقله سرّ الثالوث الأقدس، الذي هو سرّ الله؟.
ولعلّ بعضنا يذكر قصة القديس أوغسطينس، الفيلسوف الكبير الذي عاش في القرن الخامس الميلادي، وهو من أعظم شخصيّات تاريخ الكنيسة. كان يتمشّى في أحد الأيّام على شاطئ البحر ذهابًا وإيابًا، يتأمّل في الثالوث الأقدس، ويحاول أنْ يحلّ مشاكله، ليرى كيف يمكن أن يكون ثلاثة في واحد،وواحدًا في ثلاثة. وبينما هو كذلك، رأى طفلاً وقد حفر حفرة صغيرة على الشاطئ وراح يملأ هذه الحفرة من ماء البحر بواسطة صدفة صغيرة. إبتسم له أوغسطينس وقال له: ماذا تفعل؟ أجاب : أريد أنْ أضع البحر في هذه الحفرة. قال له أوغسطينس: هذا مستحيل، يا حبيبي، لأنّ الحفرة صغيرة جدًا. فردّ عليه الطفل: كذلك أنت عندما تحاول أنْ تضع الثالوث الأقدس، وهو أعمق الأسرار فى عقلك المحدود. واختفى الطفل من أمام أوغسطينس.
لا أعلم هل هذه القصّة واقعيّة أمّ خياليّة، لكنّ المهم أنَّ الغرض منها واضح، وهو أنَّ الإنسان يجد نفسه عاجزًا، حين يحاول أنْ يضع سرّ الله في عقله المحدود.
أهمّيّة استخدام العـقل في تقبّل الحقائق الإيمانيّة
قد يبدو هذا العنوان متناقضًا مع سالفه، ولكنّ ذلك غير صحيح، إذْ إنَّ الإنسان، عندما يولد في إطار عائلة مسيحيّة، يقبل إيمانًا موروثًا عن أهله، ويقبله بطريقة عمياء، تصلح لعمره الصغير. فإنْ ظلَّ على هذا المستوى - مستوى الإيمان التقليديّ المسلّم به - بعد أن كبر، قد يكون هذا خطأ، إذْ إنَّ الله منحنا ما نسمّيه العقل، ونحن نستخدم هذا العقل لحلّ مسائل الرياضة والعلومواللغات والتجارة والعمارة وحلّ مشكلات الحياة. نستخدمه في كلّ المجالات، ولكن، حين نصل إلى المستوى الإيمانيّ، نقول: " قف، لا تستخدم عقلك، إنّ في استخدامه لخطرًا ". لماذا؟ هل هناك تناقض بين الإيمان الذي يأتي من الله، والعقل الذي هو أيضًا من الله؟ هل نعتبر الإنسان الذي يتساءل حول إيمانه مخطئًا؟ أقـول: لا، وليس مسموحًا فقط أن يستخدم العقل في مجال الإيمان والدين، بلّ إنَّ ذلك واجب ضروريّ وحتميّ.
فى كلّ إنسان، حين يتعدّى المرحلة الإبتدائيّة، وبالطبع الإعداديّة والثانويّة، أنْ يدخل في حوار بينه وبين إيمانه، لأنَّ هذا العقل هبة من الله، فلا نتركه عقيمًا. حاول أنْ تتعقّل إيمانك، ويجب أنْ يكون هناك تفاعل بين الإيمان والعقل. العقل ينير الإيمان، والإيمان ينير العقل. وهذا التفاعل مثمر، إذ نتج عنه ما نسمّيه علم اللاهوت. فعلم اللاهوت هو المحاولة التي نستعملها الآن معًا حتى نتعمّق في سرّ من أسرار المسيحيّة الأساسيّة في ضوء العقل، وهذه محاولة لا بدّ منها. لا يمكن أنْ نستمر في ترديد جُمَل محفوظة عن ظهر القلب، حتّى إذا سُئِلنا عن إيماننا، نقول: " هذا هو إيماننا "... " كيف؟... وضّح... " – " لا أعرف، هذا هو إيماني ". هل هذه إجابة كافية؟.
يعتقد بعضهم أنَّ هذا البحث الإيماني واجب على الكاهن فقط. ولكن الكاهن لا يذهب إلى الجامعة، إلى الورشة، إلى المصنع. فعلى العلمانيّ أنْ ينشر الإيمان في كلّ هذه الأوساط التي لا يصل إليها الكاهن. كلّنا رسل، وليس هناك فرق بين الكاهن والعلمانيّ في هذا المجال. علينا جميعًا أنْ نحمل هذا الإيمان إلى الأوساط التي نعيش فيها، في أي مكان. فالاجتهاد في فهم الدين واجب إذًا على كلّ مؤمن.
ما دام الله واحدًا، فكيف نفسّر عقيدة الثالوث؟ الثالوث الأقدس لا يُفسَّر إلاَّ من خلال إطار الوحدانيّة، ولكن كيف يمكن أنْ نجمع بين وحدانيّة الله وتثليثه؟ هذه مشكلة ضخمة عانت منها الكنيسة كثيرًا في القرون الثلاثة الأولى من تاريخها، وتصدّت في أثنائها للكثير من البدع، إذ إنّ الموضوع ليس سهلاً. لا يجوز أنْ نعتقد بأنَّ أجدادنا المسيحيّين الأوائل قد تقبّلوا هذه الحقيقة بسهولة، كما نجترع رشفة ماء، بلّ إنّهم بالتفكير الجادّ المضني صاغوا هذه الحقيقة في قانون الإيمان الذي جاء نتيجة مجمع نيقية سنة 325، ثمّ مجمع القسطنطينية الأوّل سنة 381، وأصبح هذا النصّ هو المرجع الأساسيّ لإيماننا. ولكنْ لم يتمّ ذلك إلاَّ بعد اجتهادٍ شاقٍ ومعاناة طويلة لتحديد بعض المفاهيم الخاصّة بالثالوث. وعلى هذا، فإنّما لا نستغرب أن نجد صعوبة في هذه
ضرورة المحبّة في الله ومقتضياتها
ما دام الله واحدًا، فكيف نفسّر عقيدة الثالوث؟ الثالوث الأقدس لا يُفسَّر إلاَّ من خلال إطار الوحدانيّة، ولكن كيف يمكن أنْ نجمع بين وحدانيّة الله وتثليثه؟ هذه مشكلة ضخمة عانت منها الكنيسة كثيرًا في القرون الثلاثة الأولى من تاريخها، وتصدّت في أثنائها للكثير من البدع، إذ إنّ الموضوع ليس سهلاً. لا يجوز أنْ نعتقد بأنَّ أجدادنا المسيحيّين الأوائل قد تقبّلوا هذه الحقيقة بسهولة، كما نجترع رشفة ماء، بلّ إنّهم بالتفكير الجادّ المضني صاغوا هذه الحقيقة في قانون الإيمان الذي جاء نتيجة مجمع نيقية سنة 325، ثمّ مجمع القسطنطينية الأوّل سنة 381، وأصبح هذا النصّ هو المرجع الأساسيّ لإيماننا. ولكنْ لم يتمّ ذلك إلاَّ بعد اجتهادٍ شاقٍ ومعاناة طويلة لتحديد بعض المفاهيم الخاصّة بالثالوث. وعلى هذا، فإنّما لا نستغرب أن نجد صعوبة في هذه
العقيدة. والآن فلنبدأ في التسلسل المنطقيّ الذي سيجعلنا نتعمّق في الموضوع شيئًا فشيئًا.
الله كامل
كلّنا نوافق على أنَّ الله كامل، وأنَّه، إنْ لم يكن كاملاً، فلا يكون الله. فكلمة "كامل" تعني أنَّ الله يجمع في ذاته كلّ الصفات الحسنة على الإطلاق. إنْ كنت أنا ذكيًا، فهو ذكيّ على الإطلاق، وإنْ كنتُ حكيمًا، فهو حكيمٌ على الإطلاق. وإنْ كنت رحيمًا فإنّه رحيمٌ على الإطلاق. فإنْ كان في العالم محبّة، ومصدر العالم هو الله، يجب إذًا أنْ يمتاز الله بهذه المحبّة على الإطلاق. والخلاصة أنَّ كلّ الصفات الحسنة التي في العالم هي في الله، ولكن على وجه الإطلاق.
الله محبّة
في نظر الفكر المسيحيّ، يلخّص الاعتراف بأنّ الله محبّة كلّ صفات الله التي يُمْكن أنْ نصفه بها، لأنّ كوْن الله محبّة يفترض أن يكون رحيمًا ورزّاقًا وغفورًا... إلخ.
ولكن الاعتراف بأنّ الله محبّة لا ينفصل عن الاعتراف بأنّ الله ثالوث، والاثنان مرتبطان ارتباطًا حتميًا، كما سنراه في ما
يلي. ونصل لهذه النتيجة بالاستعانة بالعقل البحت،واضعين طبعًا في الخلفيّة إيماننا وعقيدتنا.
ما هى المحبّة؟
المحبة هي بذل وعطاء. فعندما نقول: " إنَّ الله محبّة "، نعني أنَّ تلك المحبّة تقضي لدى الله بذلاً وعطاءً. ولكن إنْ تساءلّنا: بذل وعطاء لِمَن، افترضنا أنَّ المحبَّة تقتضي ثنائية: حتى يكون هناك محبَّة، يجب أن يكون هناك طرفان: طرف يعطي وطرف يستقبل. يبدو لنا إذًا تناقض ظاهريّ بين كَوْن الله واحدًا وكَوْنه محبّة. ونعود للسؤال: بذل وعطاء لِمَن؟
تظهر هنا عدة اقتراحات أو احتمالات سنضعها ونناقش كلاَ منها:
أوّلاً: أن يكون الطرف الثاني إلهًا آخر. إنَّ ذلك أمر مرفوض أصلاً، لأنَّ العقل لا يقبل تعدّد الألهة، كما سبق وأوضحنا.
ثالثًا: قد يقول قائل: إنَّ الله أفاض من محبّته على الخلق والبشر، فلا داعي إذًا أنْ نفترض داخل إطار الإلوهيّة مجالاً آخر للتعبير عن هذه المحبَّة. وعلى هذا الرأي، يمكننا أنْ نعترض للأسباب الآتية:
لماذا يعجز المخلوق عن أن يتيح لله مجالاً كافيًا للتعبير عن محبّته اللامتناهيّة؟
* 1- لأنّ المخلوق محدود في الاستيعاب والقـبول، إذ إنّ الله، مهما بذل من محبّة وأفاضها على مخلوقاته، لا يستطيع أنْ يفيض علينا كلّ ما لديه من محبّة، فإنَّ للمخلوق طاقة محدودة للأخذ والقبول والاستيعاب. فيكون العطاء محدودًا، لا من حيث المعطي، أي الله، بلّ من حيث القابل، أي الخليقة والإنسان. وبما أنَّ الله بذلٌ وسخاء مطلقان، فمن الواضح أنّ الخليقة عاجزة عن أن تتيح لله مجالاً كافيًا لتحقيق محبّته اللامحدودة، إذ ليس في طاقة المحدود أن يستوعب اللامحدود. ومهما كثر عدد المخلوقات، تظلّ هذه الحقيقة ثابتة، إذ إنّ المحدود + المحدود لا يمكن أنْ يساوي اللامحدود. والمحبّة الإلهية اللامحدودة لا يمكن أن تعبّر عن ذاتها بطريقة مطلقة من خلال الكائنات المحدودة، أي المخلوقات لا يعني هذا أنَّ الله لا يحبّنا، لكنّ كلّ شحص يأخذ من حبّ الله بقدر استيعابه. فلا يمكن لكوب أن يستوعب من الماء أكثر من سعته، مهما صُبّ فيه من ماء. فخلاصة القول هو أنّ المخلوق عاجز تمامًا عن أنْ يتيح لله مجالاً مناسبًا للتعبير عن محبّته اللامحدودة.
* 2- لأنّ الخلق محدود في الزمن أيضًا. الخلق له بداية ونهاية. لم يكن منذ الأزل، بل ظهر في زمن ما وفي مرحلة معيّنة من تاريخ الكون. فأطرح هنا سؤالاً: هل كان الله يتمتّع بصفة المحبّة من قبل وجود الإنسان والكون؟ الجواب طبعًا: "نعم". ولكن مَنْ هذا الطرف الآخر الذي كان الله يحبّه قبل إنشاء العالم؟ فمن الضروري أن يعيش الله محبّته، سواء كان العالم موجودًا أو لم يكن. لذا يستحيل أنْ يمثّل العالم الطرف الآخر للمحبّة الإلهية، لأنَّه محدود في الزمن.
* 3- لأنَّ الله لا يمكن أنْ يتقـيّد بالخلق تقـيّدًا ضروريًّا. لو كان تحقيق الذات الإلهيّة مرتبطًا بالمخلوق ارتباطًا حتميًا، لَمَا كان الله إلهًا. وإنْ كان الله مقيّدًا بالمخلوق حتّى إنّ المخلوق يصبح شرطًا أساسيًا لتحقيق ذاته الإلهيّة وللتعبير عن محبّته، لا يبقى الله
إلهًا. الله هو الغنيّ، أي في غنًى عن أي كائن آخر سواه، وهو المكتفى بذاته.
من الواضح ممّا سبق أنّ الله، حتّى يكون الله، يجب أنْ يتّصف بالمحبّة المطلقة، وأنَّ المحبّة تقتضي الثنائيّة، وأنّ الثنائيّة على شكل إله آخر مستحيلة، إذ لا إله إلاَّ الله، وأنّ الثنائيّة على الخليقة والإنسان مستحيلة، لأنّ الإنسان عاجز عن أن يمثّل الطرف الآخر للمحبّة الإلهيّة للأسباب التي عرضناها. إنّنا مضّطرّون إذًا، لعجزنا عن إيجاد الثنائيّة خارج إطار الألوهيّة، إلى البحث عنها داخل إطار الله ذاته، أي في داخل إطار وحدانيّة الجوهر الإلهيّ، لا في خارجه.
ولادة الابن
الولاده الأزليّة فى قالب خياليّ وعلى شكل أسطورة
والآن، فلكيّ تتجلَّى هذه القضية، سأروي هنا قصّة أحاول من خلالها أنْ أوضّح ما يحدث في الذات الإلهيّة. ولكن سأضطرّ إلى وضع هذه الحقيقة في قالب خيالي وتسلسل زمني، نتصوّر داخله وقوع أحداث متوالية، كمراحل تطوّر إلهيّ، مع التأكيد أنّ هذا خطأ بالطبع، لأنَّه، في الذات الإلهيّة، لا زمن ولا تطوّر من حالة إلى حالة ولا أفعال متوالية. ولكنّنا كبشر لا نستطيع أنْ نتكلّم عن الله إلاَّ في إطار زمنيّ، بلّ إنَّ هذا الإطار الزمني ضروريّ لنا. وفي آخر حديثنا سأقول: ألغوا عنصر الزمن من القصّة، فإنّ كلّ هذه الأحداث قد حدثت في آنٍ واحدٍ وفي لحظة واحدة - لحظة أزليّة.
وها أنا أبدأ قصّتي.
كان ياما كان، في قديم الزمان، ملك عظيم، ذو لحية بيضاء، وعلى رأسه تاج من اللآلئ الثمينة، وفي يده صولجان. والشيخ جالس على عرشه من الذهب والأرجوان، وفوق رأسه نُحِتَت هذه الكلمات: " الله جلّ جلاله... لا إله إلاَّ هو ".
وكان هذا الملك يردّد في ذاته: " أنا هو الله، ربّ الوجود، سيّد كلّ شيء، أنا الله بمفردي، لا إله إلا أنا..." وظلّ يُكرّر هذه الكلمات مرارًا وتكرارًا عبر العصور والأجيال حتّى أصابه الملل والازعاج فقال في نفسه: " أنا الله، صاحب كلّ سلطة وقدرة وجلال... ولكن ما الجدوى؟ ما الجدوى، إنْ لم أجد مجالاً لحبّي الفيّاض؟ ما جدوى عظمتي دون الحبّ؟ ما جدوى سلطتي وقدرتي وجلالي، إنْ لم يكنْ فيّ المحبّة؟ كيف أحبّ وليس أمامي طرف آخر، يشاركني هذا الحبّ؟ كيف أحبّ وأنا منفرد منعزل، لا إله إلاًّ أنا...؟ ".
في تلك اللحظة كان الله يشعر في داخله بنزعة قويّة عارمة تدفعه إلى أنْ ينطلق خارج ذاته انطلاقة عطاء كامل ومطلق، والصوت الداخلي يهمس بإلحاح: " أحبب أحبب... أحبب بكلّ ذاتك واجعل قدرتك اللامحدودة قدرة حبّ لامحدودة ".
فأخذ الصوت الداخلي يزداد إلحاحًا وقوّه ويكبر ويتصاعد ويعمّ، حتّى تحوّل إلى تيّار جارف جعل الله ينفجر انفجارًا فجائيًا وينطلق انطلاقة كاملة بفعل حبّ مطلق أفرغ فيه ذاته الإلهيّة تفريغًا شاملاً. فوجد أمامه طرف آخر يشابهه تشابهًا كاملاً ويتّصف بكلّ صفاته الإلهيّة، بلّ أصبح صورة مطابقة تمامًا لِمَا هو عليه. فصرخ الله بصرخة فرح وإعجاب واندهاش: " هذا هو ابني الحبيب الذى عنه رضيت...". وفي تلك اللحظه، حقّق الله في ذاته صفة الأبوّة وصفة الأقـنوم الذى كان يفتقدهما.
ولكن، عندما وهب الله ذاته للابن، هل وهبه أيضًا صفة الألوهيّة أم لا؟... طبعًا نعم، لأنّه ما كان ممكنًا أنْ يحتفظ الله بشيء له، إذ كان لا بدّ أنْ تكون محبّته محبّة مطلقة تجعله يهب فيها كلّ ما كان لديه، بما فيه الألوهيّة التي لا تنفصل عن كيانه. فوهب الآب لابنه كلّ ذاته وأعطاه أنْ يكون إلهًا مثله.
فتعجّب الابن من وجوده ومن كماله ومن ألوهيّته وتساءل: من أين لي هذا كلّه؟ فالتفت إلى أبيه وقال له: " هل أنت صاحب كلّ هذا؟ هل أنت مصدر كياني؟ هل أنت منبع ألوهيّتي؟ هل أنا الله بالحقيقة ؟ "... فكان جواب الآب: " نعم... لقد وهبتك كلّ ما لى وكلّ ما لديّ وكلّ ما أنا عليه، فأنت ابنى بالحقيقة، ابني
الوحيد، ابني الحبيب الذي فيه كلّ رضاي "
فقال الابن في ذاته بإعجاب: " ها أنا أصبحت كلّ شئ دون أبي... ها أنا أصبحت إلهًا، صاحب القدرة والجلال والعظمة... لا إله إلاَّ أنا... فهل أحتفظ بتلك الهبة وأعتبرها ملكًا لي؟ "... وفي تلك اللحظة، سمع الابن في داخله صوتًا خافتًا يهمس إليه: " كلّ ما لديك فمن أبيك الذي هو منبع كيانك... فكيف تحتفظ به ولا تعيده إلى مصدره، بحركة حبّ بنويّ مطلق؟...".
هذا الصوت الذي دفع الآب إلى أنْ ينطلق خارج ذاته هى نزعة المحبّة التى تناولها الابن من الآب فى طيّات الهبة الإلهيّة... فكانت النتيجة أنّ تلك النزعة جعلت الابن يشعر بضرورة إعادة الهبة الإلهيّة إلى صاحبها. فتخلّى عن ذاته كليًا وأعكس السهم وأعاد الهبة إلى الآب قائلاً: " كلّ ما لى وكلّّ ما لديّ فهو منك ولك... فأرجو قبول ذاتى وتلك الإلوهيّة التى هى ملكك...".
ولكن لم يكنْ ممكنًا أنْ يستعيد الآب ما قد وهبه، فرفض الهبة من ابنه، إذ إنّه لا عودة فى المحبّة. فكلّ منهما رفض أنْ يمتلك تلك الهبة حتى إنّها ظلّت بينهما، لا للآب وحده ولا للابن وحده، بل كمُلك مشترك بينهما. وهذه الهبة هى ما نسمّيه
الذات الإلهيّة أو الجوهر الإلهي
وقد يقول قائل: " بدلاً من هذا التنازع بين الآب والابن، أمَا كان ممكنًا أنْ يتقاسما الهبة بينهما؟..." كلاَّ، هذا أمر مستحيل، إذ إنّ الألوهيّة لا تحتمل الانقسام إطلاقًا، والجوهر الالهي إمَّا أنْ يكون واحدًا وإمّا أنْ لا يكون...
بقلم الأب هنري بولاد
موضوع الثالوث الأقدس بالغ الأهمّيّة في الإيمان المسيحيّ. ذلك بأنَّ أكثر الأسئلة وأحرجها في هذا المَيْدان تدور حول الثالوث الأقدس، سواء أكانت من الأسئلة التي نطرحها على أنفسنا أمّ من التي يطرحها علينا الآخرون. وعلى طول مراحل حياتنا، تلقيْنا الكثير في دروس التعليم الدينيّ وسمعنا ما هو أكثر في العظات. وترسّخ إيماننا بالثالوث الأقدس في حياتنا على مستوى غير واعٍ في أغلب الأحيان، وقد نمارسه تلقائيًا في حياتنا الروحيّة، لكنّنا نفـاجَأ، وربّما إلى حدّ الفزع، حين نجد أنفسنا عاجزين عن إيجاد ردّ مقنع وعلى مستوى منطقيّ من التفكير.
أسئلة كثيرة قد نفاجَأ بها: لماذا التثليث ولا الوحدانيّة المجرّدة؟ وما هى الأسس الفكريّة المقنعة فى هـذا الميدان؟ وما هى مصادر إيماننا بالثالوث الأقدس؟ وما هى انعكاسات هـذا الإيمان على ممارستنا، وعلى حياتنا العمليّة وحياتنا الروحيّة؟.
لا يكفي الاعتماد على الكاهن للحصول منه على جواب، أو فى كلّ مرّة نضيق بهذه الأسئلة، فنسرع إليه لاهثين بحثًا عن الراحة من معاناة القلق الناتج تساؤلات من هذا النوع... لا شكّ أنَّ لدى الكاهن أجوبة، ولكن يجب علينا أنْ نكتشف نحن أنفسنا هذه الأجوبة. حينئذ، وحينئذ فقط، تصير هذه الأجوبة والردود جزءًا حيويًّا من كياننا وحياتنا، يعيش معنا ونعيش معه، ولا يصبح جزءًا منفصلاً عنّا، قد نفقده في أيّة لحظة أو مرحلة من خطوات حياتنا.
هناك أيضًا العديد من القضايا والمشاكل المعاصرة التي تولي اختيار موضوع الثالوث الأقدس أهمّيّة خاصّة. فمن ناحية، قويت التيارات المضادّة للإيمان، ومن ناحية أخرى ضعف التعليم المسيحيّ الذي يُلقّن في المدارس في هذه الأيَّام... وازدادت أعباء الكهنة والرعاة، فمسَّت الحاجة إلى أنْ ينشأ تيّار من العلمانيّين، من أصحاب الفكر الدينيّ المتعمِّق، يتفرّغ لوضع الأساس العقليّ لحياة الشباب الإيمانيّة، ولكلّ مَن يبحث عن أساس فكريّ، منطقيّ، للإيمانيّات المسيحيّة. ومن ثمّة يتفرَّغ الكهنة لحياة تدبير الكنيسة الروحيّ باعتبارها جماعة المؤمنين. قد لا يكون ذلك بمعنى الفصل بين مهمّتَين أو وظيفتَين، كلتاهما على قدر خطير
من الأهمّيّة، بل لايجاد التكامل بين جانبين هامّين في الحياة المسيحيّة: جانب العقل وجانب الروح. ويُمكننا أنْ نرى صورة من هذا التكامل في حياة الكنيسة الأولى. والأمثلة على ذلك عديدة، وتتجسّد في أولئك الذين تفرّغـوا لمهمّة الدفاع عن الإيمان المسيحيّ وقد بدأوا خارجًا عن رجال الإكليروس.
لهذه الأسباب كلّها، كان اختيار موضوع الثالوث الأقدس في محكمة العقل موضوعًا لإعمال الفكر
عجز العقل عن استيعاب كل الحقائق المختصّة بالثالوث.
موضوعنا الذي سننقاشه الآن هو " الثالوث الأقدس في محكمة العقل ". يحاول الإنسان أنْ يضع الثالوث الأقدس، سرّ الله كلّه، في ميزان عقله. وقد يكون هذا طموحًا، إنْ لم يكن غرورًا وكبرياءً، إذ كيف يستطيع الإنسان المحدود، بعقله المحدود، أنْ يقيِّم ويضع في ميزان عقله سرّ الثالوث الأقدس، الذي هو سرّ الله؟.
ولعلّ بعضنا يذكر قصة القديس أوغسطينس، الفيلسوف الكبير الذي عاش في القرن الخامس الميلادي، وهو من أعظم شخصيّات تاريخ الكنيسة. كان يتمشّى في أحد الأيّام على شاطئ البحر ذهابًا وإيابًا، يتأمّل في الثالوث الأقدس، ويحاول أنْ يحلّ مشاكله، ليرى كيف يمكن أن يكون ثلاثة في واحد،وواحدًا في ثلاثة. وبينما هو كذلك، رأى طفلاً وقد حفر حفرة صغيرة على الشاطئ وراح يملأ هذه الحفرة من ماء البحر بواسطة صدفة صغيرة. إبتسم له أوغسطينس وقال له: ماذا تفعل؟ أجاب : أريد أنْ أضع البحر في هذه الحفرة. قال له أوغسطينس: هذا مستحيل، يا حبيبي، لأنّ الحفرة صغيرة جدًا. فردّ عليه الطفل: كذلك أنت عندما تحاول أنْ تضع الثالوث الأقدس، وهو أعمق الأسرار فى عقلك المحدود. واختفى الطفل من أمام أوغسطينس.
لا أعلم هل هذه القصّة واقعيّة أمّ خياليّة، لكنّ المهم أنَّ الغرض منها واضح، وهو أنَّ الإنسان يجد نفسه عاجزًا، حين يحاول أنْ يضع سرّ الله في عقله المحدود.
أهمّيّة استخدام العـقل في تقبّل الحقائق الإيمانيّة
قد يبدو هذا العنوان متناقضًا مع سالفه، ولكنّ ذلك غير صحيح، إذْ إنَّ الإنسان، عندما يولد في إطار عائلة مسيحيّة، يقبل إيمانًا موروثًا عن أهله، ويقبله بطريقة عمياء، تصلح لعمره الصغير. فإنْ ظلَّ على هذا المستوى - مستوى الإيمان التقليديّ المسلّم به - بعد أن كبر، قد يكون هذا خطأ، إذْ إنَّ الله منحنا ما نسمّيه العقل، ونحن نستخدم هذا العقل لحلّ مسائل الرياضة والعلومواللغات والتجارة والعمارة وحلّ مشكلات الحياة. نستخدمه في كلّ المجالات، ولكن، حين نصل إلى المستوى الإيمانيّ، نقول: " قف، لا تستخدم عقلك، إنّ في استخدامه لخطرًا ". لماذا؟ هل هناك تناقض بين الإيمان الذي يأتي من الله، والعقل الذي هو أيضًا من الله؟ هل نعتبر الإنسان الذي يتساءل حول إيمانه مخطئًا؟ أقـول: لا، وليس مسموحًا فقط أن يستخدم العقل في مجال الإيمان والدين، بلّ إنَّ ذلك واجب ضروريّ وحتميّ.
فى كلّ إنسان، حين يتعدّى المرحلة الإبتدائيّة، وبالطبع الإعداديّة والثانويّة، أنْ يدخل في حوار بينه وبين إيمانه، لأنَّ هذا العقل هبة من الله، فلا نتركه عقيمًا. حاول أنْ تتعقّل إيمانك، ويجب أنْ يكون هناك تفاعل بين الإيمان والعقل. العقل ينير الإيمان، والإيمان ينير العقل. وهذا التفاعل مثمر، إذ نتج عنه ما نسمّيه علم اللاهوت. فعلم اللاهوت هو المحاولة التي نستعملها الآن معًا حتى نتعمّق في سرّ من أسرار المسيحيّة الأساسيّة في ضوء العقل، وهذه محاولة لا بدّ منها. لا يمكن أنْ نستمر في ترديد جُمَل محفوظة عن ظهر القلب، حتّى إذا سُئِلنا عن إيماننا، نقول: " هذا هو إيماننا "... " كيف؟... وضّح... " – " لا أعرف، هذا هو إيماني ". هل هذه إجابة كافية؟.
يعتقد بعضهم أنَّ هذا البحث الإيماني واجب على الكاهن فقط. ولكن الكاهن لا يذهب إلى الجامعة، إلى الورشة، إلى المصنع. فعلى العلمانيّ أنْ ينشر الإيمان في كلّ هذه الأوساط التي لا يصل إليها الكاهن. كلّنا رسل، وليس هناك فرق بين الكاهن والعلمانيّ في هذا المجال. علينا جميعًا أنْ نحمل هذا الإيمان إلى الأوساط التي نعيش فيها، في أي مكان. فالاجتهاد في فهم الدين واجب إذًا على كلّ مؤمن.
ما دام الله واحدًا، فكيف نفسّر عقيدة الثالوث؟ الثالوث الأقدس لا يُفسَّر إلاَّ من خلال إطار الوحدانيّة، ولكن كيف يمكن أنْ نجمع بين وحدانيّة الله وتثليثه؟ هذه مشكلة ضخمة عانت منها الكنيسة كثيرًا في القرون الثلاثة الأولى من تاريخها، وتصدّت في أثنائها للكثير من البدع، إذ إنّ الموضوع ليس سهلاً. لا يجوز أنْ نعتقد بأنَّ أجدادنا المسيحيّين الأوائل قد تقبّلوا هذه الحقيقة بسهولة، كما نجترع رشفة ماء، بلّ إنّهم بالتفكير الجادّ المضني صاغوا هذه الحقيقة في قانون الإيمان الذي جاء نتيجة مجمع نيقية سنة 325، ثمّ مجمع القسطنطينية الأوّل سنة 381، وأصبح هذا النصّ هو المرجع الأساسيّ لإيماننا. ولكنْ لم يتمّ ذلك إلاَّ بعد اجتهادٍ شاقٍ ومعاناة طويلة لتحديد بعض المفاهيم الخاصّة بالثالوث. وعلى هذا، فإنّما لا نستغرب أن نجد صعوبة في هذه
ضرورة المحبّة في الله ومقتضياتها
ما دام الله واحدًا، فكيف نفسّر عقيدة الثالوث؟ الثالوث الأقدس لا يُفسَّر إلاَّ من خلال إطار الوحدانيّة، ولكن كيف يمكن أنْ نجمع بين وحدانيّة الله وتثليثه؟ هذه مشكلة ضخمة عانت منها الكنيسة كثيرًا في القرون الثلاثة الأولى من تاريخها، وتصدّت في أثنائها للكثير من البدع، إذ إنّ الموضوع ليس سهلاً. لا يجوز أنْ نعتقد بأنَّ أجدادنا المسيحيّين الأوائل قد تقبّلوا هذه الحقيقة بسهولة، كما نجترع رشفة ماء، بلّ إنّهم بالتفكير الجادّ المضني صاغوا هذه الحقيقة في قانون الإيمان الذي جاء نتيجة مجمع نيقية سنة 325، ثمّ مجمع القسطنطينية الأوّل سنة 381، وأصبح هذا النصّ هو المرجع الأساسيّ لإيماننا. ولكنْ لم يتمّ ذلك إلاَّ بعد اجتهادٍ شاقٍ ومعاناة طويلة لتحديد بعض المفاهيم الخاصّة بالثالوث. وعلى هذا، فإنّما لا نستغرب أن نجد صعوبة في هذه
العقيدة. والآن فلنبدأ في التسلسل المنطقيّ الذي سيجعلنا نتعمّق في الموضوع شيئًا فشيئًا.
الله كامل
كلّنا نوافق على أنَّ الله كامل، وأنَّه، إنْ لم يكن كاملاً، فلا يكون الله. فكلمة "كامل" تعني أنَّ الله يجمع في ذاته كلّ الصفات الحسنة على الإطلاق. إنْ كنت أنا ذكيًا، فهو ذكيّ على الإطلاق، وإنْ كنتُ حكيمًا، فهو حكيمٌ على الإطلاق. وإنْ كنت رحيمًا فإنّه رحيمٌ على الإطلاق. فإنْ كان في العالم محبّة، ومصدر العالم هو الله، يجب إذًا أنْ يمتاز الله بهذه المحبّة على الإطلاق. والخلاصة أنَّ كلّ الصفات الحسنة التي في العالم هي في الله، ولكن على وجه الإطلاق.
الله محبّة
في نظر الفكر المسيحيّ، يلخّص الاعتراف بأنّ الله محبّة كلّ صفات الله التي يُمْكن أنْ نصفه بها، لأنّ كوْن الله محبّة يفترض أن يكون رحيمًا ورزّاقًا وغفورًا... إلخ.
ولكن الاعتراف بأنّ الله محبّة لا ينفصل عن الاعتراف بأنّ الله ثالوث، والاثنان مرتبطان ارتباطًا حتميًا، كما سنراه في ما
يلي. ونصل لهذه النتيجة بالاستعانة بالعقل البحت،واضعين طبعًا في الخلفيّة إيماننا وعقيدتنا.
ما هى المحبّة؟
المحبة هي بذل وعطاء. فعندما نقول: " إنَّ الله محبّة "، نعني أنَّ تلك المحبّة تقضي لدى الله بذلاً وعطاءً. ولكن إنْ تساءلّنا: بذل وعطاء لِمَن، افترضنا أنَّ المحبَّة تقتضي ثنائية: حتى يكون هناك محبَّة، يجب أن يكون هناك طرفان: طرف يعطي وطرف يستقبل. يبدو لنا إذًا تناقض ظاهريّ بين كَوْن الله واحدًا وكَوْنه محبّة. ونعود للسؤال: بذل وعطاء لِمَن؟
تظهر هنا عدة اقتراحات أو احتمالات سنضعها ونناقش كلاَ منها:
أوّلاً: أن يكون الطرف الثاني إلهًا آخر. إنَّ ذلك أمر مرفوض أصلاً، لأنَّ العقل لا يقبل تعدّد الألهة، كما سبق وأوضحنا.
ثانيًا: إن قلنا: إنّ الله يحبّ نفسه، نُلغي صفة المحبَّة منه، لأنَّ حبّ الذات عكس المحبّة ونقيضها، ولأنَّ المحبَّة تحتّم وجود علاقة عطاء وتبادل ومشاركة.
ثالثًا: قد يقول قائل: إنَّ الله أفاض من محبّته على الخلق والبشر، فلا داعي إذًا أنْ نفترض داخل إطار الإلوهيّة مجالاً آخر للتعبير عن هذه المحبَّة. وعلى هذا الرأي، يمكننا أنْ نعترض للأسباب الآتية:
لماذا يعجز المخلوق عن أن يتيح لله مجالاً كافيًا للتعبير عن محبّته اللامتناهيّة؟
* 1- لأنّ المخلوق محدود في الاستيعاب والقـبول، إذ إنّ الله، مهما بذل من محبّة وأفاضها على مخلوقاته، لا يستطيع أنْ يفيض علينا كلّ ما لديه من محبّة، فإنَّ للمخلوق طاقة محدودة للأخذ والقبول والاستيعاب. فيكون العطاء محدودًا، لا من حيث المعطي، أي الله، بلّ من حيث القابل، أي الخليقة والإنسان. وبما أنَّ الله بذلٌ وسخاء مطلقان، فمن الواضح أنّ الخليقة عاجزة عن أن تتيح لله مجالاً كافيًا لتحقيق محبّته اللامحدودة، إذ ليس في طاقة المحدود أن يستوعب اللامحدود. ومهما كثر عدد المخلوقات، تظلّ هذه الحقيقة ثابتة، إذ إنّ المحدود + المحدود لا يمكن أنْ يساوي اللامحدود. والمحبّة الإلهية اللامحدودة لا يمكن أن تعبّر عن ذاتها بطريقة مطلقة من خلال الكائنات المحدودة، أي المخلوقات لا يعني هذا أنَّ الله لا يحبّنا، لكنّ كلّ شحص يأخذ من حبّ الله بقدر استيعابه. فلا يمكن لكوب أن يستوعب من الماء أكثر من سعته، مهما صُبّ فيه من ماء. فخلاصة القول هو أنّ المخلوق عاجز تمامًا عن أنْ يتيح لله مجالاً مناسبًا للتعبير عن محبّته اللامحدودة.
* 2- لأنّ الخلق محدود في الزمن أيضًا. الخلق له بداية ونهاية. لم يكن منذ الأزل، بل ظهر في زمن ما وفي مرحلة معيّنة من تاريخ الكون. فأطرح هنا سؤالاً: هل كان الله يتمتّع بصفة المحبّة من قبل وجود الإنسان والكون؟ الجواب طبعًا: "نعم". ولكن مَنْ هذا الطرف الآخر الذي كان الله يحبّه قبل إنشاء العالم؟ فمن الضروري أن يعيش الله محبّته، سواء كان العالم موجودًا أو لم يكن. لذا يستحيل أنْ يمثّل العالم الطرف الآخر للمحبّة الإلهية، لأنَّه محدود في الزمن.
* 3- لأنَّ الله لا يمكن أنْ يتقـيّد بالخلق تقـيّدًا ضروريًّا. لو كان تحقيق الذات الإلهيّة مرتبطًا بالمخلوق ارتباطًا حتميًا، لَمَا كان الله إلهًا. وإنْ كان الله مقيّدًا بالمخلوق حتّى إنّ المخلوق يصبح شرطًا أساسيًا لتحقيق ذاته الإلهيّة وللتعبير عن محبّته، لا يبقى الله
إلهًا. الله هو الغنيّ، أي في غنًى عن أي كائن آخر سواه، وهو المكتفى بذاته.
من الواضح ممّا سبق أنّ الله، حتّى يكون الله، يجب أنْ يتّصف بالمحبّة المطلقة، وأنَّ المحبّة تقتضي الثنائيّة، وأنّ الثنائيّة على شكل إله آخر مستحيلة، إذ لا إله إلاَّ الله، وأنّ الثنائيّة على الخليقة والإنسان مستحيلة، لأنّ الإنسان عاجز عن أن يمثّل الطرف الآخر للمحبّة الإلهيّة للأسباب التي عرضناها. إنّنا مضّطرّون إذًا، لعجزنا عن إيجاد الثنائيّة خارج إطار الألوهيّة، إلى البحث عنها داخل إطار الله ذاته، أي في داخل إطار وحدانيّة الجوهر الإلهيّ، لا في خارجه.
ولادة الابن
الولاده الأزليّة فى قالب خياليّ وعلى شكل أسطورة
والآن، فلكيّ تتجلَّى هذه القضية، سأروي هنا قصّة أحاول من خلالها أنْ أوضّح ما يحدث في الذات الإلهيّة. ولكن سأضطرّ إلى وضع هذه الحقيقة في قالب خيالي وتسلسل زمني، نتصوّر داخله وقوع أحداث متوالية، كمراحل تطوّر إلهيّ، مع التأكيد أنّ هذا خطأ بالطبع، لأنَّه، في الذات الإلهيّة، لا زمن ولا تطوّر من حالة إلى حالة ولا أفعال متوالية. ولكنّنا كبشر لا نستطيع أنْ نتكلّم عن الله إلاَّ في إطار زمنيّ، بلّ إنَّ هذا الإطار الزمني ضروريّ لنا. وفي آخر حديثنا سأقول: ألغوا عنصر الزمن من القصّة، فإنّ كلّ هذه الأحداث قد حدثت في آنٍ واحدٍ وفي لحظة واحدة - لحظة أزليّة.
وها أنا أبدأ قصّتي.
كان ياما كان، في قديم الزمان، ملك عظيم، ذو لحية بيضاء، وعلى رأسه تاج من اللآلئ الثمينة، وفي يده صولجان. والشيخ جالس على عرشه من الذهب والأرجوان، وفوق رأسه نُحِتَت هذه الكلمات: " الله جلّ جلاله... لا إله إلاَّ هو ".
وكان هذا الملك يردّد في ذاته: " أنا هو الله، ربّ الوجود، سيّد كلّ شيء، أنا الله بمفردي، لا إله إلا أنا..." وظلّ يُكرّر هذه الكلمات مرارًا وتكرارًا عبر العصور والأجيال حتّى أصابه الملل والازعاج فقال في نفسه: " أنا الله، صاحب كلّ سلطة وقدرة وجلال... ولكن ما الجدوى؟ ما الجدوى، إنْ لم أجد مجالاً لحبّي الفيّاض؟ ما جدوى عظمتي دون الحبّ؟ ما جدوى سلطتي وقدرتي وجلالي، إنْ لم يكنْ فيّ المحبّة؟ كيف أحبّ وليس أمامي طرف آخر، يشاركني هذا الحبّ؟ كيف أحبّ وأنا منفرد منعزل، لا إله إلاًّ أنا...؟ ".
في تلك اللحظة كان الله يشعر في داخله بنزعة قويّة عارمة تدفعه إلى أنْ ينطلق خارج ذاته انطلاقة عطاء كامل ومطلق، والصوت الداخلي يهمس بإلحاح: " أحبب أحبب... أحبب بكلّ ذاتك واجعل قدرتك اللامحدودة قدرة حبّ لامحدودة ".
فأخذ الصوت الداخلي يزداد إلحاحًا وقوّه ويكبر ويتصاعد ويعمّ، حتّى تحوّل إلى تيّار جارف جعل الله ينفجر انفجارًا فجائيًا وينطلق انطلاقة كاملة بفعل حبّ مطلق أفرغ فيه ذاته الإلهيّة تفريغًا شاملاً. فوجد أمامه طرف آخر يشابهه تشابهًا كاملاً ويتّصف بكلّ صفاته الإلهيّة، بلّ أصبح صورة مطابقة تمامًا لِمَا هو عليه. فصرخ الله بصرخة فرح وإعجاب واندهاش: " هذا هو ابني الحبيب الذى عنه رضيت...". وفي تلك اللحظه، حقّق الله في ذاته صفة الأبوّة وصفة الأقـنوم الذى كان يفتقدهما.
ولكن، عندما وهب الله ذاته للابن، هل وهبه أيضًا صفة الألوهيّة أم لا؟... طبعًا نعم، لأنّه ما كان ممكنًا أنْ يحتفظ الله بشيء له، إذ كان لا بدّ أنْ تكون محبّته محبّة مطلقة تجعله يهب فيها كلّ ما كان لديه، بما فيه الألوهيّة التي لا تنفصل عن كيانه. فوهب الآب لابنه كلّ ذاته وأعطاه أنْ يكون إلهًا مثله.
فتعجّب الابن من وجوده ومن كماله ومن ألوهيّته وتساءل: من أين لي هذا كلّه؟ فالتفت إلى أبيه وقال له: " هل أنت صاحب كلّ هذا؟ هل أنت مصدر كياني؟ هل أنت منبع ألوهيّتي؟ هل أنا الله بالحقيقة ؟ "... فكان جواب الآب: " نعم... لقد وهبتك كلّ ما لى وكلّ ما لديّ وكلّ ما أنا عليه، فأنت ابنى بالحقيقة، ابني
الوحيد، ابني الحبيب الذي فيه كلّ رضاي "
فقال الابن في ذاته بإعجاب: " ها أنا أصبحت كلّ شئ دون أبي... ها أنا أصبحت إلهًا، صاحب القدرة والجلال والعظمة... لا إله إلاَّ أنا... فهل أحتفظ بتلك الهبة وأعتبرها ملكًا لي؟ "... وفي تلك اللحظة، سمع الابن في داخله صوتًا خافتًا يهمس إليه: " كلّ ما لديك فمن أبيك الذي هو منبع كيانك... فكيف تحتفظ به ولا تعيده إلى مصدره، بحركة حبّ بنويّ مطلق؟...".
هذا الصوت الذي دفع الآب إلى أنْ ينطلق خارج ذاته هى نزعة المحبّة التى تناولها الابن من الآب فى طيّات الهبة الإلهيّة... فكانت النتيجة أنّ تلك النزعة جعلت الابن يشعر بضرورة إعادة الهبة الإلهيّة إلى صاحبها. فتخلّى عن ذاته كليًا وأعكس السهم وأعاد الهبة إلى الآب قائلاً: " كلّ ما لى وكلّّ ما لديّ فهو منك ولك... فأرجو قبول ذاتى وتلك الإلوهيّة التى هى ملكك...".
ولكن لم يكنْ ممكنًا أنْ يستعيد الآب ما قد وهبه، فرفض الهبة من ابنه، إذ إنّه لا عودة فى المحبّة. فكلّ منهما رفض أنْ يمتلك تلك الهبة حتى إنّها ظلّت بينهما، لا للآب وحده ولا للابن وحده، بل كمُلك مشترك بينهما. وهذه الهبة هى ما نسمّيه
الذات الإلهيّة أو الجوهر الإلهي
وقد يقول قائل: " بدلاً من هذا التنازع بين الآب والابن، أمَا كان ممكنًا أنْ يتقاسما الهبة بينهما؟..." كلاَّ، هذا أمر مستحيل، إذ إنّ الألوهيّة لا تحتمل الانقسام إطلاقًا، والجوهر الالهي إمَّا أنْ يكون واحدًا وإمّا أنْ لا يكون...
بقلم الأب هنري بولاد
Comment