الفصل السابع: هل حقاً يحبني الله؟
هل شككتَ مرَّة في محبة إنسان عزيز جداً عليك؟ أو هل حاولت مرة أن تثبت لإنسان أنك تحبه وهو لا يثق فيحبك؟ في كلتا الحالتين أنت تعلم أن التعبير المقنع عن الحب هو بالأفعال أكثر منهبالكلمات. ولما كانت الأفعال أقوى من الكلمات، فقد عبَّر الله عن محبته لك بمافعله، إذ مات المسيح مصلوباً لأجلك. وعندما تدرك مغزى الصليب فلن تحتاج لأي برهانآخر لحقيقة حب الله لك. بعد قبولي المسيح مخلِّصاً قرأت قصة حقيقية عن صبي »نافخ بوق« اسمه »ويلي هولت« في الثانية عشرة من عمره، كان يعمل في خدمة الجيش أثناء »حرب البوير«. وكان ويلي يقيم في خيمة مع سبعة جنود أشرار، أحدهم اسمه »بل«. وكان ويلي يحب المسيحويركع كل ليلة إلى جوار سريره ليقرأ كتابه المقدس ويصلي، بينما يشتمه بقية الجنودويسخرون منه.
وذات يوم حدثت سرقة في الخيمة، وتكررت السرقة في الليلة التالية. فاستدعى القائد الجنود وقال: »لقد ذهب تحذيري الأول أدراج الرياح، وعاد اللص يكررفعلته. واليوم أُعطي السارق فرصة الاعتراف لينال عقابه كرجل شجاع. فإن لم يعترففسأعاقب كل جندي منكم بعشر جلدات على ظهره العاري. إلا إذا تقدم أحدكم لينالالعقوبة، فيُعفى الآخرون«.
وبعد صمت طويل، وقف »ويلي« وتقدم نحو القائد وقال: »قلتَ يا سيديإنه لو تقدم رجل ليُعاقب يُعفى الباقون. أنا هو الرجل«. وصاح القائد في الجبانالمجهول: »كيف تسمح للصبي البريء أن ينال العقاب؟«. ولكن لم يتحرك أحد. فقالالقائد: »الآن سترون المنظر المحزن لصبي بريء يُعاقب بدل رجل مذنب«.
ونفَّذ القائد وعيده، وأمر بتعرية ظهر الصبي، وبدأت ضربات السياطالتي كان الصغير يتأوَّه تحت لسعاتها الرهيبة. وفجأة لم يحتمل »بل« المنظر فأسرعيصرخ: »توقَّفوا. أنا اللص، وسأنال عقابي«. ورفع ويلي عينيه نحو بل وقال: »حسناً يابل، لكن القائد لن يتراجع في أمره، وسأتحمَّل كل عقوبتك«. وقد كان.
ولم يسترجع ويلي الصغير صحته قط بعد عقوبة الجلد. وعلى فراش الموتاقترب منه »بل« مكسور القلب يبكي ويسأل: »لماذا فعلت هذا لأجلي؟ إني لا أستحق«. فأجابه: »حاولت كثيراً أن أقول لك إن الله يحبك، ولكنك كنت دوماً تسخر مني. وقدفكرت أني لو تحمَّلتُ عقوبتك، فربما أساعدك لتفهم مقدار محبة المسيح لك، تلك المحبةالعظيمة التي جعلته يذهب للصليب بدلك وليموت عن خطاياك«. وقبل أن يصل ويلي إلىالسماء كان »بل« قد قبل خلاص المسيح الموهوب له مجاناً.
لقد أكملت السماء برنامجها الخلاصي المنتصر لتنقذ البشرية الهالكة،وبادرت محبة الله بتقديم ذبيحة المسيح الكفارية عن كل واحد منا، فقد نُصبت ثلاثةصلبان على تلَّة الجلجثة، على اثنين منها صُلب لصّان. وبين اللصَّين سُمِّر المسيحومات. وفي ساعات الألم الأخيرة عبَّر أحد اللصين عن رأيه في النظام القضائي الذيحكم على الثلاثة بالصلب. ومن الغريب أن اهتمامه لم ينحصر في آلامه المبرحة وجسدهالمعذَّب، ولكن في أن القضاء الروماني لم يكن عادلاً وهو يقضي على المسيح بمثلعقوبة اللصين، فانزعج بسبب هذا الظلم. ثم وهو يقترب من نهايته، بتواضع وبإشراق،قدَّم ثلاث ملاحظات جديرة بالتأمل:
»أَمَّا نَحْنُفَبِعَدْلٍ،(صُلبنا) لِأَنَّنَا نَنَالُ اسْتِحْقَاقَ مَا فَعَلْنَا، وَأَمَّا هذَا (المسيح) فَلَمْ يَفْعَلْ شَيْئاً لَيْسَ فِي مَحَلِّهِ« (لوقا 23:41). فاعترف أنهكان مذنباً يستحق الموت.
»ننال استحقاق مافعلنا«. اليوم اعتدنا أن نسمع عن جرائم السرقة، ولا بد أنها كانت كذلك في القرنالمسيحي الأول. وقد اعترف اللص في أربع كلمات بالجُرم وبعدالة الحكم الصادرعليهما.
»أما هذا فلم يفعلشيئاً ليس في محله«. فأعلن أن المسيح كان بريئاً.
ولم يكن للص المعترف بخطاياه إلا رجاء واحد: أن يتَّجه إلى المسيح. فقال له: »اذْكُرْنِي يَا رَبُّ مَتَى جِئْتَ فِي مَلَكُوتِكَ«. فأجابه المسيحبالإجابة التي يجاوبنا بها لو رفعنا إليه الصلاة نفسها: »الْيَوْمَ تَكُونُ مَعِيفِي الْفِرْدَوْسِ« (لوقا 23:39-43).
في ذلك اليوم الذي اتَّجه فيه اللص التائب للمسيح يطلب الرحمةوالموقف الصحيح من الله، تأكد من غفران خطاياه، لأن وُجهته كانت: صليب المسيح.
شهد اللص لقداسة المسيح الكاملة، وبعد ذلك شهد لهذا الكمال ثلاثة منأتباع المسيح:
بطرس الرسول: وهو صديق شخصي للمسيح، وكانت ردود أفعاله دائماً سريعةوعملية، فشهد للمسيح شهادة عملية وقال: »لَمْ يَفْعَلْ خَطِيَّةً« (1بطرس 2:22).
يوحنا الرسول: وهو أيضاً صديق للمسيح، كان دائماً قريباً جداً منه،وقال عنه: »لَيْسَ فِيهِ خَطِيَّةٌ« (1يوحنا 3:5).
بولس الرسول: وهو العالِم الفقيه في الدين، قال عنه: »لَمْ يَعْرِفْخَطِيَّةً« (2كورنثوس 5:21).
ومع أن شهادة اللص، وشهادات أتباع المسيح الثلاثة عن حياة المسيحأنها كانت بلا خطية، إلا أن البعض قد يعترض عليها بأنها شهادة شخصية ومتحيِّزة وغيرموضوعية، بدعوى أن اللص كان في حالة يأس الموت، والرسل أتباعٌ من المريدين. ونجيبأن عندنا شهادة بيلاطس البنطي الحاكم الروماني في اليهودية، الذي لم يكن صديقاًللمسيح، وقال لطالبي صلب المسيح: »هَا أَنَا قَدْ فَحَصْتُ قُدَّامَكُمْ وَلَمْأَجِدْ فِي هذَا الْإِنْسَانِ عِلَّةً مِمَّا تَشْتَكُونَ بِهِ عَلَيْهِ« (لوقا 23:14). كما أن هذه الشهادات مجتمعة لا تعادل شهادة الله الآب عنه من عرشه فيالسماء، ففي مطلع خدمة المسيح الجهارية قدَّمه الله بصوت سماوي يقول: »هذَا هُوَابْنِي الْحَبِيبُ الَّذِي بِهِ سُرِرْتُ« (متى 3:17). فهو ليس أقل من الله في شيء،ولم يكن مختلساً عندما ساوى نفسه بالله، إلا أنه جاءنا إنساناً مولوداً بيننا منالعذراء القديسة مريم، ليُرينا كيف تكون الإنسانية الكاملة. ولم يكن في المسيح أيعيب يستوجب أن يطلب غفران الله له، بل كان في أُنسٍ دائم مع أبيه السماوي، وبهسُرَّ قلب الآب. كل شخص »أَعْوَزَهُ مَجْدُ اللّهِ« (رو 3:23) إلا هو، فقد كانكاملاً في كل شيء. ومع ذلك فقد مات لأجلنا بسبب محبته العظيمة لنا.
والآن عُد بخيالك إلى ما جرى يوم الجمعة العظيمة، لترى الجمهورالمشدوه الذي لا يصدق ما يجري أمامه: المسيح يصُلَب بين لصين، مذنبَين أمام اللهوالناس، وقد صدر عليهما حكمٌ عادل بالموت. أما المسيح فقد كان معلَّقاً على صليبقبِل بنفسه أن يحمله، دون أن يرتكب ذنباً أمام الله والناس. ولكنه كان كاملاً أمامأبيه القدوس، فصالحنا مع الله (2كورنثوس 5:19) وذهب إلى الصليب »حَمَلاً بِلَاعَيْبٍ وَلَا دَنَسٍ« (1بطرس 1:19) متطوِّعاً ليموت عن خلاص العالم، وقال عن نفسه: »لَيْسَ أَحَدٌ يَأْخُذُهَا (حياته) مِنِّي، بَلْ أَضَعُهَا أَنَا مِنْ ذَاتِي. لِيسُلْطَانٌ أَنْ أَضَعَهَا وَلِي سُلْطَانٌ أَنْ آخُذَهَا أَيْضاً« (يوحنا 10:18). وأوضح محبته بقوله: »لَيْسَ لِأَحَدٍ حُبٌّ أَعْظَمُ مِنْ هذَا أَنْ يَضَعَ أَحَدٌنَفْسَهُ لِأَجْلِ أَحِبَّائِهِ« (يوحنا 15:13). وشرح الرسول بولس هذا الحب بقوله: »لِأَنَّهُ (الآب) جَعَل الَّذِي لَمْ يَعْرِفْ خَطِيَّةً« (المسيح) »خَطِيَّةًلِأَجْلِنَا، لِنَصِيرَ نَحْنُ بِرَّ اللّهِ فِيهِ« (2كورنثوس 5:21).
أنت بريء، وأنا خطيتك
حملتَ ذنبي، وسترتَني برحمتك.
أصبحتَ أنت ما لم تكنْهُ
لأصبح أنا ما لم أكنْهُ!
حبَّة الحنطة
كان المسيح يحس بموته القادم، ففتح قلبه لتلاميذه وقال: »اَلْآنَنَفْسِي قَدِ اضْطَرَبَتْ. وَمَاذَا أَقُولُ؟ أَيُّهَا الْآبُ نَجِّنِي مِنْ هذِهِالسَّاعَةِ. وَلكِنْ لِأَجْلِ هذَا أَتَيْتُ إِلَى هذِهِ السَّاعَةِ. أَيُّهَاالْآبُ مَجِّدِ اسْمَكَ«. فَجَاءَ صَوْتٌ مِنَ السَّمَاءِ: »مَجَّدْتُ، وَأُمَجِّدُأَيْضاً« (يوحنا 12:27 و28).
ولا بد أن تسأل: كيف يمجد الآب ذاته بالصليب الأليم؟
لقد تطوَّر هذا الحوار بين المسيح وأبيه بعد أن قال لتلاميذه: »اَلْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنْ لَمْ تَقَعْ حَبَّةُ الْحِنْطَةِ فِيالْأَرْضِ وَتَمُتْ فَهِيَ تَبْقَى وَحْدَهَا. وَلكِنْ إِنْ مَاتَتْ تَأْتِيبِثَمَرٍ كَثِيرٍ« (يوحنا 12:24). كان يمكن أن يمضي المسيح إلى السماء مباشرة بغيرموت، فلم يكن للموت سلطان عليه لأنه الكامل الذي بلا خطية، ولكنه اختار أن يمجِّدأباه بأن يجعل ذهابك وذهابي إلى السماء مستطاعاً. فياله من عمل محبة رائع!
ولو لم يمت المسيح ما كان يحصد حصاداً روحياً يأخذه معه إلى السماء،ولكان مصيري ومصيرك الأبدي هو الهلاك. أما الآن فإن مصيرك بين يديك، تقرِّره أنتحسب موقفك من موت المسيح عنك. ومن الغريب أن البعض يرفضون الغفران المقدَّم لهم،بينما يقف البعض موقف الحياد من محبة المسيح الباذلة. وسواء رفض إنسانٌ خلاص المسيحأو لم يتَّخذ منه موقفاً محدداً، فالنتيجة واحدة: انفصال أبدي عن مصدر الحياةوالنور والمحبة، يصفها القول: »موتاً تموت، موتاً رهيباً وأبدياً. وتظل تموت دون أنتفنى!«.
ولكن شكراً لله، فإنه بسبب المراحم الإلهية:
إن اعترفت للمسيح أنك خاطئ، عاجز عن أن توفي ديون خطيتك، وإن وضعتثقتك في محبة المسيح وموته بديلاً عنك، وإن تركت خطاياك وشكرته على موته لأجلك،فإنه يعطيك هذا الوعد الشخصي: »خَرَجْتُ مِنْ عِنْدِ الْآبِ، وَقَدْ أَتَيْتُ إِلَىالْعَالَمِ، وَأَيْضاً أَتْرُكُ الْعَالَمَ وَأَذْهَبُ إِلَى الْآبِ.. أَنَاأَمْضِي لِأُعِدَّ لَكُمْ مَكَاناً... آتِي أَيْضاً وَآخُذُكُمْ إِلَيَّ، حَتَّىحَيْثُ أَكُونُ أَنَا تَكُونُونَ أَنْتُمْ أَيْضاً« (يوحنا 16:28 و14:2 و3).
ولا تقتصر الحياة الأبدية على مجرد تأكيد الوجود في السماء فيالمستقبل، لكنها تبدأ الآن بحاضر مجيد لكل من يثق في المسيح ويحبه. لهؤلاء يتحقَّقالوعد الإلهي: »اللّهَ أَعْطَانَا حَيَاةً أَبَدِيَّةً، وَهذِهِ الْحَيَاةُ هِيَفِي ابْنِهِ. مَنْ لَهُ الِابْنُ فَلَهُ الْحَيَاةُ، وَمَنْ لَيْسَ لَهُ ابْنُاللّهِ فَلَيْسَتْ لَهُ الْحَيَاةُ« (1يوحنا 5:11 و12). والحياة الأبدية هي في شخصالمسيح. فعندما يسكن قلبك تبدأ حياتك الأبدية به ومعه.
تكلفة باهظة
ولكي نحيا الحياة الأبدية مع الله، كما سبق وقلنا، يجب أن نجد حلاًلمشكلة خطايانا، ونجد ذلك الحل في موت المسيح الكفاري عنا، ففي الصليب التقت قداسةالله وعدالته ومحبته. هناك ظهرت قداسته، وتجلَّت عدالته، واحتضنت محبته الخطاة مثليومثلك.
قال أوزوالد تشمبرز: »احترس من موقف الذين يقولون: الله رحيم ومحب،وبالتأكيد سيغفر لنا، فلا مكان في الإنجيل لمثل هذا القول. ولكن الأساس الوحيدلغفران الخطية هو في صليب المسيح. ولم يقدم لنا الإنجيل طريقاً سواه.. وحتى عندماندرك صدق هذه الحقيقة وننال غفران خطايانا على أساسها، فإننا معرَّضون لنسيانالتكلفة الباهظة التي تكلفها الله لخلاصنا«.
ولقد ذكرنا تضحية »ويلي هولت« وهي تقدم لنا صورة باهتة للآلام التيتحمَّلها المسيح على صليب الجلجثة بسبب محبته لنا. ويقول لنا الكتاب المقدس، الموحىبه بالروح القدس، إن الله في الصليب قد أزاح الستار ليُرينا محبته الباذلة، فتأسرمحبته الفائقة قدرتنا المحدودة عن الفهم. وعندما نركز النظر على عمل المحبة العظيمهذا يمكننا تقدير جزء ضئيل من طول محبة الله وعرضها وعلوّها وعمقها.
وعندما مات المسيح لأجلنا على الصليب تألم لأجل خطايانا بثلاث طرق،جسدياً ونفسياً وروحياً. فعلى الصليب تألم بجسده، وانفصل عن نور الله ومجده وسلامهالذي كان له في وحدانيته مع الآب منذ الأزل. ويؤكد لنا التاريخ كما يؤكد الكتابالمقدس تاريخية صلب المسيح وقيامته بالجسد. ولقد قام البعض من الموت قبل قيامةالمسيح، لكنهم عادوا وماتوا، وهم الآن ينتظرون مجيء المسيح ثانية ليقيمهم إلى حياةأبدية. أما هو فقد قام ولا يسود عليه الموت بعد. إنه »رَئِيسِ الْإِيمَانِوَمُكَمِّلِهِ يَسُوعَ، الَّذِي مِنْ أَجْلِ السُّرُورِ الْمَوْضُوعِ أَمَامَهُاحْتَمَلَ الصَّلِيبَ.. إِنْ يُؤَلَّمِ الْمَسِيحُ، يَكُنْ هُوَ أَوَّلَ قِيَامَةِالْأَمْوَاتِ« (عبرانيين 12:2 وأعمال 26:23).
آلام جسدية: تألم المسيح على الصليب آلاماً تفوق إدراكنا. ولا يمكنأن نقارن موت المسيح الإنسان الكامل بموت أي إنسان آخر غيره. ومما يساعدنا علىتقريب الصورة لأذهاننا نقارن تدمير لوحة فنية لا تُقدر بثمن لرمبرانت بتشويه مجردقطعة ورق ملونة!
وهناك نبوَّة في التوراة تتكلم عن تشويه جسد المسيح على الصليبتقول: »كَانَ مَنْظَرُهُ كَذَا مُفْسَداً أَكْثَرَ مِنَ الرَّجُلِ« (إشعياء 52:14). فقد عومل بقسوة حتى تشوَّه جسده، فلم يعُد يشبه الإنسان. ربما عانى آخرون تشويهاًمشابهاً، ولكنهم لم يكونوا في كمال المسيح. فإن المعاناة التي عاناها بسببنا شوَّهتمنظره الجسدي كلياً، وهو ما تنبأ هو بحدوثه في قوله: »هَا نَحْنُ صَاعِدُونَ إِلَىأُورُشَلِيمَ، وَابْنُ الْإِنْسَانِ يُسَلَّمُ إِلَى رُؤَسَاءِ الْكَهَنَةِوَالْكَتَبَةِ، فَيَحْكُمُونَ عَلَيْهِ بِالْمَوْتِ، وَيُسَلِّمُونَهُ إِلَىالْأُمَمِ، فَيَهْزَأُونَ بِهِ وَيَجْلِدُونَهُ وَيَتْفُلُونَ عَلَيْهِوَيَقْتُلُونَهُ، وَفِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ يَقُومُ« (مرقس 10:33 و34). وهذا ماتحقق تماماً، فيقول البشير مرقس إنهم استهزأوا به وجلدوه وضربوه على رأسه وبصقواعليه ثم صلبوه (مرقس 15:19 و20 و24). وكان الرومان زمن المسيح يجلدون المجرمينبسياط من سيور جلدية تنتهي بقطع عظام أو رصاص، تمزق الظهر والصدر أيضاً، وبهذا تنبأالمرنم في مزاميره: »ثَقَبُوا يَدَيَّ وَرِجْلَيَّ. أُحْصِي كُلَّ عِظَامِي، وَهُمْيَنْظُرُونَ وَيَتَفَرَّسُونَ فِيَّ« (مزمور 22:16 و17).
لقد تألم المسيح بالجسد حتى تشوَّه جسده. فهل يساعدك هذا لتدركمقدار عظمة محبة الله لك؟
آلام نفسية: مع أن آلام المسيح الجسدية تفوق إدراكنا البشري إلاأنها كانت جزءاً واحداً من آلامه الحقيقية، ولم تلمس إلا الغلاف الخارجي لآلامهالعميقة على الصليب، ومنها آلامه النفسية. ويصف البشير يوحنا أحداث ساعات الصلبالرهيبة فيقول: »وَأَمَّا يَسُوعُ فَلَمَّا جَاءُوا إِلَيْهِ لَمْ يَكْسِرُواسَاقَيْهِ، لِأَنَّهُمْ رَأَوْهُ قَدْ مَاتَ. لكِنَّ وَاحِداً مِنَ الْعَسْكَرِطَعَنَ جَنْبَهُ بِحَرْبَةٍ، وَلِلْوَقْتِ خَرَجَ دَمٌ وَمَاءٌ« (يوحنا 19:33 و34). وهذا يعني أن المسيح مات كسير القلب. ويقول بعض خبراء أمراض القلب إن قلب المسيحانكسر حرفياً فانساب دمه إلى غشاء القلب، فلما اخترقت الحربة جنبه خرج دم وماء. والحقيقة الروحية هي أن صدمة المسيح النفسية كسرت قلبه المحب الذي حمل كل آلامالجنس البشري، وهو صاحب النفس الكاملة الذي انفصل عن الخطاة بكماله (عبرانيين 7:26)، فحمل كل قذارات الجحيم التي لا توصف، ومات كسير القلب. فهل يساعدك هذا لتدركمقدار عظمة محبة الله لك؟
آلام روحية: لما كنا كبشر ذوي أجساد من لحم ودم، فليس غريباً أنيسهُل علينا إدراك آلام المسيح الجسدية والنفسية، دون أن ندرك آلامه الروحية. وعندما نفكر في الموت تتَّجه أفكارنا إلى الآلام النفسية والجسدية التي تصاحب الموتالجسدي.
ولكن الكتاب المقدس يحدثنا عن ثلاثة أنواع من الموت: الروحي والجسديوالأبدي. وليس واحد من هذه الأنواع الثلاثة يعني توقُّف الحياة، لكنه يعنيالانفصال.
(أ)الموت الروحي: وهو الانفصال عن الله الذي خلق الناس ليعبدوه. ولنيجد الإنسان نفسه الحقيقية إلا في عبادة الله. ولكن الإنسان الميت روحياً لا يقدرأن يعبد الله الذي قال المسيح عنه إنه روح، وإن الساجدين له ينبغي أن يسجدوا لهبالروح والحق (يوحنا 4:24).
(ب)الموت الجسدي: وهو نوع ثانٍ من الانفصال، فيه تفارق الروحُوالنفسُ الجسدَ. ولكن الموت الجسدي لا يعني انتهاء وجود الإنسان.
(ج)الموت الأبدي: وهو الانفصال الأبدي عن الله مصدر كل حياة ونورومحبة، فيكون الإنسان الميت أبدياً في ظلمة ويأس ودينونة للأبد. وهو يعني العذاباللانهائي، وقد تحمَّل المسيح شيئاً منه وهو على الصليب.
احتمل المسيح على الصليب الآلام الجسدية والنفسية، إلى جوار الآلامالروحية، التي جعلته يصرخ: »إلهي، إلهي، لماذا تركتني؟« (متى 27:46). ويُقال إنمارتن لوثر وهو يتأمل آلام المسيح الروحية استلقى في كرسيِّه كجثة هامدة مدة طويلةبدون طعام. ولما انتهى من تأملاته قال في جزع: »الرب متروك من الرب! من يدرك هذا؟«.
في ظهر يوم الجمعة العظيمة كان الابن الأزلي معلَّقاً على صليبه نحوثلاث ساعات. ثم صار مصدر الحياة فريسة للموت، وكان ذروة ذلك لما تركه الآب، فصارالذي لم يعرف خطية خطيةً لأجلنا (2كورنثوس 5:21). ليس خاطئاً، بل خطية! فانفصل عنالأُنس بالله. ولا غرابة أن تسود الظلمة الأرض آنذاك مدة ثلاث ساعات. وما أجمل ماقال إسحاق واتس: »عندما مات المسيح الخالق عن خطية الإنسان المخلوق احتجبت الشمسالمجيدة في الظلمة الحزينة«.
ولكن مجداً لله، فقد قام المسيح من بين الأموات. وكما أن موته حقيقةتاريخية ثابتة، هكذا قيامته، فلم يتمكن القبر والموت أن يبقياه تحت سيطرتهما، فقامفي اليوم الثالث، ولا يعود يرى الموت بعد. وهو حي إلى الأبد جسدياً وروحياً، وهومستعدٌّ أن يمنح هذه الحياة لكل من يقبل خلاصه، كما قال الرسول بولس: »اَللّهُالَّذِي هُوَ غَنِيٌّ فِي الرَّحْمَةِ، مِنْ أَجْلِ مَحَبَّتِهِ الْكَثِيرَةِالَّتِي أَحَبَّنَا بِهَا، وَنَحْنُ أَمْوَاتٌ بِالْخَطَايَا أَحْيَانَا مَعَالْمَسِيحِ - بِالنِّعْمَةِ أَنْتُمْ مُخَلَّصُونَ - وَأَقَامَنَا مَعَهُ،وَأَجْلَسَنَا مَعَهُ فِي السَّمَاوِيَّاتِ فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ« (أفسس 24-6).
وفي هذا كتب تشارلس وسلي ترنيمة يقول مطلعها: »أيتها النعمةالمذهلة، كيف حدث أنك أنت يا ربي يجب أن تموت لأجلي؟«.
فهل يساعدك هذا لتدرك مقدار عظمة محبة الله لك؟
الموت الذي أمات الموت
كان الدكتور سانجستر من أعظم الوعاظ الموهوبين الذين سمعتُهم، وكنتأتلذَّذ وأنا أسمعه يستخدم لسانه الفضي ليشهد لربه ومخلّصه. ولكن للأسف أصابه سرطاناللسان فامتنع عن الوعظ. وقبيل موته، في صباح أحد عيد القيامة، أشار لابنته لتناولهقلماً وورقة، فكتب: »مِن الأفضل أن تفقد لسانك مع احتفاظك برغبة ملتهبة لأن تصيح: المسيح قام! مِن أن يكون لك لسان بدون رغبة في أن تهتف له!«.
ولما كان المسيح هو الله الخالق، فقد أتانا بالحياة من العَدم. ولماكان هو الله المخلِّص فقد غلب الموت وجاءنا بالحياة من القبر، ولم يكن ممكناً أنيُمسك الموتُ رئيسَ الحياة! وقد كتب الرسول بولس لمؤمني كنيسة كورنثوس يقول: »الْمَسِيحَ مَاتَ مِنْ أَجْلِ خَطَايَانَا حَسَبَ الْكُتُبِ، وَأَنَّهُ دُفِنَ،وَأَنَّهُ قَامَ فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ حَسَبَ الْكُتُبِ« (1كورنثوس 15:3 و4). واليوم يستريح كل مؤمن صادق الإيمان إلى الحقيقة المجيدة أن المسيح مات لأجلخطاياه، ويهتف: »أَيْنَ شَوْكَتُكَ يَا مَوْتُ؟ أَيْنَ غَلَبَتُكِ يَا هَاوِيَةُ؟أَمَّا شَوْكَةُ الْمَوْتِ فَهِيَ الْخَطِيَّةُ، وَقُوَّةُ الْخَطِيَّةِ هِيَالنَّامُوسُ. وَلكِنْ شُكْراً لِلّهِ الَّذِي يُعْطِينَا الْغَلَبَةَ بِرَبِّنَايَسُوعَ الْمَسِيحِ« (1كورنثوس 15:55-57).
الموت الذي أمات رئيس الموت
لم يكن القصد من تجسُّد المسيح أن يموت من أجل خطيتي وخطيتك فحسب،بل أيضاً: »لِكَيْ يُبِيدَ بِالْمَوْتِ ذَاكَ الَّذِي لَهُ سُلْطَانُ الْمَوْتِ،أَيْ إِبْلِيسَ« (عبرانيين 2:14). وكما استخدم داود سيف جليات وقطع به رأسه، أخذالمسيح سلاح الموت الخاص بالشيطان، واستخدمه ليهزم الشيطان تماماً. فالمسيح هوالمحرر الحقيقي للبشر، وهو المخلّص الواحد الوحيد الذي يستطيع أن يحرر الناس منقيودهم الروحية وموتهم الأبدي اللذين يريدهما الشيطان للبشر جميعاً، رغم أن اللهخلقهم على صورته.
لقد أخذ المسيح جسداً حقيقياً من لحم ودم وعظام وفيه هزم الشيطانوالموت وقام من القبر، وبه صعد إلى السماء فصار سابقاً لنا (عبرانيين 6:20). ولأولمرة دخل السماء جسدٌ كامل بلا خطية. وبموته على الصليب فتح الطريق لنا لنتبعه فيه. هللويا!
وصية الذي مات
ما أروع أن ندرك أن المسيح سابقٌ ورائدٌ لنا إلى السماء، فنتبعه فيموكب نصرته. ومن الرائع أن نعرف أن المسيح الذي أحب خاصته وعد قبل موته إنه بعدصعوده للسماء سيرسل الروح القدس ليحل على المؤمنين، وقال: »مَنْ آمَنَ بِي كَمَاقَالَ الْكِتَابُ تَجْرِي مِنْ بَطْنِهِ أَنْهَارُ مَاءٍ حَيٍّ«. قَالَ هذَا عَنِالرُّوحِ الَّذِي كَانَ الْمُؤْمِنُونَ بِهِ مُزْمِعِينَ أَنْ يَقْبَلُوهُ، لِأَنَّالرُّوحَ الْقُدُسَ لَمْ يَكُنْ قَدْ أُعْطِيَ بَعْدُ، لِأَنَّ يَسُوعَ لَمْ يَكُنْقَدْ مُجِّدَ بَعْدُ« (يوحنا 7:38 و39). »أَنَا مَاضٍ إِلَى الَّذِي أَرْسَلَنِي« (يوحنا 16:5) »أَطْلُبُ مِنَ الْآبِ فَيُعْطِيكُمْ مُعَزِّياً آخَرَ، رُوحُالْحَقِّ« (يوحنا 14:16 و17). »خَيْرٌ لَكُمْ أَنْ أَنْطَلِقَ، لِأَنَّهُ إِنْ لَمْأَنْطَلِقْ لَا يَأْتِيكُمُ الْمُعَزِّي(بمعنى: الذي يعطي قوة) وَلكِنْ إِنْذَهَبْتُ أُرْسِلُهُ إِلَيْكُمْ. ذَاكَ يُمَجِّدُنِي« (يوحنا 16:7 و14).
تمجَّد الله الآب في موت المسيح الابن
وقد يثور سؤال: »كيف يتمجد المسيح بإرسال الروح القدس لك ولي؟«.
نجاوب السؤال جزئياً بالقول: يتمجد المسيح في حياة كل مؤمن حقيقيتَسْري فيه محبة الله »لِأَنَّ مَحَبَّةَ اللّهِ قَدِ انْسَكَبَتْ فِي قُلُوبِنَابِالرُّوحِ الْقُدُسِ الْمُعْطَى لَنَا« (رومية 5:5). فمحبة الله تتوضَّح لك بالروحالقدس، وهي أعلى من كل محبة إنسانية مهما كانت سامية. وعندما تتجاوب مع محبة اللهالواضحة في عمل المسيح المُكمَل على الصليب سيوصِّل الروح القدس إليك هذه المحبة،لا لتُخلِّصك فقط، بل لتستخدمك لتعلن محبة الله للبشر، فتلمس حياة الآخرين.
وعندما تؤمن أن المسيح مات لأجلك، وتشكره من كل قلبك على ذلك، تتأكدمن غفران الله وخلاصه الحبي لك على الصليب. وعليك أن تستجيب لحضور المسيح الساكنفيك فتصبح وسيلة توصيل محبته للعالم المفتقر للحب.
وختاماً، أذكر أن لاهوتياً ألمانياً مشهوراً بعِلمه الوفير، سُئليوماً: »ما هو أعظم فكر ثابت عندك عن الله؟« ولدهشة سائله كانت إجابته كلمات ترنيمةبسيطة من ترانيم مدارس الأحد: »أنا متأكد أن يسوع يحبني، لأن الكتاب المقدس يعلن ليهذا«.
فيا له من حُبٍّ رسم للخلاص خطة
ويا لعظمة من وهب للإنسان نعمة
ويا لهول ما عبر الله ليصل إلى البشر من هُوَّة!
في الجلجثة
عظيمة كانت رحمته، ومجاناً كانت نعمته
غفراناً لي هكذا أثمرت محبته
ونفسي المثقَّلة أراحتها حُرِّيته
في الجلجثة
صحيح أن الله يحبك. ومحبته لك باذلة وعملية.
وقفة للتفكير
ما هي أفضل طريقةتبرهن بها أنك تحب إنساناً؟
هل بالكلام؟
أو هل بالفعل؟
كيف برهن الله أنه يحبك؟
كيف تستجيب أنت لمحبة الله لك؟
»في غرفة العمليات يعرف كل طبيب جراح أن الدم هو الحياة. والاثنانمتلازمان، فمن يفقد دمه يفقد حياته« (الدكتور بول برنارد)