سفـــر إشعيــــاء
مقدمة فى سفر إشعياء : دعى إشعياء : " النبى الأنجيلى " ، ودعى سفره :
" إنجيل إشعياء " أو " الإنجيل الخامس " . من يقرأه يظن أنه أمام أحد أسفار العهد الجديد ، وأن الكاتب أشبه بشاهد عيان لحياة السيد المسيح وعمله الكفارى خاصة " الصليب " ؛ يرى صورة حية للفداء وأسراره الإلهية العميقة .
قال عنه أحد الآباء :[ إنه أكثر من أى كتاب نبوى آخر ، يحوى أكمل النبوات المسيانية التى وجدت فى العهد القديم ، يشهد بطريقة أكيدة عن آلام المسيح وما يتبعها من أمجاد ]
اهتم به آباء الكنيسة خاصة فى حوارهم مع غير المؤمنين لأجل ما تضمنه من نبوات كثيرة وصريحة عن شخص السيد المسيح وعمله الفدائى وكنيسته وعطية روحه القدوس الخ ... .
+ + +
الإصحاح الأول [ 1 – 9 ]
المحاكمة العظمى
يفتتح هذا السفر بإعلان الله عن محاكمة شعبه ، فيها يقف الله مدعيا وقاضيا . لا يريد أن يحكم عليهم دون إعطائهم فرصة للدفاع عن أنفسهم .
يستدعى الطبيعة الجامدة والأحداث الجارية حتى القضاة الظالمين شهودا ضد شعبه .
يعلن الإتهام وفى نفس الوقت يقدم فرصة للحوار ويفتح باب العفو إن رجعوا إليه بالتوبة ، يقف قاضيا وديانا وفى نفس الوقت طبيبا ومخلصا . يفتح ذراعيه للنفوس الساقطة .
( 1 ) مقدمة السفر
" رؤيا إشعياء بن آموص الى رآها على يهوذا وأورليم فى أيام عزيا ويوثام وآحاز وحزقيا ملوك يهوذا " إش 1 : 1
تعتبر هذه العبارة مقدمة للسفر كله الذى يضم مجموعة رؤى ونبوات أعلنت لإشعياء فى ظروف مختلفة أيام عزيا العظيم ويوثام الملك الصالح وآحاز بعهده المظلم وحزقيا ومنسى الخ ..... لكنه يدعوها جميعا " رؤيا " ، لأنها وإن كانت رؤى متباينة إنما تمثل وحدة واحدة ، لها هدف واحد هو إعلان الله عن فكره ومشيئته وخطته الخلاصية من أجل بنيان الجماعة المقدسة أو لتقديس البشرية المؤمنة به .
هذه الرؤى تمس حياة كل إنسان يشتاق نحو خلاص نفسه وتمتعه بالشركة مع الله .
( 2 ) استدعاء الطبيعة :
" إسمعى أيتها السموات وأصغى أيتها الأرض لأن الرب يتكلم : ربيت بنين ونشأتهم . أما هم فعصوا على " إش 1 : 2
يبدأ السفر بمحاكمة عظمى طرفاها الله والإنسان ، تستدعى فيها الطبيعة الجامدة – السماء والأرض – لتشهد هذه المحاكمة .
ربما استدعى إشعياء النبى الطبيعة كما سبق ففعل موسى النبى [ راجع تث 32 : 1 ] . كأن إشعياء يؤكد لشعبه أن ما ينطق به إنما هو امتداد لكلمات موسى النبى الذى يعتز به كل يهودى .
الله لا يحمل مشاعر إنسانية لكنه ليس كائنا جامدا ، إنما هو " الحب " عينه ، فريد فى حبه لخليقته السماوية والأرضية ، خاصة حبه نحو الإنسان . لهذا إذ يتحدث معنا نحن البشر يحدثنا بلغتنا البشرية معبرا عن حبه كما بمشاعر إنسانية حتى يمكننا التلامس معه واختبار الإتحاد والشركة معه .
يتوقع الله فينا أن نحمل روح البنوة المتجاوبة مع أبوة الله الفريدة الحانية التى كلفته الكثير .
يعاتب الله أولاده من أجل عصيانهم ، فإن عصيان البنين أمر من عصيان الأجراء والعبيد ، جراحات الأحباء خاصة البنين أقسى من تلك التى يسببها الأعداء .
( 3 ) استدعاء الحيوانات :
" الثور يعرف قانيه ، والحمار معلف صاحبه ، أما إسرائيل فلا يعرف ، شعبى لا يفهم " إش 1 : 3
إن كان الله قد دعى إسرائيل ابنه البكر ( خر 4 : 22 ) ، فكان يليق بالإبن أن يعرف أباه ويدرك أسراره ويتجاوب مع مقاصده وإرادته ، لكن الإنسان خلال عصيانه انحط منحدرا إلى ما هو أدنى من الحيوانات العجماوات ، إذا كان الإنسان قد انحط إلى ما هو أدنى من الحيوان ، فأخذ السيد المسيح طبيعتنا وصعد إلى السماوات ليرفع طبيعتنا إلى ما هو سماوى
( 4 ) وصف لحال الشعب :
أولا : وصفهم بسبع سمات فى إش 1 : 4 – الثلاثة تشير إلى خطايا النفس الداخلية التى على صورة الثالوث ، والأربعة تشير إلى خطايا الجسد الظاهرة .
وكأن الشعب قد تدنس فى الداخل والخارج ، بخطايا خفية وظاهرة ، فى الجسد والروح .
السمات الأربع الأولى هنا تشير إلى الخطايا الجسدية الظاهرة : " ويل للأمة الخاطئة ، الشعب الثقيل الإثم ، نسل فاعلى الشر ، أولاد مفسدين " ؛ والسمات الثلاثة الأخيرة تمثل الخطايا الداخلية : " تركوا الرب ، استهانوا بقدوس إسرائيل ، ارتدوا إلى الوراء " .
رقم 7 يشير إلى " التمام " ، وكأن خطاياهم قد بلغت إلى تمام الحد .
" علام تضربون بعد ؟! تزدادون زيغانا ، كل الرأس مريض وكل القلب سقيم ؛ من أسفل القدم إلى الرأس ، ليس فيه صحة بل جرح وإحباط ، وضربة طرية لم تعصر ولم تلين بالزيت " إش 1 : 5 ، 6 .
يعلن الله أن هذا الشعب قد رفض النبوة لله لذا لم يعد مستحقا أن يكون موضع اهتمام الله وتأديبه . فقد سبق فأدبهم كأبناء له لكنهم ازدادوا زيغانا ، لذا يود أن يوقف التأديبات الأبوية تاركا إياهم لنوال ثمر فسادهم الطبيعى .
" بلادكم خربة ، مدنكم محرقة بالنار ، أرضكم تأكلها غرباء قدامكم وهى خربة كانقلاب الغرباء ، فبقيت إبنة صهيون كمظلة فى كرم ، كخيمة فى مقثأة ، كمدينة محاصرة " إش 1 : 7 ، 8 .
يتحدث النبى هنا عما سيحل بيهوذا بعد غزو سنحاريب الأشورى حاسبا ما سيحل بهم فى المستقبل كأنه حاضر ، لأنه أمر حادث لا محالة .
هذا الخراب الذى حل هو علامة على ما أرتكبه يهوذا من آثام ، وحتمية طبيعية لتركهم الله مقدسهم وارتدادهم عنه ، وعدم طاعتهم لصوته .
هكذا كل نفس لا تلتصق بالله مقدسها يحل الخراب بكل مدنها : الجسد والنفس والفكر والقلب مع كل الأحاسيس والمشاعر الخ ....
وسط هذا الخراب المطبق يجد الله بقية قليلة أمينة تشهد له ، بسببها لم يحطم شعبه الذى فسد ، إذ قيل :
" لولا أن رب الجنود أبقى لنا بقية صغيرة لصرنا مثل سدوم وشابهنا عمورة " إش 1 : 9 .
لا يهتم الله بكثرة العدد وإنما بالبقية القليلة التى تتقدس له وسط الفساد الذى يحل بالكثيرين .
( 5 ) استدعاء القضاة :
" اسمعوا كلام الرب ياقضاة سدوم ، اصغوا إلى شريعة إلهنا يا شعب عمورة " إش 1 : 10 . فى شجاعة بلا خوف ولا مداهنة يدعو إشعياء قضاة الشعب " قضاة سدوم " ويلقب الشعب نفسه " شعب عمورة " ، وذلك من أجل الظلم والفساد الذى أتسم به كل الرؤساء والمرؤوسين .
لا نجد فى كل السفر موقفا واحدا يشعر فيه النبى بالخوف أو الضعف سوى عند رؤيته للسيد المسيح فى مجده ( إش 6 ) ، إذ يخشى إشعياء الله لا الناس .
يرى أن العلاج الوحيد للقضاة كما للشعب هو كلمة الرب وشريعته .
( 6 ) الإتهام : العبادة الشكلية :
الإتهام الموجه إليهم هنا خطير للغاية ؛ فإنه لم ينسب إليهم الإلحاد ولا ممارسة العبادة الوثنية إنما ينسب إليهم الرياء ، يمارسون العبادة لله بدقة شديدة مع حرفية قاتلة ، يقدمون الكثير من الذبائح والتقدمات ويحفظون الأعياد أما قلوبهم فبعيدة عن الله ، وحياتهم فاسدة .
كما قيل لملاك كنيسة اللاودكيين :
" لأنك تقول أنى أنا غنى وقد استغنيت ولا حاجة لى إلى شىء ولست تعلم أنك أنت الشقى والبائس وفقير وأعمى وعريان " رؤ 3 : 17 .
هذا الإتهام اثار آباء الكنيسة للكشف عن غاية العبادة فى حياة الكنيسة سواء فى العهد الجديد أو القديم والإلتزام بعد الإنحراف عن هذه الغاية الإلهية .
يقول : " من طلب هذا من أيديكم أن تدوسوا دورى ؟! إش 1 : 12 . فقد أكثروا الدخول فى الهيكل ليقدموا ذبائح بلا حصر ، فرآهم الله – فى عدم توبتهم – أشبه بالحيوانات التى تدوس بيته وتدنسه ! تحول تقديم الذبائح عن المصالحة مع الله إلى صب غضب الله .
جاءوا بتقدمات كالبخور الذى يرمز إلى الصلاة ، لكنهم إذ أعطوا الرب القفا لا الوجه ( إر 2 : 27 ) صار بخورهم مكرهة للرب ، لأنه حمل رائحة ريائهم وعدم توبتهم .
( 7 ) دعوة للتوبة :
فضحهم الله أمام أنفسهم مظهرا بشاعة الفساد الذى حل بهم دون أن يحطمهم باليأس أو يجرح نفوسهم إنما بالحب الأبوى السماوى قدم لهم العلاج ليستر عليهم ويردهم إلى طبيعتهم الصالحة التى خلقهم عليها . هذا العلاج هو التوبة النابعة عن الإيمان والممتزجة بالحب ، أما خطواتها فهى :
( أ ) الأغتسال : بقوله " اغتسلوا .. تنقوا " إش 1 : 16 لا يقصد التطهيرات الناموسية ، لأنه فى اتهامه لهم يطلب ألا يقفوا عند الشكل الخارجى للعبادة ، إنما عنى اغتسال المعمودية الذى فيه نخلع الإنسان العتيق لنحمل فينا الإنسان الجديد الذى على صورة خالقنا .
هذا ما عناه الرب بقوله للنفس البشرية " حممتك بالماء " حز 16 : 9 ، إذ جاء فى نفس السفر " وأرش عليكم ماء طاهرا فتطهرون من كل نجاساتكم ...... " حز 36 : 25 ، 26 .
( ب ) " اعزلوا شر أفعالكم من أمام عينى الرب .. كفوا عن فعل الشر " إش 1 : 16 . إذ ينال الإنسان النقاوة التى بها يعاين الله يقدر أن يميز أعمال الشر عن العمل الإلهى ، فيرفض كل ما هو شر ، حتى لا يعرج بين الطريقين : الله والخطية .
( ج ) " تعلموا فعل الخير " إش 1 : 17 .. لا يكفى الجانب السلبى ، أى نزع كل ما هو شر والكف عنه دائما وإنما هنا يوجد التزام بالعمل الإيجابى ، نحمل سمة المسيح الذى هو " الحق " فينا . لهذا يوصينا " اطلبوا الحق ، انصفوا المظلوم ، اقضوا لليتيم ، حاموا عن الأرملة " . هذه هى التوبة الإيجابية التى خلالها نرجع إلى الله لا لنكف عن الشر واظلم فحسب وإنما لنمد أيدينا بالحب العملى والرحمة ، خاصة تجاه العاجزين والأرامل .
( د ) الحب العملى تجاه المتألمين ، تجعل الله يفتح مراحمه أمامنا نحن الخطاة ، قائلا :
" هلم نتحاجج يقول الرب : إن كانت خطاياكم كالقرمز تبيض كالثلج ، وإن كانت كالدودى تصير كالصوف " إش 1 : 18 .
هذه دعوة صريحة تعلن عن شوق الله نحو خلاص كل إنسان يقبل الشركة مع القدوس خلال الصليب .
الله يطلب من الإنسان أن يدخل معه فى حوار .. ليته لا ييأس أحد من نفسه حتى وإن بلغ أقصى الشر ، حتى وإن عبر إلى التعود على صنع الشر ، حتى وإن حمل طبيعة الشر نفسها لا يخف .. عظيمة هى قوة التوبة .
( هـ ) تقديس الحرية الإنسانية ، إذ يقول :
" إن شئتم وسمعتم تأكلون خير الأرض ، وإن أبيتم وتمردتم تؤكلون بالسيف لأن فم الرب تكلم " إش 1 : 19 ، 20 .
يفتح الله أبواب محبته أمام الجميع لكنه لا يلزم أحدا ، فهو يطلب قلب الإنسان كتقدمة اختيارية ، يقدم له الطريق ويهبه إمكانية العمل وفى نفس الوقت يترك له حرية الإختيار .
( 8 ) عتاب من واقع الماضى :
يقارن هنا بين ما كانت عليه أورشليم قبلا وما صارت عليه خلال انحرافها وفسادها ، بأسلوب مملوء رثاء وحزنا عميقا . غشعياء النبى صريح كل الصراحة ، لكنه مملوء حبا وعاطفة !
أ – كانت أورشليم " القرية الأمينة " إش 1 : 21 ، وقد صارت " زانية " يشبهها بالعروس التى كانت مخلصة لعريسها السماوى ، تحفظ وصاياه وتعلن بهاءه ومجده خلال حياتها ، وقد جرت وراء آخر ( العبادة الوثنية ) فتنجست بزناها الروحى مع محبيها ( حز 16 : 25 ، 32 ، 36 ) – كانت عذراء ( إش 37 ) تتحد مع عريسها واهب القداسة لكنها تركته واتحدت بالرجاسات .
ب – كانت " ملآنة حقا ، كان العدل يبيت فيها ، وأما الآن فالقاتلون " إش 1 : 21 . كانت مسكنا للقدوس الذى هو " الحق " و " العدل " ، يبيت الرب فيها إذ يجد فيها راحته ، لكنها صارت مسكنا للقتلة ، لذا يقول الرب " ليس لإبن الإنسان أين يسند رأسه " مت 8 : 10 ، لو 9 : 58 ، حين تكون مقدسة تقول : " حبيبى لى ، بين ثديى يبيت " نش 1 : 13 . لكنها متى تنجست يصير قلبها " بين ثدييها " مسكنا للشر .
جـ - تسرب الزيف إليها فصارت فضتها زغلا يحمل لمعان الفضة ومنظرها لكنه لا يحمل مادة الفضة ولا قيمتها .. صار خمرها مغشوشا بالماء ( إش 1 : 22 ) يحمل لون الخم لكنه مغشوش ماء ... هذه صورة عن الإهتمام بشكليات العبادة وحرفية تنفيذ الوصايا بالمظاهر الخارجية دون الإهتمام بالأعماق .
مسيحنا يحول الماء خمرا ، أما الشرير فيحول الخمر ماءا
د- " رؤساؤك متمردون ولغفاء اللصوص " إش 1 : 23 ، أى يؤاكلون اللصوص ويحفظون ثيابهم أثناء السرقة .
يحولون الرعاية إلى سلطة وعناء ، قد لا يسرقون لكنهم يتركون عدو الخير بجنوده يسرقون الشعب ويغتبون قلوبهم وهم غير مبالين بسبب حبهم للسلطة . يحبون الرشوة والعطايا المادية أو الأدبية ، ولا يبالون بالأيتام والأرامل ، لأن المجد الزمنى شغلهم عن التفكير فيهم . حولوا أورليم " كنيسة المسيح " إلى بيت للظلم والقسوة والعنف .
( 9 ) الديان يتقدم كمخلص :
أمام هذه الصورة البشعة لا يقف الله مكتوف الأيدى ، وإنما يقوم " رب الجنود ، عزيز ( قدير ) إسرائيل " إش 1 : 24 كقائد للجنود السماوية اعتزت يده بالقوة من أجل خلاص شعبه مما حل بهم .
يلاحظ هنا :
أ – دعى الله بثلاثة ألقاب [ السيد " يهوه " ، رب الجنود ، عزيز ( قدير ) إسرائيل ] .
يرى بعض الدارسين أنها إشارة خفية عن الثالوث القدوس .
وحملت أورشليم 3 ألقاب : مدينة العدل ، القرية الأمينة ، صهيون تفدى بالعدل ( إش 1 : 28 ) .
ودعى الأشرار بألقاب ثلاثة أيضا : المذنبون ، الخطاة ، تاركو الرب ( إش 1 : 28 ) .
ب – يحسب الله من يتلف شعبه حملا ثقيلا ( إش 23 : 24 ) ، فلا يكف عن مقاومة الشر حتى يستريح ويستريح معه شعبه :
" أستريح من خصمائى ، وانتقم من أعدائى " إش 1 : 24 .
تبقى أحشاء الرب تحن على شعبه حتى يحطم الشر !
جـ - " ينقى أورشليم من الزغل كما بالبورق ( ربما يقصد بوتاسا المعادن ) ، إذ يعيد خلقة الطبيعة البشرية ليرد للكنيسة جمالها الأصيل كما بنار الروح القدس المطهر .
إنه ينقينا ايضا بالتأديب ولو ظهر قاسيا كالنار .
د – " وأعيد قضائك كما فى الأول " إش 1 : 26 . إذ يعيد الإنسان إلى كرامته وتعقله كما كان فى بدء خلقته فيكون كقاض حكيم .
هـ - يرد لأورشليم أو للنفس البشرية لقبها : " مدينة العدل القرية الأمينة " إش 1 : 26 .
إذ تصير الكنيسة – الكنيسة الجديدة – مدينة الله – عامود الحق وقاعدته ، العروس الأمينة لعيسها .
يشبه العالم هنا بالبطمة ، لأن اليهود اعتادوا أن يقيموا عبادة البعل والعشتاروت تحت شجرة البطمة .
يشبه تاركو الرب بالبطمة التى ذبل ورقها ، وبالجنة التى بلا ماء ماء ( إش 1 : 29 ) ، لماذا ؟ خلق الله الإنسان كجنة يجد الرب فيها ثمرته حلوة فى الداخل .
كل ما يحمله الإنسان من طاقات وأمكانيات وعواطف وغرائز هى عطايا إلهية أشبه بأشجار مغروسة فى جنة يرويها ماء الروح القدس فتثمر بركات لا حصر لها . أما إن حمت منه الروح فتجف وتحق بالنار ، وتتحول كما إلى مشاقة ( نسالة كتان ) ( إش 1 : 31 ) ، أى ما تبقى من كتان بعد مشطه ليستخدم وقيدا للنار .
+ + +
إشعياء – الإصحاح الثانى
جبــل بيت الرب
فى الأصحاحات 2 – 4 ركز إشعياء أنظاره على أورشليم – جبل بيت الرب – مع أنه لم يفارقها لكن حنينه إليها وشوقه إلى تقديسها لا يقل عن ذات حنين أنبياء السبى الذين عاشوا بالجسد فى بابل أما قلوبهم فتعلقت بمدينة الله التى أصابها الخراب .
( 1 ) مقدمة :
" الأمور التى رآها إشعياء بن آموص من جهة يهوذا وأورشليم " إش 2 : 1 . كان قلب إشعياء مشغولا بشعب الله ( يهوذا ) وبالمدينة المقدسة ( أورشليم ) ، فقد امتلأ حزنا على ما بلغ إليه الحال ، رأى شعبا ضربه الفساد ، ومدينة تهدم هيكلها الروحى فأنت أحشاءه عليهم .
أمام هذا الحب الخالص وهبه الله بصيرة وقدم له رؤى ونبوات لتعزيته وتعزية كل نفس جريحة من أجل البشرية ، قدم له الله كلمته المحيية .
( 2 ) جبل بيت الرب
ماذا قدم الله لإشعياء الجريح النفس ؟ حمله بالروح إلى ملء الزمان ليرى يهوذا الجديد – السيد المسيــــح – وأورشليم الجديدة حيث يبنى هيكل الرب ويقام ملكوت الله فى القلب . لذا قال : " يكون فى آخر الأيام أن جبل بيت الرب يكون ثابتا فى رأس الجبال ويرتفع فوق التلال وتجرى إليه كل الأمم " إش 2 : 2 .
سحب الرب قلب إشعياء النبى إلى ملء الزمان ليرى السيد المسيح الذى يقيم كنيسته عليه شخصيا بكونه صخر الدهور ، الجبل الذى رآه دانيال النبى المقطوع بغير أيدى الذى يملأ الأرض ( دا 2 : 34 – 45 ) ، الصخرة الحقيقية التى تفيض مياة الروح على شعبه ( 1 كو 10 : 4 ) والتى لا تستطيع الحية أن تزحف عليه لتقترب إلى شعبه .
يكمل النبى : " وتجرى إليه كل الأمم وتسير شعوب كثيرة ويقولون : هلم نصعد إلى جبل الرب إلى بيت إله يعقوب فيعلمنا من طرقه ونسلك فى سبله ، لأنه من صهيون تخرج الشريعة ومن أورشليم كلمة الرب " إش 2 : 2 ، 3
معروف أن الشريعة صدرت من جبل سيناء للشعب اليهودى ، لذا فهو يتحدث عن شريعة جديدة تصدر من أورشليم موجهة إلى المسكونة كلها .
+ هذه الشريعة ليست ملكا لأمة واحدة بل لكل الأمم ، فإن شريعة الرب وكلمته لا تبقيان فى صهيون وأورشليم بل تنتشران فى كل المسكونة . لذلك يقول رب المجد يسوع لتلاميذه :
" هذا هو الكلام الذى كلمتكم به وأنا بعد معكم أنه لا بد أن يتم جميع ما هو مكتوب عنى فى ناموس موسى والأنبياء والمزامير ... " لو 24 : 44 – 47 .
+ هناك ( فى أورشليم ) أخبر التلاميذ : " اذهبوا وتلمذوا جميع الأمم وعمدوهم باسم الآب والإبن والروح القدس " مت 28 : 19 .
نلاحظ فى هذه الكنيسة المؤسسة على جبل الجلجثة والمنطلقة من أورشليم تحمل قوة الروح القدس أنها :
* كنيسة ثابتة ، تقوم على جبل الرب الثابت ( إش 2 : 2 ) .
* كنيسة عالية فى رأس الجبال ( إش 2 : 2 ) ..
* كنيسة جذابة للأمم والشعوب ( إش 2 : 2 ، 3 ) .. أبوابها مفتوحة للجميع .
* عملها مستمر أن تصعد بالبشر ( إش 2 : 3 ) .. بالحب تنزل إليهم دون أن تفقد قدسيتها أو طبيعتها السماوية ..
* رسالتها اعلان طريق الرب ( إش 2 : 3 ) ، تحمل كلمته إلى كل نفس وتقدم وصيته ليعيشها كل مؤمن ..
* تعلن أحكام المسيح العادلة ، حيث يخضع المؤمنون من كل الأمم لملكوته وسيادته ، كسيادة روحية فريدة فى نوعها .
+ تهب سلاما بين النفوس المقدسة له : " فيطبعون سيوفهم سككا ورماحهم مناحل ، لا ترفع أمة على أمة سيفا ، ولا يتعلمون الحرب فى ما بعد " إش 2 : 4 .
المسيحى يمتلىء قلبه سلاما حتى تجاه مقاوميه ، فتتحول طاقاته الداخلية من الصراع إلى العمل البناء ، من أدوات حرب إلى أدوات انتاج للرخاء .
كلمة الله تحول الأرض سماء ، فيحل السلام السمائى فى حياة البشر ، وتقام مملكة السلام أو ملكوت الله المفرح فى داخلهم التى لا تستطيع عداوة الناس ولا قسوة الأحداث أن تهزها .
" يا بيت يعقوب هلم نسلك فى نور الرب " إش 2 : 5 .
السيد المسيح الحال فى كنيسته هو بهاء مجد الآب ورسم جوهره وحامل كل الأشياء بكلمة قدرته ( عب 1 : 3 ) . هو شمس البر والشفاء فى أجنحتها ( ملا 4 : 2 ) .
( 3 ) علة رفض الله شعبه
يقارن النبى بين تصرفات شعبه المعاصرين له وتصرفات الأمم فى المستقبل حيث يقبلون الإيمان بالله المخلص ويدخلون ملكوت السلام وينعمون ببركات فائقة بسكناهم فى جبل بيت الرب .
رفض بيت يعقوب الله عمليا بالرغم من اهتمامه الشديد بحرفية العبادة لذا رفضه الله ، وكان ذلك رمزا لرفض اليهود لشخص السيد المسيح تحت ستار دفاعهم عن الحق وغيرتهم على شريعة موسى .
قدم الله أربعة أسباب لرفض الشعب ، وهى :
( أ ) التشبه بالغرباء " امتلأوا من المشرق " ، يقول أيضا " وهم عائفون كالفلسطينيون " إش 2 : 6 .
( ب ) حبهم لغنى العالم ، " امتلأت أرضهم فضة وذهبا ولا نهاية لكنوزهم " . امتلأت قلوبهم بمحبة المال ، فحسبوه قادرا على إشباعهم ، واحتل موضع الله فى فكرهم وأحاسيسهم .
( ج ) اتكالهم على إمكانياتهم العسكرية ، " امتلأت أرضهم خيلا ولا نهاية لمركباتهم " إش 2 : 7 .
( د ) قبولهم العبادة الوثنية ( إش 2 : 8 ) .
هذه هى الأسباب التى من أجلها رفض الله شعبه ، أما ثمرة ذلك فهو الإنحدار المستمر عوض النمو والصعود ( إش 2 : 9 ) . انهيار فى كل جوانب الحياة عوض التقديس بالتمام بالرب الصاعد إلى السموات .
( 4 ) بطلان الذراع البشرى :
إن كان الله قد رفض شعبه فلأن شعبه مصر على رفض الله بكل وسيلة ، لكن الله يبقى فى حبه مترفقا بهم وبكل البشرية معلنا خلاصه للإنسان .
إذ تعاظم الإنسان جدا فى عينى نفسه وتضخمت الأنا ، يعلن الرب بهاءه فيتصاغر الإنسان ويطلب الخلاص . يدخل كما فى صخرة ويختبىء فى التراب أمام هيبة الرب ومن بهاء عظمته ( إش 2 : 10 ) .
ليس شىء يحطم كبرياء الإنسان مثل ملاقاته مع الله . يتحطم الكبرياء ولا تتحطم نفسه بل تشفى وتمتلىء رجاء فى الرب .
ما هى الصخرة التى نختفى فيها أمام العظمة الإلهية إلا السيد المسيح ، إذ فيه نجد لأنفسنا ملجأ أمام العدل الإلهى . لذلك عندما اشتهى موسى النبى أن يرى المجد الإلهى قيل له :
" لا تقدر أن ترى وجهى ، لأن الإنسان لا يرانى ويعيش .. هوذا عندى مكان فتقف على الصخرة ( المسيح صخرتنا ) ويكون متى أجتاز مجدى إنى أضعك فى نقرة من الصخرة ( الأتحاد مع المسيح ) واسترك بيدى حتى أجتاز " خر 33 : 20 – 21 .
يشبه النبى تشامخ الإنسان بالآتى :
( أ ) " أرز لبنان العالى المرتفع وكل بلوط باشان " إش 2 : 13 تشير إلى الأتكال على غنى موارد الطبيعة ، كما تشير إلى الملوك والقادة المتعجرفين مثل ربشاقى .
( ب ) " الجبال والتلال الشامخة " إش 2 : 14 ، تشير إلى الصلابة والجمود ..
( ج ) " الأبراج العالية والأسوار المنيعة " إش 2 : 15 ، تشير إلى الأتكال على أعمال البر الذاتى ...
( د ) " سفن ترشيش والزينات والأعلام المبهجة " إش 2 : 16 ، تشير إلى الإنهماك بالتجارة والمال مع الترف والغنى على حساب الإهتمام بالنفس .
ارتبط الكبرياء بالعبادة الوثنية لهذا يؤكد النبى أنه عندما يكتشف الإنسان عجز الأوثان يلقى بها أمام الجرذان والخفافيش ( إش 2 : 20 ) مستخفا بها ، عوض أن يأخذها معه فى أسفاره لمساندته .
أخيرا يدرك الإنسان خطأ الإتكال على الذراع البشرى ، فيقول النبى " كفوا عن الإنسان الذى فى أنفه نسمة ، لأنه ماذا يحسب ؟! " إش 2 : 22 .
ليصمت كل إنسان مهما بلغت عظمته أو قدرته أو غناه ، فإنه تخرج نسمة حياته فلا يكون بعد فى العالم . تخرج روحه فيعود إلى التراب ( مز 104 : 29 ) .
+ + +
إشعياء – الإصحاح الثالث
مجاعة مهلكة
خلق الله العالم بكل إمكانياته المدركة وغير المدركة من أجل سلام الإنسان وسعادته ، حتى يفرح كل بشر بالله محبوبه . متكئا عليه ، مشتاقا أن ينعم بشركة حب أعمق . أما وقد انشغل الإنسان بالعطية لا العاطى استند على " كل سند خبز وكل سند ماء " إش 3 : 1 . صار الإنسان يفتخر بغناه وقدراته وكثرة خبراته وجماله عوض افتخاره بالرب واتكاله عليه . لهذا ينتزع الله العطايا ويحرم الإنسان من البركات الزمنية ، لا للأنتقام منه ولا لإذلاله أو حرمانه وإنما لكى يرجع بقلبه إلى الله مصدر حياته وشبعه وسلامه وفرحه ومجده فينال فى هذا العالم أضعافا وفى العالم الآتى حياة أبدية ؛ ينال الله نفسه نصيبا له وميراثا !
هنا يهدد النبى بحدوث مجاعة وحرمان وتحطيم للإثنى عشر عمودا التى تتكىء عليها الجماعة [ للخبز والماء ، الجبابرة ( القادرين ) ورجال الحرب ، القضاة ، الأنبياء ، العرافين ،الشيوخ ، رؤساء الخمسين ، المعتبرين ، المشيرين ، الماهرين بين الصناع ، الحاذقين بالرقى ] . لقد انتزع الرب الموارد الطبيعية خلال المجاعة والطاقات البشرية خلال السبى حتى يرجعوا إليه .
( 1 ) انتزاع سند الخبز وسند الماء
" فإنه هوذا السيد رب الجنود ينزع من أورشليم ومن يهوذا السند والركن وكل سند خبز وكل سند ماء " إش 3 : 1 .
حين يسمح الله لأورشليم ولبنى يهوذا ، شعبه العروس ، أن تصير فى عور إلى الخبز والماء إنما يحطم السند والركن لعلها تعود فتفكر فى الإتكاء على حبيبها ( نش 8 : 5 ) لتجد فيه شبعها وارتواءها .
+ ما هو أخطر ، حدوث جوع لكلمة الله كما جاء فى عاموس النبى : " هوذا أيام تأتى يقول السيد الرب أرسل جوعا فى الأرض لا جوعا للخبز ولا عطشا للماء بل لإستماع كلمات الرب " ( عا 8 : 11 ) .
( 2 ) انتزاع القيادات الناضجة :
انتزع الله منهم القيادات الناضجة الحكيمة ليتركهم يقيموا لأنفسهم قيادات ضعيفة وعاجزة ، فيدركوا حاجتهم إلى العون الإلهى حتى فى التمتع بقيادات حية وقوية .
" ( ينزع ) الجبار ( القدير ) ورجل الحرب ؛ القاضى والنبى والعراف ( المتدبر ) والشيخ ، رئيس الخمسين والمعتبر والمشير والماهر بين الصناع والحاذق بالرقية ( الحاذق فى الخطابة ) " إش 3 : 2 ، 3 .
ربما قصد تجريدهم مما وهبهم من قدرات وإمكانيات ، فيضعف الجبابرة وينهار رجال الحرب أمام العدو ويفقد القضاة الحكمة ......الخ .
والآن ماذا يحدث ؟
أ – " وأجعل صبيانا رؤساء لهم وأطفالا تتسلط عليهم " إش 3 : 4
حين ملك رحبعام بن سليمان قبل مشورة الأحداث المتسرعة العنيفة والمتطرفة ورفض مشورة الشيوخ الحكيمة المتزنة والمملوءة حبا وترفقا ( 1 مل 12 ) ، فانقسم الشعب وحلت الحروب الداخلية بين الأسباط ، وسادت العداوة بدل الحب والوحدة .
الله محب للشباب ، يسندهم ويطلب نموهم المستمر ، لكن ما عناه هنا بالصبيان والأطفال هو عدم النضوج الروحى والفكرى .
لقد كان يوحنا المعمدان جنينا ناضجا روحيا . شهد للسيد المسيح وهو بعد فى أحشاء البتول مريم ، بينما كان كثير من الكتبة والفريسيين والصدوقيين والكهنة ناضجين من جهة السن دون الروح .
ب – " ويظلم الشعب بعضهم بعضا والرجل صاحبه ، يتمرد الصبى على الشيخ والدنىء على الشريف " إش 3 : 5 .
علامة فقدان القيادات السليمة الناضجة اختلال الموازين فيسود قانون الظلم ويحل روح الفوضى فى حياة الجماعة كما فى داخل الإنسان . إذ لا توجد قيادة صادقة ومخلصة يطلب كل إنسان ما لذاته على حساب الغير ، ويحسب كل واحد أنه أحكم وأفضل من غيره .
أقول حينما يفقد الإنسان قيادة الروح القدس يحل فى داخله قانون الأنانية والظلم والتمرد ، فيدخل فى صراعات بلا حصر بين النفس والجسد وبين العقل والعاطفة والحواس .
ج – الدخول فى حالة يأس شديد ، حتى أن كل إنسان لا يريد أن يتحمل المسئولية ، فيمسك كل إنسان بأخيه ويقول له : " لك ثوب " علامة قبوله رئيسا ، .. يقول كل واحد : " لا تجعلونى رئيس شعب " إش 3 : 7 ، معللا ذلك بقوله :
" لا أكون عاصبا ( اضمد الجراحات ) وفى بيتى لا خبز ولا ثوب " إش 3 : 7 .
يقول المرتل : " لا تتكلوا على الرؤساء ولا على بنى آدم حيث لا خلاص عنده " مز 146 : 3 .
د – فقدان الحياة ومخافة الله : " يخبرون بخطيتهم كسدوم ، ولا يخفونها " إش 3 : 9 .
بلغت الخطورة أن أورشليم انحدرت فى عثرات متكررة لا عن ضعف أو جهل وإنما عن عمد لإغاظة الرب ( إش 3 : 9 ) .
ترتكب الشرور بالقول والفعل بلا خجل أو حياء . هذه هى صورة العالم فى العصر الحديث إذ يشعر كثير من الشباب أن ما يمارسه من انحرافات فى كل صورها هو حق طبيعى للإنسان .
يقول : " نظر وجوههم يشد عليهم " إش 3 : 9 .
يقول الكتاب : " أولاد الله ظاهرون وأولاد إبليس " 1 يو 3 : 10 .
إن كان الأشرار ظاهرين وقد صاروا أغلبية لكنه توجد قلة مقدسة للرب ، لن يتجاهلها الله ، لذا يقول النبى : " قولوا للصديق خير ، لأنهم يأكلون ثمر أفعالهم " إش 3 : 10 . فى وسط الضيق الشديد يحفظ الرب صديقيه ، ويحول كل الأمور حولهم إلى خيرهم !
لقد ظنوا أنهم يصنعون بالبار شرا لكنهم كانوا يصنعون ذلك لأنفسهم فيجنون ثمر عملهم لا كعقوبة إلهية للإنتقام وإنما كثمر طبيعى لتصرفاتهم وحياتهم : " ويل للشرير شر . لأن مجازاة يديه تعمل به " إش 3 : 11 .
" ما يزرعه الإنسان إياه يحصد " 2 كو 9 : 6 .
هـ - حب السلطة لا رعاية الحب :
الرؤساء الحقيقيون أشبه بآباء يحتضنون الكل أبناء لهم ، يقدمون حياتهم مبذولة من أجل الشعب ، لكن متى انتزعت نعمة الله يتحول الرؤساء – حتى الدينيون – إلى متسلطين ، لا هم لهم سوى الدفاع عن مراكزهم وسلطانهم بتبريرات متنوعة تحت ستار الدفاع عن الحق وهيبة المراكز القيادية والقدرة على بتر الشر . هؤلاء يتحولون من آباء باذلين إلى أطفال صغار تسيطر عليهم " الأنا " ، أو إلى ما هو أشبه بنساء ( رمز للضعف الجسمانى ) يطلبون السيطرة ، إذ يقول : " شعبى ظالموه أولاد ، ونساء يتسلطن عليه . يا شعبى مرشدوك مضلون ويبلعون طريق مسالكك " إش 3 : 12 .
يرى بعض الدارسين أن هذا تحقق حرفيا إذ تسلم بعض الصبيان الملك فى يهوذا وقامت بعض النساء بأدوار خطيرة فى تدبير الأمور .
وسط هذا الفساد خاصة من جانب القيادات يتدخل الله من أجل البسطاء فى شعبه ، فينتصب لمحاكمتهم بكونهم الكرامين الذين آكلوا الكرم عوض الأهتمام به ، موبخا إياهم : " يسحقون الشعب ويطحنون وجوه البائسين " ( إش 3 : 15 ) .
( 3 ) انتزاع إمكانيات الترف مع التشامخ :
بعد الحديث عن محاكمة القيادات الفاسدة بدأ الحديث عن بنات صهيون المتشامخات ، لعلهن كن وراء فساد هذه القيادات . فقد نسيت بنات صهيون انتسابهن لصهيون وللرب وسلكن كالوثنيات فى عجرفة مع ترف ولهو .
يقدم لنا النبى بعض ملامح الخلاعة التى اتسمت بها بنات صهيون :
أ – التشامخ : " وقال الرب من أجل أن بنات صهيون يتشامخن ويمشين ممدودات الأعناق .. " إش 3 : 16 . لقد نسين آباءهن وأمهاتهن الذين انحنت أعناقهم تحت نير العبودية فى مصر ،
" قبل الكسر الكبرياء ، وقبل السقوط تشامخ الروح ، تواضع الروح مع الودعاء خير من قسم الغنيمة مع المتكبرين " أم 16 : 18 ، 19 .
ب – الغمز بالعيون ( إش 3 : 16 ) : انشغلن باصطياد قلوب الرجال وأسرها كثمرة طبيعية لفراغ القلب الداخلى ... يقول الحكيم : " فوجدت أمر من الموت المرأة التى هى شباك وقلبها أشراك ويداها قيود ، الصالح قدام الله ينجو منها " جا 7 : 26 .
جـ - الخلاعة فى المشى : " خاطرات فى مشيهن ، يخشخشن بأرجلهن " إش 3 : 16 . دلالة على فساد القلب .
ماذا يفعل الرب بهؤلاء البنات المتعجرفات السالكات فى لهو وترف ؟
أ – " يصلع الرب هامة بنات صهيون ويعرى الرب عورتهن " إش 3 : 17 .. الصلع علامة القبح الشديد ، وتعرية العورة كناية عن كشف فساد طبيعتها ، أو إشارة إلى عريها ، هذه هى حالة النفس البشرية الساقطة بالكبرياء ، إذ تفقد عطايا الله لها ، وينفضح فساد طبيعتها فتصير بلا جمال ولا قوة ولا كرامة .
ب – انتزاع كل مظاهر الغنى والزينة من خلالخيل وضفائر وأهلة وحلقان وأسوار ...
يسمح الله بهذا التأديب لبنات صهيون لكى تجد فى المخلص سر زينتها ومجدها .
هنا يشير إلى ما يحل ببنات صهيون خلال السبى ، إذ يقول : " فيكون عوض الطيب عفونة " إش 3 : 24 ، هذا ما حدث عندما سبين وصارت رائحتهن كريهة بسبب العرق من جراء العمل فى السبى .
" عوض المنطقة حبل " إش 3 : 24 . بعد أن كانت بنات صهيون يتمنطقن بمناطق ذهبية مزخرفة ومرصعة بحجارة كريمة ربطن بالحبال لسحبهن إلى السبى كمذلولات . صورة مؤلمة تكشف عن ثمر الخطية !
" وعوض الجدائل قرعة ، عوض الديباج زنار المسح ، وعوض الجمال كى " إش 3 : 24 .. هكذا قص شهر الشريفات ، وملابس المسوح عوض الثياب الفاخرة وظهر الكى على جباههن علامة العبودية .. إذ كان العبيد من الجنسين يختمون بختم معين بالكى ليعرف السيد من هم له .
فى اختصار عبر عن تحطيم حياتهن تماما لإتكالهن على المظاهر الخارجية وعلى الذراع البشرى ، لذا يقول : " رجالك يسقطون بالسيف ، وأبطالك فى الحرب ، فتئن وتنوح أبوابها وهى فارغة تجلس على الأرض " إش 3 : 25 ، 26 . مات الرجال وسبيت النساء وصارت المدينة العظيمة كما فى فراغ ! .
+ + +
إشعياء – الإصحاح الرابع
غصن الرب هو العلاج
فى الإصحاحات السابقة قدم لنا الوحى الإلهى صورة مؤلمة لما بلغه الإنسان من فساد وانحلال بسبب الخطية حيث فقد الإنسان جماله وكرامته وأكله وشربه وزينته حتى حياته ذاتها ، وصار العلاج الوحيد هو مجىء السيد المسيح " غصن الرب " يرد للإنسان جمال طبيعته ويشبعه لا بتقديم خيرات معينة بل بتقديم " نفسه " سر حياة وفرح وشبع .
( 1 ) الحاجة إلى مخلص :
" فتمسك سبع نساء برجل واحد فى ذلك اليوم قائلات : نأكل خبزنا ونلبس ثيابنا ، ليدع فقط اسمك علينا ، انزع عارنا " إش 4 : 1 .
هؤلاء النساء السبع هم جميع الأمم من بينهم اليهود ، فقد شعر الكل بفراغ شديد يجتاح الأعماق بسبب فساد الطبيعة البشرية ، تجتمع هذه الأمم كعروس تطلب عريسها ، تريد اسمه لينزع عار فسادها ، حينئذ تأكل خبزها وتلبس ثيابها . مسيحها أهم من كل احتياجاتها ، فيه تجد كل الشبع والستر من العرى والحماية من كل عار .
من الجانب الحرفى فإن دخول اليهود فى حرب سوف يؤدى إلى فقدان الرجال ، مما تضطر معه كل سيدة إلى القبول بوجود زوجات أخريات مع رجلها ، الأمر الذى ترفضه النساء بطبيعتها ، وهذا كله جزاء الفساد الذى حصل بيهوذا .
( 2 ) غصن الرب :
الآن إن كانت البشرية بكل شعوبها ( سبع نساء ) اكتشفت حاجتها إلى المخلص ، فها هو النبى يبشرها بمجيئه قائلا : " فى ذلك اليوم يكون غصن الرب بهاء ومجدا وثمر الأرض وزينة للناجين من إسرائيل " إش 4 : 2 .
يقصد بـ " ذلك اليوم " ملء الزمان ( غل 4 : 4 ) الذى فيه تجسدأبن الله الوحيد الجنس ، الذى دعى " غصن الرب " ، أو " الغصن " إر 23 : 5 ، 33 : 15 ؛ زك 3 : 3 : 8 ؛ 6 : 12 . هو غصن الرب وغصن بر لداود ، إذ هو المولود قبل كل الدهور أزليا من ذات جوهر الآب وبتجسده ولد من نسل داود .
كلمة " غصن " تعادل أيضا " ناصرة " ، لذا يقول الإنجيلى : " لكى يتم ما قيل بالأنبياء أنه يدعى ناصريا " مت 2 : 23 .
( 3 ) البقية المقدسة :
من الذى يتمتع بغصن الرب ؟
" الذى يبقى فى صهيون والذى يترك فى أورشليم " إش 4 : 3 .
هؤلاء هم القلة التى قبلت الإيمان بالسيد المسيح من جماعة اليهود ، بقوا فى صهيون الروحية ، فى الكنيسة أورشليم الجديدة .
من الجانب الحرفى تشير إلى البقية الباقية من السبى ، أما من الجانب الروحى فهى القلة المقدسة ، القطيع الصغير الذى لا يغادر صهيون ولا تفارق روحه أورشليم العليا .
هذه البقية تحدث عنها كثير من الأنبياء ( زك 13 : 9 ) ، وجدت فى كل عصر :
ففى أيام إيليا النبى أعلن الرب أن له سبعة الآف رجل لم يحنو ركبة لبعل بعد ..
وفى أثناء السبى وجد دانيال ومعه الثلاثة فتية ضمن القلة المقدسة ... وأيضا استير وموردخاى . والسيد المسيح نفسه يتحدث عن القطيع الصغير الذى سر الآب أن يعطيه الملكوت ( لو 12 ) .
الآن إذ يعلن عن مجىء " غصن الرب " يرى أورشليم جديدة يسكنها قديسون فى الرب القدوس ، وينعمون بالحياة الأبدية . يقول " يسمى قدوسا كل من كتب للحياة فى أورشليم " إش 4 : 3 .
الكنيسة – أيقونة السماء – هى عربون أورشليم العليا التى لا يدخلها شىء دنس أو نجس ولا كل من يصنع كذبا ، إنما يدخلها من غسل ثيابه وبيضها فى دم الحمل ( رؤ 7 : 14 ) .
من الذى يقدس حياتنا ؟ الرب نفسه إذ يقول النبى :
" إذ غسل الرب قذر بنت صهيون ونقى دم أورشليم من وسطها بروح القضاء وروح الإحراق " إش 4 : 4
إنه غسل أدناسنا فى مياة المعمودية فى استحقاقات دمه ، ولا يزال يغسل كل ضعفاتنا بدمه الذى جرى من جنبه المطعون ممتزجا بماء . إن كانت أيدينا قد تلطخت بالدم خلال خطايانا فإنه يقدم دمه كفارة عنا ليقيمنا كنيسة مجيدة لا دنس فيها ولا غضن بل مقدسة فى كل شىء .
( 4 ) حلول المسيح وسط كنيسته :
تغتسل الكنيسة بروح القضاء وروح الإحراق أى خلال ذبيحة المحرقة الفريدة التى قدمها السيد المسيح وبعمل روح القدوس فى مياة المعمودية . فتطلب حلول عريسها الذبيح فى وسطها ، يستر عليها نهارا كسحابة تظللهم ويقودها ليلا كعمود دخان وعمود نار يضىء لها الطريق . هكذا تعود الكنيسة بذاكرتها إلى خيمة الإجتماع فى وسط البرية حيث كان الله يجتمع فيها مع شعبه ، لكنها خيمة جديدة على مستوى مغاير لخيمة العهد القديم ، وذلك من جهة :
أ – " على كل مكان " إش 4 : 5 ، لم تعد الحضرة الإلهية أو الحلول الإلهى قاصرا على خيمة أو على هيكل إنما يحل فى كنيسته الممتدة فى كل مكان ، فى المشارق والمغارب ..
ب – " وعلى محفلها " يشير هذا التعبير إلى عمل الله فى الكنيسة كمحفل واحد ، أو جماعة واحدة ، يتمتع كل عضو فيها بعطية الحلول الإلهى لا كفرد منعزل وإنما كعضو حى فى الجماعة يرتبط مع بقية الأعضاء خلال المسيح الرأس .
جـ - " يخلق ... سحابة ودخانا ولمعان نار ملتهبة " ، يكون السيد المسيح هو سر حماية كنيسته واستنارتها .
د – بقولـه : " لأن على كل مجد غطاء " يعنى أن مجد إبنة الملك من داخل ( مز 45 ) ، مخفى فيها . من الخارج تشارك مسيحها آلامه وصلبه وموته وقبره فيقال عنها ما قيل عن عيسها : " لا صورة له ولا جمال فننظر إليه ، ولا منظر فنشتهيه " إش 53 : 2 ؛ وفى الداخل تشاركه مجد قيامته .
( 5 ) كنيسة المسيح مظلة وملجأ :
يحل الرب فى كنيسته فيقيم منها مظلة تقى النفوس المتألمة الجريحة من حر النهار ، وتضمها من السيول والأمطار ( إش 4 : 6 ) .
يرى القديس يوحنا الذهبى الفم : أن هذه المظلة هى سحابة القديسين العظيمة ( عب 12 : 1 ) قائلا بأن [ تذكار القديسين يقيم النفس التى تثقلت بالويلات ويردها ، فيكون كسحابة تحفظها من أشعة ( الشمس ) الساخنة جدا والمحرقة ] .
إشعياء – الإصحاح الخامس
نشــــيد الكــــــرمة
فى الإصحاح السابق تلامس إشعياء النبى مع محبة الله الفائقة نحو شعبه والمعلنة خلال التجسد الإلهى من أجل تقديس البشرية بروح القضاء وروح الإحراق .. بهذا انفتحت بصيرة النبى على حب الله لعروسه أو لكرمه فصار يتغنى بنشيد الكرمة ، أو نشيد الحبيب للكرمة المشتهاه .
( 1 ) رعاية الله لكرمه :
" لأنشدن عن حبيبى نشيد محبى لكرمه . كان لحبيبى كرم على أكمة خصبة ، فنقبه ونقى حجارته وغرسه كرم سورق وبنى برجا فى وسطه ونقر فيه أيضا معصرة ، فانتظر أن يصنع عنبا فصنع عنبا رديا ( بريا ) " إش 5 : 1 ، 2
يعلن هذا النشيد قصة الحب الإلهى ، حيث أحب الله الإنسان ولا يزال يحبه ويرعاه ، ويبقى الله مستمرا فى حبه بينما يقابل الإنسان الحب بالجفاف .
تحققت هذه القصة مع أبوينا الأولين آدم وحواء ، وتحققت أيضا مع شعب الله فى بداية نشأته ، إذ يقول موسى النبى : " إن قسم الرب شعبه ، يعقوب حبل نصيبه ؛ وجده فى أرض قفر وفى خلاء مستوحش خرب ، أحاط به ولاحظه وصانه كحدقة عينه " تث 32 : 9 ، 10 . أخرج الله شعبه من العبودية لا ليهبه الأرض التى تفيض عسلا ولبنا فحسب وإنما ليقيم كنيسة العهد الجديد التى تملأ الأرض كلها ، تنعم بملكوت الله الداخلى ، وكما يقول المرتل : " كرمة من مصر نقلت ، طردت أمما وغرستها ، هيأت قدامها فأصلت أصولها ، فملأت الأرض " مز 80 : 8 ، 9 .
واضح هنا أن " الكرمة " تشير إلى الشعب كله : مملكة إسرائيل ويهوذا ، فماذا قدم الرب لشعبه المحبوب لديه ؟
أ – أقامهم على " أكمة خصبة " إش 5 : 1 ، إذ دخل بهم إلى كنعان التى تفيض لبنا وعسلا .. ما يحل من جفاف أو مجاعات لا يرجع إلى طبيعة الأرض أو ظروف المنطقة إنما هو ثمر لخطايا الشعب .
أقام الله كنيسة العهد الجديد على أكمة خصبة ، فقد رفع قلبها كما إلى السماء لكى يتمتع أبناؤها بدسم الحياة السماوية ، فيشبعون ولا يعتازون إلى شىء .
ب – " نقبه ( سيج حوله ) " إش 5 : 2 هذا السياج هو الناموس الذى أحاط به الرب شعبه قديما حتى لا يختلط بالأمم الوثنية المحيطة به فينقل عنهم الرجاسات ..كما أنه يشير إلى حراسة الملائكة .
جـ - " ونقى حجارته " إش 5 : 2 . تشير الحجارة إلى العبادة الوثنية حيث كانت الأصنام الحجرية ، هذه انتزعها الرب من وسط شعبه أو انتزع شعبه منها ليعيش الكل فى حياة تقوية لائقة .
جاء على لسان حزقيال النبى " انزع قلب الحجر من لحمهم وأعطيهم قلب لحم " حز 11 : 9 . هذا القلب الجديد والروح الجديد ( حز 36 : 26 ) إنما يتحقق بنوالنا الميلاد الروحى الجديد فى مياة المعمودية المقدسة .
د – " غرسه كرم سورق " ( كرما مختارا ) إش 5 : 2 ، أى غرسه كرما من أفضل أنواع الكروم ، كشعب مختار نال عهدا مع الله ، لكى يحمل " الحق " فيه ، كقول الرب :
" وأنا قد غرستك كرمة سورق زرع حق كلها ، فكيف تحولت لى سروغ جفنة غريبة ؟! " إر 2 : 21 .
أما بالنسبة لكنيسة العهد الجديد فقد جاء " الحق " نفسه ، كلمة الله المتجسد ليقدم نفسه كرمة يحملنا فيه أغصانا حية تأتى بثمر كثير ( يو 15 : 5 ) .
هـ - " وبنى برجا فى وسطه ، ونقر فيه معصرة ، فانتظر أن يصنع عنبا فصنع عنبا رديا ( بريا ) " إش 5 : 2
يسكن صاحب الكرم فى هذا البرج لحراسته .. البرج هو مذبح الرب الذى يقام داخل النفس ، والمعصرة لعصر العنب وعمل خمر الحب الذى يقدم للفرح الروحى . ما هذه المعصرة إلا صليب ربنا يسوع المسيح الذى اجتاز المعصرة وحده ولم يكن معه أحد من الأمم ( إش 63 : 3 ) . قدم دمه المبذول خمر حب يفرح كل قلب مؤمن .
انتظر الرب أن يجتنى حبا مقابل الحب ، وتوبة وندامة مقابل غفران خطاياه ، لكنه وجد قلوبا متحجرة لا تصنع ثمارا تليق بالتوبة . الكل زاغوا وفسدوا وأعوزهم مجد الله ، لذا كان يليق بكلمة الله أن ينزل إلينا ككرم جديد ، هو وحده يغرسنا فيه فنأتى بثمر كثير ( يو 15 : 5 ) .
( 2 ) محاكمة بين الله وشعبه :
ليس أصعب من أن يدخل كائن ما فى محاكمة مع ابن محبوب لديه ، لكن أمام قساوة قلب الإنسان وجحوده طلب أن يقف أمام شعبه للحوار ، متسائلا : " ماذا يصنع أيضا لكرمى وأنا لم أصنعه ؟! " إش 5 : 4 . والعجيب أنه ترك الحكم للطرف الآخر ، لمقاوميه ، حتى يحكموا بأنفسهم على أنفسهم . هذا هو أسلوب الله فى تعامله معنا ، يفضح أمامنا نفوسنا ، ويكشف أمام أعيننا ضعفاتنا ، ليس لأنه يريد أن يغلب أو يعاقب وإنما لأنه يطلب رجوعنا إليه ودخولنا فى علاقات حب وود معه .
إذ لم يجد الكرم ما يجيب به على الكرام العجيب فى حبه ، بدأ الكرام يعلن تأديباته حتى يتحرك الكرم ، ألا وهى :
أ – " انزع سياجه فيصير للرعى " إش 5 : 5 . إن كان ملاك الرب حال حول خائفيه ( مز 34 : 7 ) ، بل والرب نفسه يكون سور نار حول شعبه ( زك 2 : 5 ) ، فإن الله فى محبته يتخلى عن المقاومين وينزع عنهم الحراسة السماوية ليدركوا ضعفاتهم ، ويشعروا أنهم بلا سياج ولا سور ...
ب – " اجعله خرابا لا يقضب ولا ينقب " إش 5 : 6 . إذ يفارق الرب كرمه أى النفس البشرية تصير فى فراغ وتحسب خرابا ، يبكيها الرب كما يبكى على أورشليم ، قائلا :
" هوذا بيتكم يترك لكم خرابا " مت 23 : 38 .
جـ - " فيطلع شوك وحسك " إش 5 : 6 . هذا ثمر اعتزال الإنسان الله وانفصاله عنه ، إذ ينبت من عندياته شوكا وحسكا .
ما هو هذا الشوك إلا فقدان الإنسان سلامه ليحمل فى داخله متاعب وهموم لا يقدر أن يجابهها بنفسه وحده ؟!
د – " وأوصى الغيم أن لا يمطر عليه مطرا " إش 5 : 6 . يشير المطر فى العهد القديم إلى عطية الروح القدس ، فإن الإنسان الجاحد للرب الذى يطلب الأنفصال عنه يخسر سكنى الروح فيه ، فيتحول قلبه إلى قفر ، لا يحمل ثمر الروح ، لهذا عوض أن يثمر " الحق " إذا به يثمر " سفك دم " ، وعوض " العدل " يثمر " صراخا " إش 5 : 7
يقول : " إن كرم رب الجنود هو بيت إسرائيل وغرس لذته رجال يهوذا . فانتظر حقا فإذا سفك دم .. وعدلا فإذا صراخ " إش 5 : 7 .
جاء " الحق " متجسدا من سبط يهوذا لكنهم سفكوا دمه ، وعوض العدل كان الصراخ :
" أصلبه ، أصلبه " .
( 3 ) عرض تفصيلى لخطايا إسرائيل :
بعدما كشف الرب عن حبه لكرمه ورعايته الفائقة له ، بدأ يستعرض أهم خطايا الشعب وثمرهم الدىء الذى جلب ويلات مرة عوض التمتع ببركات الرب وشركة أمجاده .
أ – " ويل للذين يصلون بيتا ببيت ، ويقرنون حقلا بحقل ، حتى لم يبق موضع ، فصرتم تسكنون وحدكم فى وسط الأرض " إش 5 : 8 .
يعنى بهذا أنهم انهمكوا فى شراء البيوت والحقول كل الطرق ، فى أنانية حتى لم يترك الواحد موضعا لأخيه ، خاصة الفقير والمحتاج . لقد ملكت قلة قليلة الأرض الزراعية والبيوت لتستغل عامة الشعب ، وذلك على خلاف الناموس الذى طالب أن تبقى الأراضى موزعة بالتساوى ( عد 33 : 54 ) ,انه فى سنة اليوبيل يعود للكل ملكيته ( لا 25 ) .
ب – " ويل للمبكرين صباحا يتبعون المسكر ، للمتأخرين فى العتمة تلهبهم الخمر " إش 5 : 11 .
إن كان الويل الأول منصبا عليهم بسبب الطمع والظلم فالثانى بسبب اللهو الزائد . صاروا يسكرون فى الصباح المبكر عوض قيامهم للعمل وأيضا يبقون حتى ساعة متأخرة بالليل ، اى يسكرون نهارا وليلا . هكذا يكسرون الوصايا الإلهية : " الإنسان يخرج إلى عمله وإلى شغله إلى المساء " مز 104 : 23 .
تحولت حياتهم عن الفرح الروحى الممتزج بجدية الحياة والعبادة إلى اللهو الممتزج برخاوة يستخدمون كل آلات الطرب ( إش 5 : 12 ) مع الإنشغال بإقامة ولائم لإثارة مشاعرهم وأحاسيسهم للشر ، متجاهلين الحياة التقوية فى الرب .
إن الله لا يدينهم هنا على طمع اقترفوه وإنما لمجرد التبذير ، أنت تشرب خمرا ولا تمنح المسيح كأس ماء بارد خلال من هو ظمآن . أنت ترقد على فراش ناعم مطرز وهو يهلك بردا !
أما عمل اللهو فهو سبى الإنسان الداخلى عن معرفة الحق ، ليعيش أسيرا للجهالة ، يجوع ويعطش داخليا ، ولا يوجد ما يشبعه أو يرويه . يقول النبى : " لذلك سبى شعبى لعدم المعرفة وتصير شرفاؤه جوع وعامته يابسين من العطش " إش 5 : 13 .
يقول الحكيم : " لأن السكير والمسرف يفتقران ، والنوم يكسو الخرق " أم 13 : 21 .
هذا هو الثمر المر الذى يجتنيه السالكون فى الباب الواسع ، باب اللهو الدائم لإشباع الشهوات الزمنية . أما ماهوأخطر فهو هلاكهم الأبدى إذ يقول : " لذلك وسعت الهاوية نفسها وفغرت فاهها بلا حد فينزل بهاؤها وجمهورها وضجيجها والمبتهج فيها " إش 5 : 14 .
يصور الهاوية أشبه بانفتاح الأرض لإبتلاع الأشرار كما حدث مع قورح وجماعته .. تنفتح لتطلب المزيد ، تبتلعهم إلى الأعماق ليبقول فى الظلمة إلى الأبد .
هذا ما يحدث بالنسبة للمنشغلين بحياة الترف واللهو ، أما بالنسبة لله رب الجنود فإنه يتمجد ويتقدس بإدانته للخطية بالعدل والبر ( إش 5 : 16 ) .
ربما يتساءل البعض : ما هو حال البقية القليلة الأمينة للرب ؟ يجيب النبى : " ويرعى الخراف حيثما تساق ، وخرب السمان تأكلها الغرباء " إش 5 : 17 .
ترعى الخراف – القطيع الصغير – حيثما يقودها الراعى الصالح ، يسوع المسيح ، إذ يحفظها من الظلم والإضطهاد .
جـ - " ويل للجاذبين الإثم بحبال البطل ، والخطية كأنه بربط العجلة " إش 5 : 18 .
هذا الويل الثالث يحل بطالبى الخطية برغبة شديدة واجتهاد ، يسعون إليها بمحض اختيارهم ويدفعون أنفسهم إليها دفعا أو يسحبونها بقوة نحوهم .
إنهم يجتذبون الخطية كما بحبل ، وإذ هى ثقيلة للغاية تنهار على رؤوسهم فتحطمهم .
حقا ، كل إنسان يضفر لنفسه حبلا بخطاياه ..
بجانب ما للخطية من خطورة أنها تسحب الإنسان إلى سلسلة من الخطايا ، فتجعله أشبه بكرة تلهو بها الخطايا فإن الخطر الثانى هو أنها تبعث روح الإستخفاف والسخرية عوض رغبة الإنسان فى التحرر منها ، فيردد الأشرار : " ليسرع ليعجل عمله لكى نرى ، وليقرب ويأتى مقصد قدوس إسرائيل لنعلم " إش 5 : 19 . إنهم يشكون فى إمكانية قضاء الله ، فيحسبون أنهم قادرون على مواجهته ببراهين وحجج . فى استخفاف يرددون " قدوس إسرائيل " اللقب الذى استخدمه الأنبياء بالنسبة لرجائهم فى مجىء المسيا المخلص .. وكأنهم يضربون بهذا الرجاء عرض الحائط .
فى كل عصر يوجد أشرار يستهينون بطول أناة الله ويسخرون بمواعيده ومحبته كما تأديباته ظانين أنها مجرد كلمات أو أوهام لن تتحقق .
د – " ويل للقائلين للشر خيرا وللخير شرا ، الجاعلين الظلام نورا والنور ظلاما ، الجاعلين المر حلوا والحلو مرا " إش 5 : 20
يسقط الويل الرابع على الذين يخلطون بين الحق والباطل ، الخير والشر ، النور والظلمة ، الحلاوة والمرارة ، المعرفة والجهل . هؤلاء يعطون الخطية مسحة الفضيلة كأن يبرروا الغضب بالدفاع عن الحق أو إدانة الآخرين تحت ستار الرغبة فى الأصلاح الخ .....
هـ - ادعاء الحكمة والفهم مع الأستخفاف بآراء ومشورة الغير : " ويل للحكماء فى أعين أنفسهم والفهماء عند ذواتهم " إش 5 : 21 .
من ينشغل بذاتيته ولا يطلب مشورة الغير ، إنما يحمل علامة الغباوة ، قيل : " أرأيت رجلا حكيما فى عينى نفسه ؟ الرجاء بالجاهل أكثر من الرجاء به " أم 26 : 12 .
و – الأبطال المفسدون لطاقاتهم : " ويل للأبطال على شرب الخمر ولذوى القدرة على مزج المسكر " إش 5 : 22 . حينما تنشغل القيادات بالولائم والترف والسكر تفقد دورها الحقيقى ؛ هكذا كثيرا ما تفسد طاقاتنا بأنفسنا بانحرافنا عن هدفنا الجاد وانغماسنا فى ملذات هذا العالم
ز – أخذ الرشوة : " الذين يبررون الشرير من أجل الرشوة ، وأما حق الصديقين فينزعونه منهم " إش 5 : 23 .
( 4 ) تأديب الهي :
بسبب الخطايا التى ارتكبها الشعب حمى غضب الرب كلهيب نار يحرق القش ليجعلهم أشبه بالغبار ( إش 5 : 24 ) . لقد سمح بتأديبهم بحزم شديد حتى ارتعدت الجبال وصارت جثثهم ملقاة فى الأزقة . هنا يعنى ما حل بشعب الله خلال الغزو الأشورى العنف .
وسط هذا اللهيب يقول : " مع كل هذا لم يرتد غضبه بل يده ممدودة بعد " إش 5 : 25 ؛ لا يزال مملوء حبا ينتظر عودة الإنسان إليه ! .
( 5 ) الغزو الأشورى
يقدم لنا النبى وصفا رهيبا لجيش أور فى غزوه شعب الله . هذا الوصف يكشف عن غزو عدو الخير للنفس البشرية ، بعنف وشراسة ومثابرة ، وفى نفس الوقت يوبخ المؤمنين المتراخين ؛ فالأشرار من أجل غنيمة زمنية لا يكلون حتى يحققوا هدفهم بينما أولاد الله يتراخون فى نوال شركة المجد الأبدى .
أ- " ليس فيهم رازح ( متعب ) " إش 5 : 27 . بالرغم من طول المسافة التى يقطعونها والصعوبات التى تواجههم لكنهم لا يشعرون بتعب من أجل رغبتهم القوية فى التمتع بالغنيمة .. بينما كثيرا ما نتراخى نحن المؤمنون فى جهادنا الروحى تحت دعوى الإرهاق أو التعب .
ب- " ولا عاثر " إش 5 : 27 بالرغم من وعورة الطريق ؛ ربما لأن الله دعاهم لتأديب شعبه فسهل لهم الطريق . كان أولى بنا نحن ألا نخاف وعورة الطريق فإننا ما دمنا فى يد مسيحنا " الطريق " لا نتعثر قط .
جـ - " لا ينعسون ولا ينامون " إش 5 : 27 من أجل الهدف الزمنى والشرير الموضوع أمامهم . أفما يليق بنا نحن المؤمنون ألا ننعس ولا ننام بل نبقى فى يقظة الروح حتى نحقق غاية رسالتنا ؟!
د - " ولا تنحل حزم أحقائهم ولا تنقطع سيور أحذيتهم " إش 5 : 27 ، أى جادين ومتشددين للعمل . لقد أوصانا الرب : " لتكن أحقاؤكم ممنطقة " لو 12 : 35 ، حتى نتمم خدمة الرب بقوة .
هـ - " سهامهم مسنونة وجميع قسيهم ممدودة ، حوافر خيلهم تحسب كالصوان وبكراتهم كالزوبعة " إش 5 : 28 . مستعدين بأسلحتهم وعدتهم ، كى يحاربوا بقوة ولمدة طويلة وبسرعة خاطفة ليحققوا الهدف . يليق بالمؤمنين أن يستعدوا ضد معركة إبليس بأسلحة الإيمان الروحية التى تحدث عنها الرسول بولس بأكثر توسع ( أف 6 ) .
و – " لهم زمجرة كاللبوة ، ويزمجرون كالشبل ، ويهرون ويمسكون الفريسة ويستخلصونها ولا منقذ " إش 5 : 29 . إنهم يحملون صورة سيدهم إبليس ، الذى يجول كأسد زائر يلتمس من يبتلعه ( 1 بط 5 : 8 ) . كان يليق بالمؤمنين أن يصحوا ويسهروا مقاومين هذا العدو راسخين فى الإيمان ( 1 بط 5 : 8 ، 9 ).
لقد تقدم الحمل – رب المجد يسوع – القادر أن يحطم العدو ، كأسد خارج من سبط يهوذا ( رؤ 5 : 5 ) حتى لا يهزمنا إبليس بل نقاومه بالرب ونحطم طاقاته .
ز – " يهرون عليهم فى ذلك اليوم كهدير البحر " إش 5 : 30 ، إذ يسقط عليهم الجيش بأصوات الجند كهدير البحر الذى لا يقاوم ، يكتسح ويبتلع كل ما هو أمامه .. وكأنه لا أمل لهم فى النجاة من أشور .
ح – أخيرا يفقد الشعب كل رجاء فإنه " إن نظر إلى الأرض فهوذا ظلام الضيق والنور قد أظلم بسحبها " إش 5 : 30 . وقت الضيق يرفعون عيونهم لعلهم يجدون منفذا للخلاص ، لكن الظلام يخيم على أفكارهم ، وسحب الدخان الصاعدة من الحرائق تحطم كل أمل عندهم . لقد رفضوا الله : " النور الحقيقى " فملكت الظلمة على أعماقهم . لهذا يصرخ المرتل :
" بنورك يارب نعاين النور " مز 36 : 9 .
+ + +
إشعياء – الإصحاح السادس
رؤيا إشعياء ودعوته
يسجل لنا إشعياء النبى رؤياه الشهيرة ، إذ رأى الله القدوس جالسا على كرسى عال ومرتفع وأذياله تملأ الهيكل ، رآه فى مجده الفائق تسبحه طغمة السيرافيم ، وقد عهد إليه بخدمة النبوة المقدسة .
يتساءل البعض : هل تمتع النبى بهذه الرؤيا قبل تنبؤه بما ورد فى الإصحاحات السابقة أم جاءت بعدها ؟ ولماذا لم يفتتح النبى السفر بها ؟
( 1 ) رؤيا النبى فى الهيكل :
" فى سنة وفاة عزيا الملك رأيت السيد جالسا على كرسى عال ومرتفع وأذياله تملأ الهيكل " إش 6 : 1
تمتع النبى بهذه الرؤيا فى سنة وفاة عزيا الملك ، ربما بعدما أعلن نبواته السابقة والتى حملت تهديدا للشعب ، فقابلها الشعب بنفور واستخفاف ، لهذا كشف له هذه الرؤيا ليعلنها للشعب مؤكدا أنه يحمل رسالة إلهية ، يقدم كلمة الله .
ظهرت الرؤيا ى سنة وفاة عزيا الملك الذى ملك على يهوذا وهو ابن 16 سنة لمدة 52 عاما وعمل المستقيم فى عينى الرب ، وقد نجح فى كل أعماله : فى الحروب والتعمير ، ولكنه إذ أصابه الكبرياء وأراد أن يوقد للرب على مذبح البخور فضربه الرب بالبرص وهو فى الهيكل ، وطرده الكهنة ، وكان أبرصا إلى يوم وفاته ، معزولا فى بيت بعيد عن قصر الملك
تطلع النبى إلى الشعب فى سنة موت عزيا ليراه منطرحا كغنم بلا راعى ، خاصة وأن الملك كان قد اعتزل الشعب زمانا قبل موته بسبب برصه .
وسط هذه المرارة أعلن الرب هذه الرؤيا لإشعياء من أجل تعزيته : تحققت الرؤيا فى الهيكل غالبا فى وقت انفرد فيه النبى للعبادة الخاصة ، يصرخ إلى الله ليتسلم رعاية شعبه .
ظهر له السيد جالسا على كرسى عال . ومرتفع ليؤكد له أنه هو راعى شعبه السماوى ، أفكاره تعلو عن أفكار البشر ، وطرقه عن طرقهم .
يرى القديس يوحنا الذهبى الفم إن إشعياء وغيره من الأنبياء لم يروا جوهر اللاهوت كما هو إنما يظهر الله لهم خلال تنازله قدر ما يحتملون الرؤيا وذلك من أجل محبته لخليقته ؛ حتى بالنسبة للسمائيين وحاملى عرشه فإن كل منهم يراه قدر احتماله أما الجوهر فى ذاته أى فى كماله المطلق فلا يمكن إدراكه .
" السيرافيم واقفون فوقه ، لكل واحد ستة أجنحة ، بأثنين يغطى وجهه وبأثنين يغطى رجليه وبأثنين يطير . وهذا نادى ذاك وقال : قدوس ، قدوس ، قدوس رب الجنود ، مجده ملء كل الأرض " إش 6 : 2 ، 3 .
لعل ما يعزى نفس الخاد هو أن يرتفع قلبه ليرى الخدمة الملائكية ، فيتحقق أن كل متاعب الكنيسة وضعفاتها تنتهى يوما ما لتشترك مع السمائيين فى التسبيح أبديا .
قيل أن القديس باخوميوس المصرى كان يرى الكنيسة مملوءة بالملائكة .
السيرافيم هم خدام العرش الإلهى ، يحملون الرب بفرح وتهليل ، يسبحونه بلا انقطاع . وكأن عمل كل خادم أو نبى فى الكنيسة هو جذب كل نفس إلى الرب كعرش له يسكنه ، ويقيم ملكوته داخله ، فيصير أشبه بالساروف النارى السماوى . لكل ساروف 6 أجنحة :
بإثنين يغطى وجهه علامة اتسامه بالمخافة الإلهية ، لا يقدر أن يدرك كل البهاء الإلهى ...
وبإثنين يغطى رجليه علامة الحياء – إن صح التعبير - .....
وبإثنين يطير محلقا فى السماويات .
هكذا يليق بنا أن نتشبه بالساروف ننعم بالمخافة الإلهية فى احتشام مع نمو دائم وارتفاع مستمر نحو السماويات .
" مجده ملء كل الأرض " إش 6 : 3 ، لا يملأ السموات فحسب وإنما الأرض كلها .
يلاحظ فى هذه التسبحة :
أ – أن كلمة " السيد " جاءت بالجمع Adonai وليس بالمفرد Adon ، ربما لهذا السبب مع تكرار كلمة " قدوس " ثلاث مرات رأى القديس غريغوريوس أسقف نيصص تعلن عن مجد الثالوث ، بينما ينسبها الرسول بولس للروح القدس ( أع 28 : 25 ، 26 ) ، والقديس يوحنا للإبن ( يو 12 : 41 ) بينما التقليد اليهودى قديما ينسبها للآب .
ب – دعى الله " رب الجنود " وهو لقب الله فى معركته ضد الشر أو قوات الظلمة ، له معنى تعليمى ، أول من استخدمه حنة أم صموئيل فى تسبحة النصرة التى نطقت بها إذ شعرت بأن الله هو سر نصرتها فى معركتها الداخلية .
جـ - تستخدم هذه التسبحة فى القداس الإلهى علامة شركة المؤمنين مع السمائيين فى العبادة على مستوى سماوى ، بروح الوحدة والإنسجام معا .
" فاهتزت أساسات العتب من صوت الصارخ وامتلأ البيت دخانا " إش 6 : 4 .
اهتزت أساسات بيت الرب أمام صرخات الساروفيم التى تمجد الله القدوس وأمتلأ البيت سحابا كثيفا علامة حلول مجد الله فيه . وعندما دخل السيد المسيح أورشليم اهتزت أيضا المدينة ( مت 21 : 10 ) . ونحن فى حاجة أن يعلن الرب حلوله فينا . ليقيم ملكوته داخلنا ، نشترك مع السيرافيم تسبحتهم الأبدية فتهتز أعماق نفوسنا مع إشعياء النبى ، ويعلن مجد الرب فينا ، وتتقدس أعماقنا فنحسب شهود حق لإنجيله .
( 2 ) تقديس فم إشعياء
إذ نقف فى حضرة الله القدوس يعلن لنا مجده ونكتشف نحن نجاستنا ، كما حدث مع إشعياء النبى : " فقلت : ويل لى إنى هلكت لأنى انسان نجس الشفتين ، وأنا ساكن بين شعب نجس الشفتين ، لأن عينى رأتا الملك رب الجنود " إش 6 : 5
لعل إشعياء أراد أن يشترك مع السيرافيم فى تسابيحهم لله فأدرك أنه نجس الشفتين ، وإذ تطلع إلى جماعة السيرافيم فى تهليلاتهم أدرك أنه ساكن بين شعب نجس الشفتين .
شعوره بنجاسة شفتيه ونجاسة شفاه شعبه لم يحطم نفسيته ، إنما ملأه رجاء فىالله الذى تمتع برؤياه بكونه " رب الجنود " ، قادر أن يقيم من البشرية جنودا روحيين له . هذا تحقق له ، إذ قال : " فطار إلى واحد من السارفيم وبيده جمرة أخذها بملقط من على المذبح ، ومس بها فمى وقال : إن هذه مست شفتيك فانتزع إثمك وكفر عن خطيتك " إش 6 : 6 ، 7
لقد حملت القديسة مريم كلمة الله متجسدا فيها ، الجمر الملتهب ، الذى يقدس البشرية بدمه الثمين .
( 3 ) إرسالية إشعياء النبى :
بعد هذه الرؤيا أشتاق إشعياء النبى أن يرى شعبه متمتعا بهذه الحياة العلوية ، كأنه يقول مع الرسول بولس : " لى اشتهاء أن أنطلق وأكون مع المسيح ذاك أفضل جدا ، ولكن أن أبقى فى الجسد ألزم من أجلكم " فى 1 : 24 . هذا ما يعلنه النبى أيضا بقولـه : " ثم سمعت صوت السيد قائلا : من أرسل ومن يذهب لأجلنا ؟ فقلت : هأنذا أرسلنى " إش 6 : 8
هذا هو المنظر الخامس من ذات الرؤيا الذى فيه دعى للعمل النبوى ، لحساب ملكوت الرب ، هذه المناظر هى :
1 – منظر السيد الرب فى مجده ( إش 6 : 1 ) .
2- منظر السرافيم المسبحين له ( إش 2 : 3 )
3 – اهتزاز أساسات العتب وامتلاء البيت دخانا ( إش 6 : 4 ) .
4 – تقديس شفتى النبى ( إش 6 : 5 – 7 ) .
5 – دعوة إشعياء بصوت الله نفسه ( إش 6 : 8 الخ ) .
جاءت الدعوة من الله القدير نفسه ، وإذ آمن إشعياء بقدرة الله الخلاصية وعمله التقديسى ، تقدم للعمل مدركا أنه حيث هو ضعيف فهو بالرب قوى .
قبل الله القدوس عرض إشعياء ، وقال له : " اذهب " إش 6 : 9 . لقد أراد الله ألا يرسل إشعياء من أجل نوال كرامة أو مجد ، إنما ليدخل فى مرارة مع شعب رافض الحق .. فالخدمة ليست مراكز كنسية ولا كرامات إنما هى جهاد روحى من أجل غسل أقدام الآخرين وحثهم على قبول الحق ..
وضع الرب كلماته على فم النبى : " تسمعون سمعا ولا تفهمون ، وتبصرون أبصارا ولا تعرفون " إش 6 : 9 .
لقد وضع الرب فى فم إشعياء نبوات كثيرة عن السيد المسيح وعمله الخلاصى ، وقد تحققت عند مجىء السيد المسيح ، لقد سمعوا ورأوا لكنهم لم يؤمنوا به ، لأن بصيرتهم الداخلية قد أصابها العمى ، وذلك على عكس التلاميذ الذين قال لهم الرب :
" طوبى لأعينكم لأنها تبصر ولآذانكم لأنها تسمع " مت 13 : 11 – 16 .
ما هى علة عدم قدرتهم على الإيمان ؟ : إنهم لم يريدوا . الله راآ إرادتهم الفاسدة لذلك سبق أن أخبر النبى بذلك لأن المستقبل ليس مخفيا عنه ..
" غلظ قلب هذا الشعب وثقل أذنيه وأطمس عينيه لئلا يبصر بعينيه ويسمع بأذنيه ويفهم بقلبه ويرجع فيشفى " إش 6 : 10 .
يلاحظ هنا أن الله لا ينسب هذا الشعب إليه ، بل يدعوه " هذا الشعب " ، وهذه عادة ما تحدث عندما يعلن الله غضبه عليهم فيحسبهم غير أهل للأنتساب إليه بسبب غلاظة قلوبهم وثقل آذانهم وعمى أعينهم ، أى بسبب العنف ( القسوة ) ، والعصيان ، والجهل الروحى .
حزن إشعياء النبى إذ أدرك ثقل المسئولية الملقاة عليه وما تنتظره من متاعب وآلام ، كما حزن إذ أدرك ما سيحل بالشعب من دمار حتى تصير المدن خربة بلا ساكن والبيوت بلا إنسان وتخرب الأرض وتقفر ( إش 6 : 11 ) ، فصرخ : " إلى متى أيها السيد الرب ؟ " إش 6 : 11 . هلى كان يسأل : إلى متى يبقى هذا الشعب فى القساوة ؟! أم يسأل : إلى متى أعلن نبوات مرة هكذا وقاسية ؟!
كشف له الرب عن حال الشعب بع انكساره أمام سنحاريب ، فأعلن أنه وإن بقى فى البلاد العشر [ 1/10 ] ( إش 6 : 13 ) يعود فيقيم الشعب خلال هذه البقية ويجعل منهم زرعا مقدسا . بهذا يتنبأ عن السبى وما يحدث بعد السبى . وفى نفس الوقت تعتبر نبوة عن سبى اليهود فى جحودهم الإيمان بالسيد المسيح مخلص العالم ، لكن فى آخر الأيام تبقى بقية تعود للأيمان به . يقول الرسول بولس : " إن القساوة قد حصلت جزئيا لإسرائيل إلى أن يدخل ملوء الأمم ، وهكذا سيخلص جميع إسرائيل " رو 11 : 25 ، 26 .
+ + +
إشعياء – الإصحاح السابع
خلاص آحاز والخلاص المسيـــانى
كان آحاز من أشر ملوك يهوذا ، عرف بالرياء والجبن ، أجاز إبنه فى النار وقدم ذبائح للأوثان فى المرتفعات وتحت كل شجرة خضراء .
فى بدء حكم آحاز تحالف آرام مع إسرائيل ( افرايم ) ضد يهوذا ، وقاما بالهجوم عليه فقتل فقح ملك إسرائيل 120 ألفا فى يوم واحد بينما أسر رصين ملك آرام الكثيرين . أراد الأثنان فتح أورشليم لكن الله حفظها ، وقد طمأن آحاز على لسان إشعياء بالرغم من فساد آحاز ، معلنا اهتمامه بخلاص شعبه ومدينته .
انتقل إشعياء من هذا الخلاص الزمنى إلى الحديث عن الخلاص الأبدى الذى يحققه عمانوئيل المسيا .
( 1 ) تحالف رصين وفقح ضد آحاز
فى بدء حكم آحاز تحالف رصين ملك آرام مع فقح بن رمليا ملك إسرائيل ضد يهوذا ( إش 7 : 1 ) . هجم الأول من جهة شرق الأردن بينما اندفع الثانى بجيوشه من الشمال ، وانهزم آحاز . صعدا إلى أورشليم العاصمة لمحاصرتها ، لكنهما لم يستطيعا اقتحامها . أما سبب المعركة فهو اختلاف آحاز عن الملكين الآخرين سياسيا ، فقد رأى آحاز أن يتحالف مع آشور بينما رأى الملكان أن يتحالفا مع مصر .
وجد آحاز نفسه فى مأزق ، فطلب معونة فلاسر ملك آشور ، الذى أسرع نحو دمشق حيث قتل رصين ( 2 مل 16 : 9 ) ، وهكذا فعل أيضا بالسامرة ( 2 مل 15 : 29 ) .
( 2 ) خوف آحاز :
إذ عرف آحاز أن آرام حل فى افرايم ( المملكة الشمالية أو إسرائيل ) للتحالف معا ضده:
" رجف قلبه وقلوب شعبه كرجفان شجر الوعر قدام الريح " إش 7 : 2 . لقد أدرك آحاز وشعبه عدم قدرتهم على مواجهة آرام وإسرائيل ، أما علة خوفهم الحقيقى فهو عدم إيمانهم بالله كسند لهم قادر أن يحصنهم ويهبهم النصرة . لقد فقدوا سلامهم الداخلى بانعزالهم عن الله مصدر الغلبة والسلام .
( 3 ) إشعياء يطمئن آحاز :
اضطرب آحاز جدا ، لأنه أسقط من حساباته عنصر الإيمان أو " الوجود الإلهى " فلم يناد بالتوبة والرجوع إلى الله ، ولا ذهب إلى الهيكل ليضع الأمر بين يدى الله ، ولا أرسل إلى إشعياء النبى يستشيره ، إنما استخدم الوسائل البشرية من إلتجاء إلى آشور لحمايته ، وخروجه إلى طرف قناة البركة العليا ( إش 7 : 3 ) غرب أورشليم على رأس وادى ابن هنوم يختبر مع رجال الدولة موارد المياة ليحولونها إلى المدينة تنتفع بها أثناء الحصار المرتقب ولحرمان العدو منها ( 2 أى 22 : 3 ، 4 إش 22 : 9 – 11 ) كما كان يباشر تحصين المدينة قدر المستطاع .
مع هذا كله تدخل الله ليس من أجل آحاز وإنما من أجل القلة القليلة المقدسة من شعبه ، ومن أجل داود عبده ومدينته العزيزة لديه . لقد طلب من إشعياء أن يخرج لملاقاة آحاز ومعه شآرياشوب [ = البقية سترجع ] بكونه علامة وأعجوبة فى إسرائيل ( إش 8 : 8 ) ، مؤكدا له :
" احترز وأهدأ ؛ لا تخف ولا يضعف قلبك من أجل ذنبى هاتين الشعلتين المدخنتين بحمو غضب رصين وآرام وأبن رمليا " إش 7 : 4 .
التقى النبى وابنه مع الملك عند البركة ليعلن الله للملك أن الخلاص لن يتم بالتخطيط البشرى والإمكانيات الزمنية وإنما بعمل الله الفائق وعنايته نحو أولاده . التقى النبى مع الملك عند البركة ليؤكد له أن الله يريد أن يتحدث مع البشرية أينما وجدوا ، يلتقى مع لاوى عند مكان الجباية ومع زكا عند شجرة الجميز ومع السامرية عند بئر يعقوب الخ .. هو يبحث عنا ويذهب إلينا أينما وجدنا مشتاقا إلى خلاصنا أكثر من إشتياقنا نحن إليه .
طلب الله من آحاز ألا يخاف ولا يضعف قلبه ، للأسباب :
أ – أن العدوين ليسا إلا شعلتين مدخنتين ، قد تعكر الجو ولكن بلا نار ملتهبة لتحرق . عدو الخير قوى وجبار فى المظهر لكنه يصغر جدا ويضعف تماما أمامنا إن اختفينا فى المسيح الغالب لإبليس وكل قواته .
ب – عدم نجاح مؤامرة الأعداء : قام الملكان بمؤامرة شيطانية خفية لكن الله المدرك كل الخفيات أعلنها حتى يحتاط الملك آحاز بالرغم من شره وغبائه . يقول الرب : " لا تقوم ، لا تكون " إش 7 : 7 . قد ينجح العدو فى البداية حاسبا أنه يحقق أهدافه الشريرة ، لكن الرب يشتت المستكبرين بفكر قلوبهم ( لو 1 : 51 ) .
جـ - لن يقدر آرام أن يتوسع كما ظن إنما يلتزم حدوده : " لأن رأس آرام دمشق ورأس دمشق رصين " إش 7 : 8 .
هكذا مهما حارب رصين فسيعود إلى دمشق ولا تتسع مملكته على حساب يهوذا كما يظن . أما بالنسبة لأفرايم ففى مدة 65 سنة ينكسر حتى لا يعود يحسب شعبا ( إش 7 : 8 ) .
ختم النبى حديثه بقوله : " إن لم تؤمنوا فلا تؤمنوا " إش 7 : 9 . فإنهم ما لم يؤمنوا بالوعد الإلهى ويثقوا فيه متكلين على ذراع الرب لن يثبتوا فى هذه الظروف القاسية الصعبة . الإيمان هو الدرع ( 1 تس 5 : 8 ) الذى يحمينا من ضربات العدو .
( 4 ) آحاز يرفض طلب آية :
قدم الله لآحاز كل إمكانية للخلاص ، لكن قلبه كان قد تقسى تماما فوثق فى أشور لا الله . ومع ذلك فإن الله فى حبه ولطفه عاد يتحدث معه خلال إشعياء النبى قائلا : " اطلب لنفسك آية من الرب إلهك ؛ عمق طلبك أو رفعه إلى فوق " إش 7 : 11 . وكأنه يقول له : لماذا تطلب عونا من أشور الغريب ، أنا هو إلهك مستعد أن أؤكد لك مواعيدى بآية من الأرض أو من السماء ، فأنا إله السماء والأرض . أطلب ما تريد وأنا أعطيك . أطلب أن تحدث زلزلة أو انشقاق للأرض كما حدث مع قورح وجماعته ، أو اطلب بروقا أو رعودا أو أمطارا أو علامة فى الشمس كما حدث مع يشوع حيث توقفت الشمس . فإننى وإن كنت لا أحب تقديم آيات للأستعراض إنما من أجل حبى لبيت داود ولكى تؤمن بى أعطيك سؤل قلبك . أما آحاز فقد صوب نظره نحو أشور ، رافضا أية معونة من قبل الله ، لذا رفض طلب آية منه ، مبررا ذلك بنص كتابى : " لا أجرب الرب " إش 7 : 12 ( تث 6 : 16 ) . لم يقل هذا عن ثقة فى الله وإنما رغبة فى عدم التعامل معه .
هذا الفصل يقرأ فى باكر من يوم الجمعة من الأسبوع الثانى من الصوم الكبير حيث تركز القراءات على " تجربة السيد المسيح " . وكأن روح الرب يؤكد أنه فى كل العصور يوجد أشرار يرغبون فى تغطية شرورهم بنصوص كتابية ، حتى الشيطان نفسه فى حواره مع السيد المسيح عند التجربة استخدم ذات الأسلوب . ما أخطر إساءة استخدام كلمة الله !
كان آحاز مخادعا فى إجابته حتى على الرب ، لهذا وبخه النبى قائلا : " اسمعوا يا بيت داود ؛ هل هو قليل عليكم أن تضجروا الناس حتى تضجروا الهي أيضا ؟! " إش 7 : 13 . لقد تضجر الناس بسبب مظالم آحاز وأهل بيته وها هم كمن يضجرون الله بعدم إيمانهم به متكلين على أشور لا الرب .
( 5 ) الآية الإلهيــــة : عمانوئيـــــل
... ها هو الرب يقدم نفسه آية لا لآحاز وإنما لكل البشرية لنطمئن أنه يخلصها لا من الأذرع البشرية وإنما من كل قوات الظلمة الشريرة ، يرفعها فوق الأحداث الزمنية ويحملها معه إلى الأحضان الأبوية . وفى نفس الوقت يطمئن آحاز أن بيت داود لن يسقط تماما ، إنما يأتى إبن داود " الآية العجيبة " القادر أن يقيم خيمة داود الساقطة .
الآية التى يريد الرب أن يهبها لكل مؤمن هى أنه يعطى ذاته " عمانوئيــــل " .. حقا إنها آية فريــــدة ، كما يقول القديس يوحنا الذهبى الفم : [ لما كان ما هو مزمع أن يحدث أمرا غريبا لكثير من أن يصدقوه حتى عندما يتحقق لهذا أرسل أولا وقبل كل شىء أنبياء يعلنون عن هذه الحقيقة ] ...
أ – " ها العذراء تحبل وتلد ابنا وتدعو اسمه عمانوئيل "
إش 7 : 14 .
من الواضح للجميع أنه لم يولد أحد فى جنس ابراهيم من عذراء أو قيل عنه ذلك إلا مسيحنا .. بتولية القديسة مريم حقيقة إنجيلية .. تخفى إيماننا فى المسيح يسوع ابنها أنه ليس من زرع بشر .. فإن كلمة الله عند تجسده لم يبال بنوع الموضع الذى يضطجع فيه ( المذود ) ، أو الملابس التى يتقمط بها ، أو الطعام الذى يقتات به ، لكنه حدد بدقة " العذراء " التى تصير له أما .
الكلمة العبرية المستخدمة لعذراء هى " آلما Alma " وليس " بتولية " ولا " ايســا " ، فإن كلمة " آلمــا " تعنى عذراء صغيرة يمكن أن تكون مخطوبة ، أما " بتولية " فتعنى عذراء غير مخطوبة بينما إيســا تعنى سيدة متزوجة . وكأن كلمة " آلمــا " تطابق حالة القديسة مريم تماما بكونها عذراء وفى نفس الوقت مخطوبة للقديس يوسف الذى كان لها مدافعا وشاهدا أمينا على عفتها ، بوجوده ينتزع كل ريب أو ظن حولها .
تحدث حزقيال النبى ( 44 : 1 – 2 ) عن بتولية القديسة مريم :
+ حزقيال شهد وأظهر لنا هذا ، قائلا :
إنى رأيت بابا ناحية المشارق ،
الرب المخلص دخل إليه ، وبقى مغلقا جيدا بحاله .
أبصالية آدم يوم الأحد
+ ميلادك الإلهى يارب قد وهب البشرية كلها ميلادا ..
ولدتك البشرية حسب الجسد ، وأنت ولدتها حسب الروح ..
المجد لك يا من صرت طفلا لكى تجعل الكل جديدا .
القديس مار إفرام السريانى
ب – " زبدا وعسلا يأكل متى عرف أن يرفض الشر ويختار الخير " إش 7 : 16 .
هنا يؤكد النبى ناسوت السيد المسيح ، فمع كونه ليس من زرع بشر لكنه صار بحق ابن الإنسان ، يشاركنا أكلنا وتصرفاتنا ويشابهنا فى كل شىء ما خلا الخطية وحدها ( عب 2 : 7 ) .
الزبد والعسل هما طعام الصبية الصغار ، فإنه لن يبلغ الرجولة دفعة واحدة ، إنما يجتاز مرحلة الصبوة ، خلالها يعرف أن يرفض الشر ويختار الخير علامة نضوج نفسه وفكره . نراه فى الثانية عشرة من عمره يجلس وسط المعلمين يسمعهم ويحاورهم حتى بهتوا من تعليمه ( لو 2 : 46 ، 47 ) .
هذا تحقق بالنسبة لربنا يسوع المسيح المولود وحده من العذراء ، أما بالنسبة لما تم فى أيام آحاز فقد أعلن الله عن ميلاد ابن لأشعياء ، قيل عنه : " لأنه قبل أن يعرف الصبى أن يرفض الشر ويختار الخير تخلى الأرض التى أنت خاش من ملكيها " إش 7 : 16 .
تحقق ذلك بدقة إذ هاجم ملك أشور دمشق بعد إعلان هذه النبوة بفترة قصيرة وقتل رصين ( 2 مل 16 : 9 ) كما قتل هوشع بن إيلة فقح بن رمليا وملك عوضا عنه ( 2 مل 15 : 30 ) ، وأعيد 200000 أسير بسرعة ، وذلك لا بالقوة ولا بالقدرة بل بروح الرب ( 2 أى 28 : 8 – 15 ) .
( 6 ) أشور الحليف يصير عدوا :
إذ يتكىء آحاز على أشور كحليف له دون الرجوع إلى الرب لهذا يسمح الله أن ينقلب آشور عدوا ضد يهوذا ، ويجتاز يهوذا مرارة لم يسبق له اجتيازها منذ انقسمت المملكة إلى مملكتين " إسرائيل ويهوذا " ( إش 7 : 17) ، وفى نفس الوقت يرى أياما صعبة من جهة مصر فيصير يهوذا بين حجرى رحا ، لا بمعنى أن يتفق أشور ومصر ضده ، وإنما يتصارع الأثنان ضد بعضهما ويكون يهوذا هو كبش الفداء للأثنين ، فى أرضه تحدث المعارك والصراعات .
" ويكون فى ذلك اليوم أن الرب يصفر للذباب ( جيوش مصر ) الذى فى أقصى ترع مصر ، وللنحل ( جيوش أشور ) الذى فى أرض أشور ، فتأتى وتحل جميعها فى الأودية الخربة وفى شقوق الصخور وفى كل غاب الشوك وفى كل المراعى ( أى تغطى الجيوش كل بقاع يهوذا ) إش 7 : 18 ، 19 .
هذا ويصور الرب الخراب الذى يحققه أشور بموسى مستأجرة تحلق شعر الرأس وشعر الرجلين واللحية ( إش 7 : 20 ) . وكأن العدو يمد يده كما بموسى ليمسح كل ما لدى الملك وأهل بيته والعظماء ( الرأس ) وما لدى عامة الشعب ( الرجلين ) وأيضا الكهنة ( اللحية ) . هكذا يتحول أشور إلى موسى مخرب ومحطم ! حلق اللحية كان علامة المذلة إذ كان الأسرى يلتزمون بذلك لا إراديا .
مرة أخرى يعطى صورة لخراب يهوذا التى اشتهرت بتربية الأغنام ، فكان كل إنسان يملك الكثير من الرؤوس ، لكن بعد الخراب يصير للمقتدر عجلة بقر وشاتين ( إش 7 : 21 ) ، وتتحول الكروم الجيدة إلى أرض للشوك والحسك ( إش 7 : 23 ) ، إذ لا توجد أيد عاملة بسبب الحرب ...
+ + +
إشعياء – الإصحاح الثامن
مهير شـــــلال حاش بــــز
فى الإصحاح السابق تحدث الله مع آحاز الملك خلال إشعياء النبى الذى أعلن عن تدخل الله لإنقاذ أورشليم من آرام وإسرائيل ، وقد انجب النبى إبنه الأول شآرياشوب [ = البقية سترجع ] ليؤكد أن المسبيين من يهوذا يرجعون سريعا . الآن يتحدث الله مع الشعب فى ذات الأمر وتحت نفس الظروف ، وينجب النبى الإبن الثانى المدعو مهير شلال حاش بز ( = اسرع إلى السلب ، بادر إلى النهب ] ليؤكد أن اشور قادم سريعا ليسلب آرام وينهب إسرائيل منقذا أورشليم ، وفى نفس الوقت ينذر شعب يهوذا لإتكاله على أشور لا على الرب .
( 1 ) غلبة أشور على آرام وإسرائيل :
بأمر الهي أخذ إشعياء النبى لوحا كبيرا كتب عليه بحروف واضحة " مهير شلال حاش بز " وتعنى " أسرع إلى السلب ، بادر إلى النهب " . وضع إشعياء النبى اللوح فى مكان ظاهر فى الهيكل لكى يقرأه الكل ، وقد شهد كاهنان عليه هما : أوريا وزكريا ، أوريا كان رئيس كهنة فى أيام آحاز ومشيره الروحى والمشترك معه فى العبادة الوثنية . فقد أقام مذبحا على شبه الآراميين رآه حزقيا فى دمشق ، ليقدم الملك عليه ذبائح ( 2 مل 16 : 10 – 16 ) .
وقع الكاهنان على اللوح كشاهدين أن ما كتبه كان قبل حدوث الأمر .
يعلن إشعياء النبى أنه عندما يبلغ ابنه مهير شلال حاش بز حوالى سنة واحدة من عمره تتحقق النبوة ضد آرام وإسرائيل ، إذ يقول : " قبل أن يعرف الصبى أن يدعو يا أبى ويا أمى تحمل ثروة دمشق وغنيمة السامرة قدام ملك أشور " إش 8 : 4 . وقد تم ذلك بواسطة تغلث فلاسر ملك أشور ( 2 مل 15 : 29 ؛ 16 : 9 ؛ 1 أى 5 : 26 ) .
( 2 ) إنذار بنى يهـــــوذا :
إن كان الله يدافع عن خلاص أورشليم ، لكنه لا يدافع عن خطاياهم ولا يتستر عليها بل يطلب التوبة عنها والرجوع إليه .
يقول :
" لأن هذا الشعب رذل مياة شيلوه الجارية بسكوت وسر برصين وابن رمليا " إش 8 : 6
ماذا يعنى رذل الشعب مياة هذا النهر ؟ هذا يشير إلى استخفافهم بما وهبهم الله " مملكة يهوذا " متطلعين إلى ما هو لدى الغير " الأذرع البشرية " . لقد فقدوا إيمانهم بالله واهب النصرة وخشوا رصين وإبن رمليا الغريبين والمقاومين ليهوذا ملتجئين إلى من ينقذهم منهما .
هم رفضوا مجرى الماء الهادىء الذى يشير إلى الروح القدس طالبين المياة الغامرة القوية ، لذلك يؤدبهم الرب بأن :
" يصعد عليهم مياة النهر القوية والكثيرة ، ملك أشور وكل مجده " إش 8 : 7 .
لقد أنقذ تغلث فلاسر الأشورى يهوذا ، لكن سنحاريب الأشورى هجم بقوة على يهوذا وبلغ إلى العنق وحاصر الرأس أورشليم ، وكادت أن تسقط لولا تدخل الله : " يفيض ويعبر يبلغ العنق ويكون بسط جناحيه ( فرعى نهر الفرات ) ملء عرض بلادك يا عمانوئيل " إش 8 : 8 .
هكذا يسمح الله بالتأديب فتحل التجارب كالسيل الجارف لكى تبلغ إلى أعناقنا ، لكنه يحفظ الرأس ( إيماننا بالسيد المسيح رأسنا ) فوق سيول التجارب حتى لا يفنى إيماننا فنهلك ( لو 22 : 32 ) ، لأننا أرض عمانوئيل ، ملك الرب ، مهما حاول العدو أن يبسط جناحيه فى داخلنا .
( 3 ) بلاد عمانوئيل :
بينما يتحدث النبى عن الأمور الجارية فى عهده إذا بالرب يرفع أنظاره وأنظار المؤمنين نحو عمل المسيح الخلاصى. الله فى حبه يترفق بشعب يهوذا فيخلصهم من تحالف آرام وإسرائيل ضدهم ، وفى نفس الوقت إذ يخطىء الشعب بإلتجائه إلى أشور يصير أشور نفسه مقاوما لهم . هذا ما سمح به الله ، لكنه لم يسمح بإبادة يهوذا تماما ، لأن منه يخرج السيد المسيح ، الأسد الخارج من سبط يهوذا . يسمح بالغزو الأشورى يفيض حتى عنق يهوذا لكنه لا يصيب الرأس . إذ يتجسد كلمة الله من سبط يهوذا – من القديسة مريم – ويحل بيننا عمانوئيل الذى يقيم من قلوبنا أرضا أو مملكة له .. هذا ما دفع النبى إلى الإنتقال المفاجىء من مشكلة يهوذا فى عصر النبى أو بعده بقليل إلى الحديث عن القوى المتحالفة ضد عمانوئيل ، قائلا :
" هيجوا أيها الشعوب وانكسروا واصنعوا يا جميع أقاصى الأرض ، احتزموا وانكسروا . تشاوروا مشورة فتبطل .تكلموا كلمة فلا تقوم لأن الله معنا "إش 8 : 9 ، 10 .
لم يقف الأمر عند أشور الذى انهار حيث مات 185000 رجلا منهم فى المعركة وإنما يعلن النبى عن سقوط كل قوى العالم المقاومة للحق : أشور يليها بابل ثم فارس ومادى والدولة الرومانية ( إش 54 : 17 ، مى 4 : 13 ) .
وبالأكثر قصد قوات الظلمة الروحية المقاومة لمملكة المسيح . يعلن النبى أن هياج الأعداء وتحالفهم ومشوراتهم الشريرة ضد الكنيسة ، موجهة ضد عمانوئيل الحال فى وسطها ، لهذا تنهار قوات الظلمة وتتمتع الكنيسة الحقيقية بالغلبة .
هذا الصوت النبوى يصرخ ضد كل مقاومى المسيح ، معلنا ما قاله الرب نفسه لشاول :
" لماذا تضطهدنى ؟! .. صعب عليك أن ترفس مناخس " أع 9 : 4 ، 5 .
ليفعل العدو كل ما فى وسعه مقاوما المؤمنين ، فإنه إنما يحطم نفسه .
( 4 ) تشكيك وتعثر فى عمانوئيل :
يبدو أن البعض لم يصدق كلمات النبى وحسبوا ذلك فتنة سياسية أو خيانة وطنية ومقاومة للملك والسلطات .. كى لا يلجأ يهوذا إلى أشور فيهلك على أيدى الآراميين وإسرائيل . لقد أمسك الرب كما بيد إشعياء ليشدده ( إش 8 : 11 ) . يرى البعض أن إشعياء نفسه – كإنسان – مال أحيانا إلى رأى الملك ومشيريه والشعب ، لكن الله مصر أن يوضح له الطريق وإن كان مخالفا لرأى الجماعة ، لذا يقول : " لا تخافوا خوفه ولا ترهبوا ، قدسوا رب الجنود فهو خوفكم وهو رهبتكم " إش 8 : 12 ، 13 .
كل نفس أمينة فى خدمة الرب تقاوم ، لكن الرب نفسه يسندها لا لكى تعمل فحسب وإنما لكى تسند الآخرين وتشجعهم على العمل بروح الله القدوس ، متطلعين لا إلى المقاومة بل إلى مساندة رب الجنود لهم . ما أروع كلمات الرب تلك ..
ليس إشعياء وحده يقاوم ولا أيضا الأمناء من المؤمنين ، إنما يصير " عمانوئيل " نفسه مقاوما وحجر صدمة لكثيرين :
" ويكون مقدسا وحجر صدمة وصخرة عثرة لبتى إسرائيل وفخا وشركا لسكان أورشليم ، فيعثر بها كثيرون فينكسرون ويعلقون فيلقطون " إش 8 : 14 ، 15 .
إنه " مقدس " أو " حجرمقدس " بالنسبة للمؤمنين الذين يلجأون إليه ويتمسكون به لحمايتهم وخلاصهم ، هو " حجر الأساس " و " حجر الزاوية " يربط المؤمنين من اليهود مع المؤمنين من الأمم كحائطين يلتقيان معا فيه . وفى نفس الوقت هو حجر عثرة وصدمة لغير المؤمنين .
( 5 ) البقية المقدسة لله :
ما حدث مع السيد المسيح – أن رفضه أهل بيته من اليهود ولكن قبلته قلة مثل التلاميذ والرسل والمريمات وبيت لعازر – تم مع إشعياء بصورة باهتة بكونه رمزا للمسيح ، إذ صار له هو أيضا تلاميذ أمناء .
" صر الشهادة اختم الشريعة بتلاميذى " إش 8 : 16 . قبلت القلة المقدسة كلمات إشعياء النبى بكونها نبوات صادقة وكلمة إلهية ، حاسبين كلماته إعلانا عن فكر الله وإرادته المقدسة . هؤلاء دعاهم النبى تلاميذه وأيضا " الأولاد الذين أعطانيهم الرب " إش 8 : 18 .
هؤلاء يلزمهم أن يختموا أو يصروا على ما سمعوه ، لأن هذه النبوات يجب أن تبقى محفوظة حتى أزمنة العهد الجديد ، حيث تعلن للأطفال البسطاء ( مت 11 : 25 ) . ختمها أيضا يعنى الإلتزام بعدم الإضافة إليها أو الحذف منها .
ما ذكره إشعياء يبدو فى عصره أنه أمر مستحيل يجب مقاومته لهذا كان يلزمه هو وتلاميذه أن يتسلحوا بالصبر للرب ( إش 8 : 17 ) . عاشوا فى جو مقبض : الرب ساتر وجهه عن شعبه ( إش 8 : 17 ) . الأمر الذى أحزن قلب إشعياء وتلاميذه ؛ وفى نفس الوقت يتطلع إليهم الشعب كغرباء عنهم وشواذ مملوئين حماقة . فبقوله : " هأنذا والأولاد الذين أعطانيهم الرب آيات وعجائب فى إسرائيل من عند رب الجنود " إش 8 : 18 . يعنى أن إشعياء وتلاميذه أشبه بآيات وعجائب بالنسبة للشعب ، إذ يختلفون عن الكل فى إيمانهم وسلوكهم وأفكارهم نحو الرب .
( 6 ) الإلتجاء إلى العرافين :
شعر الشعب كأن الله قد حجب وجهه عنهم لهذا بدأوا يطالبون المسئولين – ربما من بينهم بعض تلاميذ إشعياء – أن يلجأوا إلى أصحاب التوابع والعرافين لطلب المشورة والتعرف على الأمور المستقبلة . يدعوهم النبى " المشقشقين والهامسين " إش 8 : 19 . لأنهم يتكلمون بصوت خافت كما من عالم آخر ليتقنوا تمثيل دورهم .
ماذا يعنى الإلتجاء إلى العرافة ؟ فقدان الإنسان كل ملجأ أو عون له ، ذلك كما حدث مع شاول الملك . شعر أنه فى عزلة عن الله ، وعن أنبيائه ، حتى الشعب تراجع عنه فلجأ إلى الموتى يسألهم خلال صاحبة العرافة .
فى اختصار سقط بنو يهوذا فى خطيتين خطيرتين هما : الإلتجاء إلى التحالف البشرى عوض الإتكال على الله ، والرجوع إلى العرافة والموتى عوض التمتع بكلمة الله الحية الواهبة استنارة وقوة .
هذه الصورة المؤلمة تعلن عن حقيقة هامة :
الحاجـة إلى مخلص الهي !
+ + +
إشعياء - الإصحاح التاسع
المــــولود العجيــب
إذ يشتد الظلام ينبلج الفجر لتشرق الشمس على الجالسين فى الظلمة ، هكذا ختم الإصحاح السابق بصورة قاتمة عن الشعب الذى صار فى ضيق شديد وظلمة ، لذا جاء هذا الإصحاح يحدثنا عن مجىء المسيا " شمس البر " الذى يبدد الظلمة ، والذى يمد يده بالحب منتظرا رجوع الكل إليه .
( 1 ) نور أشرق فى الظلمة :
جاء ختام الإصحاح السابق قاتما للغاية ، لهذا بدأ هذا الإصحاح بكلمة " ولكن " ... فإن الله لا يترك شعبه هكذا ، لكنه يريد أن يشرق عليهم بنوره .
" ولكن لا يكون ظلام للتى عليها ضيق كما أهان الزمان الأول أرض زبولون وأرض نفتالى يكرم الأخير طريق البحر عبر الأردن جليل الأمم . الشعب السالك فى الظلمة أبصر نورا عظيما . الجالسون فى أرض ظلال الموت أشرق عليهم نور " إش 9 : 1 ، 2 .
وقد تمت هذه النبوة بظهور السيد المسيح وكرازته فى جليل الأمم . يقول الإنجيلى : " لكى يتم ما قيل بإشعياء النبى القائل : أرض زبولون وأرض نفتاليم طريق البحر عبر الأردن جليل الأمم ؛ الشعب الجالس فى ظلمة أبصر نورا " مت 4: 14 – 16 .
اتسمت هذه المنطقةبالضعة ، فيقول نثنائيل : " أمن الناصرة يمكن أن يكون شىء صالح ؟! " يو 1 : 46 . لعل هذا يرجع إلى أن هذه البقعة . ( جليل الأمم ) تقع على حدود الأمم ، فكانت معرضة للغزوات ، وبسبب اختلاطها بالأمم الوثنية المجاورة أخذت الكثير عن العادات الوثنية وظلت فترات طويلة فى انحلال روحى ، لذلك وصفها النبى : " الشعب الجالس فى الظلمة " .
+ سكن فى الجليل حتى يرى الجالسون فى الظلمة نورا عظيما
+ فلير الجالسون فى ظلمة الجهل نور كمال المعرفة العظيم ،
الأمور القديمة عبرت ، هوذا الكل قد صار جديدا ( 1 كو 5 : 17 ) ،
الحرف انتهى وتقدم الروح ، الظلال هربت وجاء إليهم الحق .
القديس غريغوريوس النزينزى
+ بالإيمان يخرجون من الظلمة وموت الخطية إلى النور والحياة .
القديس أغسطينوس
+ يشرق نور اللوغوس الذى هو الحياة فى ظلام نفوسنا ،
يأتى إلى حيث يوجد رؤساء هذه الظلمة المقاومين لجنس البشر
لإخضاعهم للظلمة ، هؤلاء الرؤساء لا يثبتون فى
قوتهم إذ يشرق عليهم النور الذى جاء ليجعل من البشر أبناء للنور .
العلامة أوريجانوس
الله لا يسمح للظلمة أن تدوم إنمايشرق بنوره .. فماذا يحدث ؟
أ – " أكثرت الأمة " إش 9 : 3 ، بالرغم من سقوطها تحت التأديب بضربات قاسية لكنها تنمو وتكثر برحمة الله ونعمته .
ب – " عظمت الفرح " إش 9 : 3 تفرح الأمة كما فى يوم الحصاد أو يوم التمتع بغنيمة ، وكأن سر فرحها هو الحصاد الكثير والغلبة أو النصرة على العدو . .. عدو الخير .
الفرح هوسمة كنيسةالعهد الجديد المتهللة بالحياة الإنجيلية وسط الآلام ، تفرح من أجل حصادها المستمر لنفوس كثيرة لحساب ملكوت الله ، وتتمتع بغنيمة النصرة على عدو الخير .حياتها تهليل مستمر من أجل النفوس التائبة والمتمتعة بالخلاص ومن أجل نصراتها غير المنقطعة .
جـ - التمتع بحرية مجيدة :
" لأن نير ثقله وعصا كتفه وقضيب مسخره كسرتهن كما فى يوم مديان " إش 9 : 4 .
تتحرر من النير الثقيل والعصا وقضيب السخرة ، كرمز للحرية والخلاص من عبودية إبليس خلال الصليب ، فلم يعد لإبليس أو قواته سلطان على المؤمن المتمتع بحرية مجد أولاد الله .
( 2 ) المولود العجيب :
سر تمتع الأمة بالنمو المستمر والفرح الدائم مع الحرية المجيدة هو مجىء المسيا كمخلص وغال ومنتصر باسم البشرية ضد الأعداء . جاء إبن الله متأنسا ليحمل نير الصليب بإسمنا فيهبنا كل امكانيات الخلاص . إذ يقول النبى : " لأنه يولد لنا ولد ونعطى إبنا ، وتكون الرئاسة على كتفه ويدعى إسمه عجيبا مشيرا إلها قديرا أبا أبديا لنمو رياسته وللسلام لا نهاية على كرسى داود وعلى مملكته ليثبتها ويعضدها بالحق والبر من الآن وإلى الأبد ، غيرة رب الجنود تصنع هذا " إش 9 : 6 ، 7 .
كانت البشرية المؤمنة تترقب التجسد الإلهى حيث يأتى إبن الله الذى هو الخالق واهب الحياة ومجدها ليقيم طبيعتنا الميتة الفاسدة إلى صلاحها الذى خلقت عليه ، بإعادة خلقتها وتجديدها المستمر فيهبها استمرارية الحياة مع الفرح والحرية .
أ – " لأنه يولد ولد ونعطى ابنا " ، أى يتأنس فيصير ابن الله إبن الإنسان ، ويحسب ولدا ، يحمل طبيعتنا الناسوتية حقيقة فى كمال صورتها بغير انفصال عن لاهوته ودون امتزاج أو خلط أو تغيير . يشاركنا حياتنا البشرية ما عدا الخطية ويبقى كما هو " إبن الله " ... يقول الرسول : " فإذ قد تشارك الأولاد فى اللحم والدم اشترك هو أيضا كذلك فيهما لكى يبيد بالموت ذاك الذى له سلطان الموت أى إبليس " عب 3 : 14 .
ب – " وتكون الرئاسة على كتفه " ، فقد ملك على خشبة كقول المرتل ، خشبة الصليب التى حملها على كتفه بكونها عرش حبه الإلهى .
ج – " يدعى اسمه عجيبا " ، لأنه فائق الإدراك ، أعطى اسما فوق كل اسم لكى تجثو باسمه كل ركبة ممن فى السماء وممن على الأرض ومن تحت الأرض ( فى 2 : 9 – 11 )
د – " مشيرا " ، بكونه " حكمة الله " 1 كو 1 : 24 ، المذخر فيه جميع كنوز الحكمة والعلم ( 1 كو 2 : 3 ) . جاءت الترجمة السبعينية " رسول المشورة العظيمة " ... ما هى هذه المشورة العظيمة التى أرسله الآب من أجلها ؟ اعلان السر الإلهى للبشر ، والكشف عن الآب الذى لا يعرفه إلا الإبن ومن أراد الإبن أن يعلن له .
هـ - " إلها قديرا " : إله حق من إله حق ، واحد مع الآب فى الجوهر ، القادر وحده أن يجدد طبيعتنا بكونه الخالق ، والشفيع الذى يقدر وحده أن يكفر عن خطايا العالم كله .
و- " أبا أبديا " يلحق اللقب " إله قدير " بـ " أب أبدى " ، ليعلن أن قدرة السيد المسيح ، الإله الحق ليست فى إبراز جبروت وعظمة إنما بالحرى فى تقديم أبوة حب فريدة نحو البشرية ، خلالها ننعم بقدرة المسيح فينا .
ز- " رئيس السلام " ، هو ملك السلام ( 1 تس 5 : 33 ) ، الذى يقدم لنا دمه من أجل مصالحتنا مع الآب ، فنحمل سلاما داخليا معه ( رو 5 : 1 ) ، سلاما مع الله ومع أنفسنا ومع إخوتنا ، محطمين سياج العداوة الداخلية والخارجية .
فى اختصار يعلن إشعياء النبى عن هذا المولود العجيب القدير ، الذى لا يخلص آحاز من مقاومة أعدائه إنما يقيم مملكة جديدة أساسها كرسى داود .
( 3 ) اليــد الممدودة :
كلمة الله فى محبته غير المحدودة يتنازل ليصير إنسانا لكى يضىء للجالسين فى الظلمة ، يشرق عليهم بنوره الإلهى واهبا إياهم نور المعرفة ،مقدما لهم حياته سر فرح وتهليل ونصرة مستمرة ،أما الإنسان –فعلى العكس – يتشامخ بالكبرياء ، حاسبا فى نفسه أنه قادر بذراعه البشرى على تحقيق الخلاص .
فى هذا الفصل ثلاثة أبيات شعرية فى العبرية تنتهى بالعبارة : " مع كل هذا لم يرتد غضبه بل يده ممدودة بعد " إش 9 : 12 ، 17 ، 20 ( أيضا إش 10 : 4 ) .
يرى البعض أن هذه اليد الإلهية الممدودة علامة على دعوة الله للإنسان كى يقترب إليه ويلتقى معه ويتحد به . وأيضا علامة حماية الله له ، وكأنه يؤكد له أنه مهما بلغت العقبات فيد القدير ممدودة لتخلصه من كل شر وتنقذه من المرارة والضيق ، كما هى علامة على التأديب الإلهى النابع عن الحب ، يمد يده ليضغط على الإنسان فيرجع إلى نفسه ويطلب الله معينه .
الله – فى محبته – سمح بالضيق لمملكة إسرائيل ( افرايم ) لكن عوض التوبة تشامخوا بالأكثر . هذا ما كشفه النبى بقولـه : " القائلون بكبرياء وبعظمة قلب ، قد هبط اللبن فنبنى بحجارة منحوتة ؛ قطع الجميز فنستخلفه بأرز " إش 9 : 10
يرى البعض أن النبى يتحدث هنا عن الزلزلة التى حدثت فى أيام عزيا ، والتى يبدو أنها كانت عامة ( عا 1 : 1 ؛ زك 14 : 5 ) ، بسببها سقطت معظم بيوت السامرة وافرايم وكثرت الضحايا ، فصاروا يتهكمون على قضاء الله معلنين أنه وإن كان قد سمح بهدم بيوتهم المصنوعة من اللبن وسقوط أشجار الجميز ، فإنهم يقيمون قصورا مصنوعة من الحجارة المنحوتة ويغرسون أشجار أرز لا يقدر الزلزال أن يهدمها أو يزيلها . وكأنهم بهذا يكررون ما فعله الإنسان عندما شرع فى بناء برج بابل ليكون رأسه فىالسماء ( تك 11 : 3 ، 4 ) .
يرد إشعياء النبى على ذلك بإعلان تأديب الله الأكثر شدة ، فإنهم ماداموا لم يرتعدوا بالزلزلة فسيسمح بهياج العدو " رصين " ملك آرام ، ويهيج أيضا أعداءه ( ربما قصد أشور الذى هاجم إسرائيل وفيما بعد انقلب على يهوذا ) .
" فيأكلون إسرائيل بكل الفم " إش 9 : 12 . لكن تبقى مراحم الله تنتظر رجوعهم ، إذ يكمل حديثه : " مع كل هذا لم يرتد غضبه بل يده ممدودة بعد " إش 9 : 12 .
( 4 ) تأديبات الرب لهم :
يبقى الشعب متحجر القلب لهذا :
" يقطع الرب من إسرائيل الرأس والذنب ، النخل والأسل ( الحلفاء أو القش ) فى يوم واحد " إش 9 : 14 .
أ – ينتزع رؤساء الشعب مهما كانت منزلتهم ( الرأس ، النخل ) .
ب – ينتزع الأنبياء الكذبة ( الذنب ، الأسل ) .
جـ - إبادة المرشدين لأنهم مضلون ( إش 9 : 16 ) .
د – لا يرق للفتيان بسبب صغر سنهم ، ولا للأيتام أو الأرامل مع أنه " أبو اليتامى وقاضى الأرامل " مز 68 : 5 ... فقد اشترك الكل معا فى الشر مع عناد وعجرفة وحماقة ( إش 9 : 17 ) . كان الملوك الأشوريون فى غاية القسوة : تغلث فلاسر لم يترفق بالصغار ولا بالأرامل أو الأيتام فى افرايم .
هـ - يتحول الشعب كله إلى أشبه بغابة تحترق بنار الغضب الألهى ( إش 9 : 19 ) ، ليس لأن الله ينتقم لنفسه وإنما لأن فجورهم نار مدمرة ( إش 9 : 18 ) .
ز – تتحول الأمة إلى حالة من الفوضى قانونها العنف والظلم وعدم التشبع ، تسودها حروب أهلية دموية مدمرة : " لا يشفق الإنسان على أخيه ، يلتهم على اليمين فيجوع ، ويأكل على الشمال فلا يشبع ، يأكلون كل واحد لحم ذراعه ( أى جاره أو قريبه ) " إش 9 : 19 ، 20 .. هذه صورة بشعة لمجتمع شريعته الحرب والعنف والأنانية مع الجشع .
ح – لا يقف التطاحن على الأفراد وإنما يتسلل إلى الأسباط نفسها فيتحالف سبط مع آخر ضد ثالث وهكذا :" منسى أفرايم وأفرايم منسى ، وهما معا على يهوذا " إش 9 : 21 .
" مع كل هذا لم يرتد غضبه بل يده ممدودة بعد " إش 9 : 21 .
+ + +
إشعياء – الإصحاح العاشر
هجوم آشور على يهوذا ومعاقبة آشور
يحوى هذا الإصحاح ويلين ، الويل الأول ضد رؤساء الشعب بسبب شرهم ، والثانى ضد أشور لأن الله سمح له بغزو يهوذا للتأديب فإذا به ينتفخ على الله ويجدف عليه ، حاسبا أن آلهته غلبت إله إسرائيل .
يرى البعض أن هذا الإصحاح كتب فى السنوات الأولى من حكم حزقيا ملك يهوذا ، بعد سقوط السامرة فى يد سرجون ملك آشور ( إش 10 : 11 ) .
( 1 ) الويل الأول ضد القيادات 1 – 4
يرى البعض أن الويل الموجه ضد القيادات هنا هو تكملة لما ورد فى الإصحاح السابق عن كبرياء إسرائيل ، ويدللون على ذلك أنه انتهى أيضا بالعبارة التى تكررت قبلا : " مع كل هذا لم يرتد غضبه بل يده ممدودة بعد " ( إش 9 : 12 ، 17 ، 21 ؛ 10 : 4 ) ، بهذا يكون الحديث موجها ضد قيادات الأسباط العشرة ( إسرائيل ) . غير أن تكملة الحديث موجه إلى أورشليم عاصمة يهوذا لهذا يرى بعض الدارسين أن ما ورد هنا ينطبق على قيادات المملكتين لأنهما تشابهتا فى الشر .
يكشف الله تصرفات القادة الجائرة ، التى تتركز فى القضاء بالباطل والحكم بالظلم ( إش 10 : 1 ) ، يدون الضعفاء عن التمتع بحقوقهم المسلوبة ، ويسلبون حق البائسين خاصة الأيتام والأرامل ( إش 10 : 2 ) : وكما يقول الحكيم : " ثم رجعت ورأيت كل المظالم التى تجرى تحت الشمس فهوذا دموع المظلومين ولا معز لهم ومن يد ظالميهم قهر " جا 4 : 1 .
الآن إذ يدرك إشعياء عدل الله خاصة فى دفاعه عن الضعفاء يسأل هؤلاء القادة : " وماذا تفعلون فى يوم العقاب حين تأتى التهلكة من بعيد ؟ إلى من تهربون للمعونة ؟ وأين تتركون مجدكم ؟ إما يجثون بين الأسرى وإما يسقطون تحت القتلى " إش 10 : 3 ، 4 . العقاب قادم لا محالة خاصة تجاه القيادات الدينية والمدنية .
ومع هذا كله لا زال الله يمد يد محبته ليخلصهم من شرهم : " مع كل هذا لم يرتد غضبه بل يده ممدودة بعد " إش 10 : 4 .
( 2 ) الويل الثانى ضد أشور : 5 – 19
سبق أن تحدث النبى عن قوة أشور العسكرية وجبروته ونصرته حتى على شعب الله ، كما أكد أن ما حل بالشعب هو بسماح الهي للتأديب ، لكن أشور تعظم على الله وحسب بغلبته هذه أنه غلب إله هذا الشعب وأذله ... لهذا يعود الله فيؤدب أشور نفسه المتعالى والمتعجرف .
اعتاد إشعياء النبى أن يتحدث بجرأة وصراحة فبينما يدعو أشور قضيب غضب الله وعصاهم هى سخط الرب ( إش 10 : 5 ) ، لكون أشور أداة لتحقيق تأديبات الرب ، نجده يدعو شعب الله " أمة منافقة " و " شعب سخط الله " إش 10 : 6 ، لأن هذا الشعب قد حمل صورة العبادة من الخارج بينما دب الفساد فى حياتهم الداخلية .
لم يدرك أشور هذه الحقيقة أنه مجرد أداة للتأديب ( إش 10 : 7 ) إنما فى كبرياء قال :
" أليست رؤسائى جميعا ملوكا ؟! " ( إش 10 : 8 . بمعنى أن الولاة الذين يقيمهم ملك أشور تحت قيادته هم جميعا ملوك ، فماذا يكون مركزه هو ؟! إنه ملك الملوك !!
قال أيضا : " أليست كلنو مثل كرمشيش ؟! أليست حماة مثل أرفاد ؟! أليست السامرة مثل دمشق ؟! " إش 10 : 9 .
هكذا لم تقف أمام أشور أعظم مدن الحثيين أو الأراميين ، فهل تقف أمامه مدن يهوذا وإسرائيل ؟! لقد حسب أشور نفسه أنه غلب آلهة الأمم وأوثانها التى تحميها فلن يقف إله إسرائيل أو يهوذا قدامه ( إش 10 : 10 ، 11 ) ، ظانا أنه على ذات مستوى هذه الأصنام .
لقد سمح الله له بذلك ، لكنه يعود فيؤدب أشور على سخريته به : " فيكون متى أكمل السيد كل عمله بجبل صهيون وبأورشليم إنى أعاقب ثمر عظمة قلب ملك أشور وفخر رفعة عينيه ، لأنه قال : بقدرة يدى صنعت وبحكمتى ، لأنى فهيم ، ونقلت تخوم شعوب ونهبت ذخائرهم وحططت الملوك كبطل ، فأصابت يدى ثروة الشعوب كعش وكما يجمع بيض مهجور أنا كل الأرض ولم يكن مرفرف جناح ولا فاتح فم ولا مصفصف " إش 10 : 13 ، 14 .
هكذا ظن أشور أنه بقدرته وحكمته صنع أعمالا خارقة ...
لم يدرك أشور أنه كان فأسا أو منشارا يستخدمه الله للتأديب ، فتشامخت الأداة على من يستعملها . لذلك يقوم الله بتأديبه هكذا :
أ – يرسل على " سمانه " ، أى أبطال جيشه الجبابرة ، هزالا ( إش 10 : 16 ) .
ب – يوقد تحت " مجده " ، أى جيشه ، وقيدا كوقيد النار ( إش 10 : 16 ) ، فتلتهمه ليصير رمادا . يصير الله " نور إسرائيل " نارا آكلة لأشور ، والقدوس لهيبا يحطم العدو ( إش 10 : 17 ) . بمعنى آخر الله الذى هو نور للمؤمنين وسر تقديس لحياتهم يكون نارا آكلة ولهيبا للأشرار المقاومين .
ج ـ يفنى جيشه فيبقى عدد قليل ( أشجار وعرة ) يستطيع صبى أن يكتب اسماءهم ( إش 10 : 19 ) ، هذا من جهة العدد أما من جهة القوة فيفقدون طاقتهم النفسية والجسدية ويكونون كمسلول يذوب ( إش 10 : 18 ) .
( 3 ) الناجون من إسرائيل 20 – 23
كثيرا ما تحدث الأنبياء عن " البقية " التى تخلص ، قصدوا بها القلة القليلة التى تبقى أمينة للرب وسط انهيار القيادات الدينية وفساد القضاة والرؤساء والشعب أيضا . هذه البقية التى تنجو من ظلم أشور لا تفرح بعودتها إلى أورشليم إنما هو أعظم ، تفرح بلقائها مع الله القدير نفسه ( إش 10 : 21 ) .
اقتبس الرسول بولس قول إشعياء النبى ( 10 : 22 ، 23 ) قائلا : " وإشعياء يصرخ من جهة إسرائيل وإن كان عدد بنى إسرائيل كرمل البحر فالبقية ستخلص ، لأنه متمم أمر وقاض بالبر ، لأن الرب يصنع أمرا مقضيا به على الأرض " رو 9 : 27 ، 28 .
كان هذا القول يحمل نبوة عن المسبيين إذ كانوا كثيرين جدا بالنسبة للقلة القليلة التى تنجو من الأسر ... وأن الله سمح بذلك ، طبق الرسول هذه النبوة بصورة أشمل على العصر المسيانى حيث يؤسر عدد كبير جدا من اليهود تحت الجحود رافضين الإيمان بالمسيا ، وقليلون هم الذين يخلصون بقبولهم المسيا المخلص ، وقد سمح الله بذلك لأجل البر ، ليفتح الباب للأمم .
( 4 ) لا تخف يا شعبى : 24 – 27
يرى بعض الدارسين أن النبوة هنا تشير إلى الحدث التالى : عندما رفض حزقيا بن آحاز وخليفته دفع الجزية هاجم سنحاريب الأشورى يهوذا بجيش قوى وحاصر أورشليم وكان على وشك استلام المدينة ، لكن الله أمر بخلاصها . قتل الجيش وهرب سنحاريب حيث قتله أبناؤه .
يطالب الله شعبه ألا يخاف من أشور فإنه سيباد ، إذ يقيم الله عليه سوطا ( إش 10 : 26 ) ، يضربه بملاكه ضربة قاتلة ( 2 أى 32 : 21 ) ، كما سبق فضرب غراب أمير مديان ( قض 7 : 25 ، مز 83 : 11 ) ، وكما ضرب فرعون وجنوده فى بحر سوف خلال عصا موسى ( إش 10 : 26 ) ، هكذا يبيد الله أشور لينزع هذا النير عن كتف شعبه ( إش 10 : 27 ) وعن عنقه بسبب السمانة ( الدهن ) ، لأجل المسحة المقدسة التى نالها داود الملك وبنوه من بعده .
( 5 ) الغزو الأشورى ليهوذا : 28 – 32
قبل الحديث عن سقوط أشور تحدث النبى عن الغزو الأشورى ليهوذا ليوضح قدراته الحربية الجبارة وسرعة تقدمه نحو أورشليم العاصمة مع ضعف مقاومة يهوذا بل وانعدامها ، وكيف ارتعب يهوذا وارتعد ( إش 10 : 28 – 32 ) . قدم النبى وصفا شاعريا يكشف عن مرارة مدن يهوذا ، لكن أشور يتوقف عند نوب ( مدينة للكهنة تقع فى شمال أورشليم ) ، ربما ليستريح الجيش ويستعد لمواجهة أورشليم . لقد وقف سنحاريب هناك ليرفع يده ويمدها مهددا أورشليم ( إش 10 : 32 ) فظهر كشجرة شامخة منعجرفة . هدد بسحق أورشليم ولم يدرك أن الله قد سمح بسحقه هو ولينزع عنه أغصانه التى يتشامخ بها .
( 6 ) سقوط أشور 33 – 34
يعلن الله تحطيم أشور تماما ، فإنه يقضب أغصانه بل وينتزع أصوله لينهار تشامخه وينتزع أصوله لينهار تشامخه وينزل مجده إلى التراب ( إش 10 : 33 ، 34 ) ، هذه هى ثمرة الكبرياء !
إشعياء – الإصحاح الحادى عشر
المسيا والعصر المسيانى
لم يكن ممكنا لإشعياء النبى أن ينحصر فى الأحداث المعاصرة له ولا الخاصة بالمستقبل القريب بالنسبة له وإنما اتجه نحو الخلاص الأبدى ، ليرى عمل الله العجيب لا بسقوط أشور ولا بعودة القلة الأمينة إلى يهوذا ، وإنما بسقوط عدو الخير إبليس واجتماع المؤمنين من اليهود والأمم كأعضاء فى جسد واحد يتمتعون بالملكوت المسيانى العجيب .
( 1 ) ظهور ابن يسى :
فى الإصحاح التاسع تحدث عن المخلص بكونه المولود العجيب : " لأنه يولد لنا ولد .. ويدعى اسمه عجيبا مشيرا إلها قديرا أبا أبديا " إش 9 : 6 ،
أما هنا فيؤكد ناسوته بكونه الملك ابن يسى : " ويخرج قضيب من جذع يسى وينبت غصن من أصوله " إش 11 : 1 .
لم يقل ابن داود مع أنه شرعا هو أبن داود ، لكنه أراد تقديمه بصورة متواضعة جدا ، كقضيب وغصن من يسى الذى عاش ومات قليل الشأن . والعجيب أن نسل داود الملك ضعف جدا حتى جاء يوسف والقديسة مريم فقراء للغاية .
بينما يتحدث الوحى فى الإصحاح السابق عن أشور – يمثل عدو الكنيسة – كأغصان مرتفعة وقوية ( إش 10 : 33 ) يظهر المسيا كقضيب أو غصن متواضع . أراد أن يسحق الكبرياء محطم البشرية بإتضاعه . وكما تقول عنه الكنيسة فى جمعة الصلبوت : " أظهر بالضعف ( الصليب ) ما هو أعظم من القوة "
+ هذا هو المسيح ، فقد حبل به بقوة الله بواسطة عذراء من نسل يعقوب ، أب يهوذا ، وأب اليهود ، من نسل يسى ..
( 2 ) المخلص وروح الرب :
" ويحل عليه روح الرب ، روح الحكمة والفهم ، روح المشورة والقوة ، روح المعرفة ومخافة الرب " إش 11 : 2
إذ جاء السيد المسيح ممثلا للبشرية حل عليه الروح القدس الذى ليس بغريب عنه ، لأنه روحه . حلول الروح القدس على المسيح يختلف عن حلوله علينا ؛ بالنسبة له حلول أقنومى ، واحد معه فى ذات الجوهر مع الآب ، حلول بلا حدود .
كلمة الله هو الحكمة عينها والفهم والقوة .. فحلول الروح القدس ليس حلولا زمنيا بل هو اتحاد أزلى بين الأقانيم الثلاثة . بالتجسد الإلهى قبل ربنا يسوع ظهور الروح القدس حالا عليه لكى يهبنا نحن فيه ، كأعضاء جسده ، عطية الروح القدس واهب الحكمة والفهم والمشورة والقوة والمعرفة ومخافة الرب .
ربما يسأل البعض : لماذا حل الروح القدس على السيد المسيح عند عماده ؟
نقول : الروح القدس هو الذى شكل ناسوت السيد المسيح منذ لحظة البشارة بالتجسد الإلهى . ولما كان لاهوت السيد لم يفارق ناسوته ، لم يكن الناسوت قط فى معزل عن الروح القدس . ولا فى حاجة إلى تجديد الروح له ، لأنه لم يسقط قط فى خطية ولا كان للإنسان القديم موضع فيه ، إنما طلب السيد أن يعتمد " لكى يكمل كل بر " ، أى يقدم لنا برا جديدا نحمله فينا خلال جسده المقدس . حلول الروح عليه فى الحقيقة كان لأجل الإنسانية التى تتقدس فيه ، فتقبل روحه القدوس .
( 3 ) أعمال المخلص :
" ولذته تكون فى مخافة الرب ، فلا يقضى بحسب نظر عينيه ولا يحكم بحسب سمع أذنيه ، بل يقضى بالعدل للمساكين ، ويحكم بالإنصاف لبائسى الأرض ، ويضرب الأرض بقضيب فمه ، ويميت المنافق بنفخة شفتيه " إش 11 : 3 ، 4 .
أ – يقدم لنا السيد المسيح صورة حية عن التعامل مع الآخرين ، وهى ألا تقوم على المظاهر الخارجية المجردة ، وألا تكون حواسنا هى الحكم خاصة الشم والنظر والسمع .
يقول " لذتهHis breath تكون فى مخافة الرب " إش 11 : 3 .
العبيد والأجراء يخافون سادتهم لئلا يقتلوهم أو يحرموهم الأجر أو المكافأة ، أما الأبناء فيخافون لئلا تجرح مشاعر آبائهم . هذا الخوف السامى الذى يهبه روح الرب لنا حتى نهاب الله ليس خشية العقوبة ولا الحرمان من المكافأة وإنما لأننا أبناء لا نريد أن نجرح مشاعر محبته .
ب – " لا يقضى بحسب نظر عينيه " إنما حسب الأعماق الداخلية بكونه فاحص القلوب والعارف بالأفكار والنيات . لقد وقف السيد المسيح حازما ضد القيادات الدينية التى تحكم بالمحاباة ، أى يأخذون بمظهر الناس وليس بعدل القضاء .
جـ - رفض الوشايات البشرية " لا يحكم بحسب سمع أذنيه " إش 11 : 3 .
د – اهتمامه بالمساكين والبائسين والمظلومين ( إش 11 : 4 ) .
هـ - " ويضرب الأرض بقضيب فمه " إش 11 : 4 . جاء رب المجد يضرب بكلمته ( قضيب فمه ) أو بسيف فمه ( رؤ 2 : 16 ؛ 19 : 6 ) ، سيف الكلمة ذى الحدين ( عب 4 : 3 ) كل من التصق بمحبة الأرضيات فصار أرضا . غايته أن يحطم فينا محبة الزمنيات ليرفع كل طاقاتنا نحو السمويات .
و – " ويكون البر منطقة متنيه والأمانة منطقة حقويه " إش 11 : 5
جاء ربنا يسوع المسيح إلى العالم ملكا روحيا لا يشارك العالم خاصة الأغنياء مظهرهم فى اللباس والمظاهر البراقة ، يتمنطق بالبر والأمانة علامة غناه وجماله بكونه القدوس واهب الحياة القدسية ، جاء كخادم يتمنطق لكى يغسل الأقدام البشرية حتى يظهر كل من يقبل إليه .
( 4 ) سمات العصر المسيانى :
بعد أن تحدث عن عمل السيد المسيح استطرد ليتحدث عن العصر المسيانى ، مقدما لنا صورة حية عنه أبرزها اتسام البشرية المؤمنة بالأتحاد معا فى جسد واحد ، يحملون طبيعة الحب والسلام ...
يصور هذا العصر قائلا :
" فيسكن الذئب مع الخروف " إش 11 : 6 ... لا يوجد تضاد أعظم من هذا ، يسكن سافك الدم مع الحمل الوديع العاجز عن الدفاع عن نفسه . يحملان طبيعة جديدة دستورها الحب والوفاق . صار الكل قطيعا واحدا يحمل الخليقة الجديدة التى فى المسيح يسوع .
" ويربض النمر مع الجدى " إش 11 : 6
" والعجل والشبل والمسمن معا ؛ وصبى صغير يسوقها " إش 11 : 7
قطيع عجيب غير متجانس ، تحت قيادة عجيبة . هذا الصبى الصغير يشير إلى القيادات الروحية الكنسية التى تستطيع بروح البساطة أن تخلق بروح الرب من المؤمنين القادمين من أمم وشعوب مختلفة والذين يحملون مواهب متعددة قطيعا وديعا يخضع بروح الإنجيل كما لصبى صغير .
" والبقرة والدبة ترعيان ، تربض أولادهما معا ، والأسد كالبقر يأكل تبنا " إش 11 : 7
البقرة تشير إلى اليهود لأنها من الحيوانات الطاهرة ، والدبة تشير إلى الأمم والشعوب الوثنية إذ هى مفترسة ( عنيفة ) وكأنه من سمات العصر المسيانى أن يجنمع أعضاء من أصل يهودى مع أصل أممى فى رعية واحدة تحت قيادة راعى واحد .
والأسد إذ فقد طبعه الوحشى وتغيرت طبيعته فصار كالحيوان المستأنس لا يطلب لحما بل تبنا .
" ويلعب الرضيع على سرب الصل ، ويمد الفطيم يده على جحر الأفعوان " إش 11 : 8 .
فى اختصار عمل السيد المسيح هو تغيير الطبيعة البشرية الشرسة خلال خدامه المتسمين بروح الوداعة ، فتحمل الكنيسة كلها – خداما ومخدومين – روح الحب والوحدة . بهذا لا يصيب الكنيسة – جبل قدس الرب – فساد " لأن الأرض تمتلىء من معرفة الرب ، كما تغطى المياة البحر " إش 11 : 9 .
( 5 ) سلام بين الشعوب :
أ – جاء السيد المسيح ليقيم ملكوته من كل الأمم والشعوب ، واهبا سلاما للمؤمنين الحقيقيين " ويكون فى ذلك اليوم أن أصل يسى القائم راية للشعوب إياه تطلب الأمم ويكون محله مجدا " إش 11 : 10 .
يقول " إياه تطلب الأمم " إنه مشتهى الشعوب ، بحث عنه اليونانيون ( يو 12 : 20 ، 21 ) ؛ وأرسل قائد المئة كرينليوس الأممى إلى بطرس لكى يسمع عن السيد المسيح ( أع 10 )
" ويكون محله مجدا " جاء فى الترجمة اليسوعية " يكون مثواه مجدا " ، لعله يقصد أن صليبه الذى كان عارا صار بقيامته مجدا ، إذ صار قبره الفارغ مقدسا للمؤمنين فيه يدركون حقيقة مسيحهم واهب الحياة والقيامة .
ب – ضم السيد المسيح إلى كنيسته البقية التى قبلت الخلاص ، وقد جاءت من أماكن متفرقة ( أع 2 ، يع 1 : 1 ، 1 بط 1 : 1 ) . لذلك يقول النبى : " ويكون فى ذلك اليوم أن السيد يعيد يده ثانية ليقتنى بقية شعبه التى بقيت من أشور ومن مصر ومن فتروس ( مصر العليا ) ومن كوش ومن عيلام ( مملكة فى شرق نهر دجلة وشمال شرقى الخليج الفارسى ) ومن شنعار ( سهل بابل ) ومن حماة ومن جزائر البحر " إش 11 : 11 .
تحققت هذه النبوة فى عيد العنصرة وأيضا خلال خدمة الرسل وعبر الأجيال ، وستتحقق مرة أخرى بصورة أوسع فى الأيام الأخيرة حينما يقبل اليهود الإيمان بالسيد المسيح كقول الرسول بولس ( رو 11 : 11 – 27 ) .
فى ذلك اليوم ينضم قابلو الإيمان القادمون من اليهود إلى الكنيسة التى سبق أن ضمت الأمم ويكون الكل أعضاء فى جسد واحد : " ويرفع راية للأمم ويجمع منفيى إسرائيل ويضم مشتتى يهوذا من أربعة أطراف الأرض " إش 11 : 12 .
ح – يقدم الأتحاد الذى تم بين اسرائيل ( إفرايم ) ويهوذا عند عودتهم من السبى بع أن استحكمت النزاعات بل والعداوة بينهما قرونا طويلة صورة للأتحاد بين الأمم واليهود ( إش 11 : 13 ) .
فى القديم كان الفلسطينيون وبنو المشرق وأدوم وعمون وموآب ومصر مقاومين للشعب لذا وهب الله شعبه إمكانية النصرة عليه ( إش 11 : 14 – 16 ) ، أما فى العهد الجديد فتكون الغلبة لا بانتصارات حربية وإنما بقبول هذه الأمم للإيمان الحى فتصير أدوات للبناء لا للمقاومة والهدم . الله الذى سبق فحول البحر لخلاص شعبه إذ أجازهم فيه بعد أن فتح لهم فيه طريقا للعبور هكذا يجفف كل مقاومة فى قلوب الأمم لينفتح طريق الملكوت المسيانى .
بمعنى آخر الذى أصعد شعبه من مصر مجتازا بهم وسط مياة البحر الأحمر ، هو الذى يعبر بهم من أشور بعد السبى ( إش 11 : 16 ) ، وهو الذى يعبر بالأمم إلى ملكوته بالرغم من كل العقبات والصعوبات التى تقف أمامهم .
+ + +
إشعياء – الإصحاح الثانى عشر
تسبحة المفديين
اجتاز إشعياء النبى حالة الضيق التى أصابت نفسه بسبب ما بلغ إليه الشعب من فساد ، الأمر الذى لأجله سمح الله بتأديبه بواسطة أشور وتلامس مع عمل الله الخلاصى لا بإعادة المسبيين إلى يهوذا وإنما ما هو أعظم : ظهور ابن يسى راية للأمم يجمع بحبه الفائق مؤمنيه من كل الشعوب ليتمتعوا بسلامه السماوى . لم يكن أمام النبى إلا أن يسجل على لسان هؤلاء المفديين بدم المخلص تسبحة مفرحة تعتبر امتدادا للنبوة الواردة فى الإصحاح السابق التى تشدو بمجد المسيح وشخصه وعمله وملكوته وشعبه .
( 1 ) مراحم الله وسط غضبه :
" وتقول فى ذلك اليوم : أحمدك يارب لأنه إذ غضبت على ارتد غضبك فتعزينى " إش 12 : 1 .
تبدأ الترنيمة الجديدة التى ينطق بها كل من يتمتع بعمل السيد المسيح الخلاصى بالكلمات :
" وتقول فى ذلك اليوم " . أى يوم هذا ؟
إنه يوم الصليب أو يوم الكفارة العظيم الذى فيه نحمد الرب الذى حول الغضب إلى خلاص وتعزية ومجد . لقد تجسم الغضب الإلهى على الخطية التى نرتكبها بصلب السيد المسيح – كلمة الله المتجسد – ليرفعنا من الغضب إلى المجد .
ظهرت تعزيات الله العجيبة إذ حررنا لا من السبى البابلى وإنما من أسر إبليس وجنوده وأعماله الشريرة ليملك البر فينا .
( 2 ) يهوه سر خلاصنا وقوتنا وفرحنا :
" هوذا الله خلاصى فأطمئن ولا أرتعب ، لأن ياه يهوه قوتى وترنيمتى ، وقد صار لى خلاصا ، فتستقون مياها بفرح من ينابيع الخلاص " إش 12 : 2 ، 3
اقتبست الكنيسة القبطية جزءا من هذه التسبحة لتنشدها للرب المصلوب فى يومى خميس العهد وجمعة الصلبوت ، وهو : " قوتى وتسبحتى ( ترنيمتى ) هو الرب ، وقد صار لى خلاصا . الله هو سر قوتنا وتسبيحنا وخلاصنا ! فى وسط مشاركة الكنيسة عريسها آلامه تسبح وتنشد ؛ أما تسبحتها أو أنشودتها فهو المسيح نفسه ، هو كل شىء بالنسبة لها .
بالمسيح المصلوب عرفنا الهتاف ( مز 89 : 15 ) ؛ هتاف الغلبة على إبليس وأعماله الشريرة ! هتاف الخلاص الذى به ننتقل من الشمال إلى اليمين ننعم بشركة الملكوت السماوى المفرح .
بالصليب تفجر ينبوع دم وماء من الجنب المطعون لنتقدس ونتطهر ، ولكن نشرب ونفرح ، إذ وجدنا ينبوع خلاصنا الأبدى .
هنا يدعو الله " ياه يهوه " ؛ " ياه " هى اختصار للإسم " يهوه" ، وكأن التسبحة تكرر هذا اللقب الإلهى " يهوه " لتأكيد أنه الله السرمدى غير المتغير ، يتكىء عليه المؤمن فيجد فيه قوته وفرحه وخلاصه إلى الأبد ، فيطمئن على الدوام دون تخوف .
وكما يقول القديس أغسطينوس : [ إن شئت أن يكون فرحك ثابتا باقيا ، التق بالله السرمدى ، ذاك الذى لا يعتريه تغيير ، بل يستمر ثابتا على حال واحد إلى الأبد ] .
(3 ) الشهادة لأعمال الله :
يرى البعض أن العبارات السابقة ( إش 12 : 1 – 3 ) تمثل تسبحة مستقلة عن العبارات التالية ( إش 12 : 4 – 6 ) التى تمثل تسبحة ثانية .
على أى الأحوال إن كانت الأولى تعلن انبعاث الحمد والتسبيح فى النفس خلال التمتع بخلاص الرب ، فإن الثانية مكملة لها تعلن الألتزام بالشهادة لله المخلص أمام الأمم . فما نختبره خلال اتحادنا مع الله مخلصنا يثير فينا شوقا نحو تمتع الغير بذات الخلاص .
" وتقولون فى ذلك اليوم : احمدوا الرب ، ادعوا باسمه ، عرفوا بين الشعوب بأفعاله ، ذكروا بأن اسمه قد تعالى .رنموا للرب لأنه قد صنع مفتخرا ، ليكن هذا معروفا فى كل الأرض . صوتى واهتفى يا ساكنة صهيون ، لأن قدوس إسرائيل عظيم فى وسطك " إش 12 : 4 – 6 .
كيف نكرز بالرب ؟
أ – بالتبشير : " عرفوا بين الشعوب بأفعاله " ،
وكما يقول الرب لتلاميذه : " اذهبوا إلى العالم أجمع واكرزوا بالإنجيل للخليقة كلها " مر 16 : 5 . كل مؤمن يلتزم بالشهادة لمخلصه ، إذ نرى المرتل داود وهو يعلن توبته فى المزمور الخمسين يقول : " امنحنى بهجة خلاصك فأعلم الخطاة طرقك " .
ب – بالفرح المقدس : " رنموا للرب لأنه قد صنع مفتخرا ، ليكن هذا معروفا فى كل الأرض " .
ليست شهادة للمخلص أعظم من تلامس الغير مع فرحنا الداخلى بالرب الذى يجتاز كل الأحداث والمتاعب . يقول المرتل : " حينئذ امتلأت أفواهنا فرحا وألسنتنا ترنما ، حينئذ قالوا بين الأمم : إن الرب قد عظم الصنيع معنا " مز 26 : 2 .
صوت التهليل الداخلى يشهد لسكنى القدوس فينا !
الفرح المقدس يعلن عن ملكوت الله المفرح فى داخلنا . جاء فى سيرة القديس أبوللو الكاهن بطيبة على حدود هرموبوليس ( أشمونين ) ، ان وجهه كان دائم البشاشة ، مجتذبا بذلك كثيرين إلى الحياة النسكية كحياة مفرحة فى الداخل ، ومشبعة للقلب بالرب نفسه . كثيرا ما كان يردد القول : [ لماذا نجاهد ووجوهنا عابسة ؟! ألسنا ورثة الحياة الأبدية ؟ اتركوا العبوس والوجوم للوثنيين والعويل للخطاة ( الأشرار ) ، أما الأبرار والقديسون فحرى بهم أن يمرحوا ويبتسموا لأنهم يستمتعون بالروحيات ] .
+ + +
إشعياء – الإصحاح الثالث عشر
وحى من جهة بابل
إذ تحدث النبى عن السيد المسيح وأمجاد عصره خشى أن يفهم البعض أن هذا الأمر يتم فى عهده أو فى المستقبل القريب لذلك تنبأ عن بابل وما سيحل بالشعب خلال السبى البابلى ثم العودة من السبى .
قبل مجىء السيد المسيح تظهر مملكة بابل بكل عنفوانها لتتحطم ، ويأتى المسيا ليملك ولا يكون لملكه نهاية . يتكرر الأمر بالنسبة لمجيئه الأخير حيث تظهر مملكة الدجال كمملكة بابل تقاوم الكنيسة وتسود العالم لكنها تنهار ليأتى رب المجد على السحاب .
بابل وغيرها من الأمم العنيفة إنما تمثل المقاومة لله ولكنيسته ... وقد جاء الوحى هنا يعلن أن كل القوى المعادية لله ومسيحه وشعبه لن تدوم بل تنهار .
( 1 ) وحى من جهة بابل :
" وحى من جهة بابل رآه إشعيا بن آموص " إش 13 : 1 .
أراد النبى تأكيد أنه هو كاتب النبوة ، تمتع بها من جهة بابل . أما تأكيده أنه هو الذى رآها فذلك لسببين :
أ – إن كان إشعياء قد تنبأ بخصوص يهوذا وأورشليم لكنه يتحدث هنا عن مصير الأمم المجاورة مؤكدا أن الله إله القديسين هو بعينه إله جميع الأمم .
ب – لم يكن لبابل حسبان فى ذلك الوقت ، فكان يصعب على السامع أو القارىء أن يصدق ما يقال عنها فى هذه النبوات .
( 2 ) دعوة الأمم لمقاتلة بابل :
لم تكن بابل قد ظهرت عظمتها بعد ، لكن النبى يراها قادمة ، عاصمتها مدينة عتاة ، لهذا يبدا نبوته عنها بتحريض الرب للأمم كى تتجمهر ضد بابل وتقتحم أبوابها وتذل كبرياءها ، قائلا : " أقيموا راية على جبل أقرع " إش 13 : 2 . هكذا يصدر الله أمرا بمحاربة بابل فيدعو الأمم أن تقيم راية الحرب على جبل خال من كل شجر أو نباتات حتى يمكن لكل الجيش أن يراها . لأن خلو المكان من الأشجار يساعد سرعة انتباه الجيش لبدء الحرب .
" ارفعوا صوتا إليهم " إش 13 : 2 ، أى اضربوا بالأبواق لأجل تحميس الجيوش .
" أشيروا باليد ليدخلوا أبواب العتاة ( الأشراف ) إش 13 : 2 ، أى يلوحون بالأيدى لتشجيع اهمم من أجل اقتحام مدينة الأحرار الأشراف فى شجاعة وإقدام .
ما هى بابل إلا النفس المتعجرفة التى يلزمنا أن نقتحمها لا برايات الحرب ولا بأصوات الأبواق ولا بالتلويح بأياد بشرية وإنما برفع راية الحب التى لمسيحنا المصلوب لتقول :
" علمه فوقى محبة " نش 2 : 4 .
الحديث هنا أعظم من أن يكون خاصا بدعوة فارس ومادى لأقتحام الأمبراطورية العظيمة بابل ، إنما هو دعوة تمس خلاص النفس الأبدى . لهذا يكمل قائلا :
" أنا أوصيت مقدسى ودعوت أبطالى لأجل غضبى مفتخرى عظمتى ، صوت جمهور على الجبال شبه قوم كثيرين ، صوت ضجيج ممالك أمم مجتمعة . رب الجنود يعرض جيش الحرب . يأتون من أرض بعيدة من أقصى السموات الرب وأدوات سخطه ليخرب الأرض " إش 13 : 3 – 5 .
يلاحظ فى هذا النص :
أولا : يرى البعض أن هؤلاء المقدسين والأبطال هم القيادات العسكرية لفارس ومادى .. ليسوا لأنهم قديسون وإنما لأن الله دعاهم دون أن يدروا لتحقيق أهدافه المقدسة ، ووهبهم قوة للعمل واستخدامهم لتحقيق أمور ليست فى أفكارهم .
ثانيا : ما هو صوت الجمهور القائم على الجبال شبه قوم كثيرين ، " صوت ضجيج ممالك أمم مجتمعة ، رب الجنود يعرض جيش الحرب " إش 43 : 4 إلا صوت الكنيسة المجتمعة معا بروح الحب والوحدة على الجبال المقدسة تتمتع بالحياة العلوية ، تسكن على قمم الوصايا المباركة لا عند السفح ، تجتمع من ممالك أمم كثيرة كجيش بألوية ( نش 6 : 10 ) ... إنها كنائس متعددة لها ثقافات متباينة لكنها خلال الإيمان الواحد والفكر الواحد تعيش كجيش روحى سماوى ... هذه هى سمة الكنيسة الحقيقية : كنيسة سماوية .
+ كم من كثيرين هاجموا الكنيسة فهلك الذين هاجموها ، أما هى فحلقت فى السماء .
تجتمع الكنيسة من أرض بعيدة ، إذ كان أغلب أعضائها وثنيين مرتبطين بالعالم ، غرباء عن بيت الله ، لكنهم صاروا سماء الرب ومقدسه ، يخربون الأفكار الزمنية أو محبة الأرضيات ليحملوا الآخرين إلى خبرة الحياة السماوية .
( 3 ) يوم خراب بابل :
يصور لنا النبى يوم خراب بابل المرهب على أيدى فارس ومادى بكونه يوم الرب الذى فيه يعلن غضبه على بابل المقاومة له ولأولاده .
يرى البعض أن ما ورد هنا تحقق فعلا فى أيام كورش ولكن بصورة جزئية ، غير أنه سيتحقق بصورة أشمل فى الأيام الأخيرة كما جاء فى سفر الرؤيا ( رؤ 17 ) . عن دينونة الزانية العظيمة الجالسة على مياة كثيرة ، بابل العظيمة أم الزوانى .
أ – يقول النبى : " ولولوا لأن يوم الرب قادم كخراب من القادر على كل شىء ، لذلك ترتخى كل الأيادى " إش 13 : 6 ، فلا يقووا على حمل السلاح . لقد صارت مملكة بابل سيدة العالم كله ، وقد أطال الله أناته عليها عشرات السنوات ، والبابليون يتمادون فى كبرياء قلوبهم وعجرفتهم ضد الرب نفسه ، لذلك إذ يسقطون تحت غضبه ترتخى أياديهم العنيفة الحاملة للسلاح ، فيصيرون فى ضعف شديد وموضع سخرية .
ب – " ويذوب قلب كل إنسان ، فيرتاعون " إش 13 : 7 ، 8 . هكذا ينتاب الكل حالة من الرعدة والخوف ، من رجال ونساء وشباب وشيوخ وأطفال ، يصير الكل منهارا ليس من يسند أخاه بل كل واحد يحطم نفسه كما يحطم من هم حوله !
جـ - يتلوون من الألم كالوالدة وهى فى حالة طلق ( إش 13 : 8 ) ، فقد حملوا فى داخلهم ثمر شر يلدونه مرارة المر . والعجيب أن الكتاب المقدس يشبه آلام الأشرار يآلام الطلق وأيضا آلام المؤمنين ( يو 16 : 20 ) ، الأولون يئنون فى يأس وبرعدة لأنهم يلدون ريحا ( إش 26 : 18 ) ، أما الآخرون فيفرحون وسط الحزن الخارجى لأنهم ينجبون إنسانا فى العالم ( يو 16 : 20 ) .
د – تصير " وجوهكم وجوه لهيب " إش 13 : 8 ، محمرة خجلا بسبب انكسارهم الشديد وجبنهم ، كما تبهت أحيانا وجوههم ( إش 13 : 8 ) ، إذ تصفر بسبب الخوف .
هـ - تصير أرضهم خرابا ليس من يمشى عليها ( إش 13 : 9 ) ، كرمز لما يحل بالجسد ( الأرض ) من فقدان لكل حيوية حقيقية . من يقاوم الرب من أجل شهوات الجسد يفقد حتى جسده وتخرب نفسه الداخلية ، إذ قيل : " لذلك أزلزل السموات ( النفس ) وتتزعزع الأرض ( الجسد ) من مكانها فى سخط " إش 13 : 13 . ربما يشير هنا أيضا إلى ثورة الطبيعة ضد من يعصى خالقها . وكأن من يعصى الرب تعصاه الطبيعة ذاتها !
و – يحل بهم الظلام " فإن نجوم السموات وجبابرتها لا تبرز نورها ، تظلم الشمس عند طلوعها ، والقمر لا يلمع بضوءه " إش 13 : 10 . هذا يشير إلى ظلمة الجهل التى تحل بالإنسان المقاوم لله ، لا يرى شمس البر .
ز – يموت الرجال فى الحرب ، وإذ اعتادت النساء فى بابل على الحياة الخليعة لذا يطلبن رجلا لتحقيق شهواتهن الرديئة فيصعب عليهن وجوده : " وأجعل الرجل أعز من الذهب الأبريز والإنسان أعز من ذهب أوفير " إش 13 : 12 . أيضا يشير ذلك إلى قلة الأيدى العاملة بسبب الحرب مع عودة المسبيين وتحرر الأمم من السلطان البابلى .
ح – فقدان القيادة والرعاية : " ويكونون كظبى طريد وكغنم بلا من يجمعها ،يلتفتون كل واحد إلى شعبه ، ويهربون كل واحد إلى أرضه " إش 13 : 14 . يقد هنا أنه يوم انكسار بابل يفقد الجيش القيادة فيهرب الجنود المأجورون أو المسخرون من الأمم كل إلى بلده .
هذه هى حال النفس البعيدة عن الله فإنها تفقد قيادتها الداخلية ، ليعيش الإنسان كطريد أو كغنم بلا راع يجمعها .. يحمل فى داخله صراعات مرة وتشتيت فكر مع تحطيم للطاقات الداخلية .
ط – بطش بالكل دون تمييز بين عسكرى أو مدنى ، رجل أو إمرأة أو طفل ( إش 13 : 15 ) . إن الماديين لا يحطمونها لأقتناء غنى ( إش 13 : 17 ) ، وتحطيم طاقات بابل ( إش 13 : 18 ) ،إنهم يخربون كل مواردها فتصير كسدوم وعمورة اللتين احترقتا بنار من السماء .
ى – تصير بابل قفرا أبديا ، لا يسكنها إعرابى يرعى غنمه ولا يربض فيها رعاة خوفا من الحيوانات المفترسة ( إش 13 : 20 ، 21 ) .
إنها صورة للنفس التى تستسلم لعدو الخير فيستخدمها لحساب ملكوت الظلمة ، يملأها شرا ويحولها إلى معمل للفساد :
" تربض هناك وحوش القفر " إش 13 : 21 ..
" يملأ البوم بيوتهم " إش 13 : 21 ..
" تسكن هناك بنات النعام .. ترقص هناك معز الوحش " إش 13 : 21 ، أى تسكن النجاسة ، بدلا من الفرح السماوى .. وهناك ترقص وتلهو الشياطين فى النفس الشريرة إذ تجد فيها موضعا لها .
" وتصيح بنات آوى فى قصورهم والذئاب فى هياكل التنعم " إش 13 : 22 .. أى تتحول القصور والهياكل من أماكن للتنعم إلى مأوى للحيوانات الشرسة .
هذا كله حل ببابل " بهاء الممالك وزينة فخر الكلدانيين "إش 13 : 19 ، المدينة الذهبية ( إش 14 : 4 ) ، الغنية فى كنوزها ( إر 51 : 13 ) ، فخر كل الأرض ( إر 51 : 41 ) ..
تحققت هذه النبوات بطريقة حرفية :
يذكر التاريخ أن كورش هدم جزءا كبيرا من أسوار بابل وأبنيتها ، وبعد 20 عاما قام داريوس بهدم بقية الأسوار ونزع أبوابها النحاسية مع صلب ثلاثة آلاف من عظمائها .
بالفعل تحولت بابل إلى خراب ، وقد حاول اسكندر الأكبر أن يعيد مجدها لكنه مات قبل تنفيذ مشروعاته . استخدمت حجارتها فى بناء بغداد وإصلاح الترع وإقامة الكثير من المرافق العامة .
أخيرا فقد أكد النبى أن ما يقوله يتحقق سريعا : " ووقتها قريب المجىء وأيامها لا تطول " إش 33 : 22 . فقد بدأ نجم بابل يتألق عام 606 ق . م . وسقطت فى يد فارس ومادى عام 536 ق . م . ، بينما جاءت النبوة فى القرن الثامن ق . م .
لقد بقيت بابل رمزا لكل نفس متكبرة عاصية كما جاء فى سفر الرؤيا ، وقد قيل : " إنه فى ساعة واحدة جاءت دينونتك " رؤ 18 : 10 .
+ + +
إشعياء – الإصحاح الرابع عشر
سقــــــوط بــــابــــــل
يكمل النبى حديثه عن تأديب بابل وغيرها من الممالك المقاومة لله ولشعبه ، موضحا أن غاية الله من هذا التأديب ليس سقوط بابل أو غيرها إنما تقديم راحة لشعبه بعدما تأدب بالسبى . يريد تأكيد تحقيق وعود الله وعهوده مع شعبه الذى أذلته بابل .
يظهر الله كقائد للمعركة ضد بابل يقوم بتخريبها ، لأنها بعجرفتها وكبريائها تشير إلى عدو الخير إبليس . أما ملكها فهو أداة للشيطان وممثل أو رمز له .
( 1 ) ترفق الله بشعبه
الله الذى سمح لشعبه بالمذلة خلال السبى البابلى هو نفسه الله الرحوم الذى اختاره شعبا خاصا له ( إش 14 : 1 ) .
لقد سبق أن أخرجه من مصر وحرره من فرعون وجاء به إلى أرض الموعد بذراع رفيعة ، والآن يحقق خروجا آخر إذ يحرره من السبى ويرده إلى أرضه ليس فارغا ولا فى ضعف ، إنما فى قوة يجتذب الغرباء إليهم ليصيروا دخلاء يشاركونهم ذات الإيمان والعبادة ، كما يهب شعبه قوة فيسبون من سبقوا أن سبوهم ، ويتسلطون على من سبقوا أن ظلموهم ، بهذا يستريح الشعب من التعب والعبودية ( إش 14 : 4 ) .
( 2 ) هجو على ملك بابل :
يتحدث النبى باسم الشعب المتحرر من سلطان بابل فيهجو ملكها واصفا إياه هكذا :
أ – " الظالم " إش 14 : 4 . إن كانت بابل قد دعيت مدينة الذهب بسبب غناها الفاحش ، فإن هذا الغنى قد تحقق خلال ظلم ملكها وغطرسته ، هذا الظلم لن يدوم ، وهذه الغطرسة لا بد أن تنكسر : " كيف باد الظالم بادت المغطرسة . قد كسر الرب عصا الأشرار قضيب المتسلطين " إش 14 : 4 ، 5 .
ب – " الضارب الشعوب بسخط ضربة بلا فتور ، المتسلط بغضب على الأمم باضطهاد بلا إمساك " إش 14 : 6 . لم يتوقف عن الضرب لذا كسر الرب عصاه ، ولم يمسك عن اضطهاد الشعوب ، يكتم أنفاس الناس ويحجر على حريتهم ، لهذا استحق أن يسقط فى مذلة ، وكما قيل " كما فعلت يفعل بك ، عملك يرتد على رأسك " عو 15 .
بسبب هذه السمات عندما سقطت بابل " استراحت الأرض وهتفت ترنما " ( إش 14 : 7 ) ، وقيل ليعقوب : " ويكون فى يوم يريحك الرب من تعبك ومن انزعاجك ومن العبودية القاسية التى استعبدت بها " إش 14 : 3 .
تحققت هذه الراحة جزئيا بعودة الشعب من السبى ، لكن " بقيت راحة لشعب الله " عب 4 : 9 ، هى الدخول إلى الحياة الجديدة التى فى المسيح يسوع بكونه :
" سبتنا الحقيقى " و " راحتنا الأبدية " .
بسقوط بابل شمت السرو ( الملك ) وأيضا أرز لبنان ( الرؤساء ) ، قائلين : " منذ اضطجعت لم يصعد علينا قاطع " إش 14 : 8 ، بمعنى منذ نمت فى القبر لم تعد توجد يد تؤذينا ، فقد اعتاد الأعداء أن يقطعوا الأشجار فى الحروب لمقاومة لمقاومة البلاد التى يستولون عليها ولأستخدامها كوقود ، أو للبناء كما فعل نبوخذ نصر .. على أى الأحوال ، فإن الحروب مبددة للموارد الطبيعية .
لم يقف الأمر عند إزدراء الملوك بملك بابل ، إنما يصوره النبى وهو منحدر فى الهاوية يستقبله ملوك الأرض والعظماء – ربما الذين سبق أن أضطهدهم – يقومون عن كراسيهم فى الهاوية لا لتكريمه وإنما للأستهزاء به وللسخرية منه ، لكى يجلس على كراسيهم كما فعل وهو على الأرض . يقولون له باستخفاف :
" أأنت أيضا قد ضعفت نظيرنا وصرت مثلنا ؟! " إش 14 : 10 .
كنا نحسبك إلها خالدا كما أدعيت ، ولم نتخيل أنك تموت فى مذلة مثلنا !
" أهبط إلى الهاوية فخرك ربة أعوادك ؟! تحتك تفرش الرمة ، وغطاؤك الدود " إش 14 : 11 . كنت تفترش الحرير وتتطيب بأثمن الأطياب ، فكيف نزلت إلى الهاوية كمخدع لك تفتش الرمة وتتغطى بالدود ؟ .
" كيف سقطت من السماء يا زهرة بنت الصبح ؟! كيف قطعت إلى الأرض يا قاهر الأمم ؟! وأنت قلت فى قلبك : أصعد إلى السموات ، أرفع كرسيى فوق كواكب الله ، وأجلس على جبل الأجتماع فى أقصى الشمال ، أصعد فوق مرتفعات السحاب ، أصير مثل العلى " إش 14 : 12 – 14 .
لقد تشبهت بإبليس سيدك الذى كان كوكبا عظيما ومرموقا بين السمائيين " زهرة بنت الصبح " ، فتشامخ على الله خالقه ، وظن أنه يقدر أن يرتفع على مستوى الله نفسه بل ويصير أعظم منه ، فسقط ليصير ظلاما عوض النور إذ عزل نفسه بنفسه عن الله مصدر النور . أردت أن تجلس على جبل صهيون ( مز 48 : 2 ) ، جبل الله المقدس ، حسبت نفسك كالله فى العظمة فتعاليت فوق السحاب !
هكذا إذ يعرف الله الخالق طبيب الكل أن الكبرياء هى علة كل الشرور ورأسها لهذا يحرص أن يشفى الضد بالضد ، فما هلك بواسطة الكبرياء يصلح بواسطة الأتضاع ...
[ يقول واحد : " أصير مثل العلى " إش 14 : 12 ...
أما الآخر : " إذ كان فى صورة الله لم يحسب خلسة أن يكون معادلا لله ، لكنه أخلى نفسه آخذا صورة عبد ... وضع نفسه وأطاع حتى الموت موت الصليب " فى 2 : 6 – 8
يقول واحد : " أرفع كرسيى فوق كواكب الله " .....
بينما يقول الآخر : " تعلموا منى ، لأنى وديع ومتواضع القلب " مت 11 : 28 .
واحد يقول : " أنهارى هى لى وأنا أصنعها " حز 29 : 3 ...
والآخر : " لست أفعل شيئا من نفسى لكن الآب الحال فى هو يعمل الأعمال " يو 5 : 30 ، 14 : 10 .... ] .
هكذا تحدد الكبرياء الإنسان إلى الهاوية ، لذا يحدث النبى ملك بابل قائلا : " انحدرت إلى الهاوية إلى أسافل الجب " إش 14 : 15 . لقد سقطت من قمة جبل أحلامك ، وهبطت من سحاب خيالك ، لتعيش فى الهاوية مع إبليس سيدك .
أين جبروتك يا من زلزلت الأرض وزعزعت الممالك ببطشك .. حولت العالم إلى قفر وهدمت المدن لكى تسبى سكانها ( إش 14 : 16 ، 17 ) ؟!
أين عزك ومجدك ؟ فإن كل ملوك الأرض اضجعوا بالكرامة ، حتى أولئك الذين أذللتهم وعذبتهم ، فقد ماتوا فى بيوتهم ورفعت صلوات عنهم وحنطت بعض أجسادهم ، " وأما أنت فقد طرحت من قبرك كغصن أشنع ، كلباس القتلى المضروبين بالسيف الهابطين إلى حجارة الجب كجثة مدوسة " إش 14 : 19
هذه النبوة تشير إلى ذبح بليشاصر ليلة دخول الماديين بابل حيث لم ينشغل أحد بجثمان الملك وسط الخراب الذى حل بالمدينة .
هكذا فقد ملك بابل كل شىء ، بل وقتل شعبه وبنوه ( إش 14 : 20 ، 21 ) بكبرياء قلبه ، خسر المدينة الملوكية والنسل الملوكى .
( 3 ) خراب بابل :
بسبب الكبرياء ينتزع الله من بابل اسمها ، ولا يترك فيها بقية ولا ذرية ( إر 51 : 62 ) ، لتكون مثلا أمام العالم كله تصير خرابا ، يسكنها القنفذ وآجام مياة ( إش 14 : 23 )
المدينة الملوكية العظيمة تتحول إلى مسكن سواء للحيوانات أو الطيور التى تسكن القفر ، وتحسب دنسة مملوءة رجاسات ، تحتاج إلى الكنس بمكنسة الهلاك ، أى الإبادة التامة للخلاص من رجاساتها ، حتى لا تفسد من حولها .
( 4 ) خراب أشور :
يذكر النبى ما سيحل بأشور وفلسطين لكى يتأكد السامعون صدق النبوة الخاصة ببابل والتى ستتم بعد حوالى 200 عاما من إعلانها .
يكشف الله عن خطته فى تأديبه للأشرار ، ألا وهى أنه يتركهم يتممون إرادتهم الشريرة بكامل حريتهم ، فيجنون ثمر شرهم فسادا وهلاكا ، كأن الخطية تحمل عقوبتها فيها كما أن الحياة المقدسة فى الرب تحمل مجدها داخلها . لهذا قيل : " قد حلف رب الجنود قائلا : إنه كما قصدت يصير وكما نويت يثبت " إش 14 : 24
( 5 ) خراب فلسطين :
" فى سنة وفاة الملك آحاز كان هذا الوحى : لا تفرحى يا جميع فلسطين لأن القضيب الضار بك انكسر ، فإنه من أصل الحية يخرج أفعوان ، وثمرته تكون ثعبانا ساما طيارا " ( إش 14 : 28 – 30 )
كانت فلسطين فى ذلك الحين مكونة من عدة إمارات ، لهذا يخاطبها قائلا : " يا جميع فلسطين " . يطلب منها ألا تفرح لأن القضيب الضار بها قد انكسر ، يرى البعض أن هذا القضيب هو تغلث فلاسر الذى استولى على مدن فلسطينية ، وقد مات قبل آحاز بسنة أو سنتين ، فسيخلفه شلمناصر وسرجون وسنحاريب وهم أشر منه .
يرى غالبية الدارسين أن القضيب المكسور هو عزيا الذى ضرب الفلسطينيين بقسوة ففرحوا بموته ( 2 أى 26 : 6 ) . وأن أصل الحية هو بيت داود حيث يأتى حزقيا الملك الذى ضربهم ضربة أقسى من عزيا جده ( 2 مل 18 : 8 ) ، واستعبدهم .
أما الحية الطائرة فهى مثل الحية النحاسية التى رفعها موسى فى البرية ، ترمز لشخص السيد المسيح المصلوب ، الحامل سم خطايانا فى جسده ليبيده بموته المحيى .
يعلن النبى أن فلسطين تواجه مجاعة قاسية ( إش 14 : 30 ) ، وحربا مدمرة فتتحول مدنهم إلى دخان بينما فى النهاية يحمى الرب شعبه ويترفق ببائسيه ( إش 14 : 32 ) .
الله – فى صلاحه – لا يمنع الشر ولا يلزم الأشرار على التوبة ، لكنه فى النهاية يتمم خطة خلاصه لمؤمنيه المتكلين عليه ، محولا كل الأمور لبنيانهم .
إشعياء – الإصحاح الخامس عشر
وحى من جهة موآب
يقدم إشعياء النبى نبوات تخص الأمم المحيطة بيهوذا وإسرائيل تتحقق سريعا حتى يتأكد الشعب من أمرين : صدق نبوات إشعياء النبى فيما يخص المستقبل البعيد مثل السبى والرجوع منه ومجىء المسيا وأعماله الخلاصية ، وأن الله هو إله الأرض كلها ، ضابط الكرة الأرضية ومحرك الشعوب .
( 1 ) سرعة تحقيق النبوة
" وحى من جهة موآب . إنه فى ليلة خربت عار موآب وهلكت . إنه فى ليلة خربت قير موآب وهلكت " إش 15 : 1 .
جاء الموآبيون من نسل لوط ، لذا فهم يمتون بصلة قرابة لإسرائيل ، سكنوا شرق البحر الميت ، سمح بنو رأوبين للموآبيين بالسكنى فى مدنهم وأخذوا عنهم عبادة الإله كموش ، كما وجدت علاقات طيبة أحيانا بين موآب وإسرائيل ، عندما قاوم شاول داود أودع الأخير والديه لدى ملك موآب ، ومع هذا فقد حمل الموآبيون روح عداوة تجاه إسرائيل ويهوذا ، فكثيرا ما تحالفوا مع الشعوب المجاورة ضدهم .
يتنبأ إشعياء النبى عن خراب المدن الكبرى فى موآب ، وقد تحققت هذه النبوة حرفيا وبدقة خلال ثلاث سنوات من إعلانها ( إش 16 : 14 ) ، وقد حل الخراب على يدى ملك آشور فجأة وبطريقة غير متوقعة .
هلكت المدينتان " عار وقير " فى ليلة واحدة ، وليس فى يوم واحد أو نهار واحد . فإنه إذ يغيب شمس البر عن النفس البشرية التى تشبه مدينة عظيمة مسورة ، يحل بها ظلام الشر والجهل وتفقد كل ما تعبته لسنوات طويلة ليحل بها الخراب .
( 2 ) تحطيم المدن العظمى
يصور إشعياء النبى ما حل بالمدن الكبرى فى موآب بجانب عار وقير فيقول :
" إلى البيت وديبون ؛ يصعدون إلى المرتفعات للبكاء " إش 15 : 2 . إذ حل الخراب بموآب لجأ الكثيرون إلى الآلهة الوثنية يصرخون بدموع وعويل لعلها تستطيع أن تنقذهم ، لكن بلا جدوى ، وذلك كما فعل أنبياء وكهنة البعل فى أيام إيليا النبى .
البيت : يرى البعض أنه هيكل الإله كموش
ديبون : إسم موآبى يعنى " مرتفعات " وهى مدينة وجد فيها بيت أو هيكل الإله كموش ..
كأن الموآبيون قد هربوا إلى هيكل الإله كموش أو ديبون ، يبكون وينوحون على ما حل بهم من خراب .
" تولول موآب على نبو وعلى ميدبا " إش 15 : 2 .
لقد خربت " نبو " بالقرب من الجبل العظيم نبو ، شرقى الأردن فى نهاية جنوب البحر الميت ، وهو الجبل الذى صعد عليه موسى النبى لينظر من بعيد أرض الموعد فتتهلل نفسه مشتاقا أن يعبر إلى أرض الأحياء وينعم بكنعان السماوية ، وقد مات هناك ( تث 34 ) .
كانت نبو محصنة بالجبل العظيم ، مركز دفاع للموآبيين ، لكنها ضاعت وخربت ..
ولولوا على " ميدبا " ، معناها " مياة الراحة " ، تسمى حاليا " مادبا " ، تبعد حوالى 5 أميال جنوب شرقى نبو ، 14 ميلا شرقى بحر لوط ، دعيت هكذا لأن بها بركة فى الجنوب طولها وعرضها 360 قدما كما توجد بها برك أصغر فى الشرق والشمال .
يقول النبى : " فى كل رأس منها قرعة ، كل لحية مجزوزة ، فى أزقتها يأتزرون بمسح ، على سطوحها وفى ساحاتها يولول كل واحد منها سيالا بالبكاء " إش 15 : 2 ، 3 .
هذه جميعها علامات الحزن الشديد ، قرع الرأس يشير إلى المذلة ، إذ اعتاد المنتصرون أن يحلقوا شعر الذكور والإناث المسبيين علامة العبودية والقبح ، وجز اللحية إشارة إلى مهانة الكهنوت وفقدان سلطانه الروحى وكرامته ، والإتزار بالمسح علامة اليأس الشديد ، أما البكاء حتى تصير الدموع كالسيل فمعناه فقدان الفرح الداخلى .
" وتصرخ حشبون والعالة ، يسمع صوتهما إلى ياهص ، لذلك يصرخ متسلحوا موآب ، نفسها ترتعد فيها " إش 15 : 4 . كأن الموآبيين قد هربوا من مدينة إلى مدينة ، وكأن صراخهم يسمع من بعيد ، من مدن بعيدة ، صراخ سكان حشبون والعالة يدوى فى ياهص .
حشبون والعالة مدينتان فى أقصى الشمال ، أما ياهص فتبعد إلى الجنوب منهما بمقدار حوالى 10 أو 12 ميلا .
لم يحتمل إشعياء النبى أن يرى ما حل بهذه المدن العظيمة ، " نفسها ترتعد فيها " إش 15 : 4 .. لذلك يقول " يصرخ قلبى من أجل موآب " إش 15 : 5 . لا يقف شامتا فى الأعداء ، إنما يشاركهم مرارتهم ، مشتاقا إلى رجوعهم عن عدواتهم وتمتعهم بالخلاص .
هذه هى سمة رجال الله :الحب الداخلى الصادق والرغبة العميقة لخلاص حتى المقامومين لهم !
يقول النبى :
" يصرخ قلبى من أجل موآب ، الهاربين منها إلى صوغر كعجلة ثلاثية لأنهم يصعدون فى عقبة اللوحيث بالبكاء ، لأنهم فى طريق حورونايم يرفعون صراخ الإنكسار " إش 15 : 5 .
كأن إشعياء النبى يصور الهاربين من أقصى الشمال إلى صوغر فى الجنوب ، المدينة الصغيرة التى لجأ إليها لوط عند حرق سدوم وعمورة ، أشبه بعجلة واحدة عمرها ثلاث سنوات قد هربت كما من النير الثقيل الذى لم تعتد عليه .
أما اللوحيت وحورونايم فلا يعرف موضعهما ، إنما غالبا ما كانا بجوار صوغر .
( 3 ) حلول المجاعة
لا يقف الأمر عند خراب المدن والهزيمة المنكرة إنما يحل لموآب مجاعة كثمرة طبيعية للهزيمة فى الحرب ، " لأن مياة نمريم تصير خربة ، لأن العشب يبس ، الكلأ فنى ، الخضرة لا توجد ، لذلك الثروة التى اكتسبوها وذخائرهم يحملونها إلى عبر وادى الصفصاف " إش 15 : 6 ، 7 .
نمريم : اسم سامى معناه " مياة صافية " وهى ينابيع فى وادى نميرة فى الساحل الجنوبى الشرقى للبحر الميت . المعنى أن المياة لا تكفيهم هم وحيواناتهم ، فيتكونها ويحملون ما يستطيعون حمله من ثروة وذخائر ليكملوا الطريق .
فى اختصار تفقد موآب مدنها العظمى، وحقولها ، ومياهها ، وسلامها لتصير فى خراب تام
+ + +
إشعياء – الإصحاح السادس عشر
خضوع موآب ليهوذا
فى أيام حزقيا يقدم إشعياء النبى مشورة لموآب أن تفى بالجزية التى تعهدت بها أمام يهوذا فترسل إليه حملان ، وهى جزية مناسبة لأن موآب مشهورة بقطعانها ( عد 32 : 4 ) . قدمت موآب فيما بعد جزية أيضا لإسرائيل ( 2 مل 3 : 4 ) . بهذه المشورة تتمتع موآب بالحماية عوض أن تصير كطائر تائه لا يجد عشا . وإذ خشى النبى ألا تقبل موآب مشورته كشف لها جراحاتها المهلكة ألا وهى الكبرياء .
هذه دعوة مقدمة لكل نفس لكى تخضع للسيد المسيح الملك الخارج من سبط يهوذا ، لكى تقدم حياتها كحمل ذبيح من أجل الرب ، فتنعم بالسلام الداخلى عوض أن يحطمها جحود الإيمان والكبرياء .
( 1 ) مشورة للخضوع ليهوذا
سبق أن رأينا قلب إشعياء النبى يتحرك بحنان شديد نحو موآب فصار يصرخ من أجلهم . الآن يقدم للموآبيين مشورة صالحة لإصلاحهم حالهم وتمتعهم بعلاقات طيبة مع بنى يهوذا وتذوقهم للسلام والحماية ، بتقديم الجزية ( حملان ) لحزقيا الملك ، كرمز لدعوة الأمم إلى الخضوع للسيد المسيح ، الأسد الخارج من سبط يهوذا ، فإنه لا سلام ولا حياة أبدية دون قبوله ملكا فى حياتنا الداخلية .
يتقدم النبى نفسه ليعلن استعداده أن يكون وسيطا أو شفيعا لدى يهوذا عن موآب ، مطالبا الموآبيين بدفع الجزية : " أرسلوا خرفان حاكم الأرض من سالع نحو البرية إلى جبل ابنة صهيون ، ويحدث أنه كطائر كفراخ منفرة تكون بنات موآب فى معابر أرنون " إش 16 : 1 ، 2 .
" سالع " اسم عبرى معناه " صخرة " ، موقع حصين فى أرض أدوم ، كأن النبى يدعو الموآبيين الذين التجأوا إلى أدوم وتحصنوا فى سالع أن يتقدموا مع بقية الموآبيين الذين فى البرية ليهوذا ، وأن يقدموا الحملان فى أورشليم " جبل ابنة صهيون " .
إنها دعوة لكل إنسان ألا يظن فى الذراع البشرى أو الإمكانيات الطبيعية ملجأ له . إنما يكمن سلامه فى بلوغ أورشليم ، وتقديم حياته ذبيحة حب لأبن داود ، الأسد الخارج من سبط يهوذا .
يقدم النبى أيضا مشورة لشيوخ يهوذا ، مطالبا إياهم أن يستقبلوا الموآبيين اللاجئين إليهم ليقدموا لهم ظلا وسط الظهيرة ، فيصير لهم الوقت كأنه ليل للراحة من شمس التجارب والضيقات ، وأن يستردوا المطرودين والهاربين إليهم بدون خداع ، فلا يسلموهم عبيدا للأعداء (إش 16 : 3 ، 4 ) .
يليق برجال يهوذا أن يحملوا مزا للسيد المسيح الملجأ الحقيقى ، فيفتحوا قلوبهم ومدنهم للهاربين ، ويستقبلوهم بإخلاص ، بهذا تعلن مملكة المسيح القائمة على كرسى الرحمة أبديا : " فيثبت الكرسى بالرحمة ، ويجلس عليه بالأمانة فى خيمة داود قاض ويطلب الحق ويبادر بالعدل " إش 16 : 5 .
هكذا يقدم لنا النبى نصا مسيانيا ، معلنا أن الكنيسة – خيمة داود – هى موضع النجاة ، يملك فيها المسيا ليجتذب الأمم إليه فيجدوا فيه الحق ويتمتعوا بالمراحم الإلهية ، مترنمين : " العدل والحق قاعدة كرسيك ، الرحمة والأمانة تتقدمان وجهك .. لأن الرب مجننا وقدوس إسرائيل ملكنا " مز 89 : 14 ، 18 .
( 2 ) الكبرياء محطم الإنسان
قدم إشعياء النبى المشورة الصالحة لموآب ، كما كشف لهم عن ضعفهم الروحى – الكبرياء – العائق عن قبول المشورة " قد سمعنا بكبرياء موآب المتكبرة جدا عظمتها وكبريائها وصلفها بطل افتخارها " إش 16 : 6 . لقد سمع النبى عن كبرياء الموآبيين وتشامخهم الزائد وكلماتهم الباطلة !
الكبرياء محطم للإنسان كما للأمم ، يحرم صاحبه من قبول المشورة الصالحة ، ويفقده التمتع بنعمة الله ورحمته .
( 3 ) ولولة على موآب
لم يسمع قادة موآب لصوت إشعياء النبى بسبب كبريائهم لهذا سقطوا تحت العقوبة واستحقوا الويلات التى يلاحظ فيها الآتى :
( أ ) حدوث ولولة شاملة : " لذلك تولول موآب على موآب كلها يولول " إش 16 : 7 ، إذ صارت الولولة سمة عامة فى كل موآب .
( ب ) شملت الولولة أكبر المدن مثل قير حارسة ( إش 16 : 7 ) التى ضربت ، وأيضا الحقول التى ذبلت كحقول حشبون وكرمة سبمة ويعزير ( إش 16 : 8 ، 9 ) ، شملت المدن والقرى ، المتعلمين والجهال ، الأغنياء والفقراء الخ ....
( جـ ) تحولت أفراح الحصاد إلى بكاء ونوح ( إش 16 : 10) .
( د ) انطلق الموآبيون إلى المرتفعة للصلاة فى هيكل الإله كموش بلا جدوى ( إش 16 : 12 )
( هـ ) تحدد ميعاد العقوبة بثلاث سنوات خلالها تنهار موآب أمام سنحاريب ملك أشور ، ويذل الموآبيين ويتحطم مجدهم ( إش 16 : 14 ) .
وسط هذه الصورة القاتمة يكشف إشعياء النبى عن جانبين مبهجين : الأول مشاركة النبى بنى موآب متاعبهم ، إذ يقول : " لذلك ترن أحشائى كعود من أجل موآب وبطنى من أجل قير حارس " إش 16 : 11 . لا تحتمل أحشاؤه الداخلية أن تنظر نفوسا متألمة حتى وإن كانت آلامها ثمرة خطاياها .
الجانب الثانى وجود بقية قليلة جدا وضعيفة للغاية ( إش 16 : 14 ) ، ففى القديم تمتعت راعوث الموآبية بالخلاص ، إذ جاءت تحتمى تحت ظل الله ، وفى العهد الجديد جاء الأمم إلى الإيمان ليتمتعوا بالحياة الجديدة فى المسيح يسوع .
+ + +
إشعياء – الإصحاح السابع عشر
وحى من جهة دمشق وافرايم .
ليس عند الله محاباة ، فإن كان يؤدب الأمم الوثنية مثل موآب لجحدها الإيمان وعجرفتها وتجديفها عليه فإنه يؤدب إسرائيل ( أو افرايم – العشرة أسباط ) لأنها تحالفت مع آرام أو سوريا ( عاصمتها دمشق ) ضد يهوذا متكئين على فرعون مصر ضد أشور . لهذا سمح الله لملك أشور أن يهجم على آرام وافرايم ويغلبهما سريعا .
( 1 ) تدمير دمشق
تعتبر من أعرق المدن ، ورد ذكرها فى أيام إبراهيم ( تك 14 : 15 ) ؛ غزاها داود الملك وأقام فيها حامية ( 2 صم 8 : 5 ، 6 ، 1 أى 18 : 5 ، 6 ) .
قام رزون وتمكن من تأسيس المملكة السورية ودامت الحرب بينهما وبين إسرائيل زمانا طويلا لكنهما تحالفا معا فيما بعد ضد يهوذا وأشور . وقد تعرضت للهزيمة عدة مرات ، ففى سنة 843 ق.م. هاجم شلمناصر دمشق وهزم ملكها حزائيل ...
انتهى الأمر بسوريا إلى أن تكون مقاطعة رومانية عام 63 ق . م .
" هوذا دمشق تزال من بين المدن وتكون رجمة ردم ؛ مدن عروعير متروكة ، تكون للقطعان فتربض وليس من يخيف " إش 17 : 1 – 2 .
كانت دمشق مزدهرة جدا حتى حاصرها تغلث فلاشر وقتل ملكها وسبى شعبها فصارت أشبه برجمة خربة .
عروعير – المذكورة هنا – مدينة فى جلعاد بالقرب من ربة التى هى ربة عمون ( يش 30 : 25 ، قض 11 : 33 ) عمان عاصمة الأردن .
دمشق وعروعير يمثلان النفس المتشامخة على الله والمتحالفة مع الغير ضد كنيسته ، فإنه وإن كان الله يتركها زمانا لتظهر قوية وناجحة ومزدهرة ، لكنها تعود فتنهار من جانبين :
( أ ) تتحول من مدينة عظيمة إلى رجمة خربة ...
( ب ) تتحول عروعير من مسكن للناس ( مع الله ) إلى مرعى للقطعان والحيوانات . وكأن مقاومتنا للحق تفقدنا كرامتنا وتحول حياتنا إلى ملهى لكل حيوان ، فنحمل الطبيعة الحيوانية الجسدانية .
( 2 ) هزيمة افرايم
تزعمت دمشق فكرة التحالف ضد يهوذا لهذا استحقت أن تعاقب أولا ، وإذ ضعفت إسرائيل وخضعت للمشورة استحقت هى أيضا التأديب القاسى مع فتح باب الرجاء أمامها وإعلان وجود بقية أمينة ومخلصة تتمتع بخلاص الله .
تقدم النبوة الثمرة الطبيعية للتحالف الشرير الذى فيه اتكاء على الذراع البشرى والفكر الإنسانى البحت مع تجاهل العمل الإلهى ، هذه الثمرة هى عقوبة طبيعية يسقط تحتها الإنسان فى شره .
( أ ) فقدان الحصانة : " يزول الحصن من أفرايم " إش 17 : 3 ؛
" فى ذلك اليوم تصير مدنه الحصينة كالردم فى الغاب والشوامخ التى تركوها من وجه بنى إسرائيل فصارت خرابا " إش 17 : 9 .
إن كان الله إله خلاصنا هو صخرة حصننا ( إش 17 : 10 ) فإن اعتزالنا إياه ورفضنا لعمله هو زوال للحصن الحقيقى ... عندئذ لا تقدر الحصون أن تحمى مدينتنا الداخلية بل تصير كردم فى وسط الغاب بلا قيمة وكشوامخ متروكة لها المظهر الخارجى دون قوة العمل !
الله هو حصننا الذى فيه نلتجىء فتستريح أعماقنا ، عندئذ لا تقدر كل قوى الظلمة أن تتسلل إلينا .
( ب ) فقدان المجد الداخلى : " ويكون فى ذلك اليوم أن مجد يعقوب يذل " إش 17 : 4 . إن كان مجد ابنة الملك من الداخل ( مز 45 ) ، فإن سر مجدها هو مسيحها الساكن فيها ، الذى يقيم ملكوته داخلها . بالمسيح يسوع نتمجد ليس فقط أمام الناس وإنما أيضا أمام الآب ، إذ يقول القديس جيروم :
تطلع إلينا ، فإنك ترى إبنك الساكن فينا
( جـ ) فقدان القوة : " وسمان لحمه تهزل " إش 17 : 4 ، لهذا يقول السيد المسيح :
" بدونى لا تقدرون أن تفعلوا شيئا " يو 15 : 5 .
+ لا نقدر أن نجرى فى طريق الله ما لم نكن محمولين
على أجنحة الروح .
+ ليس أقوى من الذى يتمتع بالعون السماوى كما
أنه ليس أضعف من الذى يحرم منه .
+ لا نخشى شيئا ، فإننا لكى نقهر الشيطان يلزمنا أن نعرف أن مهارتنا لن تفيد شيئا ،
وأن كل شىء هو من نعمة الله . [ القديس يوحنا الذهبى الفم ] .
( د ) فقدان الثمر ، فقد عرف وادى رفايم بخصوبة أرضه ووفرة ثماره ومحصولاته ، لكن بسبب الأعداء لا يتبقى لأفرايم إلا أن يلتقط السنابل الساقطة وراء الحصادين ويجمع ما تبقى فى رأس الفروع من شجر الزيتون حبتين أو ثلاث فقط ( إش 17 : 5 ، 6 ) أى يصيروا كالفقراء الذين ليس لهم ما يحصدونه ( تث 24 : 20 ) .
إنهم يسيجون الحقول ويزرعون ولكن فى وقت الحصاد يأتى العدو ليغتصب تاركا لهم ما يسقط منه على الأرض ، فتتحول أعياد الحصاد إلى أزمنة للكآبة وعدم الرجاء ( إش 17 : 11 ) . بمعنى آخر يفقدون تعب جهادهم ويخسرون فرحهم وسلامهم .
الآن نتساءل : لماذا يسمح الله لأفرايم بهذا الذل ؟
لكى يرجع إلى الله خالقه عوض مشاركة الأراميين مشوراتهم الشريرة وعباداتهم الوثنية ورجاساتهم الدنسة ، إذ يقول : " فى ذلك اليوم يلتفت الإنسان إلى صانعه وتنظر عيناه إلى قدوس إسرائيل ، ولا يلتفت إلى المذابح صنعة يديه ، ولا ينظر إلى ما صنعته أصابعه السوارى والشماسات " إش 17 : 7 ، 8 .
السوارى هنا تعنى تماثيل الوثنيين ، والصور الخاصة بإلهة الحب والجمال ( عشتار ) ، كانت هذه السوارى تحمل معانى جنسية إباحية ، سمح الله بتأديب شعبه لكى لا يدنس نظرته للجنس بل يرتفع بقلبه وفكره نحو الله ..
أما بالنسبة للشماسات فهى خاصة " مذبح البخور " عند الوثنيين ، لذا جاء هذا التعبير خاصا بالعبادة الوثنية متمايزا عن البخور المقدس الذى يقدم فى الهيكل .
( 3 ) هجوم الأعداء
يشبه الأعداء بالبحر الذى لا يمكن مقاومته .. فى تصوير رائع يقول :
" آه ضجيج شعوب كثيرة .. قبائل تهدر كهدير مياة كثيرة ، ولكنه ينتهرها فتهرب بعيدا وتطرد كعصافة الجبال أمام الريح ، وكالجل أمام الزوبعة ، فى وقت المساء إذا رعب ، قبل الصبح ليسوا هم . هذا نصيب ناهبينا وحظ سالبينا " إش 17 : 12 – 14 .
يسمح الله للأعداء أن يهجموا كمياة بحار غزيرة لا يقف أحد أمامها ، لكنه إذ ينتهرها تصير كعافة فى مهب الريح على الجبال ليس لها موضع استقرار ولا قدرة على المقاومة .
لذلك يقول " فى وقت المساء رعب " إش 17 : 14 .
بمعنى أنه متى غاب شمس البر عن حياتنا تحل الظلمة فينا ونصير كما فى المساء ليجد العدو له فينا موضعا فيرعبنا ...
إشعياء – الإصحاح الثامن عشر
كوش تقدم هدية اللـــه
يعتبر هذا الإصحاح من أكثر الإصحاحات غموضا فى الكتاب المقدس . يرى قلة من الدارسين أن الحديث هنا يخص أشور أما الغالبية فترى أن الحديث إما يخص مصر أو أثيوبيا . وقد رفض البعض نسبته إلى مصر بحجة أن الوحى الخاص بمصر جاء فى الإصحاح التالى متدئا بالقول " وحى من جهة مصر " إش 19 : 1 .
يقصد بكوش جنوب مصر ، حاليا النوبة والسودان وأثيوبيا ، وكان ملكها القدير ترهاقة ( 2 مل 19 : 9 ) قد ملك على كوش ومصر ، هذا بعث برسل على سفن صغيرة مصنوعة من حلف البردى إلى يهوذا طالبا التحالف معه ضد سنحاريب ملك أشور .
لقد أراد النبىأن يؤكد إن كان كوش يطلب تحالفا ضد قوى أشور المتزايدة ، فإن كوش ومعها مصر ستأتى إلى أورشليم مع بقية الأمم لتتعبد خاضعة لرب الجنود . بمعنى آخر الله لا يحتاج إلى تحالفات بشرية ضد قوى الشر إنما هو حصن منيع لكل الأمم التى تترجاه وتتعبد له .
( 1 ) إرسالية من كوش
يوجه النبى حديثه إلى كوش قائلا : " يا أرض حفيف الأجنحة التى فى عبر أنهار كوش " إش 18 : 1 .
ماذا يقصد بارض حفيف الأجنحة ؟
( أ ) يرى البعض أنها إشارة إلى السلطان الأمبراطورى الذى كان يبسط جناحيه على كل أرض كوش وما حولها . وقد استخدم الكتاب المقدس هذا التشبيه مرارا كثيرة ، فقيل عن ملك أشور " يكون بسط جناحيه ملء عرض بلادك يا عمانوئيل " إش 8 : 8 . كما شبه ملك أشور بنسر عظيم ذى منكبين ( حز 17 ) .
( ب ) يرى بعض الدارسين أن حفيف الأجنحة يشير إلى سلطان مصر وعظمتها ، وآخرون يروا أنها بريطانيا العظمى التى حملت أمجادا عظيمة عبرالبحار وآخرون حسبوها الولايات المتحدة الأميريكية التى تتخذ النسر شعارا لها .
( جـ ) يشير حفيف الأجنحة إلى الحشرات ، لذا فهى ترمز إلى كوش كبلاد تشتهر بحشراتها الطائرة ، خاصة وأن الكلمة العبرية هنا استخدمت فى تث 28 : 42 عن الحشرات ( الصرصر )
( د) كلمة sel تعنى " ظلا " ، لذا فهى تشير إلى بلاد قريبة من خط الأستواء حيث يكون الظل مضاعفا ( أو ذات أهمية لشدة الحر )
على أى الأحوال بعث ملك أثيوبيا رسلا خلال سفنه المصنوعة من البردى ، وكان على عجلة ، لأن العدو على الأبواب ويمثل خطرا على العالم كله فى ذلك الحين . لقد عرف الأثيوبيون بقدرتهم على التجسس على مواقع الأعداء وتحركاتهم بواسطة سفنهم الصغيرة السريعة ، لهذا لم يتوان الملك فى التحرك ليدعو يهوذا إلى التحالف ضد خطر أشور المتزايد .
كانت إرسالية الملك هى للتحالف ، لكنها ليست إرسالية سلام ، وإنما إرسالية دعوة للحرب ضد أشور وثورة ضد سنحاريب ، الأمر الذى تترقبه كل الشعوب ، إذ قيل : " يا جميع سكان المسكونة وقاطنى الأرض عندما ترتفع الراية ( راية الحرب ) على الجبال تنظرون ، وعندما يضرب بالبوق تسمعون " إش 18 : 3 .
يقول النبى : " اذهبوا أيها الرسل السريعون إلى أمة طويلة وجرداء ، إلى شعب مخوف منذ كان فصاعدا ، أمة قوة وشدة ودوس قد خرقت الأنهار أرضها " .
يرى البعض أن الوصف هناك ينطبق على الأثيوبيين أو الأشوريين أو الماديين .. لكن الإرسالية كانت موجهة إلى شعب الله الذى دعى " شعب مخوف " ، لأن إلهه مخوف ( خر 23 : 27 ؛ 34 : 10 ، تث 28 : 58 ، يش 2 : 9 ، مز 139 : 14 ) . إنه شعب مخوف منذ كان ، أى منذ بداية نشأته ، إذ خرج من مصر بيد قوية وذراع رفيعة . أما قوله " قد خرقت الأنهار ارضها " إش 18 : 2 فيشير إلى خطورة موقفها ، لأن العدو مزمع أن يهاجمها فيكون كنهر جارف ، ووصفها " أمة طويلة ( ممدودة ) وجرداء ( حادة ) " إش 18 : 2 ، جاء فى الترجمة السبعينية " أمة مسحوقة وممزقة " ... إذ يسحب العدو الشعب كالغنم ويجرونهم إلى السبى فيصيروا مسحولين .
إن كان النبى يطلب من الشعب ألا يقبل إرسالية ملك كوش للتحالف معا ، فما هو موقف الله من هجمات أشور على شعبه ؟
" لأنه هكذا قال لى الرب : إنى أهدأ وأنظر فى مسكنى كالحر الصافى على البقل ، كغيم الندى فى حر الحصاد " إش 18 : 4 .
يبدو كأن الله هادئا ساكنا لا يعبأ بأمورنا ، وقد يترك الله ملك أشور المتجبر يدمر ويهلك ويحطم مدنا حتى يبلغ إلى أبواب أورشليم عندئذ يعلن الله عن دوره الخفى ويرد ملك أشور خائبا محطما كبرياءه وجيشه .
ما ندعوه تركا هو رعاية ، فإن الله ينظر إلينا وسط ضيقتنا فيحول المر إلى حلو يعطى نضوجا للبقول ، أو كغيم فى حر الحصاد يعطى رطوبة وظلا ... من الظاهر آلام ومن الداخل بنيان وراحة !
يرى أيضا فى الضيقات نوعا من " تقليم الأشجار " أى نزع الفروع الزائدة حتى تأتى الشجرة بثمر متكاثر ( إش 18 : 5 ) .
أخيرا بعد أن سمح لسنحاريب بالنصرة على كثير من مدن يهوذا حطمه وحطم جيشه قبل دخولـه أورشليم ، فصارت جثثهم مأكلا للوحوش والطيور الجارحة ( إش 18 : 6 ) ، إذ مات فى يوم واحد 185 ألفا من جيش سنحاريب .
( 2 ) كوش تقدم هدية لله
إن كانت كوش أو مصر أو غيرهما من الأمم يحسبون أنهم قادرون على حماية شعب الله من أشور فستكشف الأمم جميعا أنها فى حاجة إلى الخارج من سبط يهوذا لكى يحميهم من إبليس وكل أعماله الشريرة ، فتأتى الأمم التى كانت مضروبة بالتشامخ فى خضوع لتقدم هدية لرب الجنود ( إش 18 : 7 ) فى جبل صهيون ، أى فى كنيسته .
رأى إشعياء النبى أعدادا بلا حصر من الملوك والرؤساء ةالعظماء يأتون إلى أورشليم يسجدون للملك الحقيقى الذى لم يحمل على رأسه إكليلا زمنيا بل إكليل شوك . رأى المؤمنين كملوك روحيين يخضعون لملك الملوك رب المجد يسوع الخارج من سبط يهوذا .
+ +
إشعيــــــاء - الإصحاح التاسع عشر
مبارك شعبى مصر
مبــــارك شعبـــى مصـــــر
فى الإصحاح السابق حث النبى ملك كوش ومصر على تقديم هدية لرب الجنود فى جبل صهيون عوض أن يبعث برسله طالبا التحالف مع شعب الله ضد أشور ، أما فى هذا الإصحاح فيقدم إشعيا النبى وحيا من جهة مصر .. بكونها تمثل بفرعونها عنف العالم وقسوته ، وبخصوبة أرضها إغراءات العالم وترفه ، وبأوثانها وهياكلها الإتكال على الحكمة البشرية والقدرات الإنسانية .. لقد رأى النبى الرب نفسه قادما إلى مصر محمولا على يدى القديسة مريم ، السحابة البيضاء الخفيفة السريعة ، يأتى فى طفولته ليحطم ببساطته أوثانها وحكماءها وسحرتها .. وليقيم مذبحا له فى وسطها .. وعمودا عند تخومها .. نبوة صريحة عما حدث بخصوص العائلة المقدسة وأيضا عن إقامة الكنيسة المسيحية الحية فى مصر كشعب مبارك للرب .
( 1 ) هروب العائلة المقدسة :
لا نجد بلدا يتحدث عنه الكتاب المقدس مثل مصر وذلك بعد كنعان ، والسبب فى ذلك أن إسرائيل كأمة وكشعب أقامت فى مصر ، وعاش اليهود هناك حوالى 400 سنة وأخيرا خرجوا بذراع رفيعة . بخروجهم خلال دم الحملان صاروا رمزا للعالم كله المتحرر من عبودية إبليس خلال دم المسيح الذبيح الفريد ، صارت مصر تمثل قوة العالم بصفة عامة وبيت العبودية الذى يخلص شعبه منه .
افتتح إشعياء نبوته عن مصر بصورة تخص مصر ، قائلا : " هوذا الرب راكب على سحابة سريعة وقادم إلى مصر فترتجف أوثان مصر من وجهه ويذوب قلب مصر داخلها " إ ش 19 : 1
يرى القديس كيرلس الكبير : أن السحابة الخفيفة السريعة هى القديسة العذراء مريم التى قدسها روح الرب فصارت خفيفة ومرتفعة تحمل رب المجد يسوع لتهرب به إلى مصر من وجه هيرودس ( مت 2 : 13 – 15 ) .. بدخولـه ارتجفت الأوثان واهتزت العبادة الوثنية ، وذاب قلب المصريين حبا ليقبلوه ساكنا فيهم ؛ لهذا تسبح الكنيسة فى عيد دخول السيد المسيح مصر ، قائلة : [ افرحى وتهللى يامصر مع بنيها وكل تخومها ، لأنه قد أتى إليك محب البشر ، الكائن قبل كل الدهور ] .
إن كانت مصر قد مثلت العالم الوثنى القديم فى عنفه ورجاساته ولكنها أيضا كانت ملجأ للكثيرين : جاء إليها أبونا إبراهيم ( تك 12 : 10 ) ، واستقبلت يوسف المضطهد من إخوته ليصير الرجل الثانى بعد فرعون ، وإليها جاء ابونا غبراهيم وبنوه حيث بدأت نواة الشعب العبرانى .. شعب الله المختار .. والأسباط الأثنى عشر فى داخلها .. وظهر أول قائد لهم هو موسى العظيم فى الأنبياء يسنده أول رئيس كهنة . وجاء أرميا النبى ( إر 43 ) . أما مجىء المسيح له المجد إلى أرضنا فقد أقام كنيسته فيها تصطبغ بروح البركة الربانية .
تحولت مصر من كونها أكبر معقل للوثنية إلى أعظم مركز للفكر المسيحى والعبادة الروحية والحياة الإنجيلية فى فترة وجيزة .. تلألأ نجم كنيسة مصر بمدرسة السكندرية معلمة اللاهوت وتفسير الكتاب المقدس للعالم المسيحى الأول . وقائدة حركة الدفاع عن الإيمان المستقيم على مستوى مسكونى .. ومن مصر انطلقت حركة الرهبنة المسيحية بكل صورها لتسحب قلب الكنيسة إلى البرية ، فتمارس الحياة الداخلية الملائكية ..
وقدمت مصر أعدادا بلا حصر من الشهداء والمعترفين ، تسابق الكثيرون على نوال أكاليل الأستشهاد بفرح وبهجة قلب .
جاء السيد المسيح إلى مصر ليضع حجر أساس الكرازة المرقسية قبل مجىء مارمرقس بسنين .
وليعلن للعالم أن مصر هى البلد الوحيد المؤهلة لحفظ الإيمان المستقيم فى العالم : " ... وعلى هذه الصخرة أبنى كنيسنى وأبواب الجحيم لن تقوى عليها " .
وتاريخ مصر القديم والحديث شاهد على ذلك ، كل من يحاول أن يمد يده بالإساءة إلى الكنيسة فى مصر يتحطم ويذهب ، وتبقى كنيستنا قوية وشامخة بفاديها .. " من له أذنان للسمع فليسمع " .
( 2 ) تأديب مصر
هروب العائلة المقدسة إلى مصر وإقامة مذبح للرب هناك لا يعنى التغطية على شرورها ، وإنما على العكس كشف الرب عن ضعفاتها وجراحاتها الروحية حتى ينزع عنها كل ضعف ( مملكة الشر ) ويقيم ما هو جديد ( ملكوت الله ) .
مجىء الرب إليها يعنى هدم أوثانها وإزالة رجاساتها لأجل تقديس شعبها .
لقد أبرز ثمار الرجاسات القديمة ، ألا وهى :
أولا : قيام حروب أهلية ، : " وأهيج مصريين على مصريين فيحاربون كل واحد أخاه وكل واحد صاحبه مدينة مدينة ومملكة مملكة ، وتهراق روح مصر " إ ش 19 : 2 ، 3 .
هذه ثمرة طبيعية لأعتزالها الله واهب السلام الداخلى والحب والوحدة . تحدث حروب على مستوى الأشخاص حتى بين الأصدقاء وعلى مستوى المدن والممالك
[ وجدت مملكة فى مصر العليا وأخرى فى مصر السفلى ] ، الشر يحطم النفس الداخلية ويدخل بها إلى حالة يأس وإحباط .
ثانيا : فقدان الحكمة الحقيقية ، فقد عرف المصريون كشعب ذكى جدا ، وموسى النبى تهذب بكل حكمة المصريين ( أع 7 : 20 ) ، لكن اعتزالهم الله أفقدهم كل شىء فلجأوا إلى الأوثان يطلبون المشورة : " وأفنى مشورتها ، فيسألون الأوثان والعرفين وأصحاب التوابع والعرافين " إش 19 : 3 .
ثالثا : المعاناة من حكام عتاة ( إش 19 : 4 ) .. يميلون إلى التسلط والسيطرة لا إلى خدمة الشعب وبنيان البلد .
عندما يتقسى قلبنا الداخلى نحو الغير لا نتوقع إلا أن يكال لنا من ذات الكيل الذى به نكيل للغير .. لذا يسمح لنا أن نسقط تحت قيادات عنيفة .
رابعا : المعاناة من حالة جفاف : " وتنشف المياة من البحر ويجف النهر وييبس ، وتنتن الأنهار وتضعف وتجف سواقى مصر ويتلف القصب والأسل ... والصيادون يئنون وكل الذين يلقون شصا فى النيل ينوحون .. ويخزى الذين يعملون الكتان الممشط والذين يحيكون الأنسجة البيضاء ، وتكون عمدها مسحوقة وكل العاملين بالأجرة مكتئبى النفس " إش 19 : 5 – 10
كأن الشر يحمل ثمره المر حتى فى حياة الإنسان اليومية واحتياجاته الضرورية ، إذ يجف نهر النيل ، فتنهار جميع الفوائد المستفادة منه كالزرع والشرب والصيد .... إلخ
خامسا : فقدان الحكماء والمشيرين ، فلا يعانى الإنسان فقط من حالة حرمان مادى ، وإنما من معينين حكماء يسندونه وسط ضيقه . لذا قيل : " إن رؤساء صوعن أغبياء ، حكماء مشيرى فرعون مشورتهم بهيمية . كيف تقولون لفرعون أنا ابن حكماء ابن ملوك قدماء ، فأين هم حكماؤك فليخبروك ليعرفوا ماذا قضى به رب الجنود على مصر " إش 19 : 11 ، 12 .
عوض الحكمة التى عرفت بها مصر حلت الغباوة حتى فى صوعن ، عاصمة شمال مصر القديمة ، لقد قيل : " وفاقت حكمة سليمان حكمة جميع بنى المشرق وكل حكمة مصر " 1 مل 4 : 30 ... لكن هذه الحكمة تزول باعتزال الإنسان إلهه مصدر الحكمة ، لذا يقدم الحكماء مشيرو فرعون مشورة بهيمية ، أى أفكارا جسدانية ( 1 كو 2 ) .
" رؤساء نوف انخدعوا وأضل مصر وجوه أسباطها " إش 19 : 13 . هذه كارثة مصر أنها قبلت الضلالة على أنها حكمة ، فقد انخدع رؤساء عاصمة مصر العليا ( جنوبى الصعيد ) منوف ( ممفيس ) بواسطة الحكماء الشرفاء ، الذين يقابلون الأنبياء الكذبة المنافقين الذين كثيرا ما تحدث عنهم إرميا النبى .
سادسا : فقدان الوعى والدخول فى حالة سكر ؛ " مزج الرب فى وسطها روح غى فأضلوا مصر فى كل عملها كترنح السكران فى قيئه " إش 19 : 14 .
لما كانت الخطية مسكرة تفقد الإنسان وعيه وهدفه فى الحياة لهذا متى شرب كأسها يسمح الله أن يحل به روح الضلال ليترنح كالسكران بلا هدف .
سابعا : الإرتباك بحالة من الخوف : " فى ذلك اليوم تكون مصر كالنساء فترتعد وترتجف من هزة يد الجنود الذى يقضى به عليها " إش 19 : 16 . فرعون الذى يحسب نفسه منقذا لإسرائيل ويهوذا من يد أشور فى عجرفة وكبرياء يرتعب هو ورجاله ويصيرون كالنساء أمام رب الجنود وأمام يهوذا ( إش 19 : 17 ) .
كأن الرب يشجع يهوذا ألا يرلعب من كلمات فرعون ولا يدخل معه فى تحالف كما فعل إسرائيل وآرام ، فإن فرعون نفسه يرتعب لا أمام أشور بل أمام يهوذا نفسه .
( 3 ) إقامة مذبح للرب
بعد أن كشف الله عن جراحات مصر وما فعلته الخطية بها من فقدان للوحدة الداخلية والحكمة الحقة مع معاناة من قسوة الحاكم وقسوة الطبيعة ( الجفاف ) وارتباك فى إقتصادياتها ( الزراعة والصناعة ) وعجز فى الطاقات البشرية القيادية بل ودخول فى حالة من اللاوعى والسكر مع الخوف والأرتباك حتى أمام يهوذا المملكة الصغيرة ، فإن الله يتدخل ليشفى جراحاتها ويخلصها ، مقدما لها البركات التالية :
( أ ) لغة جديدة : " فى ذلك اليوم يكون فى أرض مصر خمس مدن تتكلم بلغة كنعان وتحلف لرب الجنود يقال لأحداها مدينة الشمس " إش 19 : 18 ..
ما هذه المدن الخمسة إلا حواس المؤمن ؛ فإذ يقبل الأمم على الإيمان بالسيد المسيح يسلمون الحواس الخمس فى يديه لتقديسها لتتكلم بلغة الروح عوض لغة الجسد ، فيقال لها كما قيل لبطرس الرسول : " لغتك تظهرك " مت 26 : 73 ، مر 14 : 70 .
يرتفع قلب المؤمن إلى كنعان السماوية ، نشارك السمائيين ليتورجياتهم وفرحهم الدائم ، ولا نكون شعبا " غامض اللغة " حز 3 : 5 .
( ب ) القسم باسم رب الجنود ؛ ماذا يعنى : " تحلف لرب الجنود " إش 19 : 18 ؟
كان القسم دليل الثقة والإيمان بمن يقسم الإنسان بإسمه ، فعوض القسم بالآلهة الوثنية يقبل الأمم – وعلى رأسهم مصر – الإيمان برب الجنود ويتمسك المصريون بإسمه ، حاسبين ذلك سر قوتهم .
( جـ ) دعوة إحدى المدن " مدينة الشـــمس " إ ش 19 : 18 ، يقصـــــد بهــا : " هليوبوليس " التى كانت مركزا لعبادة الشمس ، فقد تحولت عن العبادة للشمس المادية إلى العبادة لشمس البر الذى يشرق على الجالسين فى الظلمة .
جاءت فى الترجمة السبعينية " المدينة البارة " إذ تحمل بر المسيح فيها .
( د ) إقامة مذبح للرب : " فى ذلك الوقت يكون مذبح للرب فى وسط أرض مصر وعمود للرب عند تخمها " إش 19 : 19 .. يقصد بها مذابح كنيسة العهد الجديد ، إذ كان مذبح العهد القديم فى أورشليم ولا يجوز تقديم ذبائح للرب خارجها . لقد عبرت العائلة المقدسة إلى صعيد مصر واختفت حوالى ستة شهور فى الموضع الذى أقيم عليه الآن دير العذراء الشهير بالمحرق ، وهو يعتبر فى وسط مصر ، فيه أقيم كنيسة للرب وتقدم عليه ذبيحة الأفخارستيا ، التى هى تمتع بذبيحة الصليب عينها .
أما العمود الذى فى تخمها فهو القديس مارمرقس الرسول الذى جاء إلى الأسكندرية ( على تخم مصر ) يكرز بلإنجيل ، ويقيم مذبح كنيسة العهد الجديد ، لكى يتمتع المصريون بالخلاص من عدو الخير مضايقهم ، ويكون الرب نفسه محاميا وشفيعا ومنقذا لهم ( إش 19 : 20 ) .
( هـ ) المعرفة الروحية : " فيعرف الرب فى مصر ، ويعرف المصريون الرب فى ذلك اليوم " إش 19 : 21 . اهتم المصريون بالمعرفة الروحية ، وأقيمت مدرسة الأسكندرية لهذه الغاية ، نشر معرفة الرب لا خلال أفكار عقلانية مجردة ، وإنما خلال حياة تعبدية نسكية وخبرة شركة مع الله الآب فى إبنه يسوع المسيح بروحه القدوس .
امتزجت المعرفة بالعبادة ، إذ يكمل النبى : " ويقدون ذبيحة وتقدمة وينذرون للرب نذرا ويوفون به " إش 19 : 21 .
( و ) شفاء داخلى : " ويضرب الرب مصر ضاربا فشافيا فيرجعون إلى الرب فيستجيب لهم ويشفيهم " إش 19 : 22
يسمح الله بضربها أى بتأديبها عن الضعف الذى فيها لكى تكتشف ذاتها وتدرك حاجتها إلى المخلص ، فترجع إليه لتجده الطبيب القادر وحده أن يشفى جراحات النفس ويرد لها سلامها ... جاء مسيحنا طبيبا ودواء فى نفس الوقت :
+ مبارك هو " الطبيب الذى نزل وبتر بغير ألم ، شفى جراحاتنا بداء غير مرير ، فقد أظهر إبنه " دواء " يشفى الخطاة ! ( القديس مار آفرام السريانى ) .
( ز ) إذ كان الصراع العالمى فى ذلك الحين قائم بين أشور ومصر ، وكانت الدول الأخرى من بينها إسرائيل ضحية هذا الصراع ، فإن مجىء رب المجد يسوع يعطى للكل سلاما ، ويشعر الكل – فى المسيح يسوع – أن الأرض للرب ولمسيحه ، وليست مركزا للنزاع ، ويشترك الكل معا فى العبادة .
فى تصوير رائع لهذا السلام يقول النبى : " فى ذلك اليوم تكون سكة من مصر إلى أشور فيجىء الأشوريون إلى مصر والمصريون إلى أشور ، ويعبد المصريون مع الأشوريون . فى ذلك اليوم يكون إسرائيل ثلثا لمصر ولأشور بركة فى الأرض ، بها يبارك رب الجنود قائلا :
مبارك شعبى مصر وعمل يدى أشور وميراثى إسرائيل " ( إش 19 : 24 )
ماذا يعنى " فى ذلك اليوم " التى تكررت حوالى خمس مرات فى الأعداد 18 – 25 ، إلا ملء الزمان الذى فيه جاء السيد المسيح ليحقق لنا هذه البركات ، جاء بكونه " الطريق " الذى فيه تجتمع الأمم لتتمتع برح الوحدة الروحية وفيض البركة .
ماذا يعنى اجتماع مصر وأشور وإسرائيل معا فى التمتع بالبركة الإلهية والميراث الأبدى ؟ إنها صورة رمزية للكنيسة الجامعة التى ضمت الأعداء معا بروح الحب والوحدة . لقد كانت اسرائيل فى ذلك الحين فى صراع بين التحالف مع مصر أو أشور القوتين العالميتين المتضادتين فى ذلك الحين . لكن مجىء السيد المسيح عالج المشكلة إذ صار الكل أعضاء فى كنيسة واحدة تتمتع بالعمل الإلهى ، فدعى المصريون شعب الله ، وأشور عمل يدية ، وإسرائيل ميراثه .
+ + +
إشعياء – الإصحاح العشرون
خضوع مصر لآشور
فى الوقت الذى فيه يعلن الله عن خطته من جهة مصر بل ومن جهة كل الأمم ممثلة فى مصر أنه يقيم مملكته الروحية فى وسطها ويهبها بركته يعود فيؤكد لبنى يهوذا أنه يجب ألا يتكلوا على مصر لحمايتهم من أشور فإن مصر نفسها ( وكوش ) يسبيها أشور ، حتى لا يثقوا فى الأذرع البشرية .
( 1 ) سبى مصر وكوش
كان بعض النقاد يظنون أن سرجون ملك أشور الذى أرسل ترتان إلى أشدود هو شلمناصر أو سنحاريب . بينما أنكر البعض وجود ملك بهذا الإسم فى أشور ، لكن كما يقول أحد الآباء أن الله جعل الحجارة تنطق ليخجل غير المؤمنين ، فقد عرف اليوم أن سرجون من أقوى ملوك أشور . وأنه هو أب سنحاريب ، اغتصب العرش من شلمناصر الخامس وخلفه .
كلمة " سرجون " ليس إسم شخص وإنما فى الغالب كان لقبا خاصا بقيادة الجيش .
أرسل سرجون رئيس جيشه إلى أشدود قاصدا سوا ملك مصر ( 2 مل 17 : 4 ) ، إذ تعتبر أشدود التى على حدود الفلسطينيين مفتاحا للدخول إلى مصر .
كشفت الدراسات الحديثة أن سوا ليس اسما لفرعون ، وإنما هو اختصار لإسم قائد كتيبة فى الدلتا يدعى Sibe ، أو هو اختصار لأسم مدينة فى غرب الدلتا تسمى Sais استخدمها تافنخت لأقامته .
إذ هزم أشور آرام وافرايم حان الوقت لضرب فرعون ، لذا أرسل الملك قائده إلى اشدود فافتتحها ، وهو نفس القائد الذى استخدمه سنحاريب فى حصار أورشليم .
أراد الله أن يحرك مشاعر شعبه ويغير قلوبهم ويؤنبهم على اتكالهم على مصر وكوش لذا طلب من نبيه أن يمشى أمام الشعب عريانا حافى القدمين لمدة ثلاث سنوات ليكون هو نفسه نبوة عما سيحل بمصر وكوش حين يسبيهما أشور ويقود عظمائهما للسبى عبيدا عراة حفاة الأقدام ومكشوفى الأستاه . صار إشعياء نفسه آية وأعجوبة ( إش 20 : 3 ) يستهزىء به كل ناظريه من أجل ما حل به ، وذلك لأجل خلاص شعبه ومنعهم من الإتكال على فرعون مصر .
كان إشعياء فى آلامه وعريه يحمل ظلا لآلام السيد المسيح الذى احتمل العرى لكى يسترنا ببره ، حمل جراحات شعبه فى جسده لكى يشفينا . سار إشعياء كعبد لا يرتدى الثوب الخارجى ولا ينتعل حذاء صورة لسيده الذى صار كعبد ( فى 2 : 7 ) لكى يحررنا من نير العبودية .
( 2 ) انهيار يهوذا
إذ يخضع فرعون لأشور يرتعب بنو يهوذا ، ويتحطم رجاؤهم وتذل مصر فخرهم ، قائلين : " هوذا هكذا ملجأنا الذى هربنا إليه للمعونة لننجو من ملك أشور فكيف نسلم نحن ؟! " إش 20 : 6 .
هذه هى نهاية كل من يتكل على ذراع بشرى !
================================================== =======
تم في 4-9-2006
HUNTER: الأخ
الله محبة
مقدمة فى سفر إشعياء : دعى إشعياء : " النبى الأنجيلى " ، ودعى سفره :
" إنجيل إشعياء " أو " الإنجيل الخامس " . من يقرأه يظن أنه أمام أحد أسفار العهد الجديد ، وأن الكاتب أشبه بشاهد عيان لحياة السيد المسيح وعمله الكفارى خاصة " الصليب " ؛ يرى صورة حية للفداء وأسراره الإلهية العميقة .
قال عنه أحد الآباء :[ إنه أكثر من أى كتاب نبوى آخر ، يحوى أكمل النبوات المسيانية التى وجدت فى العهد القديم ، يشهد بطريقة أكيدة عن آلام المسيح وما يتبعها من أمجاد ]
اهتم به آباء الكنيسة خاصة فى حوارهم مع غير المؤمنين لأجل ما تضمنه من نبوات كثيرة وصريحة عن شخص السيد المسيح وعمله الفدائى وكنيسته وعطية روحه القدوس الخ ... .
+ + +
الإصحاح الأول [ 1 – 9 ]
المحاكمة العظمى
يفتتح هذا السفر بإعلان الله عن محاكمة شعبه ، فيها يقف الله مدعيا وقاضيا . لا يريد أن يحكم عليهم دون إعطائهم فرصة للدفاع عن أنفسهم .
يستدعى الطبيعة الجامدة والأحداث الجارية حتى القضاة الظالمين شهودا ضد شعبه .
يعلن الإتهام وفى نفس الوقت يقدم فرصة للحوار ويفتح باب العفو إن رجعوا إليه بالتوبة ، يقف قاضيا وديانا وفى نفس الوقت طبيبا ومخلصا . يفتح ذراعيه للنفوس الساقطة .
( 1 ) مقدمة السفر
" رؤيا إشعياء بن آموص الى رآها على يهوذا وأورليم فى أيام عزيا ويوثام وآحاز وحزقيا ملوك يهوذا " إش 1 : 1
تعتبر هذه العبارة مقدمة للسفر كله الذى يضم مجموعة رؤى ونبوات أعلنت لإشعياء فى ظروف مختلفة أيام عزيا العظيم ويوثام الملك الصالح وآحاز بعهده المظلم وحزقيا ومنسى الخ ..... لكنه يدعوها جميعا " رؤيا " ، لأنها وإن كانت رؤى متباينة إنما تمثل وحدة واحدة ، لها هدف واحد هو إعلان الله عن فكره ومشيئته وخطته الخلاصية من أجل بنيان الجماعة المقدسة أو لتقديس البشرية المؤمنة به .
هذه الرؤى تمس حياة كل إنسان يشتاق نحو خلاص نفسه وتمتعه بالشركة مع الله .
( 2 ) استدعاء الطبيعة :
" إسمعى أيتها السموات وأصغى أيتها الأرض لأن الرب يتكلم : ربيت بنين ونشأتهم . أما هم فعصوا على " إش 1 : 2
يبدأ السفر بمحاكمة عظمى طرفاها الله والإنسان ، تستدعى فيها الطبيعة الجامدة – السماء والأرض – لتشهد هذه المحاكمة .
ربما استدعى إشعياء النبى الطبيعة كما سبق ففعل موسى النبى [ راجع تث 32 : 1 ] . كأن إشعياء يؤكد لشعبه أن ما ينطق به إنما هو امتداد لكلمات موسى النبى الذى يعتز به كل يهودى .
الله لا يحمل مشاعر إنسانية لكنه ليس كائنا جامدا ، إنما هو " الحب " عينه ، فريد فى حبه لخليقته السماوية والأرضية ، خاصة حبه نحو الإنسان . لهذا إذ يتحدث معنا نحن البشر يحدثنا بلغتنا البشرية معبرا عن حبه كما بمشاعر إنسانية حتى يمكننا التلامس معه واختبار الإتحاد والشركة معه .
يتوقع الله فينا أن نحمل روح البنوة المتجاوبة مع أبوة الله الفريدة الحانية التى كلفته الكثير .
يعاتب الله أولاده من أجل عصيانهم ، فإن عصيان البنين أمر من عصيان الأجراء والعبيد ، جراحات الأحباء خاصة البنين أقسى من تلك التى يسببها الأعداء .
( 3 ) استدعاء الحيوانات :
" الثور يعرف قانيه ، والحمار معلف صاحبه ، أما إسرائيل فلا يعرف ، شعبى لا يفهم " إش 1 : 3
إن كان الله قد دعى إسرائيل ابنه البكر ( خر 4 : 22 ) ، فكان يليق بالإبن أن يعرف أباه ويدرك أسراره ويتجاوب مع مقاصده وإرادته ، لكن الإنسان خلال عصيانه انحط منحدرا إلى ما هو أدنى من الحيوانات العجماوات ، إذا كان الإنسان قد انحط إلى ما هو أدنى من الحيوان ، فأخذ السيد المسيح طبيعتنا وصعد إلى السماوات ليرفع طبيعتنا إلى ما هو سماوى
( 4 ) وصف لحال الشعب :
أولا : وصفهم بسبع سمات فى إش 1 : 4 – الثلاثة تشير إلى خطايا النفس الداخلية التى على صورة الثالوث ، والأربعة تشير إلى خطايا الجسد الظاهرة .
وكأن الشعب قد تدنس فى الداخل والخارج ، بخطايا خفية وظاهرة ، فى الجسد والروح .
السمات الأربع الأولى هنا تشير إلى الخطايا الجسدية الظاهرة : " ويل للأمة الخاطئة ، الشعب الثقيل الإثم ، نسل فاعلى الشر ، أولاد مفسدين " ؛ والسمات الثلاثة الأخيرة تمثل الخطايا الداخلية : " تركوا الرب ، استهانوا بقدوس إسرائيل ، ارتدوا إلى الوراء " .
رقم 7 يشير إلى " التمام " ، وكأن خطاياهم قد بلغت إلى تمام الحد .
" علام تضربون بعد ؟! تزدادون زيغانا ، كل الرأس مريض وكل القلب سقيم ؛ من أسفل القدم إلى الرأس ، ليس فيه صحة بل جرح وإحباط ، وضربة طرية لم تعصر ولم تلين بالزيت " إش 1 : 5 ، 6 .
يعلن الله أن هذا الشعب قد رفض النبوة لله لذا لم يعد مستحقا أن يكون موضع اهتمام الله وتأديبه . فقد سبق فأدبهم كأبناء له لكنهم ازدادوا زيغانا ، لذا يود أن يوقف التأديبات الأبوية تاركا إياهم لنوال ثمر فسادهم الطبيعى .
" بلادكم خربة ، مدنكم محرقة بالنار ، أرضكم تأكلها غرباء قدامكم وهى خربة كانقلاب الغرباء ، فبقيت إبنة صهيون كمظلة فى كرم ، كخيمة فى مقثأة ، كمدينة محاصرة " إش 1 : 7 ، 8 .
يتحدث النبى هنا عما سيحل بيهوذا بعد غزو سنحاريب الأشورى حاسبا ما سيحل بهم فى المستقبل كأنه حاضر ، لأنه أمر حادث لا محالة .
هذا الخراب الذى حل هو علامة على ما أرتكبه يهوذا من آثام ، وحتمية طبيعية لتركهم الله مقدسهم وارتدادهم عنه ، وعدم طاعتهم لصوته .
هكذا كل نفس لا تلتصق بالله مقدسها يحل الخراب بكل مدنها : الجسد والنفس والفكر والقلب مع كل الأحاسيس والمشاعر الخ ....
وسط هذا الخراب المطبق يجد الله بقية قليلة أمينة تشهد له ، بسببها لم يحطم شعبه الذى فسد ، إذ قيل :
" لولا أن رب الجنود أبقى لنا بقية صغيرة لصرنا مثل سدوم وشابهنا عمورة " إش 1 : 9 .
لا يهتم الله بكثرة العدد وإنما بالبقية القليلة التى تتقدس له وسط الفساد الذى يحل بالكثيرين .
( 5 ) استدعاء القضاة :
" اسمعوا كلام الرب ياقضاة سدوم ، اصغوا إلى شريعة إلهنا يا شعب عمورة " إش 1 : 10 . فى شجاعة بلا خوف ولا مداهنة يدعو إشعياء قضاة الشعب " قضاة سدوم " ويلقب الشعب نفسه " شعب عمورة " ، وذلك من أجل الظلم والفساد الذى أتسم به كل الرؤساء والمرؤوسين .
لا نجد فى كل السفر موقفا واحدا يشعر فيه النبى بالخوف أو الضعف سوى عند رؤيته للسيد المسيح فى مجده ( إش 6 ) ، إذ يخشى إشعياء الله لا الناس .
يرى أن العلاج الوحيد للقضاة كما للشعب هو كلمة الرب وشريعته .
( 6 ) الإتهام : العبادة الشكلية :
الإتهام الموجه إليهم هنا خطير للغاية ؛ فإنه لم ينسب إليهم الإلحاد ولا ممارسة العبادة الوثنية إنما ينسب إليهم الرياء ، يمارسون العبادة لله بدقة شديدة مع حرفية قاتلة ، يقدمون الكثير من الذبائح والتقدمات ويحفظون الأعياد أما قلوبهم فبعيدة عن الله ، وحياتهم فاسدة .
كما قيل لملاك كنيسة اللاودكيين :
" لأنك تقول أنى أنا غنى وقد استغنيت ولا حاجة لى إلى شىء ولست تعلم أنك أنت الشقى والبائس وفقير وأعمى وعريان " رؤ 3 : 17 .
هذا الإتهام اثار آباء الكنيسة للكشف عن غاية العبادة فى حياة الكنيسة سواء فى العهد الجديد أو القديم والإلتزام بعد الإنحراف عن هذه الغاية الإلهية .
يقول : " من طلب هذا من أيديكم أن تدوسوا دورى ؟! إش 1 : 12 . فقد أكثروا الدخول فى الهيكل ليقدموا ذبائح بلا حصر ، فرآهم الله – فى عدم توبتهم – أشبه بالحيوانات التى تدوس بيته وتدنسه ! تحول تقديم الذبائح عن المصالحة مع الله إلى صب غضب الله .
جاءوا بتقدمات كالبخور الذى يرمز إلى الصلاة ، لكنهم إذ أعطوا الرب القفا لا الوجه ( إر 2 : 27 ) صار بخورهم مكرهة للرب ، لأنه حمل رائحة ريائهم وعدم توبتهم .
( 7 ) دعوة للتوبة :
فضحهم الله أمام أنفسهم مظهرا بشاعة الفساد الذى حل بهم دون أن يحطمهم باليأس أو يجرح نفوسهم إنما بالحب الأبوى السماوى قدم لهم العلاج ليستر عليهم ويردهم إلى طبيعتهم الصالحة التى خلقهم عليها . هذا العلاج هو التوبة النابعة عن الإيمان والممتزجة بالحب ، أما خطواتها فهى :
( أ ) الأغتسال : بقوله " اغتسلوا .. تنقوا " إش 1 : 16 لا يقصد التطهيرات الناموسية ، لأنه فى اتهامه لهم يطلب ألا يقفوا عند الشكل الخارجى للعبادة ، إنما عنى اغتسال المعمودية الذى فيه نخلع الإنسان العتيق لنحمل فينا الإنسان الجديد الذى على صورة خالقنا .
هذا ما عناه الرب بقوله للنفس البشرية " حممتك بالماء " حز 16 : 9 ، إذ جاء فى نفس السفر " وأرش عليكم ماء طاهرا فتطهرون من كل نجاساتكم ...... " حز 36 : 25 ، 26 .
( ب ) " اعزلوا شر أفعالكم من أمام عينى الرب .. كفوا عن فعل الشر " إش 1 : 16 . إذ ينال الإنسان النقاوة التى بها يعاين الله يقدر أن يميز أعمال الشر عن العمل الإلهى ، فيرفض كل ما هو شر ، حتى لا يعرج بين الطريقين : الله والخطية .
( ج ) " تعلموا فعل الخير " إش 1 : 17 .. لا يكفى الجانب السلبى ، أى نزع كل ما هو شر والكف عنه دائما وإنما هنا يوجد التزام بالعمل الإيجابى ، نحمل سمة المسيح الذى هو " الحق " فينا . لهذا يوصينا " اطلبوا الحق ، انصفوا المظلوم ، اقضوا لليتيم ، حاموا عن الأرملة " . هذه هى التوبة الإيجابية التى خلالها نرجع إلى الله لا لنكف عن الشر واظلم فحسب وإنما لنمد أيدينا بالحب العملى والرحمة ، خاصة تجاه العاجزين والأرامل .
( د ) الحب العملى تجاه المتألمين ، تجعل الله يفتح مراحمه أمامنا نحن الخطاة ، قائلا :
" هلم نتحاجج يقول الرب : إن كانت خطاياكم كالقرمز تبيض كالثلج ، وإن كانت كالدودى تصير كالصوف " إش 1 : 18 .
هذه دعوة صريحة تعلن عن شوق الله نحو خلاص كل إنسان يقبل الشركة مع القدوس خلال الصليب .
الله يطلب من الإنسان أن يدخل معه فى حوار .. ليته لا ييأس أحد من نفسه حتى وإن بلغ أقصى الشر ، حتى وإن عبر إلى التعود على صنع الشر ، حتى وإن حمل طبيعة الشر نفسها لا يخف .. عظيمة هى قوة التوبة .
( هـ ) تقديس الحرية الإنسانية ، إذ يقول :
" إن شئتم وسمعتم تأكلون خير الأرض ، وإن أبيتم وتمردتم تؤكلون بالسيف لأن فم الرب تكلم " إش 1 : 19 ، 20 .
يفتح الله أبواب محبته أمام الجميع لكنه لا يلزم أحدا ، فهو يطلب قلب الإنسان كتقدمة اختيارية ، يقدم له الطريق ويهبه إمكانية العمل وفى نفس الوقت يترك له حرية الإختيار .
( 8 ) عتاب من واقع الماضى :
يقارن هنا بين ما كانت عليه أورشليم قبلا وما صارت عليه خلال انحرافها وفسادها ، بأسلوب مملوء رثاء وحزنا عميقا . غشعياء النبى صريح كل الصراحة ، لكنه مملوء حبا وعاطفة !
أ – كانت أورشليم " القرية الأمينة " إش 1 : 21 ، وقد صارت " زانية " يشبهها بالعروس التى كانت مخلصة لعريسها السماوى ، تحفظ وصاياه وتعلن بهاءه ومجده خلال حياتها ، وقد جرت وراء آخر ( العبادة الوثنية ) فتنجست بزناها الروحى مع محبيها ( حز 16 : 25 ، 32 ، 36 ) – كانت عذراء ( إش 37 ) تتحد مع عريسها واهب القداسة لكنها تركته واتحدت بالرجاسات .
ب – كانت " ملآنة حقا ، كان العدل يبيت فيها ، وأما الآن فالقاتلون " إش 1 : 21 . كانت مسكنا للقدوس الذى هو " الحق " و " العدل " ، يبيت الرب فيها إذ يجد فيها راحته ، لكنها صارت مسكنا للقتلة ، لذا يقول الرب " ليس لإبن الإنسان أين يسند رأسه " مت 8 : 10 ، لو 9 : 58 ، حين تكون مقدسة تقول : " حبيبى لى ، بين ثديى يبيت " نش 1 : 13 . لكنها متى تنجست يصير قلبها " بين ثدييها " مسكنا للشر .
جـ - تسرب الزيف إليها فصارت فضتها زغلا يحمل لمعان الفضة ومنظرها لكنه لا يحمل مادة الفضة ولا قيمتها .. صار خمرها مغشوشا بالماء ( إش 1 : 22 ) يحمل لون الخم لكنه مغشوش ماء ... هذه صورة عن الإهتمام بشكليات العبادة وحرفية تنفيذ الوصايا بالمظاهر الخارجية دون الإهتمام بالأعماق .
مسيحنا يحول الماء خمرا ، أما الشرير فيحول الخمر ماءا
د- " رؤساؤك متمردون ولغفاء اللصوص " إش 1 : 23 ، أى يؤاكلون اللصوص ويحفظون ثيابهم أثناء السرقة .
يحولون الرعاية إلى سلطة وعناء ، قد لا يسرقون لكنهم يتركون عدو الخير بجنوده يسرقون الشعب ويغتبون قلوبهم وهم غير مبالين بسبب حبهم للسلطة . يحبون الرشوة والعطايا المادية أو الأدبية ، ولا يبالون بالأيتام والأرامل ، لأن المجد الزمنى شغلهم عن التفكير فيهم . حولوا أورليم " كنيسة المسيح " إلى بيت للظلم والقسوة والعنف .
( 9 ) الديان يتقدم كمخلص :
أمام هذه الصورة البشعة لا يقف الله مكتوف الأيدى ، وإنما يقوم " رب الجنود ، عزيز ( قدير ) إسرائيل " إش 1 : 24 كقائد للجنود السماوية اعتزت يده بالقوة من أجل خلاص شعبه مما حل بهم .
يلاحظ هنا :
أ – دعى الله بثلاثة ألقاب [ السيد " يهوه " ، رب الجنود ، عزيز ( قدير ) إسرائيل ] .
يرى بعض الدارسين أنها إشارة خفية عن الثالوث القدوس .
وحملت أورشليم 3 ألقاب : مدينة العدل ، القرية الأمينة ، صهيون تفدى بالعدل ( إش 1 : 28 ) .
ودعى الأشرار بألقاب ثلاثة أيضا : المذنبون ، الخطاة ، تاركو الرب ( إش 1 : 28 ) .
ب – يحسب الله من يتلف شعبه حملا ثقيلا ( إش 23 : 24 ) ، فلا يكف عن مقاومة الشر حتى يستريح ويستريح معه شعبه :
" أستريح من خصمائى ، وانتقم من أعدائى " إش 1 : 24 .
تبقى أحشاء الرب تحن على شعبه حتى يحطم الشر !
جـ - " ينقى أورشليم من الزغل كما بالبورق ( ربما يقصد بوتاسا المعادن ) ، إذ يعيد خلقة الطبيعة البشرية ليرد للكنيسة جمالها الأصيل كما بنار الروح القدس المطهر .
إنه ينقينا ايضا بالتأديب ولو ظهر قاسيا كالنار .
د – " وأعيد قضائك كما فى الأول " إش 1 : 26 . إذ يعيد الإنسان إلى كرامته وتعقله كما كان فى بدء خلقته فيكون كقاض حكيم .
هـ - يرد لأورشليم أو للنفس البشرية لقبها : " مدينة العدل القرية الأمينة " إش 1 : 26 .
إذ تصير الكنيسة – الكنيسة الجديدة – مدينة الله – عامود الحق وقاعدته ، العروس الأمينة لعيسها .
يشبه العالم هنا بالبطمة ، لأن اليهود اعتادوا أن يقيموا عبادة البعل والعشتاروت تحت شجرة البطمة .
يشبه تاركو الرب بالبطمة التى ذبل ورقها ، وبالجنة التى بلا ماء ماء ( إش 1 : 29 ) ، لماذا ؟ خلق الله الإنسان كجنة يجد الرب فيها ثمرته حلوة فى الداخل .
كل ما يحمله الإنسان من طاقات وأمكانيات وعواطف وغرائز هى عطايا إلهية أشبه بأشجار مغروسة فى جنة يرويها ماء الروح القدس فتثمر بركات لا حصر لها . أما إن حمت منه الروح فتجف وتحق بالنار ، وتتحول كما إلى مشاقة ( نسالة كتان ) ( إش 1 : 31 ) ، أى ما تبقى من كتان بعد مشطه ليستخدم وقيدا للنار .
+ + +
إشعياء – الإصحاح الثانى
جبــل بيت الرب
فى الأصحاحات 2 – 4 ركز إشعياء أنظاره على أورشليم – جبل بيت الرب – مع أنه لم يفارقها لكن حنينه إليها وشوقه إلى تقديسها لا يقل عن ذات حنين أنبياء السبى الذين عاشوا بالجسد فى بابل أما قلوبهم فتعلقت بمدينة الله التى أصابها الخراب .
( 1 ) مقدمة :
" الأمور التى رآها إشعياء بن آموص من جهة يهوذا وأورشليم " إش 2 : 1 . كان قلب إشعياء مشغولا بشعب الله ( يهوذا ) وبالمدينة المقدسة ( أورشليم ) ، فقد امتلأ حزنا على ما بلغ إليه الحال ، رأى شعبا ضربه الفساد ، ومدينة تهدم هيكلها الروحى فأنت أحشاءه عليهم .
أمام هذا الحب الخالص وهبه الله بصيرة وقدم له رؤى ونبوات لتعزيته وتعزية كل نفس جريحة من أجل البشرية ، قدم له الله كلمته المحيية .
( 2 ) جبل بيت الرب
ماذا قدم الله لإشعياء الجريح النفس ؟ حمله بالروح إلى ملء الزمان ليرى يهوذا الجديد – السيد المسيــــح – وأورشليم الجديدة حيث يبنى هيكل الرب ويقام ملكوت الله فى القلب . لذا قال : " يكون فى آخر الأيام أن جبل بيت الرب يكون ثابتا فى رأس الجبال ويرتفع فوق التلال وتجرى إليه كل الأمم " إش 2 : 2 .
سحب الرب قلب إشعياء النبى إلى ملء الزمان ليرى السيد المسيح الذى يقيم كنيسته عليه شخصيا بكونه صخر الدهور ، الجبل الذى رآه دانيال النبى المقطوع بغير أيدى الذى يملأ الأرض ( دا 2 : 34 – 45 ) ، الصخرة الحقيقية التى تفيض مياة الروح على شعبه ( 1 كو 10 : 4 ) والتى لا تستطيع الحية أن تزحف عليه لتقترب إلى شعبه .
يكمل النبى : " وتجرى إليه كل الأمم وتسير شعوب كثيرة ويقولون : هلم نصعد إلى جبل الرب إلى بيت إله يعقوب فيعلمنا من طرقه ونسلك فى سبله ، لأنه من صهيون تخرج الشريعة ومن أورشليم كلمة الرب " إش 2 : 2 ، 3
معروف أن الشريعة صدرت من جبل سيناء للشعب اليهودى ، لذا فهو يتحدث عن شريعة جديدة تصدر من أورشليم موجهة إلى المسكونة كلها .
+ هذه الشريعة ليست ملكا لأمة واحدة بل لكل الأمم ، فإن شريعة الرب وكلمته لا تبقيان فى صهيون وأورشليم بل تنتشران فى كل المسكونة . لذلك يقول رب المجد يسوع لتلاميذه :
" هذا هو الكلام الذى كلمتكم به وأنا بعد معكم أنه لا بد أن يتم جميع ما هو مكتوب عنى فى ناموس موسى والأنبياء والمزامير ... " لو 24 : 44 – 47 .
+ هناك ( فى أورشليم ) أخبر التلاميذ : " اذهبوا وتلمذوا جميع الأمم وعمدوهم باسم الآب والإبن والروح القدس " مت 28 : 19 .
نلاحظ فى هذه الكنيسة المؤسسة على جبل الجلجثة والمنطلقة من أورشليم تحمل قوة الروح القدس أنها :
* كنيسة ثابتة ، تقوم على جبل الرب الثابت ( إش 2 : 2 ) .
* كنيسة عالية فى رأس الجبال ( إش 2 : 2 ) ..
* كنيسة جذابة للأمم والشعوب ( إش 2 : 2 ، 3 ) .. أبوابها مفتوحة للجميع .
* عملها مستمر أن تصعد بالبشر ( إش 2 : 3 ) .. بالحب تنزل إليهم دون أن تفقد قدسيتها أو طبيعتها السماوية ..
* رسالتها اعلان طريق الرب ( إش 2 : 3 ) ، تحمل كلمته إلى كل نفس وتقدم وصيته ليعيشها كل مؤمن ..
* تعلن أحكام المسيح العادلة ، حيث يخضع المؤمنون من كل الأمم لملكوته وسيادته ، كسيادة روحية فريدة فى نوعها .
+ تهب سلاما بين النفوس المقدسة له : " فيطبعون سيوفهم سككا ورماحهم مناحل ، لا ترفع أمة على أمة سيفا ، ولا يتعلمون الحرب فى ما بعد " إش 2 : 4 .
المسيحى يمتلىء قلبه سلاما حتى تجاه مقاوميه ، فتتحول طاقاته الداخلية من الصراع إلى العمل البناء ، من أدوات حرب إلى أدوات انتاج للرخاء .
كلمة الله تحول الأرض سماء ، فيحل السلام السمائى فى حياة البشر ، وتقام مملكة السلام أو ملكوت الله المفرح فى داخلهم التى لا تستطيع عداوة الناس ولا قسوة الأحداث أن تهزها .
" يا بيت يعقوب هلم نسلك فى نور الرب " إش 2 : 5 .
السيد المسيح الحال فى كنيسته هو بهاء مجد الآب ورسم جوهره وحامل كل الأشياء بكلمة قدرته ( عب 1 : 3 ) . هو شمس البر والشفاء فى أجنحتها ( ملا 4 : 2 ) .
( 3 ) علة رفض الله شعبه
يقارن النبى بين تصرفات شعبه المعاصرين له وتصرفات الأمم فى المستقبل حيث يقبلون الإيمان بالله المخلص ويدخلون ملكوت السلام وينعمون ببركات فائقة بسكناهم فى جبل بيت الرب .
رفض بيت يعقوب الله عمليا بالرغم من اهتمامه الشديد بحرفية العبادة لذا رفضه الله ، وكان ذلك رمزا لرفض اليهود لشخص السيد المسيح تحت ستار دفاعهم عن الحق وغيرتهم على شريعة موسى .
قدم الله أربعة أسباب لرفض الشعب ، وهى :
( أ ) التشبه بالغرباء " امتلأوا من المشرق " ، يقول أيضا " وهم عائفون كالفلسطينيون " إش 2 : 6 .
( ب ) حبهم لغنى العالم ، " امتلأت أرضهم فضة وذهبا ولا نهاية لكنوزهم " . امتلأت قلوبهم بمحبة المال ، فحسبوه قادرا على إشباعهم ، واحتل موضع الله فى فكرهم وأحاسيسهم .
( ج ) اتكالهم على إمكانياتهم العسكرية ، " امتلأت أرضهم خيلا ولا نهاية لمركباتهم " إش 2 : 7 .
( د ) قبولهم العبادة الوثنية ( إش 2 : 8 ) .
هذه هى الأسباب التى من أجلها رفض الله شعبه ، أما ثمرة ذلك فهو الإنحدار المستمر عوض النمو والصعود ( إش 2 : 9 ) . انهيار فى كل جوانب الحياة عوض التقديس بالتمام بالرب الصاعد إلى السموات .
( 4 ) بطلان الذراع البشرى :
إن كان الله قد رفض شعبه فلأن شعبه مصر على رفض الله بكل وسيلة ، لكن الله يبقى فى حبه مترفقا بهم وبكل البشرية معلنا خلاصه للإنسان .
إذ تعاظم الإنسان جدا فى عينى نفسه وتضخمت الأنا ، يعلن الرب بهاءه فيتصاغر الإنسان ويطلب الخلاص . يدخل كما فى صخرة ويختبىء فى التراب أمام هيبة الرب ومن بهاء عظمته ( إش 2 : 10 ) .
ليس شىء يحطم كبرياء الإنسان مثل ملاقاته مع الله . يتحطم الكبرياء ولا تتحطم نفسه بل تشفى وتمتلىء رجاء فى الرب .
ما هى الصخرة التى نختفى فيها أمام العظمة الإلهية إلا السيد المسيح ، إذ فيه نجد لأنفسنا ملجأ أمام العدل الإلهى . لذلك عندما اشتهى موسى النبى أن يرى المجد الإلهى قيل له :
" لا تقدر أن ترى وجهى ، لأن الإنسان لا يرانى ويعيش .. هوذا عندى مكان فتقف على الصخرة ( المسيح صخرتنا ) ويكون متى أجتاز مجدى إنى أضعك فى نقرة من الصخرة ( الأتحاد مع المسيح ) واسترك بيدى حتى أجتاز " خر 33 : 20 – 21 .
يشبه النبى تشامخ الإنسان بالآتى :
( أ ) " أرز لبنان العالى المرتفع وكل بلوط باشان " إش 2 : 13 تشير إلى الأتكال على غنى موارد الطبيعة ، كما تشير إلى الملوك والقادة المتعجرفين مثل ربشاقى .
( ب ) " الجبال والتلال الشامخة " إش 2 : 14 ، تشير إلى الصلابة والجمود ..
( ج ) " الأبراج العالية والأسوار المنيعة " إش 2 : 15 ، تشير إلى الأتكال على أعمال البر الذاتى ...
( د ) " سفن ترشيش والزينات والأعلام المبهجة " إش 2 : 16 ، تشير إلى الإنهماك بالتجارة والمال مع الترف والغنى على حساب الإهتمام بالنفس .
ارتبط الكبرياء بالعبادة الوثنية لهذا يؤكد النبى أنه عندما يكتشف الإنسان عجز الأوثان يلقى بها أمام الجرذان والخفافيش ( إش 2 : 20 ) مستخفا بها ، عوض أن يأخذها معه فى أسفاره لمساندته .
أخيرا يدرك الإنسان خطأ الإتكال على الذراع البشرى ، فيقول النبى " كفوا عن الإنسان الذى فى أنفه نسمة ، لأنه ماذا يحسب ؟! " إش 2 : 22 .
ليصمت كل إنسان مهما بلغت عظمته أو قدرته أو غناه ، فإنه تخرج نسمة حياته فلا يكون بعد فى العالم . تخرج روحه فيعود إلى التراب ( مز 104 : 29 ) .
+ + +
إشعياء – الإصحاح الثالث
مجاعة مهلكة
خلق الله العالم بكل إمكانياته المدركة وغير المدركة من أجل سلام الإنسان وسعادته ، حتى يفرح كل بشر بالله محبوبه . متكئا عليه ، مشتاقا أن ينعم بشركة حب أعمق . أما وقد انشغل الإنسان بالعطية لا العاطى استند على " كل سند خبز وكل سند ماء " إش 3 : 1 . صار الإنسان يفتخر بغناه وقدراته وكثرة خبراته وجماله عوض افتخاره بالرب واتكاله عليه . لهذا ينتزع الله العطايا ويحرم الإنسان من البركات الزمنية ، لا للأنتقام منه ولا لإذلاله أو حرمانه وإنما لكى يرجع بقلبه إلى الله مصدر حياته وشبعه وسلامه وفرحه ومجده فينال فى هذا العالم أضعافا وفى العالم الآتى حياة أبدية ؛ ينال الله نفسه نصيبا له وميراثا !
هنا يهدد النبى بحدوث مجاعة وحرمان وتحطيم للإثنى عشر عمودا التى تتكىء عليها الجماعة [ للخبز والماء ، الجبابرة ( القادرين ) ورجال الحرب ، القضاة ، الأنبياء ، العرافين ،الشيوخ ، رؤساء الخمسين ، المعتبرين ، المشيرين ، الماهرين بين الصناع ، الحاذقين بالرقى ] . لقد انتزع الرب الموارد الطبيعية خلال المجاعة والطاقات البشرية خلال السبى حتى يرجعوا إليه .
( 1 ) انتزاع سند الخبز وسند الماء
" فإنه هوذا السيد رب الجنود ينزع من أورشليم ومن يهوذا السند والركن وكل سند خبز وكل سند ماء " إش 3 : 1 .
حين يسمح الله لأورشليم ولبنى يهوذا ، شعبه العروس ، أن تصير فى عور إلى الخبز والماء إنما يحطم السند والركن لعلها تعود فتفكر فى الإتكاء على حبيبها ( نش 8 : 5 ) لتجد فيه شبعها وارتواءها .
+ ما هو أخطر ، حدوث جوع لكلمة الله كما جاء فى عاموس النبى : " هوذا أيام تأتى يقول السيد الرب أرسل جوعا فى الأرض لا جوعا للخبز ولا عطشا للماء بل لإستماع كلمات الرب " ( عا 8 : 11 ) .
( 2 ) انتزاع القيادات الناضجة :
انتزع الله منهم القيادات الناضجة الحكيمة ليتركهم يقيموا لأنفسهم قيادات ضعيفة وعاجزة ، فيدركوا حاجتهم إلى العون الإلهى حتى فى التمتع بقيادات حية وقوية .
" ( ينزع ) الجبار ( القدير ) ورجل الحرب ؛ القاضى والنبى والعراف ( المتدبر ) والشيخ ، رئيس الخمسين والمعتبر والمشير والماهر بين الصناع والحاذق بالرقية ( الحاذق فى الخطابة ) " إش 3 : 2 ، 3 .
ربما قصد تجريدهم مما وهبهم من قدرات وإمكانيات ، فيضعف الجبابرة وينهار رجال الحرب أمام العدو ويفقد القضاة الحكمة ......الخ .
والآن ماذا يحدث ؟
أ – " وأجعل صبيانا رؤساء لهم وأطفالا تتسلط عليهم " إش 3 : 4
حين ملك رحبعام بن سليمان قبل مشورة الأحداث المتسرعة العنيفة والمتطرفة ورفض مشورة الشيوخ الحكيمة المتزنة والمملوءة حبا وترفقا ( 1 مل 12 ) ، فانقسم الشعب وحلت الحروب الداخلية بين الأسباط ، وسادت العداوة بدل الحب والوحدة .
الله محب للشباب ، يسندهم ويطلب نموهم المستمر ، لكن ما عناه هنا بالصبيان والأطفال هو عدم النضوج الروحى والفكرى .
لقد كان يوحنا المعمدان جنينا ناضجا روحيا . شهد للسيد المسيح وهو بعد فى أحشاء البتول مريم ، بينما كان كثير من الكتبة والفريسيين والصدوقيين والكهنة ناضجين من جهة السن دون الروح .
ب – " ويظلم الشعب بعضهم بعضا والرجل صاحبه ، يتمرد الصبى على الشيخ والدنىء على الشريف " إش 3 : 5 .
علامة فقدان القيادات السليمة الناضجة اختلال الموازين فيسود قانون الظلم ويحل روح الفوضى فى حياة الجماعة كما فى داخل الإنسان . إذ لا توجد قيادة صادقة ومخلصة يطلب كل إنسان ما لذاته على حساب الغير ، ويحسب كل واحد أنه أحكم وأفضل من غيره .
أقول حينما يفقد الإنسان قيادة الروح القدس يحل فى داخله قانون الأنانية والظلم والتمرد ، فيدخل فى صراعات بلا حصر بين النفس والجسد وبين العقل والعاطفة والحواس .
ج – الدخول فى حالة يأس شديد ، حتى أن كل إنسان لا يريد أن يتحمل المسئولية ، فيمسك كل إنسان بأخيه ويقول له : " لك ثوب " علامة قبوله رئيسا ، .. يقول كل واحد : " لا تجعلونى رئيس شعب " إش 3 : 7 ، معللا ذلك بقوله :
" لا أكون عاصبا ( اضمد الجراحات ) وفى بيتى لا خبز ولا ثوب " إش 3 : 7 .
يقول المرتل : " لا تتكلوا على الرؤساء ولا على بنى آدم حيث لا خلاص عنده " مز 146 : 3 .
د – فقدان الحياة ومخافة الله : " يخبرون بخطيتهم كسدوم ، ولا يخفونها " إش 3 : 9 .
بلغت الخطورة أن أورشليم انحدرت فى عثرات متكررة لا عن ضعف أو جهل وإنما عن عمد لإغاظة الرب ( إش 3 : 9 ) .
ترتكب الشرور بالقول والفعل بلا خجل أو حياء . هذه هى صورة العالم فى العصر الحديث إذ يشعر كثير من الشباب أن ما يمارسه من انحرافات فى كل صورها هو حق طبيعى للإنسان .
يقول : " نظر وجوههم يشد عليهم " إش 3 : 9 .
يقول الكتاب : " أولاد الله ظاهرون وأولاد إبليس " 1 يو 3 : 10 .
إن كان الأشرار ظاهرين وقد صاروا أغلبية لكنه توجد قلة مقدسة للرب ، لن يتجاهلها الله ، لذا يقول النبى : " قولوا للصديق خير ، لأنهم يأكلون ثمر أفعالهم " إش 3 : 10 . فى وسط الضيق الشديد يحفظ الرب صديقيه ، ويحول كل الأمور حولهم إلى خيرهم !
لقد ظنوا أنهم يصنعون بالبار شرا لكنهم كانوا يصنعون ذلك لأنفسهم فيجنون ثمر عملهم لا كعقوبة إلهية للإنتقام وإنما كثمر طبيعى لتصرفاتهم وحياتهم : " ويل للشرير شر . لأن مجازاة يديه تعمل به " إش 3 : 11 .
" ما يزرعه الإنسان إياه يحصد " 2 كو 9 : 6 .
هـ - حب السلطة لا رعاية الحب :
الرؤساء الحقيقيون أشبه بآباء يحتضنون الكل أبناء لهم ، يقدمون حياتهم مبذولة من أجل الشعب ، لكن متى انتزعت نعمة الله يتحول الرؤساء – حتى الدينيون – إلى متسلطين ، لا هم لهم سوى الدفاع عن مراكزهم وسلطانهم بتبريرات متنوعة تحت ستار الدفاع عن الحق وهيبة المراكز القيادية والقدرة على بتر الشر . هؤلاء يتحولون من آباء باذلين إلى أطفال صغار تسيطر عليهم " الأنا " ، أو إلى ما هو أشبه بنساء ( رمز للضعف الجسمانى ) يطلبون السيطرة ، إذ يقول : " شعبى ظالموه أولاد ، ونساء يتسلطن عليه . يا شعبى مرشدوك مضلون ويبلعون طريق مسالكك " إش 3 : 12 .
يرى بعض الدارسين أن هذا تحقق حرفيا إذ تسلم بعض الصبيان الملك فى يهوذا وقامت بعض النساء بأدوار خطيرة فى تدبير الأمور .
وسط هذا الفساد خاصة من جانب القيادات يتدخل الله من أجل البسطاء فى شعبه ، فينتصب لمحاكمتهم بكونهم الكرامين الذين آكلوا الكرم عوض الأهتمام به ، موبخا إياهم : " يسحقون الشعب ويطحنون وجوه البائسين " ( إش 3 : 15 ) .
( 3 ) انتزاع إمكانيات الترف مع التشامخ :
بعد الحديث عن محاكمة القيادات الفاسدة بدأ الحديث عن بنات صهيون المتشامخات ، لعلهن كن وراء فساد هذه القيادات . فقد نسيت بنات صهيون انتسابهن لصهيون وللرب وسلكن كالوثنيات فى عجرفة مع ترف ولهو .
يقدم لنا النبى بعض ملامح الخلاعة التى اتسمت بها بنات صهيون :
أ – التشامخ : " وقال الرب من أجل أن بنات صهيون يتشامخن ويمشين ممدودات الأعناق .. " إش 3 : 16 . لقد نسين آباءهن وأمهاتهن الذين انحنت أعناقهم تحت نير العبودية فى مصر ،
" قبل الكسر الكبرياء ، وقبل السقوط تشامخ الروح ، تواضع الروح مع الودعاء خير من قسم الغنيمة مع المتكبرين " أم 16 : 18 ، 19 .
ب – الغمز بالعيون ( إش 3 : 16 ) : انشغلن باصطياد قلوب الرجال وأسرها كثمرة طبيعية لفراغ القلب الداخلى ... يقول الحكيم : " فوجدت أمر من الموت المرأة التى هى شباك وقلبها أشراك ويداها قيود ، الصالح قدام الله ينجو منها " جا 7 : 26 .
جـ - الخلاعة فى المشى : " خاطرات فى مشيهن ، يخشخشن بأرجلهن " إش 3 : 16 . دلالة على فساد القلب .
ماذا يفعل الرب بهؤلاء البنات المتعجرفات السالكات فى لهو وترف ؟
أ – " يصلع الرب هامة بنات صهيون ويعرى الرب عورتهن " إش 3 : 17 .. الصلع علامة القبح الشديد ، وتعرية العورة كناية عن كشف فساد طبيعتها ، أو إشارة إلى عريها ، هذه هى حالة النفس البشرية الساقطة بالكبرياء ، إذ تفقد عطايا الله لها ، وينفضح فساد طبيعتها فتصير بلا جمال ولا قوة ولا كرامة .
ب – انتزاع كل مظاهر الغنى والزينة من خلالخيل وضفائر وأهلة وحلقان وأسوار ...
يسمح الله بهذا التأديب لبنات صهيون لكى تجد فى المخلص سر زينتها ومجدها .
هنا يشير إلى ما يحل ببنات صهيون خلال السبى ، إذ يقول : " فيكون عوض الطيب عفونة " إش 3 : 24 ، هذا ما حدث عندما سبين وصارت رائحتهن كريهة بسبب العرق من جراء العمل فى السبى .
" عوض المنطقة حبل " إش 3 : 24 . بعد أن كانت بنات صهيون يتمنطقن بمناطق ذهبية مزخرفة ومرصعة بحجارة كريمة ربطن بالحبال لسحبهن إلى السبى كمذلولات . صورة مؤلمة تكشف عن ثمر الخطية !
" وعوض الجدائل قرعة ، عوض الديباج زنار المسح ، وعوض الجمال كى " إش 3 : 24 .. هكذا قص شهر الشريفات ، وملابس المسوح عوض الثياب الفاخرة وظهر الكى على جباههن علامة العبودية .. إذ كان العبيد من الجنسين يختمون بختم معين بالكى ليعرف السيد من هم له .
فى اختصار عبر عن تحطيم حياتهن تماما لإتكالهن على المظاهر الخارجية وعلى الذراع البشرى ، لذا يقول : " رجالك يسقطون بالسيف ، وأبطالك فى الحرب ، فتئن وتنوح أبوابها وهى فارغة تجلس على الأرض " إش 3 : 25 ، 26 . مات الرجال وسبيت النساء وصارت المدينة العظيمة كما فى فراغ ! .
+ + +
إشعياء – الإصحاح الرابع
غصن الرب هو العلاج
فى الإصحاحات السابقة قدم لنا الوحى الإلهى صورة مؤلمة لما بلغه الإنسان من فساد وانحلال بسبب الخطية حيث فقد الإنسان جماله وكرامته وأكله وشربه وزينته حتى حياته ذاتها ، وصار العلاج الوحيد هو مجىء السيد المسيح " غصن الرب " يرد للإنسان جمال طبيعته ويشبعه لا بتقديم خيرات معينة بل بتقديم " نفسه " سر حياة وفرح وشبع .
( 1 ) الحاجة إلى مخلص :
" فتمسك سبع نساء برجل واحد فى ذلك اليوم قائلات : نأكل خبزنا ونلبس ثيابنا ، ليدع فقط اسمك علينا ، انزع عارنا " إش 4 : 1 .
هؤلاء النساء السبع هم جميع الأمم من بينهم اليهود ، فقد شعر الكل بفراغ شديد يجتاح الأعماق بسبب فساد الطبيعة البشرية ، تجتمع هذه الأمم كعروس تطلب عريسها ، تريد اسمه لينزع عار فسادها ، حينئذ تأكل خبزها وتلبس ثيابها . مسيحها أهم من كل احتياجاتها ، فيه تجد كل الشبع والستر من العرى والحماية من كل عار .
من الجانب الحرفى فإن دخول اليهود فى حرب سوف يؤدى إلى فقدان الرجال ، مما تضطر معه كل سيدة إلى القبول بوجود زوجات أخريات مع رجلها ، الأمر الذى ترفضه النساء بطبيعتها ، وهذا كله جزاء الفساد الذى حصل بيهوذا .
( 2 ) غصن الرب :
الآن إن كانت البشرية بكل شعوبها ( سبع نساء ) اكتشفت حاجتها إلى المخلص ، فها هو النبى يبشرها بمجيئه قائلا : " فى ذلك اليوم يكون غصن الرب بهاء ومجدا وثمر الأرض وزينة للناجين من إسرائيل " إش 4 : 2 .
يقصد بـ " ذلك اليوم " ملء الزمان ( غل 4 : 4 ) الذى فيه تجسدأبن الله الوحيد الجنس ، الذى دعى " غصن الرب " ، أو " الغصن " إر 23 : 5 ، 33 : 15 ؛ زك 3 : 3 : 8 ؛ 6 : 12 . هو غصن الرب وغصن بر لداود ، إذ هو المولود قبل كل الدهور أزليا من ذات جوهر الآب وبتجسده ولد من نسل داود .
كلمة " غصن " تعادل أيضا " ناصرة " ، لذا يقول الإنجيلى : " لكى يتم ما قيل بالأنبياء أنه يدعى ناصريا " مت 2 : 23 .
( 3 ) البقية المقدسة :
من الذى يتمتع بغصن الرب ؟
" الذى يبقى فى صهيون والذى يترك فى أورشليم " إش 4 : 3 .
هؤلاء هم القلة التى قبلت الإيمان بالسيد المسيح من جماعة اليهود ، بقوا فى صهيون الروحية ، فى الكنيسة أورشليم الجديدة .
من الجانب الحرفى تشير إلى البقية الباقية من السبى ، أما من الجانب الروحى فهى القلة المقدسة ، القطيع الصغير الذى لا يغادر صهيون ولا تفارق روحه أورشليم العليا .
هذه البقية تحدث عنها كثير من الأنبياء ( زك 13 : 9 ) ، وجدت فى كل عصر :
ففى أيام إيليا النبى أعلن الرب أن له سبعة الآف رجل لم يحنو ركبة لبعل بعد ..
وفى أثناء السبى وجد دانيال ومعه الثلاثة فتية ضمن القلة المقدسة ... وأيضا استير وموردخاى . والسيد المسيح نفسه يتحدث عن القطيع الصغير الذى سر الآب أن يعطيه الملكوت ( لو 12 ) .
الآن إذ يعلن عن مجىء " غصن الرب " يرى أورشليم جديدة يسكنها قديسون فى الرب القدوس ، وينعمون بالحياة الأبدية . يقول " يسمى قدوسا كل من كتب للحياة فى أورشليم " إش 4 : 3 .
الكنيسة – أيقونة السماء – هى عربون أورشليم العليا التى لا يدخلها شىء دنس أو نجس ولا كل من يصنع كذبا ، إنما يدخلها من غسل ثيابه وبيضها فى دم الحمل ( رؤ 7 : 14 ) .
من الذى يقدس حياتنا ؟ الرب نفسه إذ يقول النبى :
" إذ غسل الرب قذر بنت صهيون ونقى دم أورشليم من وسطها بروح القضاء وروح الإحراق " إش 4 : 4
إنه غسل أدناسنا فى مياة المعمودية فى استحقاقات دمه ، ولا يزال يغسل كل ضعفاتنا بدمه الذى جرى من جنبه المطعون ممتزجا بماء . إن كانت أيدينا قد تلطخت بالدم خلال خطايانا فإنه يقدم دمه كفارة عنا ليقيمنا كنيسة مجيدة لا دنس فيها ولا غضن بل مقدسة فى كل شىء .
( 4 ) حلول المسيح وسط كنيسته :
تغتسل الكنيسة بروح القضاء وروح الإحراق أى خلال ذبيحة المحرقة الفريدة التى قدمها السيد المسيح وبعمل روح القدوس فى مياة المعمودية . فتطلب حلول عريسها الذبيح فى وسطها ، يستر عليها نهارا كسحابة تظللهم ويقودها ليلا كعمود دخان وعمود نار يضىء لها الطريق . هكذا تعود الكنيسة بذاكرتها إلى خيمة الإجتماع فى وسط البرية حيث كان الله يجتمع فيها مع شعبه ، لكنها خيمة جديدة على مستوى مغاير لخيمة العهد القديم ، وذلك من جهة :
أ – " على كل مكان " إش 4 : 5 ، لم تعد الحضرة الإلهية أو الحلول الإلهى قاصرا على خيمة أو على هيكل إنما يحل فى كنيسته الممتدة فى كل مكان ، فى المشارق والمغارب ..
ب – " وعلى محفلها " يشير هذا التعبير إلى عمل الله فى الكنيسة كمحفل واحد ، أو جماعة واحدة ، يتمتع كل عضو فيها بعطية الحلول الإلهى لا كفرد منعزل وإنما كعضو حى فى الجماعة يرتبط مع بقية الأعضاء خلال المسيح الرأس .
جـ - " يخلق ... سحابة ودخانا ولمعان نار ملتهبة " ، يكون السيد المسيح هو سر حماية كنيسته واستنارتها .
د – بقولـه : " لأن على كل مجد غطاء " يعنى أن مجد إبنة الملك من داخل ( مز 45 ) ، مخفى فيها . من الخارج تشارك مسيحها آلامه وصلبه وموته وقبره فيقال عنها ما قيل عن عيسها : " لا صورة له ولا جمال فننظر إليه ، ولا منظر فنشتهيه " إش 53 : 2 ؛ وفى الداخل تشاركه مجد قيامته .
( 5 ) كنيسة المسيح مظلة وملجأ :
يحل الرب فى كنيسته فيقيم منها مظلة تقى النفوس المتألمة الجريحة من حر النهار ، وتضمها من السيول والأمطار ( إش 4 : 6 ) .
يرى القديس يوحنا الذهبى الفم : أن هذه المظلة هى سحابة القديسين العظيمة ( عب 12 : 1 ) قائلا بأن [ تذكار القديسين يقيم النفس التى تثقلت بالويلات ويردها ، فيكون كسحابة تحفظها من أشعة ( الشمس ) الساخنة جدا والمحرقة ] .
إشعياء – الإصحاح الخامس
نشــــيد الكــــــرمة
فى الإصحاح السابق تلامس إشعياء النبى مع محبة الله الفائقة نحو شعبه والمعلنة خلال التجسد الإلهى من أجل تقديس البشرية بروح القضاء وروح الإحراق .. بهذا انفتحت بصيرة النبى على حب الله لعروسه أو لكرمه فصار يتغنى بنشيد الكرمة ، أو نشيد الحبيب للكرمة المشتهاه .
( 1 ) رعاية الله لكرمه :
" لأنشدن عن حبيبى نشيد محبى لكرمه . كان لحبيبى كرم على أكمة خصبة ، فنقبه ونقى حجارته وغرسه كرم سورق وبنى برجا فى وسطه ونقر فيه أيضا معصرة ، فانتظر أن يصنع عنبا فصنع عنبا رديا ( بريا ) " إش 5 : 1 ، 2
يعلن هذا النشيد قصة الحب الإلهى ، حيث أحب الله الإنسان ولا يزال يحبه ويرعاه ، ويبقى الله مستمرا فى حبه بينما يقابل الإنسان الحب بالجفاف .
تحققت هذه القصة مع أبوينا الأولين آدم وحواء ، وتحققت أيضا مع شعب الله فى بداية نشأته ، إذ يقول موسى النبى : " إن قسم الرب شعبه ، يعقوب حبل نصيبه ؛ وجده فى أرض قفر وفى خلاء مستوحش خرب ، أحاط به ولاحظه وصانه كحدقة عينه " تث 32 : 9 ، 10 . أخرج الله شعبه من العبودية لا ليهبه الأرض التى تفيض عسلا ولبنا فحسب وإنما ليقيم كنيسة العهد الجديد التى تملأ الأرض كلها ، تنعم بملكوت الله الداخلى ، وكما يقول المرتل : " كرمة من مصر نقلت ، طردت أمما وغرستها ، هيأت قدامها فأصلت أصولها ، فملأت الأرض " مز 80 : 8 ، 9 .
واضح هنا أن " الكرمة " تشير إلى الشعب كله : مملكة إسرائيل ويهوذا ، فماذا قدم الرب لشعبه المحبوب لديه ؟
أ – أقامهم على " أكمة خصبة " إش 5 : 1 ، إذ دخل بهم إلى كنعان التى تفيض لبنا وعسلا .. ما يحل من جفاف أو مجاعات لا يرجع إلى طبيعة الأرض أو ظروف المنطقة إنما هو ثمر لخطايا الشعب .
أقام الله كنيسة العهد الجديد على أكمة خصبة ، فقد رفع قلبها كما إلى السماء لكى يتمتع أبناؤها بدسم الحياة السماوية ، فيشبعون ولا يعتازون إلى شىء .
ب – " نقبه ( سيج حوله ) " إش 5 : 2 هذا السياج هو الناموس الذى أحاط به الرب شعبه قديما حتى لا يختلط بالأمم الوثنية المحيطة به فينقل عنهم الرجاسات ..كما أنه يشير إلى حراسة الملائكة .
جـ - " ونقى حجارته " إش 5 : 2 . تشير الحجارة إلى العبادة الوثنية حيث كانت الأصنام الحجرية ، هذه انتزعها الرب من وسط شعبه أو انتزع شعبه منها ليعيش الكل فى حياة تقوية لائقة .
جاء على لسان حزقيال النبى " انزع قلب الحجر من لحمهم وأعطيهم قلب لحم " حز 11 : 9 . هذا القلب الجديد والروح الجديد ( حز 36 : 26 ) إنما يتحقق بنوالنا الميلاد الروحى الجديد فى مياة المعمودية المقدسة .
د – " غرسه كرم سورق " ( كرما مختارا ) إش 5 : 2 ، أى غرسه كرما من أفضل أنواع الكروم ، كشعب مختار نال عهدا مع الله ، لكى يحمل " الحق " فيه ، كقول الرب :
" وأنا قد غرستك كرمة سورق زرع حق كلها ، فكيف تحولت لى سروغ جفنة غريبة ؟! " إر 2 : 21 .
أما بالنسبة لكنيسة العهد الجديد فقد جاء " الحق " نفسه ، كلمة الله المتجسد ليقدم نفسه كرمة يحملنا فيه أغصانا حية تأتى بثمر كثير ( يو 15 : 5 ) .
هـ - " وبنى برجا فى وسطه ، ونقر فيه معصرة ، فانتظر أن يصنع عنبا فصنع عنبا رديا ( بريا ) " إش 5 : 2
يسكن صاحب الكرم فى هذا البرج لحراسته .. البرج هو مذبح الرب الذى يقام داخل النفس ، والمعصرة لعصر العنب وعمل خمر الحب الذى يقدم للفرح الروحى . ما هذه المعصرة إلا صليب ربنا يسوع المسيح الذى اجتاز المعصرة وحده ولم يكن معه أحد من الأمم ( إش 63 : 3 ) . قدم دمه المبذول خمر حب يفرح كل قلب مؤمن .
انتظر الرب أن يجتنى حبا مقابل الحب ، وتوبة وندامة مقابل غفران خطاياه ، لكنه وجد قلوبا متحجرة لا تصنع ثمارا تليق بالتوبة . الكل زاغوا وفسدوا وأعوزهم مجد الله ، لذا كان يليق بكلمة الله أن ينزل إلينا ككرم جديد ، هو وحده يغرسنا فيه فنأتى بثمر كثير ( يو 15 : 5 ) .
( 2 ) محاكمة بين الله وشعبه :
ليس أصعب من أن يدخل كائن ما فى محاكمة مع ابن محبوب لديه ، لكن أمام قساوة قلب الإنسان وجحوده طلب أن يقف أمام شعبه للحوار ، متسائلا : " ماذا يصنع أيضا لكرمى وأنا لم أصنعه ؟! " إش 5 : 4 . والعجيب أنه ترك الحكم للطرف الآخر ، لمقاوميه ، حتى يحكموا بأنفسهم على أنفسهم . هذا هو أسلوب الله فى تعامله معنا ، يفضح أمامنا نفوسنا ، ويكشف أمام أعيننا ضعفاتنا ، ليس لأنه يريد أن يغلب أو يعاقب وإنما لأنه يطلب رجوعنا إليه ودخولنا فى علاقات حب وود معه .
إذ لم يجد الكرم ما يجيب به على الكرام العجيب فى حبه ، بدأ الكرام يعلن تأديباته حتى يتحرك الكرم ، ألا وهى :
أ – " انزع سياجه فيصير للرعى " إش 5 : 5 . إن كان ملاك الرب حال حول خائفيه ( مز 34 : 7 ) ، بل والرب نفسه يكون سور نار حول شعبه ( زك 2 : 5 ) ، فإن الله فى محبته يتخلى عن المقاومين وينزع عنهم الحراسة السماوية ليدركوا ضعفاتهم ، ويشعروا أنهم بلا سياج ولا سور ...
ب – " اجعله خرابا لا يقضب ولا ينقب " إش 5 : 6 . إذ يفارق الرب كرمه أى النفس البشرية تصير فى فراغ وتحسب خرابا ، يبكيها الرب كما يبكى على أورشليم ، قائلا :
" هوذا بيتكم يترك لكم خرابا " مت 23 : 38 .
جـ - " فيطلع شوك وحسك " إش 5 : 6 . هذا ثمر اعتزال الإنسان الله وانفصاله عنه ، إذ ينبت من عندياته شوكا وحسكا .
ما هو هذا الشوك إلا فقدان الإنسان سلامه ليحمل فى داخله متاعب وهموم لا يقدر أن يجابهها بنفسه وحده ؟!
د – " وأوصى الغيم أن لا يمطر عليه مطرا " إش 5 : 6 . يشير المطر فى العهد القديم إلى عطية الروح القدس ، فإن الإنسان الجاحد للرب الذى يطلب الأنفصال عنه يخسر سكنى الروح فيه ، فيتحول قلبه إلى قفر ، لا يحمل ثمر الروح ، لهذا عوض أن يثمر " الحق " إذا به يثمر " سفك دم " ، وعوض " العدل " يثمر " صراخا " إش 5 : 7
يقول : " إن كرم رب الجنود هو بيت إسرائيل وغرس لذته رجال يهوذا . فانتظر حقا فإذا سفك دم .. وعدلا فإذا صراخ " إش 5 : 7 .
جاء " الحق " متجسدا من سبط يهوذا لكنهم سفكوا دمه ، وعوض العدل كان الصراخ :
" أصلبه ، أصلبه " .
( 3 ) عرض تفصيلى لخطايا إسرائيل :
بعدما كشف الرب عن حبه لكرمه ورعايته الفائقة له ، بدأ يستعرض أهم خطايا الشعب وثمرهم الدىء الذى جلب ويلات مرة عوض التمتع ببركات الرب وشركة أمجاده .
أ – " ويل للذين يصلون بيتا ببيت ، ويقرنون حقلا بحقل ، حتى لم يبق موضع ، فصرتم تسكنون وحدكم فى وسط الأرض " إش 5 : 8 .
يعنى بهذا أنهم انهمكوا فى شراء البيوت والحقول كل الطرق ، فى أنانية حتى لم يترك الواحد موضعا لأخيه ، خاصة الفقير والمحتاج . لقد ملكت قلة قليلة الأرض الزراعية والبيوت لتستغل عامة الشعب ، وذلك على خلاف الناموس الذى طالب أن تبقى الأراضى موزعة بالتساوى ( عد 33 : 54 ) ,انه فى سنة اليوبيل يعود للكل ملكيته ( لا 25 ) .
ب – " ويل للمبكرين صباحا يتبعون المسكر ، للمتأخرين فى العتمة تلهبهم الخمر " إش 5 : 11 .
إن كان الويل الأول منصبا عليهم بسبب الطمع والظلم فالثانى بسبب اللهو الزائد . صاروا يسكرون فى الصباح المبكر عوض قيامهم للعمل وأيضا يبقون حتى ساعة متأخرة بالليل ، اى يسكرون نهارا وليلا . هكذا يكسرون الوصايا الإلهية : " الإنسان يخرج إلى عمله وإلى شغله إلى المساء " مز 104 : 23 .
تحولت حياتهم عن الفرح الروحى الممتزج بجدية الحياة والعبادة إلى اللهو الممتزج برخاوة يستخدمون كل آلات الطرب ( إش 5 : 12 ) مع الإنشغال بإقامة ولائم لإثارة مشاعرهم وأحاسيسهم للشر ، متجاهلين الحياة التقوية فى الرب .
إن الله لا يدينهم هنا على طمع اقترفوه وإنما لمجرد التبذير ، أنت تشرب خمرا ولا تمنح المسيح كأس ماء بارد خلال من هو ظمآن . أنت ترقد على فراش ناعم مطرز وهو يهلك بردا !
أما عمل اللهو فهو سبى الإنسان الداخلى عن معرفة الحق ، ليعيش أسيرا للجهالة ، يجوع ويعطش داخليا ، ولا يوجد ما يشبعه أو يرويه . يقول النبى : " لذلك سبى شعبى لعدم المعرفة وتصير شرفاؤه جوع وعامته يابسين من العطش " إش 5 : 13 .
يقول الحكيم : " لأن السكير والمسرف يفتقران ، والنوم يكسو الخرق " أم 13 : 21 .
هذا هو الثمر المر الذى يجتنيه السالكون فى الباب الواسع ، باب اللهو الدائم لإشباع الشهوات الزمنية . أما ماهوأخطر فهو هلاكهم الأبدى إذ يقول : " لذلك وسعت الهاوية نفسها وفغرت فاهها بلا حد فينزل بهاؤها وجمهورها وضجيجها والمبتهج فيها " إش 5 : 14 .
يصور الهاوية أشبه بانفتاح الأرض لإبتلاع الأشرار كما حدث مع قورح وجماعته .. تنفتح لتطلب المزيد ، تبتلعهم إلى الأعماق ليبقول فى الظلمة إلى الأبد .
هذا ما يحدث بالنسبة للمنشغلين بحياة الترف واللهو ، أما بالنسبة لله رب الجنود فإنه يتمجد ويتقدس بإدانته للخطية بالعدل والبر ( إش 5 : 16 ) .
ربما يتساءل البعض : ما هو حال البقية القليلة الأمينة للرب ؟ يجيب النبى : " ويرعى الخراف حيثما تساق ، وخرب السمان تأكلها الغرباء " إش 5 : 17 .
ترعى الخراف – القطيع الصغير – حيثما يقودها الراعى الصالح ، يسوع المسيح ، إذ يحفظها من الظلم والإضطهاد .
جـ - " ويل للجاذبين الإثم بحبال البطل ، والخطية كأنه بربط العجلة " إش 5 : 18 .
هذا الويل الثالث يحل بطالبى الخطية برغبة شديدة واجتهاد ، يسعون إليها بمحض اختيارهم ويدفعون أنفسهم إليها دفعا أو يسحبونها بقوة نحوهم .
إنهم يجتذبون الخطية كما بحبل ، وإذ هى ثقيلة للغاية تنهار على رؤوسهم فتحطمهم .
حقا ، كل إنسان يضفر لنفسه حبلا بخطاياه ..
بجانب ما للخطية من خطورة أنها تسحب الإنسان إلى سلسلة من الخطايا ، فتجعله أشبه بكرة تلهو بها الخطايا فإن الخطر الثانى هو أنها تبعث روح الإستخفاف والسخرية عوض رغبة الإنسان فى التحرر منها ، فيردد الأشرار : " ليسرع ليعجل عمله لكى نرى ، وليقرب ويأتى مقصد قدوس إسرائيل لنعلم " إش 5 : 19 . إنهم يشكون فى إمكانية قضاء الله ، فيحسبون أنهم قادرون على مواجهته ببراهين وحجج . فى استخفاف يرددون " قدوس إسرائيل " اللقب الذى استخدمه الأنبياء بالنسبة لرجائهم فى مجىء المسيا المخلص .. وكأنهم يضربون بهذا الرجاء عرض الحائط .
فى كل عصر يوجد أشرار يستهينون بطول أناة الله ويسخرون بمواعيده ومحبته كما تأديباته ظانين أنها مجرد كلمات أو أوهام لن تتحقق .
د – " ويل للقائلين للشر خيرا وللخير شرا ، الجاعلين الظلام نورا والنور ظلاما ، الجاعلين المر حلوا والحلو مرا " إش 5 : 20
يسقط الويل الرابع على الذين يخلطون بين الحق والباطل ، الخير والشر ، النور والظلمة ، الحلاوة والمرارة ، المعرفة والجهل . هؤلاء يعطون الخطية مسحة الفضيلة كأن يبرروا الغضب بالدفاع عن الحق أو إدانة الآخرين تحت ستار الرغبة فى الأصلاح الخ .....
هـ - ادعاء الحكمة والفهم مع الأستخفاف بآراء ومشورة الغير : " ويل للحكماء فى أعين أنفسهم والفهماء عند ذواتهم " إش 5 : 21 .
من ينشغل بذاتيته ولا يطلب مشورة الغير ، إنما يحمل علامة الغباوة ، قيل : " أرأيت رجلا حكيما فى عينى نفسه ؟ الرجاء بالجاهل أكثر من الرجاء به " أم 26 : 12 .
و – الأبطال المفسدون لطاقاتهم : " ويل للأبطال على شرب الخمر ولذوى القدرة على مزج المسكر " إش 5 : 22 . حينما تنشغل القيادات بالولائم والترف والسكر تفقد دورها الحقيقى ؛ هكذا كثيرا ما تفسد طاقاتنا بأنفسنا بانحرافنا عن هدفنا الجاد وانغماسنا فى ملذات هذا العالم
ز – أخذ الرشوة : " الذين يبررون الشرير من أجل الرشوة ، وأما حق الصديقين فينزعونه منهم " إش 5 : 23 .
( 4 ) تأديب الهي :
بسبب الخطايا التى ارتكبها الشعب حمى غضب الرب كلهيب نار يحرق القش ليجعلهم أشبه بالغبار ( إش 5 : 24 ) . لقد سمح بتأديبهم بحزم شديد حتى ارتعدت الجبال وصارت جثثهم ملقاة فى الأزقة . هنا يعنى ما حل بشعب الله خلال الغزو الأشورى العنف .
وسط هذا اللهيب يقول : " مع كل هذا لم يرتد غضبه بل يده ممدودة بعد " إش 5 : 25 ؛ لا يزال مملوء حبا ينتظر عودة الإنسان إليه ! .
( 5 ) الغزو الأشورى
يقدم لنا النبى وصفا رهيبا لجيش أور فى غزوه شعب الله . هذا الوصف يكشف عن غزو عدو الخير للنفس البشرية ، بعنف وشراسة ومثابرة ، وفى نفس الوقت يوبخ المؤمنين المتراخين ؛ فالأشرار من أجل غنيمة زمنية لا يكلون حتى يحققوا هدفهم بينما أولاد الله يتراخون فى نوال شركة المجد الأبدى .
أ- " ليس فيهم رازح ( متعب ) " إش 5 : 27 . بالرغم من طول المسافة التى يقطعونها والصعوبات التى تواجههم لكنهم لا يشعرون بتعب من أجل رغبتهم القوية فى التمتع بالغنيمة .. بينما كثيرا ما نتراخى نحن المؤمنون فى جهادنا الروحى تحت دعوى الإرهاق أو التعب .
ب- " ولا عاثر " إش 5 : 27 بالرغم من وعورة الطريق ؛ ربما لأن الله دعاهم لتأديب شعبه فسهل لهم الطريق . كان أولى بنا نحن ألا نخاف وعورة الطريق فإننا ما دمنا فى يد مسيحنا " الطريق " لا نتعثر قط .
جـ - " لا ينعسون ولا ينامون " إش 5 : 27 من أجل الهدف الزمنى والشرير الموضوع أمامهم . أفما يليق بنا نحن المؤمنون ألا ننعس ولا ننام بل نبقى فى يقظة الروح حتى نحقق غاية رسالتنا ؟!
د - " ولا تنحل حزم أحقائهم ولا تنقطع سيور أحذيتهم " إش 5 : 27 ، أى جادين ومتشددين للعمل . لقد أوصانا الرب : " لتكن أحقاؤكم ممنطقة " لو 12 : 35 ، حتى نتمم خدمة الرب بقوة .
هـ - " سهامهم مسنونة وجميع قسيهم ممدودة ، حوافر خيلهم تحسب كالصوان وبكراتهم كالزوبعة " إش 5 : 28 . مستعدين بأسلحتهم وعدتهم ، كى يحاربوا بقوة ولمدة طويلة وبسرعة خاطفة ليحققوا الهدف . يليق بالمؤمنين أن يستعدوا ضد معركة إبليس بأسلحة الإيمان الروحية التى تحدث عنها الرسول بولس بأكثر توسع ( أف 6 ) .
و – " لهم زمجرة كاللبوة ، ويزمجرون كالشبل ، ويهرون ويمسكون الفريسة ويستخلصونها ولا منقذ " إش 5 : 29 . إنهم يحملون صورة سيدهم إبليس ، الذى يجول كأسد زائر يلتمس من يبتلعه ( 1 بط 5 : 8 ) . كان يليق بالمؤمنين أن يصحوا ويسهروا مقاومين هذا العدو راسخين فى الإيمان ( 1 بط 5 : 8 ، 9 ).
لقد تقدم الحمل – رب المجد يسوع – القادر أن يحطم العدو ، كأسد خارج من سبط يهوذا ( رؤ 5 : 5 ) حتى لا يهزمنا إبليس بل نقاومه بالرب ونحطم طاقاته .
ز – " يهرون عليهم فى ذلك اليوم كهدير البحر " إش 5 : 30 ، إذ يسقط عليهم الجيش بأصوات الجند كهدير البحر الذى لا يقاوم ، يكتسح ويبتلع كل ما هو أمامه .. وكأنه لا أمل لهم فى النجاة من أشور .
ح – أخيرا يفقد الشعب كل رجاء فإنه " إن نظر إلى الأرض فهوذا ظلام الضيق والنور قد أظلم بسحبها " إش 5 : 30 . وقت الضيق يرفعون عيونهم لعلهم يجدون منفذا للخلاص ، لكن الظلام يخيم على أفكارهم ، وسحب الدخان الصاعدة من الحرائق تحطم كل أمل عندهم . لقد رفضوا الله : " النور الحقيقى " فملكت الظلمة على أعماقهم . لهذا يصرخ المرتل :
" بنورك يارب نعاين النور " مز 36 : 9 .
+ + +
إشعياء – الإصحاح السادس
رؤيا إشعياء ودعوته
يسجل لنا إشعياء النبى رؤياه الشهيرة ، إذ رأى الله القدوس جالسا على كرسى عال ومرتفع وأذياله تملأ الهيكل ، رآه فى مجده الفائق تسبحه طغمة السيرافيم ، وقد عهد إليه بخدمة النبوة المقدسة .
يتساءل البعض : هل تمتع النبى بهذه الرؤيا قبل تنبؤه بما ورد فى الإصحاحات السابقة أم جاءت بعدها ؟ ولماذا لم يفتتح النبى السفر بها ؟
( 1 ) رؤيا النبى فى الهيكل :
" فى سنة وفاة عزيا الملك رأيت السيد جالسا على كرسى عال ومرتفع وأذياله تملأ الهيكل " إش 6 : 1
تمتع النبى بهذه الرؤيا فى سنة وفاة عزيا الملك ، ربما بعدما أعلن نبواته السابقة والتى حملت تهديدا للشعب ، فقابلها الشعب بنفور واستخفاف ، لهذا كشف له هذه الرؤيا ليعلنها للشعب مؤكدا أنه يحمل رسالة إلهية ، يقدم كلمة الله .
ظهرت الرؤيا ى سنة وفاة عزيا الملك الذى ملك على يهوذا وهو ابن 16 سنة لمدة 52 عاما وعمل المستقيم فى عينى الرب ، وقد نجح فى كل أعماله : فى الحروب والتعمير ، ولكنه إذ أصابه الكبرياء وأراد أن يوقد للرب على مذبح البخور فضربه الرب بالبرص وهو فى الهيكل ، وطرده الكهنة ، وكان أبرصا إلى يوم وفاته ، معزولا فى بيت بعيد عن قصر الملك
تطلع النبى إلى الشعب فى سنة موت عزيا ليراه منطرحا كغنم بلا راعى ، خاصة وأن الملك كان قد اعتزل الشعب زمانا قبل موته بسبب برصه .
وسط هذه المرارة أعلن الرب هذه الرؤيا لإشعياء من أجل تعزيته : تحققت الرؤيا فى الهيكل غالبا فى وقت انفرد فيه النبى للعبادة الخاصة ، يصرخ إلى الله ليتسلم رعاية شعبه .
ظهر له السيد جالسا على كرسى عال . ومرتفع ليؤكد له أنه هو راعى شعبه السماوى ، أفكاره تعلو عن أفكار البشر ، وطرقه عن طرقهم .
يرى القديس يوحنا الذهبى الفم إن إشعياء وغيره من الأنبياء لم يروا جوهر اللاهوت كما هو إنما يظهر الله لهم خلال تنازله قدر ما يحتملون الرؤيا وذلك من أجل محبته لخليقته ؛ حتى بالنسبة للسمائيين وحاملى عرشه فإن كل منهم يراه قدر احتماله أما الجوهر فى ذاته أى فى كماله المطلق فلا يمكن إدراكه .
" السيرافيم واقفون فوقه ، لكل واحد ستة أجنحة ، بأثنين يغطى وجهه وبأثنين يغطى رجليه وبأثنين يطير . وهذا نادى ذاك وقال : قدوس ، قدوس ، قدوس رب الجنود ، مجده ملء كل الأرض " إش 6 : 2 ، 3 .
لعل ما يعزى نفس الخاد هو أن يرتفع قلبه ليرى الخدمة الملائكية ، فيتحقق أن كل متاعب الكنيسة وضعفاتها تنتهى يوما ما لتشترك مع السمائيين فى التسبيح أبديا .
قيل أن القديس باخوميوس المصرى كان يرى الكنيسة مملوءة بالملائكة .
السيرافيم هم خدام العرش الإلهى ، يحملون الرب بفرح وتهليل ، يسبحونه بلا انقطاع . وكأن عمل كل خادم أو نبى فى الكنيسة هو جذب كل نفس إلى الرب كعرش له يسكنه ، ويقيم ملكوته داخله ، فيصير أشبه بالساروف النارى السماوى . لكل ساروف 6 أجنحة :
بإثنين يغطى وجهه علامة اتسامه بالمخافة الإلهية ، لا يقدر أن يدرك كل البهاء الإلهى ...
وبإثنين يغطى رجليه علامة الحياء – إن صح التعبير - .....
وبإثنين يطير محلقا فى السماويات .
هكذا يليق بنا أن نتشبه بالساروف ننعم بالمخافة الإلهية فى احتشام مع نمو دائم وارتفاع مستمر نحو السماويات .
" مجده ملء كل الأرض " إش 6 : 3 ، لا يملأ السموات فحسب وإنما الأرض كلها .
يلاحظ فى هذه التسبحة :
أ – أن كلمة " السيد " جاءت بالجمع Adonai وليس بالمفرد Adon ، ربما لهذا السبب مع تكرار كلمة " قدوس " ثلاث مرات رأى القديس غريغوريوس أسقف نيصص تعلن عن مجد الثالوث ، بينما ينسبها الرسول بولس للروح القدس ( أع 28 : 25 ، 26 ) ، والقديس يوحنا للإبن ( يو 12 : 41 ) بينما التقليد اليهودى قديما ينسبها للآب .
ب – دعى الله " رب الجنود " وهو لقب الله فى معركته ضد الشر أو قوات الظلمة ، له معنى تعليمى ، أول من استخدمه حنة أم صموئيل فى تسبحة النصرة التى نطقت بها إذ شعرت بأن الله هو سر نصرتها فى معركتها الداخلية .
جـ - تستخدم هذه التسبحة فى القداس الإلهى علامة شركة المؤمنين مع السمائيين فى العبادة على مستوى سماوى ، بروح الوحدة والإنسجام معا .
" فاهتزت أساسات العتب من صوت الصارخ وامتلأ البيت دخانا " إش 6 : 4 .
اهتزت أساسات بيت الرب أمام صرخات الساروفيم التى تمجد الله القدوس وأمتلأ البيت سحابا كثيفا علامة حلول مجد الله فيه . وعندما دخل السيد المسيح أورشليم اهتزت أيضا المدينة ( مت 21 : 10 ) . ونحن فى حاجة أن يعلن الرب حلوله فينا . ليقيم ملكوته داخلنا ، نشترك مع السيرافيم تسبحتهم الأبدية فتهتز أعماق نفوسنا مع إشعياء النبى ، ويعلن مجد الرب فينا ، وتتقدس أعماقنا فنحسب شهود حق لإنجيله .
( 2 ) تقديس فم إشعياء
إذ نقف فى حضرة الله القدوس يعلن لنا مجده ونكتشف نحن نجاستنا ، كما حدث مع إشعياء النبى : " فقلت : ويل لى إنى هلكت لأنى انسان نجس الشفتين ، وأنا ساكن بين شعب نجس الشفتين ، لأن عينى رأتا الملك رب الجنود " إش 6 : 5
لعل إشعياء أراد أن يشترك مع السيرافيم فى تسابيحهم لله فأدرك أنه نجس الشفتين ، وإذ تطلع إلى جماعة السيرافيم فى تهليلاتهم أدرك أنه ساكن بين شعب نجس الشفتين .
شعوره بنجاسة شفتيه ونجاسة شفاه شعبه لم يحطم نفسيته ، إنما ملأه رجاء فىالله الذى تمتع برؤياه بكونه " رب الجنود " ، قادر أن يقيم من البشرية جنودا روحيين له . هذا تحقق له ، إذ قال : " فطار إلى واحد من السارفيم وبيده جمرة أخذها بملقط من على المذبح ، ومس بها فمى وقال : إن هذه مست شفتيك فانتزع إثمك وكفر عن خطيتك " إش 6 : 6 ، 7
لقد حملت القديسة مريم كلمة الله متجسدا فيها ، الجمر الملتهب ، الذى يقدس البشرية بدمه الثمين .
( 3 ) إرسالية إشعياء النبى :
بعد هذه الرؤيا أشتاق إشعياء النبى أن يرى شعبه متمتعا بهذه الحياة العلوية ، كأنه يقول مع الرسول بولس : " لى اشتهاء أن أنطلق وأكون مع المسيح ذاك أفضل جدا ، ولكن أن أبقى فى الجسد ألزم من أجلكم " فى 1 : 24 . هذا ما يعلنه النبى أيضا بقولـه : " ثم سمعت صوت السيد قائلا : من أرسل ومن يذهب لأجلنا ؟ فقلت : هأنذا أرسلنى " إش 6 : 8
هذا هو المنظر الخامس من ذات الرؤيا الذى فيه دعى للعمل النبوى ، لحساب ملكوت الرب ، هذه المناظر هى :
1 – منظر السيد الرب فى مجده ( إش 6 : 1 ) .
2- منظر السرافيم المسبحين له ( إش 2 : 3 )
3 – اهتزاز أساسات العتب وامتلاء البيت دخانا ( إش 6 : 4 ) .
4 – تقديس شفتى النبى ( إش 6 : 5 – 7 ) .
5 – دعوة إشعياء بصوت الله نفسه ( إش 6 : 8 الخ ) .
جاءت الدعوة من الله القدير نفسه ، وإذ آمن إشعياء بقدرة الله الخلاصية وعمله التقديسى ، تقدم للعمل مدركا أنه حيث هو ضعيف فهو بالرب قوى .
قبل الله القدوس عرض إشعياء ، وقال له : " اذهب " إش 6 : 9 . لقد أراد الله ألا يرسل إشعياء من أجل نوال كرامة أو مجد ، إنما ليدخل فى مرارة مع شعب رافض الحق .. فالخدمة ليست مراكز كنسية ولا كرامات إنما هى جهاد روحى من أجل غسل أقدام الآخرين وحثهم على قبول الحق ..
وضع الرب كلماته على فم النبى : " تسمعون سمعا ولا تفهمون ، وتبصرون أبصارا ولا تعرفون " إش 6 : 9 .
لقد وضع الرب فى فم إشعياء نبوات كثيرة عن السيد المسيح وعمله الخلاصى ، وقد تحققت عند مجىء السيد المسيح ، لقد سمعوا ورأوا لكنهم لم يؤمنوا به ، لأن بصيرتهم الداخلية قد أصابها العمى ، وذلك على عكس التلاميذ الذين قال لهم الرب :
" طوبى لأعينكم لأنها تبصر ولآذانكم لأنها تسمع " مت 13 : 11 – 16 .
ما هى علة عدم قدرتهم على الإيمان ؟ : إنهم لم يريدوا . الله راآ إرادتهم الفاسدة لذلك سبق أن أخبر النبى بذلك لأن المستقبل ليس مخفيا عنه ..
" غلظ قلب هذا الشعب وثقل أذنيه وأطمس عينيه لئلا يبصر بعينيه ويسمع بأذنيه ويفهم بقلبه ويرجع فيشفى " إش 6 : 10 .
يلاحظ هنا أن الله لا ينسب هذا الشعب إليه ، بل يدعوه " هذا الشعب " ، وهذه عادة ما تحدث عندما يعلن الله غضبه عليهم فيحسبهم غير أهل للأنتساب إليه بسبب غلاظة قلوبهم وثقل آذانهم وعمى أعينهم ، أى بسبب العنف ( القسوة ) ، والعصيان ، والجهل الروحى .
حزن إشعياء النبى إذ أدرك ثقل المسئولية الملقاة عليه وما تنتظره من متاعب وآلام ، كما حزن إذ أدرك ما سيحل بالشعب من دمار حتى تصير المدن خربة بلا ساكن والبيوت بلا إنسان وتخرب الأرض وتقفر ( إش 6 : 11 ) ، فصرخ : " إلى متى أيها السيد الرب ؟ " إش 6 : 11 . هلى كان يسأل : إلى متى يبقى هذا الشعب فى القساوة ؟! أم يسأل : إلى متى أعلن نبوات مرة هكذا وقاسية ؟!
كشف له الرب عن حال الشعب بع انكساره أمام سنحاريب ، فأعلن أنه وإن بقى فى البلاد العشر [ 1/10 ] ( إش 6 : 13 ) يعود فيقيم الشعب خلال هذه البقية ويجعل منهم زرعا مقدسا . بهذا يتنبأ عن السبى وما يحدث بعد السبى . وفى نفس الوقت تعتبر نبوة عن سبى اليهود فى جحودهم الإيمان بالسيد المسيح مخلص العالم ، لكن فى آخر الأيام تبقى بقية تعود للأيمان به . يقول الرسول بولس : " إن القساوة قد حصلت جزئيا لإسرائيل إلى أن يدخل ملوء الأمم ، وهكذا سيخلص جميع إسرائيل " رو 11 : 25 ، 26 .
+ + +
إشعياء – الإصحاح السابع
خلاص آحاز والخلاص المسيـــانى
كان آحاز من أشر ملوك يهوذا ، عرف بالرياء والجبن ، أجاز إبنه فى النار وقدم ذبائح للأوثان فى المرتفعات وتحت كل شجرة خضراء .
فى بدء حكم آحاز تحالف آرام مع إسرائيل ( افرايم ) ضد يهوذا ، وقاما بالهجوم عليه فقتل فقح ملك إسرائيل 120 ألفا فى يوم واحد بينما أسر رصين ملك آرام الكثيرين . أراد الأثنان فتح أورشليم لكن الله حفظها ، وقد طمأن آحاز على لسان إشعياء بالرغم من فساد آحاز ، معلنا اهتمامه بخلاص شعبه ومدينته .
انتقل إشعياء من هذا الخلاص الزمنى إلى الحديث عن الخلاص الأبدى الذى يحققه عمانوئيل المسيا .
( 1 ) تحالف رصين وفقح ضد آحاز
فى بدء حكم آحاز تحالف رصين ملك آرام مع فقح بن رمليا ملك إسرائيل ضد يهوذا ( إش 7 : 1 ) . هجم الأول من جهة شرق الأردن بينما اندفع الثانى بجيوشه من الشمال ، وانهزم آحاز . صعدا إلى أورشليم العاصمة لمحاصرتها ، لكنهما لم يستطيعا اقتحامها . أما سبب المعركة فهو اختلاف آحاز عن الملكين الآخرين سياسيا ، فقد رأى آحاز أن يتحالف مع آشور بينما رأى الملكان أن يتحالفا مع مصر .
وجد آحاز نفسه فى مأزق ، فطلب معونة فلاسر ملك آشور ، الذى أسرع نحو دمشق حيث قتل رصين ( 2 مل 16 : 9 ) ، وهكذا فعل أيضا بالسامرة ( 2 مل 15 : 29 ) .
( 2 ) خوف آحاز :
إذ عرف آحاز أن آرام حل فى افرايم ( المملكة الشمالية أو إسرائيل ) للتحالف معا ضده:
" رجف قلبه وقلوب شعبه كرجفان شجر الوعر قدام الريح " إش 7 : 2 . لقد أدرك آحاز وشعبه عدم قدرتهم على مواجهة آرام وإسرائيل ، أما علة خوفهم الحقيقى فهو عدم إيمانهم بالله كسند لهم قادر أن يحصنهم ويهبهم النصرة . لقد فقدوا سلامهم الداخلى بانعزالهم عن الله مصدر الغلبة والسلام .
( 3 ) إشعياء يطمئن آحاز :
اضطرب آحاز جدا ، لأنه أسقط من حساباته عنصر الإيمان أو " الوجود الإلهى " فلم يناد بالتوبة والرجوع إلى الله ، ولا ذهب إلى الهيكل ليضع الأمر بين يدى الله ، ولا أرسل إلى إشعياء النبى يستشيره ، إنما استخدم الوسائل البشرية من إلتجاء إلى آشور لحمايته ، وخروجه إلى طرف قناة البركة العليا ( إش 7 : 3 ) غرب أورشليم على رأس وادى ابن هنوم يختبر مع رجال الدولة موارد المياة ليحولونها إلى المدينة تنتفع بها أثناء الحصار المرتقب ولحرمان العدو منها ( 2 أى 22 : 3 ، 4 إش 22 : 9 – 11 ) كما كان يباشر تحصين المدينة قدر المستطاع .
مع هذا كله تدخل الله ليس من أجل آحاز وإنما من أجل القلة القليلة المقدسة من شعبه ، ومن أجل داود عبده ومدينته العزيزة لديه . لقد طلب من إشعياء أن يخرج لملاقاة آحاز ومعه شآرياشوب [ = البقية سترجع ] بكونه علامة وأعجوبة فى إسرائيل ( إش 8 : 8 ) ، مؤكدا له :
" احترز وأهدأ ؛ لا تخف ولا يضعف قلبك من أجل ذنبى هاتين الشعلتين المدخنتين بحمو غضب رصين وآرام وأبن رمليا " إش 7 : 4 .
التقى النبى وابنه مع الملك عند البركة ليعلن الله للملك أن الخلاص لن يتم بالتخطيط البشرى والإمكانيات الزمنية وإنما بعمل الله الفائق وعنايته نحو أولاده . التقى النبى مع الملك عند البركة ليؤكد له أن الله يريد أن يتحدث مع البشرية أينما وجدوا ، يلتقى مع لاوى عند مكان الجباية ومع زكا عند شجرة الجميز ومع السامرية عند بئر يعقوب الخ .. هو يبحث عنا ويذهب إلينا أينما وجدنا مشتاقا إلى خلاصنا أكثر من إشتياقنا نحن إليه .
طلب الله من آحاز ألا يخاف ولا يضعف قلبه ، للأسباب :
أ – أن العدوين ليسا إلا شعلتين مدخنتين ، قد تعكر الجو ولكن بلا نار ملتهبة لتحرق . عدو الخير قوى وجبار فى المظهر لكنه يصغر جدا ويضعف تماما أمامنا إن اختفينا فى المسيح الغالب لإبليس وكل قواته .
ب – عدم نجاح مؤامرة الأعداء : قام الملكان بمؤامرة شيطانية خفية لكن الله المدرك كل الخفيات أعلنها حتى يحتاط الملك آحاز بالرغم من شره وغبائه . يقول الرب : " لا تقوم ، لا تكون " إش 7 : 7 . قد ينجح العدو فى البداية حاسبا أنه يحقق أهدافه الشريرة ، لكن الرب يشتت المستكبرين بفكر قلوبهم ( لو 1 : 51 ) .
جـ - لن يقدر آرام أن يتوسع كما ظن إنما يلتزم حدوده : " لأن رأس آرام دمشق ورأس دمشق رصين " إش 7 : 8 .
هكذا مهما حارب رصين فسيعود إلى دمشق ولا تتسع مملكته على حساب يهوذا كما يظن . أما بالنسبة لأفرايم ففى مدة 65 سنة ينكسر حتى لا يعود يحسب شعبا ( إش 7 : 8 ) .
ختم النبى حديثه بقوله : " إن لم تؤمنوا فلا تؤمنوا " إش 7 : 9 . فإنهم ما لم يؤمنوا بالوعد الإلهى ويثقوا فيه متكلين على ذراع الرب لن يثبتوا فى هذه الظروف القاسية الصعبة . الإيمان هو الدرع ( 1 تس 5 : 8 ) الذى يحمينا من ضربات العدو .
( 4 ) آحاز يرفض طلب آية :
قدم الله لآحاز كل إمكانية للخلاص ، لكن قلبه كان قد تقسى تماما فوثق فى أشور لا الله . ومع ذلك فإن الله فى حبه ولطفه عاد يتحدث معه خلال إشعياء النبى قائلا : " اطلب لنفسك آية من الرب إلهك ؛ عمق طلبك أو رفعه إلى فوق " إش 7 : 11 . وكأنه يقول له : لماذا تطلب عونا من أشور الغريب ، أنا هو إلهك مستعد أن أؤكد لك مواعيدى بآية من الأرض أو من السماء ، فأنا إله السماء والأرض . أطلب ما تريد وأنا أعطيك . أطلب أن تحدث زلزلة أو انشقاق للأرض كما حدث مع قورح وجماعته ، أو اطلب بروقا أو رعودا أو أمطارا أو علامة فى الشمس كما حدث مع يشوع حيث توقفت الشمس . فإننى وإن كنت لا أحب تقديم آيات للأستعراض إنما من أجل حبى لبيت داود ولكى تؤمن بى أعطيك سؤل قلبك . أما آحاز فقد صوب نظره نحو أشور ، رافضا أية معونة من قبل الله ، لذا رفض طلب آية منه ، مبررا ذلك بنص كتابى : " لا أجرب الرب " إش 7 : 12 ( تث 6 : 16 ) . لم يقل هذا عن ثقة فى الله وإنما رغبة فى عدم التعامل معه .
هذا الفصل يقرأ فى باكر من يوم الجمعة من الأسبوع الثانى من الصوم الكبير حيث تركز القراءات على " تجربة السيد المسيح " . وكأن روح الرب يؤكد أنه فى كل العصور يوجد أشرار يرغبون فى تغطية شرورهم بنصوص كتابية ، حتى الشيطان نفسه فى حواره مع السيد المسيح عند التجربة استخدم ذات الأسلوب . ما أخطر إساءة استخدام كلمة الله !
كان آحاز مخادعا فى إجابته حتى على الرب ، لهذا وبخه النبى قائلا : " اسمعوا يا بيت داود ؛ هل هو قليل عليكم أن تضجروا الناس حتى تضجروا الهي أيضا ؟! " إش 7 : 13 . لقد تضجر الناس بسبب مظالم آحاز وأهل بيته وها هم كمن يضجرون الله بعدم إيمانهم به متكلين على أشور لا الرب .
( 5 ) الآية الإلهيــــة : عمانوئيـــــل
... ها هو الرب يقدم نفسه آية لا لآحاز وإنما لكل البشرية لنطمئن أنه يخلصها لا من الأذرع البشرية وإنما من كل قوات الظلمة الشريرة ، يرفعها فوق الأحداث الزمنية ويحملها معه إلى الأحضان الأبوية . وفى نفس الوقت يطمئن آحاز أن بيت داود لن يسقط تماما ، إنما يأتى إبن داود " الآية العجيبة " القادر أن يقيم خيمة داود الساقطة .
الآية التى يريد الرب أن يهبها لكل مؤمن هى أنه يعطى ذاته " عمانوئيــــل " .. حقا إنها آية فريــــدة ، كما يقول القديس يوحنا الذهبى الفم : [ لما كان ما هو مزمع أن يحدث أمرا غريبا لكثير من أن يصدقوه حتى عندما يتحقق لهذا أرسل أولا وقبل كل شىء أنبياء يعلنون عن هذه الحقيقة ] ...
أ – " ها العذراء تحبل وتلد ابنا وتدعو اسمه عمانوئيل "
إش 7 : 14 .
من الواضح للجميع أنه لم يولد أحد فى جنس ابراهيم من عذراء أو قيل عنه ذلك إلا مسيحنا .. بتولية القديسة مريم حقيقة إنجيلية .. تخفى إيماننا فى المسيح يسوع ابنها أنه ليس من زرع بشر .. فإن كلمة الله عند تجسده لم يبال بنوع الموضع الذى يضطجع فيه ( المذود ) ، أو الملابس التى يتقمط بها ، أو الطعام الذى يقتات به ، لكنه حدد بدقة " العذراء " التى تصير له أما .
الكلمة العبرية المستخدمة لعذراء هى " آلما Alma " وليس " بتولية " ولا " ايســا " ، فإن كلمة " آلمــا " تعنى عذراء صغيرة يمكن أن تكون مخطوبة ، أما " بتولية " فتعنى عذراء غير مخطوبة بينما إيســا تعنى سيدة متزوجة . وكأن كلمة " آلمــا " تطابق حالة القديسة مريم تماما بكونها عذراء وفى نفس الوقت مخطوبة للقديس يوسف الذى كان لها مدافعا وشاهدا أمينا على عفتها ، بوجوده ينتزع كل ريب أو ظن حولها .
تحدث حزقيال النبى ( 44 : 1 – 2 ) عن بتولية القديسة مريم :
+ حزقيال شهد وأظهر لنا هذا ، قائلا :
إنى رأيت بابا ناحية المشارق ،
الرب المخلص دخل إليه ، وبقى مغلقا جيدا بحاله .
أبصالية آدم يوم الأحد
+ ميلادك الإلهى يارب قد وهب البشرية كلها ميلادا ..
ولدتك البشرية حسب الجسد ، وأنت ولدتها حسب الروح ..
المجد لك يا من صرت طفلا لكى تجعل الكل جديدا .
القديس مار إفرام السريانى
ب – " زبدا وعسلا يأكل متى عرف أن يرفض الشر ويختار الخير " إش 7 : 16 .
هنا يؤكد النبى ناسوت السيد المسيح ، فمع كونه ليس من زرع بشر لكنه صار بحق ابن الإنسان ، يشاركنا أكلنا وتصرفاتنا ويشابهنا فى كل شىء ما خلا الخطية وحدها ( عب 2 : 7 ) .
الزبد والعسل هما طعام الصبية الصغار ، فإنه لن يبلغ الرجولة دفعة واحدة ، إنما يجتاز مرحلة الصبوة ، خلالها يعرف أن يرفض الشر ويختار الخير علامة نضوج نفسه وفكره . نراه فى الثانية عشرة من عمره يجلس وسط المعلمين يسمعهم ويحاورهم حتى بهتوا من تعليمه ( لو 2 : 46 ، 47 ) .
هذا تحقق بالنسبة لربنا يسوع المسيح المولود وحده من العذراء ، أما بالنسبة لما تم فى أيام آحاز فقد أعلن الله عن ميلاد ابن لأشعياء ، قيل عنه : " لأنه قبل أن يعرف الصبى أن يرفض الشر ويختار الخير تخلى الأرض التى أنت خاش من ملكيها " إش 7 : 16 .
تحقق ذلك بدقة إذ هاجم ملك أشور دمشق بعد إعلان هذه النبوة بفترة قصيرة وقتل رصين ( 2 مل 16 : 9 ) كما قتل هوشع بن إيلة فقح بن رمليا وملك عوضا عنه ( 2 مل 15 : 30 ) ، وأعيد 200000 أسير بسرعة ، وذلك لا بالقوة ولا بالقدرة بل بروح الرب ( 2 أى 28 : 8 – 15 ) .
( 6 ) أشور الحليف يصير عدوا :
إذ يتكىء آحاز على أشور كحليف له دون الرجوع إلى الرب لهذا يسمح الله أن ينقلب آشور عدوا ضد يهوذا ، ويجتاز يهوذا مرارة لم يسبق له اجتيازها منذ انقسمت المملكة إلى مملكتين " إسرائيل ويهوذا " ( إش 7 : 17) ، وفى نفس الوقت يرى أياما صعبة من جهة مصر فيصير يهوذا بين حجرى رحا ، لا بمعنى أن يتفق أشور ومصر ضده ، وإنما يتصارع الأثنان ضد بعضهما ويكون يهوذا هو كبش الفداء للأثنين ، فى أرضه تحدث المعارك والصراعات .
" ويكون فى ذلك اليوم أن الرب يصفر للذباب ( جيوش مصر ) الذى فى أقصى ترع مصر ، وللنحل ( جيوش أشور ) الذى فى أرض أشور ، فتأتى وتحل جميعها فى الأودية الخربة وفى شقوق الصخور وفى كل غاب الشوك وفى كل المراعى ( أى تغطى الجيوش كل بقاع يهوذا ) إش 7 : 18 ، 19 .
هذا ويصور الرب الخراب الذى يحققه أشور بموسى مستأجرة تحلق شعر الرأس وشعر الرجلين واللحية ( إش 7 : 20 ) . وكأن العدو يمد يده كما بموسى ليمسح كل ما لدى الملك وأهل بيته والعظماء ( الرأس ) وما لدى عامة الشعب ( الرجلين ) وأيضا الكهنة ( اللحية ) . هكذا يتحول أشور إلى موسى مخرب ومحطم ! حلق اللحية كان علامة المذلة إذ كان الأسرى يلتزمون بذلك لا إراديا .
مرة أخرى يعطى صورة لخراب يهوذا التى اشتهرت بتربية الأغنام ، فكان كل إنسان يملك الكثير من الرؤوس ، لكن بعد الخراب يصير للمقتدر عجلة بقر وشاتين ( إش 7 : 21 ) ، وتتحول الكروم الجيدة إلى أرض للشوك والحسك ( إش 7 : 23 ) ، إذ لا توجد أيد عاملة بسبب الحرب ...
+ + +
إشعياء – الإصحاح الثامن
مهير شـــــلال حاش بــــز
فى الإصحاح السابق تحدث الله مع آحاز الملك خلال إشعياء النبى الذى أعلن عن تدخل الله لإنقاذ أورشليم من آرام وإسرائيل ، وقد انجب النبى إبنه الأول شآرياشوب [ = البقية سترجع ] ليؤكد أن المسبيين من يهوذا يرجعون سريعا . الآن يتحدث الله مع الشعب فى ذات الأمر وتحت نفس الظروف ، وينجب النبى الإبن الثانى المدعو مهير شلال حاش بز ( = اسرع إلى السلب ، بادر إلى النهب ] ليؤكد أن اشور قادم سريعا ليسلب آرام وينهب إسرائيل منقذا أورشليم ، وفى نفس الوقت ينذر شعب يهوذا لإتكاله على أشور لا على الرب .
( 1 ) غلبة أشور على آرام وإسرائيل :
بأمر الهي أخذ إشعياء النبى لوحا كبيرا كتب عليه بحروف واضحة " مهير شلال حاش بز " وتعنى " أسرع إلى السلب ، بادر إلى النهب " . وضع إشعياء النبى اللوح فى مكان ظاهر فى الهيكل لكى يقرأه الكل ، وقد شهد كاهنان عليه هما : أوريا وزكريا ، أوريا كان رئيس كهنة فى أيام آحاز ومشيره الروحى والمشترك معه فى العبادة الوثنية . فقد أقام مذبحا على شبه الآراميين رآه حزقيا فى دمشق ، ليقدم الملك عليه ذبائح ( 2 مل 16 : 10 – 16 ) .
وقع الكاهنان على اللوح كشاهدين أن ما كتبه كان قبل حدوث الأمر .
يعلن إشعياء النبى أنه عندما يبلغ ابنه مهير شلال حاش بز حوالى سنة واحدة من عمره تتحقق النبوة ضد آرام وإسرائيل ، إذ يقول : " قبل أن يعرف الصبى أن يدعو يا أبى ويا أمى تحمل ثروة دمشق وغنيمة السامرة قدام ملك أشور " إش 8 : 4 . وقد تم ذلك بواسطة تغلث فلاسر ملك أشور ( 2 مل 15 : 29 ؛ 16 : 9 ؛ 1 أى 5 : 26 ) .
( 2 ) إنذار بنى يهـــــوذا :
إن كان الله يدافع عن خلاص أورشليم ، لكنه لا يدافع عن خطاياهم ولا يتستر عليها بل يطلب التوبة عنها والرجوع إليه .
يقول :
" لأن هذا الشعب رذل مياة شيلوه الجارية بسكوت وسر برصين وابن رمليا " إش 8 : 6
ماذا يعنى رذل الشعب مياة هذا النهر ؟ هذا يشير إلى استخفافهم بما وهبهم الله " مملكة يهوذا " متطلعين إلى ما هو لدى الغير " الأذرع البشرية " . لقد فقدوا إيمانهم بالله واهب النصرة وخشوا رصين وإبن رمليا الغريبين والمقاومين ليهوذا ملتجئين إلى من ينقذهم منهما .
هم رفضوا مجرى الماء الهادىء الذى يشير إلى الروح القدس طالبين المياة الغامرة القوية ، لذلك يؤدبهم الرب بأن :
" يصعد عليهم مياة النهر القوية والكثيرة ، ملك أشور وكل مجده " إش 8 : 7 .
لقد أنقذ تغلث فلاسر الأشورى يهوذا ، لكن سنحاريب الأشورى هجم بقوة على يهوذا وبلغ إلى العنق وحاصر الرأس أورشليم ، وكادت أن تسقط لولا تدخل الله : " يفيض ويعبر يبلغ العنق ويكون بسط جناحيه ( فرعى نهر الفرات ) ملء عرض بلادك يا عمانوئيل " إش 8 : 8 .
هكذا يسمح الله بالتأديب فتحل التجارب كالسيل الجارف لكى تبلغ إلى أعناقنا ، لكنه يحفظ الرأس ( إيماننا بالسيد المسيح رأسنا ) فوق سيول التجارب حتى لا يفنى إيماننا فنهلك ( لو 22 : 32 ) ، لأننا أرض عمانوئيل ، ملك الرب ، مهما حاول العدو أن يبسط جناحيه فى داخلنا .
( 3 ) بلاد عمانوئيل :
بينما يتحدث النبى عن الأمور الجارية فى عهده إذا بالرب يرفع أنظاره وأنظار المؤمنين نحو عمل المسيح الخلاصى. الله فى حبه يترفق بشعب يهوذا فيخلصهم من تحالف آرام وإسرائيل ضدهم ، وفى نفس الوقت إذ يخطىء الشعب بإلتجائه إلى أشور يصير أشور نفسه مقاوما لهم . هذا ما سمح به الله ، لكنه لم يسمح بإبادة يهوذا تماما ، لأن منه يخرج السيد المسيح ، الأسد الخارج من سبط يهوذا . يسمح بالغزو الأشورى يفيض حتى عنق يهوذا لكنه لا يصيب الرأس . إذ يتجسد كلمة الله من سبط يهوذا – من القديسة مريم – ويحل بيننا عمانوئيل الذى يقيم من قلوبنا أرضا أو مملكة له .. هذا ما دفع النبى إلى الإنتقال المفاجىء من مشكلة يهوذا فى عصر النبى أو بعده بقليل إلى الحديث عن القوى المتحالفة ضد عمانوئيل ، قائلا :
" هيجوا أيها الشعوب وانكسروا واصنعوا يا جميع أقاصى الأرض ، احتزموا وانكسروا . تشاوروا مشورة فتبطل .تكلموا كلمة فلا تقوم لأن الله معنا "إش 8 : 9 ، 10 .
لم يقف الأمر عند أشور الذى انهار حيث مات 185000 رجلا منهم فى المعركة وإنما يعلن النبى عن سقوط كل قوى العالم المقاومة للحق : أشور يليها بابل ثم فارس ومادى والدولة الرومانية ( إش 54 : 17 ، مى 4 : 13 ) .
وبالأكثر قصد قوات الظلمة الروحية المقاومة لمملكة المسيح . يعلن النبى أن هياج الأعداء وتحالفهم ومشوراتهم الشريرة ضد الكنيسة ، موجهة ضد عمانوئيل الحال فى وسطها ، لهذا تنهار قوات الظلمة وتتمتع الكنيسة الحقيقية بالغلبة .
هذا الصوت النبوى يصرخ ضد كل مقاومى المسيح ، معلنا ما قاله الرب نفسه لشاول :
" لماذا تضطهدنى ؟! .. صعب عليك أن ترفس مناخس " أع 9 : 4 ، 5 .
ليفعل العدو كل ما فى وسعه مقاوما المؤمنين ، فإنه إنما يحطم نفسه .
( 4 ) تشكيك وتعثر فى عمانوئيل :
يبدو أن البعض لم يصدق كلمات النبى وحسبوا ذلك فتنة سياسية أو خيانة وطنية ومقاومة للملك والسلطات .. كى لا يلجأ يهوذا إلى أشور فيهلك على أيدى الآراميين وإسرائيل . لقد أمسك الرب كما بيد إشعياء ليشدده ( إش 8 : 11 ) . يرى البعض أن إشعياء نفسه – كإنسان – مال أحيانا إلى رأى الملك ومشيريه والشعب ، لكن الله مصر أن يوضح له الطريق وإن كان مخالفا لرأى الجماعة ، لذا يقول : " لا تخافوا خوفه ولا ترهبوا ، قدسوا رب الجنود فهو خوفكم وهو رهبتكم " إش 8 : 12 ، 13 .
كل نفس أمينة فى خدمة الرب تقاوم ، لكن الرب نفسه يسندها لا لكى تعمل فحسب وإنما لكى تسند الآخرين وتشجعهم على العمل بروح الله القدوس ، متطلعين لا إلى المقاومة بل إلى مساندة رب الجنود لهم . ما أروع كلمات الرب تلك ..
ليس إشعياء وحده يقاوم ولا أيضا الأمناء من المؤمنين ، إنما يصير " عمانوئيل " نفسه مقاوما وحجر صدمة لكثيرين :
" ويكون مقدسا وحجر صدمة وصخرة عثرة لبتى إسرائيل وفخا وشركا لسكان أورشليم ، فيعثر بها كثيرون فينكسرون ويعلقون فيلقطون " إش 8 : 14 ، 15 .
إنه " مقدس " أو " حجرمقدس " بالنسبة للمؤمنين الذين يلجأون إليه ويتمسكون به لحمايتهم وخلاصهم ، هو " حجر الأساس " و " حجر الزاوية " يربط المؤمنين من اليهود مع المؤمنين من الأمم كحائطين يلتقيان معا فيه . وفى نفس الوقت هو حجر عثرة وصدمة لغير المؤمنين .
( 5 ) البقية المقدسة لله :
ما حدث مع السيد المسيح – أن رفضه أهل بيته من اليهود ولكن قبلته قلة مثل التلاميذ والرسل والمريمات وبيت لعازر – تم مع إشعياء بصورة باهتة بكونه رمزا للمسيح ، إذ صار له هو أيضا تلاميذ أمناء .
" صر الشهادة اختم الشريعة بتلاميذى " إش 8 : 16 . قبلت القلة المقدسة كلمات إشعياء النبى بكونها نبوات صادقة وكلمة إلهية ، حاسبين كلماته إعلانا عن فكر الله وإرادته المقدسة . هؤلاء دعاهم النبى تلاميذه وأيضا " الأولاد الذين أعطانيهم الرب " إش 8 : 18 .
هؤلاء يلزمهم أن يختموا أو يصروا على ما سمعوه ، لأن هذه النبوات يجب أن تبقى محفوظة حتى أزمنة العهد الجديد ، حيث تعلن للأطفال البسطاء ( مت 11 : 25 ) . ختمها أيضا يعنى الإلتزام بعدم الإضافة إليها أو الحذف منها .
ما ذكره إشعياء يبدو فى عصره أنه أمر مستحيل يجب مقاومته لهذا كان يلزمه هو وتلاميذه أن يتسلحوا بالصبر للرب ( إش 8 : 17 ) . عاشوا فى جو مقبض : الرب ساتر وجهه عن شعبه ( إش 8 : 17 ) . الأمر الذى أحزن قلب إشعياء وتلاميذه ؛ وفى نفس الوقت يتطلع إليهم الشعب كغرباء عنهم وشواذ مملوئين حماقة . فبقوله : " هأنذا والأولاد الذين أعطانيهم الرب آيات وعجائب فى إسرائيل من عند رب الجنود " إش 8 : 18 . يعنى أن إشعياء وتلاميذه أشبه بآيات وعجائب بالنسبة للشعب ، إذ يختلفون عن الكل فى إيمانهم وسلوكهم وأفكارهم نحو الرب .
( 6 ) الإلتجاء إلى العرافين :
شعر الشعب كأن الله قد حجب وجهه عنهم لهذا بدأوا يطالبون المسئولين – ربما من بينهم بعض تلاميذ إشعياء – أن يلجأوا إلى أصحاب التوابع والعرافين لطلب المشورة والتعرف على الأمور المستقبلة . يدعوهم النبى " المشقشقين والهامسين " إش 8 : 19 . لأنهم يتكلمون بصوت خافت كما من عالم آخر ليتقنوا تمثيل دورهم .
ماذا يعنى الإلتجاء إلى العرافة ؟ فقدان الإنسان كل ملجأ أو عون له ، ذلك كما حدث مع شاول الملك . شعر أنه فى عزلة عن الله ، وعن أنبيائه ، حتى الشعب تراجع عنه فلجأ إلى الموتى يسألهم خلال صاحبة العرافة .
فى اختصار سقط بنو يهوذا فى خطيتين خطيرتين هما : الإلتجاء إلى التحالف البشرى عوض الإتكال على الله ، والرجوع إلى العرافة والموتى عوض التمتع بكلمة الله الحية الواهبة استنارة وقوة .
هذه الصورة المؤلمة تعلن عن حقيقة هامة :
الحاجـة إلى مخلص الهي !
+ + +
إشعياء - الإصحاح التاسع
المــــولود العجيــب
إذ يشتد الظلام ينبلج الفجر لتشرق الشمس على الجالسين فى الظلمة ، هكذا ختم الإصحاح السابق بصورة قاتمة عن الشعب الذى صار فى ضيق شديد وظلمة ، لذا جاء هذا الإصحاح يحدثنا عن مجىء المسيا " شمس البر " الذى يبدد الظلمة ، والذى يمد يده بالحب منتظرا رجوع الكل إليه .
( 1 ) نور أشرق فى الظلمة :
جاء ختام الإصحاح السابق قاتما للغاية ، لهذا بدأ هذا الإصحاح بكلمة " ولكن " ... فإن الله لا يترك شعبه هكذا ، لكنه يريد أن يشرق عليهم بنوره .
" ولكن لا يكون ظلام للتى عليها ضيق كما أهان الزمان الأول أرض زبولون وأرض نفتالى يكرم الأخير طريق البحر عبر الأردن جليل الأمم . الشعب السالك فى الظلمة أبصر نورا عظيما . الجالسون فى أرض ظلال الموت أشرق عليهم نور " إش 9 : 1 ، 2 .
وقد تمت هذه النبوة بظهور السيد المسيح وكرازته فى جليل الأمم . يقول الإنجيلى : " لكى يتم ما قيل بإشعياء النبى القائل : أرض زبولون وأرض نفتاليم طريق البحر عبر الأردن جليل الأمم ؛ الشعب الجالس فى ظلمة أبصر نورا " مت 4: 14 – 16 .
اتسمت هذه المنطقةبالضعة ، فيقول نثنائيل : " أمن الناصرة يمكن أن يكون شىء صالح ؟! " يو 1 : 46 . لعل هذا يرجع إلى أن هذه البقعة . ( جليل الأمم ) تقع على حدود الأمم ، فكانت معرضة للغزوات ، وبسبب اختلاطها بالأمم الوثنية المجاورة أخذت الكثير عن العادات الوثنية وظلت فترات طويلة فى انحلال روحى ، لذلك وصفها النبى : " الشعب الجالس فى الظلمة " .
+ سكن فى الجليل حتى يرى الجالسون فى الظلمة نورا عظيما
+ فلير الجالسون فى ظلمة الجهل نور كمال المعرفة العظيم ،
الأمور القديمة عبرت ، هوذا الكل قد صار جديدا ( 1 كو 5 : 17 ) ،
الحرف انتهى وتقدم الروح ، الظلال هربت وجاء إليهم الحق .
القديس غريغوريوس النزينزى
+ بالإيمان يخرجون من الظلمة وموت الخطية إلى النور والحياة .
القديس أغسطينوس
+ يشرق نور اللوغوس الذى هو الحياة فى ظلام نفوسنا ،
يأتى إلى حيث يوجد رؤساء هذه الظلمة المقاومين لجنس البشر
لإخضاعهم للظلمة ، هؤلاء الرؤساء لا يثبتون فى
قوتهم إذ يشرق عليهم النور الذى جاء ليجعل من البشر أبناء للنور .
العلامة أوريجانوس
الله لا يسمح للظلمة أن تدوم إنمايشرق بنوره .. فماذا يحدث ؟
أ – " أكثرت الأمة " إش 9 : 3 ، بالرغم من سقوطها تحت التأديب بضربات قاسية لكنها تنمو وتكثر برحمة الله ونعمته .
ب – " عظمت الفرح " إش 9 : 3 تفرح الأمة كما فى يوم الحصاد أو يوم التمتع بغنيمة ، وكأن سر فرحها هو الحصاد الكثير والغلبة أو النصرة على العدو . .. عدو الخير .
الفرح هوسمة كنيسةالعهد الجديد المتهللة بالحياة الإنجيلية وسط الآلام ، تفرح من أجل حصادها المستمر لنفوس كثيرة لحساب ملكوت الله ، وتتمتع بغنيمة النصرة على عدو الخير .حياتها تهليل مستمر من أجل النفوس التائبة والمتمتعة بالخلاص ومن أجل نصراتها غير المنقطعة .
جـ - التمتع بحرية مجيدة :
" لأن نير ثقله وعصا كتفه وقضيب مسخره كسرتهن كما فى يوم مديان " إش 9 : 4 .
تتحرر من النير الثقيل والعصا وقضيب السخرة ، كرمز للحرية والخلاص من عبودية إبليس خلال الصليب ، فلم يعد لإبليس أو قواته سلطان على المؤمن المتمتع بحرية مجد أولاد الله .
( 2 ) المولود العجيب :
سر تمتع الأمة بالنمو المستمر والفرح الدائم مع الحرية المجيدة هو مجىء المسيا كمخلص وغال ومنتصر باسم البشرية ضد الأعداء . جاء إبن الله متأنسا ليحمل نير الصليب بإسمنا فيهبنا كل امكانيات الخلاص . إذ يقول النبى : " لأنه يولد لنا ولد ونعطى إبنا ، وتكون الرئاسة على كتفه ويدعى إسمه عجيبا مشيرا إلها قديرا أبا أبديا لنمو رياسته وللسلام لا نهاية على كرسى داود وعلى مملكته ليثبتها ويعضدها بالحق والبر من الآن وإلى الأبد ، غيرة رب الجنود تصنع هذا " إش 9 : 6 ، 7 .
كانت البشرية المؤمنة تترقب التجسد الإلهى حيث يأتى إبن الله الذى هو الخالق واهب الحياة ومجدها ليقيم طبيعتنا الميتة الفاسدة إلى صلاحها الذى خلقت عليه ، بإعادة خلقتها وتجديدها المستمر فيهبها استمرارية الحياة مع الفرح والحرية .
أ – " لأنه يولد ولد ونعطى ابنا " ، أى يتأنس فيصير ابن الله إبن الإنسان ، ويحسب ولدا ، يحمل طبيعتنا الناسوتية حقيقة فى كمال صورتها بغير انفصال عن لاهوته ودون امتزاج أو خلط أو تغيير . يشاركنا حياتنا البشرية ما عدا الخطية ويبقى كما هو " إبن الله " ... يقول الرسول : " فإذ قد تشارك الأولاد فى اللحم والدم اشترك هو أيضا كذلك فيهما لكى يبيد بالموت ذاك الذى له سلطان الموت أى إبليس " عب 3 : 14 .
ب – " وتكون الرئاسة على كتفه " ، فقد ملك على خشبة كقول المرتل ، خشبة الصليب التى حملها على كتفه بكونها عرش حبه الإلهى .
ج – " يدعى اسمه عجيبا " ، لأنه فائق الإدراك ، أعطى اسما فوق كل اسم لكى تجثو باسمه كل ركبة ممن فى السماء وممن على الأرض ومن تحت الأرض ( فى 2 : 9 – 11 )
د – " مشيرا " ، بكونه " حكمة الله " 1 كو 1 : 24 ، المذخر فيه جميع كنوز الحكمة والعلم ( 1 كو 2 : 3 ) . جاءت الترجمة السبعينية " رسول المشورة العظيمة " ... ما هى هذه المشورة العظيمة التى أرسله الآب من أجلها ؟ اعلان السر الإلهى للبشر ، والكشف عن الآب الذى لا يعرفه إلا الإبن ومن أراد الإبن أن يعلن له .
هـ - " إلها قديرا " : إله حق من إله حق ، واحد مع الآب فى الجوهر ، القادر وحده أن يجدد طبيعتنا بكونه الخالق ، والشفيع الذى يقدر وحده أن يكفر عن خطايا العالم كله .
و- " أبا أبديا " يلحق اللقب " إله قدير " بـ " أب أبدى " ، ليعلن أن قدرة السيد المسيح ، الإله الحق ليست فى إبراز جبروت وعظمة إنما بالحرى فى تقديم أبوة حب فريدة نحو البشرية ، خلالها ننعم بقدرة المسيح فينا .
ز- " رئيس السلام " ، هو ملك السلام ( 1 تس 5 : 33 ) ، الذى يقدم لنا دمه من أجل مصالحتنا مع الآب ، فنحمل سلاما داخليا معه ( رو 5 : 1 ) ، سلاما مع الله ومع أنفسنا ومع إخوتنا ، محطمين سياج العداوة الداخلية والخارجية .
فى اختصار يعلن إشعياء النبى عن هذا المولود العجيب القدير ، الذى لا يخلص آحاز من مقاومة أعدائه إنما يقيم مملكة جديدة أساسها كرسى داود .
( 3 ) اليــد الممدودة :
كلمة الله فى محبته غير المحدودة يتنازل ليصير إنسانا لكى يضىء للجالسين فى الظلمة ، يشرق عليهم بنوره الإلهى واهبا إياهم نور المعرفة ،مقدما لهم حياته سر فرح وتهليل ونصرة مستمرة ،أما الإنسان –فعلى العكس – يتشامخ بالكبرياء ، حاسبا فى نفسه أنه قادر بذراعه البشرى على تحقيق الخلاص .
فى هذا الفصل ثلاثة أبيات شعرية فى العبرية تنتهى بالعبارة : " مع كل هذا لم يرتد غضبه بل يده ممدودة بعد " إش 9 : 12 ، 17 ، 20 ( أيضا إش 10 : 4 ) .
يرى البعض أن هذه اليد الإلهية الممدودة علامة على دعوة الله للإنسان كى يقترب إليه ويلتقى معه ويتحد به . وأيضا علامة حماية الله له ، وكأنه يؤكد له أنه مهما بلغت العقبات فيد القدير ممدودة لتخلصه من كل شر وتنقذه من المرارة والضيق ، كما هى علامة على التأديب الإلهى النابع عن الحب ، يمد يده ليضغط على الإنسان فيرجع إلى نفسه ويطلب الله معينه .
الله – فى محبته – سمح بالضيق لمملكة إسرائيل ( افرايم ) لكن عوض التوبة تشامخوا بالأكثر . هذا ما كشفه النبى بقولـه : " القائلون بكبرياء وبعظمة قلب ، قد هبط اللبن فنبنى بحجارة منحوتة ؛ قطع الجميز فنستخلفه بأرز " إش 9 : 10
يرى البعض أن النبى يتحدث هنا عن الزلزلة التى حدثت فى أيام عزيا ، والتى يبدو أنها كانت عامة ( عا 1 : 1 ؛ زك 14 : 5 ) ، بسببها سقطت معظم بيوت السامرة وافرايم وكثرت الضحايا ، فصاروا يتهكمون على قضاء الله معلنين أنه وإن كان قد سمح بهدم بيوتهم المصنوعة من اللبن وسقوط أشجار الجميز ، فإنهم يقيمون قصورا مصنوعة من الحجارة المنحوتة ويغرسون أشجار أرز لا يقدر الزلزال أن يهدمها أو يزيلها . وكأنهم بهذا يكررون ما فعله الإنسان عندما شرع فى بناء برج بابل ليكون رأسه فىالسماء ( تك 11 : 3 ، 4 ) .
يرد إشعياء النبى على ذلك بإعلان تأديب الله الأكثر شدة ، فإنهم ماداموا لم يرتعدوا بالزلزلة فسيسمح بهياج العدو " رصين " ملك آرام ، ويهيج أيضا أعداءه ( ربما قصد أشور الذى هاجم إسرائيل وفيما بعد انقلب على يهوذا ) .
" فيأكلون إسرائيل بكل الفم " إش 9 : 12 . لكن تبقى مراحم الله تنتظر رجوعهم ، إذ يكمل حديثه : " مع كل هذا لم يرتد غضبه بل يده ممدودة بعد " إش 9 : 12 .
( 4 ) تأديبات الرب لهم :
يبقى الشعب متحجر القلب لهذا :
" يقطع الرب من إسرائيل الرأس والذنب ، النخل والأسل ( الحلفاء أو القش ) فى يوم واحد " إش 9 : 14 .
أ – ينتزع رؤساء الشعب مهما كانت منزلتهم ( الرأس ، النخل ) .
ب – ينتزع الأنبياء الكذبة ( الذنب ، الأسل ) .
جـ - إبادة المرشدين لأنهم مضلون ( إش 9 : 16 ) .
د – لا يرق للفتيان بسبب صغر سنهم ، ولا للأيتام أو الأرامل مع أنه " أبو اليتامى وقاضى الأرامل " مز 68 : 5 ... فقد اشترك الكل معا فى الشر مع عناد وعجرفة وحماقة ( إش 9 : 17 ) . كان الملوك الأشوريون فى غاية القسوة : تغلث فلاسر لم يترفق بالصغار ولا بالأرامل أو الأيتام فى افرايم .
هـ - يتحول الشعب كله إلى أشبه بغابة تحترق بنار الغضب الألهى ( إش 9 : 19 ) ، ليس لأن الله ينتقم لنفسه وإنما لأن فجورهم نار مدمرة ( إش 9 : 18 ) .
ز – تتحول الأمة إلى حالة من الفوضى قانونها العنف والظلم وعدم التشبع ، تسودها حروب أهلية دموية مدمرة : " لا يشفق الإنسان على أخيه ، يلتهم على اليمين فيجوع ، ويأكل على الشمال فلا يشبع ، يأكلون كل واحد لحم ذراعه ( أى جاره أو قريبه ) " إش 9 : 19 ، 20 .. هذه صورة بشعة لمجتمع شريعته الحرب والعنف والأنانية مع الجشع .
ح – لا يقف التطاحن على الأفراد وإنما يتسلل إلى الأسباط نفسها فيتحالف سبط مع آخر ضد ثالث وهكذا :" منسى أفرايم وأفرايم منسى ، وهما معا على يهوذا " إش 9 : 21 .
" مع كل هذا لم يرتد غضبه بل يده ممدودة بعد " إش 9 : 21 .
+ + +
إشعياء – الإصحاح العاشر
هجوم آشور على يهوذا ومعاقبة آشور
يحوى هذا الإصحاح ويلين ، الويل الأول ضد رؤساء الشعب بسبب شرهم ، والثانى ضد أشور لأن الله سمح له بغزو يهوذا للتأديب فإذا به ينتفخ على الله ويجدف عليه ، حاسبا أن آلهته غلبت إله إسرائيل .
يرى البعض أن هذا الإصحاح كتب فى السنوات الأولى من حكم حزقيا ملك يهوذا ، بعد سقوط السامرة فى يد سرجون ملك آشور ( إش 10 : 11 ) .
( 1 ) الويل الأول ضد القيادات 1 – 4
يرى البعض أن الويل الموجه ضد القيادات هنا هو تكملة لما ورد فى الإصحاح السابق عن كبرياء إسرائيل ، ويدللون على ذلك أنه انتهى أيضا بالعبارة التى تكررت قبلا : " مع كل هذا لم يرتد غضبه بل يده ممدودة بعد " ( إش 9 : 12 ، 17 ، 21 ؛ 10 : 4 ) ، بهذا يكون الحديث موجها ضد قيادات الأسباط العشرة ( إسرائيل ) . غير أن تكملة الحديث موجه إلى أورشليم عاصمة يهوذا لهذا يرى بعض الدارسين أن ما ورد هنا ينطبق على قيادات المملكتين لأنهما تشابهتا فى الشر .
يكشف الله تصرفات القادة الجائرة ، التى تتركز فى القضاء بالباطل والحكم بالظلم ( إش 10 : 1 ) ، يدون الضعفاء عن التمتع بحقوقهم المسلوبة ، ويسلبون حق البائسين خاصة الأيتام والأرامل ( إش 10 : 2 ) : وكما يقول الحكيم : " ثم رجعت ورأيت كل المظالم التى تجرى تحت الشمس فهوذا دموع المظلومين ولا معز لهم ومن يد ظالميهم قهر " جا 4 : 1 .
الآن إذ يدرك إشعياء عدل الله خاصة فى دفاعه عن الضعفاء يسأل هؤلاء القادة : " وماذا تفعلون فى يوم العقاب حين تأتى التهلكة من بعيد ؟ إلى من تهربون للمعونة ؟ وأين تتركون مجدكم ؟ إما يجثون بين الأسرى وإما يسقطون تحت القتلى " إش 10 : 3 ، 4 . العقاب قادم لا محالة خاصة تجاه القيادات الدينية والمدنية .
ومع هذا كله لا زال الله يمد يد محبته ليخلصهم من شرهم : " مع كل هذا لم يرتد غضبه بل يده ممدودة بعد " إش 10 : 4 .
( 2 ) الويل الثانى ضد أشور : 5 – 19
سبق أن تحدث النبى عن قوة أشور العسكرية وجبروته ونصرته حتى على شعب الله ، كما أكد أن ما حل بالشعب هو بسماح الهي للتأديب ، لكن أشور تعظم على الله وحسب بغلبته هذه أنه غلب إله هذا الشعب وأذله ... لهذا يعود الله فيؤدب أشور نفسه المتعالى والمتعجرف .
اعتاد إشعياء النبى أن يتحدث بجرأة وصراحة فبينما يدعو أشور قضيب غضب الله وعصاهم هى سخط الرب ( إش 10 : 5 ) ، لكون أشور أداة لتحقيق تأديبات الرب ، نجده يدعو شعب الله " أمة منافقة " و " شعب سخط الله " إش 10 : 6 ، لأن هذا الشعب قد حمل صورة العبادة من الخارج بينما دب الفساد فى حياتهم الداخلية .
لم يدرك أشور هذه الحقيقة أنه مجرد أداة للتأديب ( إش 10 : 7 ) إنما فى كبرياء قال :
" أليست رؤسائى جميعا ملوكا ؟! " ( إش 10 : 8 . بمعنى أن الولاة الذين يقيمهم ملك أشور تحت قيادته هم جميعا ملوك ، فماذا يكون مركزه هو ؟! إنه ملك الملوك !!
قال أيضا : " أليست كلنو مثل كرمشيش ؟! أليست حماة مثل أرفاد ؟! أليست السامرة مثل دمشق ؟! " إش 10 : 9 .
هكذا لم تقف أمام أشور أعظم مدن الحثيين أو الأراميين ، فهل تقف أمامه مدن يهوذا وإسرائيل ؟! لقد حسب أشور نفسه أنه غلب آلهة الأمم وأوثانها التى تحميها فلن يقف إله إسرائيل أو يهوذا قدامه ( إش 10 : 10 ، 11 ) ، ظانا أنه على ذات مستوى هذه الأصنام .
لقد سمح الله له بذلك ، لكنه يعود فيؤدب أشور على سخريته به : " فيكون متى أكمل السيد كل عمله بجبل صهيون وبأورشليم إنى أعاقب ثمر عظمة قلب ملك أشور وفخر رفعة عينيه ، لأنه قال : بقدرة يدى صنعت وبحكمتى ، لأنى فهيم ، ونقلت تخوم شعوب ونهبت ذخائرهم وحططت الملوك كبطل ، فأصابت يدى ثروة الشعوب كعش وكما يجمع بيض مهجور أنا كل الأرض ولم يكن مرفرف جناح ولا فاتح فم ولا مصفصف " إش 10 : 13 ، 14 .
هكذا ظن أشور أنه بقدرته وحكمته صنع أعمالا خارقة ...
لم يدرك أشور أنه كان فأسا أو منشارا يستخدمه الله للتأديب ، فتشامخت الأداة على من يستعملها . لذلك يقوم الله بتأديبه هكذا :
أ – يرسل على " سمانه " ، أى أبطال جيشه الجبابرة ، هزالا ( إش 10 : 16 ) .
ب – يوقد تحت " مجده " ، أى جيشه ، وقيدا كوقيد النار ( إش 10 : 16 ) ، فتلتهمه ليصير رمادا . يصير الله " نور إسرائيل " نارا آكلة لأشور ، والقدوس لهيبا يحطم العدو ( إش 10 : 17 ) . بمعنى آخر الله الذى هو نور للمؤمنين وسر تقديس لحياتهم يكون نارا آكلة ولهيبا للأشرار المقاومين .
ج ـ يفنى جيشه فيبقى عدد قليل ( أشجار وعرة ) يستطيع صبى أن يكتب اسماءهم ( إش 10 : 19 ) ، هذا من جهة العدد أما من جهة القوة فيفقدون طاقتهم النفسية والجسدية ويكونون كمسلول يذوب ( إش 10 : 18 ) .
( 3 ) الناجون من إسرائيل 20 – 23
كثيرا ما تحدث الأنبياء عن " البقية " التى تخلص ، قصدوا بها القلة القليلة التى تبقى أمينة للرب وسط انهيار القيادات الدينية وفساد القضاة والرؤساء والشعب أيضا . هذه البقية التى تنجو من ظلم أشور لا تفرح بعودتها إلى أورشليم إنما هو أعظم ، تفرح بلقائها مع الله القدير نفسه ( إش 10 : 21 ) .
اقتبس الرسول بولس قول إشعياء النبى ( 10 : 22 ، 23 ) قائلا : " وإشعياء يصرخ من جهة إسرائيل وإن كان عدد بنى إسرائيل كرمل البحر فالبقية ستخلص ، لأنه متمم أمر وقاض بالبر ، لأن الرب يصنع أمرا مقضيا به على الأرض " رو 9 : 27 ، 28 .
كان هذا القول يحمل نبوة عن المسبيين إذ كانوا كثيرين جدا بالنسبة للقلة القليلة التى تنجو من الأسر ... وأن الله سمح بذلك ، طبق الرسول هذه النبوة بصورة أشمل على العصر المسيانى حيث يؤسر عدد كبير جدا من اليهود تحت الجحود رافضين الإيمان بالمسيا ، وقليلون هم الذين يخلصون بقبولهم المسيا المخلص ، وقد سمح الله بذلك لأجل البر ، ليفتح الباب للأمم .
( 4 ) لا تخف يا شعبى : 24 – 27
يرى بعض الدارسين أن النبوة هنا تشير إلى الحدث التالى : عندما رفض حزقيا بن آحاز وخليفته دفع الجزية هاجم سنحاريب الأشورى يهوذا بجيش قوى وحاصر أورشليم وكان على وشك استلام المدينة ، لكن الله أمر بخلاصها . قتل الجيش وهرب سنحاريب حيث قتله أبناؤه .
يطالب الله شعبه ألا يخاف من أشور فإنه سيباد ، إذ يقيم الله عليه سوطا ( إش 10 : 26 ) ، يضربه بملاكه ضربة قاتلة ( 2 أى 32 : 21 ) ، كما سبق فضرب غراب أمير مديان ( قض 7 : 25 ، مز 83 : 11 ) ، وكما ضرب فرعون وجنوده فى بحر سوف خلال عصا موسى ( إش 10 : 26 ) ، هكذا يبيد الله أشور لينزع هذا النير عن كتف شعبه ( إش 10 : 27 ) وعن عنقه بسبب السمانة ( الدهن ) ، لأجل المسحة المقدسة التى نالها داود الملك وبنوه من بعده .
( 5 ) الغزو الأشورى ليهوذا : 28 – 32
قبل الحديث عن سقوط أشور تحدث النبى عن الغزو الأشورى ليهوذا ليوضح قدراته الحربية الجبارة وسرعة تقدمه نحو أورشليم العاصمة مع ضعف مقاومة يهوذا بل وانعدامها ، وكيف ارتعب يهوذا وارتعد ( إش 10 : 28 – 32 ) . قدم النبى وصفا شاعريا يكشف عن مرارة مدن يهوذا ، لكن أشور يتوقف عند نوب ( مدينة للكهنة تقع فى شمال أورشليم ) ، ربما ليستريح الجيش ويستعد لمواجهة أورشليم . لقد وقف سنحاريب هناك ليرفع يده ويمدها مهددا أورشليم ( إش 10 : 32 ) فظهر كشجرة شامخة منعجرفة . هدد بسحق أورشليم ولم يدرك أن الله قد سمح بسحقه هو ولينزع عنه أغصانه التى يتشامخ بها .
( 6 ) سقوط أشور 33 – 34
يعلن الله تحطيم أشور تماما ، فإنه يقضب أغصانه بل وينتزع أصوله لينهار تشامخه وينتزع أصوله لينهار تشامخه وينزل مجده إلى التراب ( إش 10 : 33 ، 34 ) ، هذه هى ثمرة الكبرياء !
إشعياء – الإصحاح الحادى عشر
المسيا والعصر المسيانى
لم يكن ممكنا لإشعياء النبى أن ينحصر فى الأحداث المعاصرة له ولا الخاصة بالمستقبل القريب بالنسبة له وإنما اتجه نحو الخلاص الأبدى ، ليرى عمل الله العجيب لا بسقوط أشور ولا بعودة القلة الأمينة إلى يهوذا ، وإنما بسقوط عدو الخير إبليس واجتماع المؤمنين من اليهود والأمم كأعضاء فى جسد واحد يتمتعون بالملكوت المسيانى العجيب .
( 1 ) ظهور ابن يسى :
فى الإصحاح التاسع تحدث عن المخلص بكونه المولود العجيب : " لأنه يولد لنا ولد .. ويدعى اسمه عجيبا مشيرا إلها قديرا أبا أبديا " إش 9 : 6 ،
أما هنا فيؤكد ناسوته بكونه الملك ابن يسى : " ويخرج قضيب من جذع يسى وينبت غصن من أصوله " إش 11 : 1 .
لم يقل ابن داود مع أنه شرعا هو أبن داود ، لكنه أراد تقديمه بصورة متواضعة جدا ، كقضيب وغصن من يسى الذى عاش ومات قليل الشأن . والعجيب أن نسل داود الملك ضعف جدا حتى جاء يوسف والقديسة مريم فقراء للغاية .
بينما يتحدث الوحى فى الإصحاح السابق عن أشور – يمثل عدو الكنيسة – كأغصان مرتفعة وقوية ( إش 10 : 33 ) يظهر المسيا كقضيب أو غصن متواضع . أراد أن يسحق الكبرياء محطم البشرية بإتضاعه . وكما تقول عنه الكنيسة فى جمعة الصلبوت : " أظهر بالضعف ( الصليب ) ما هو أعظم من القوة "
+ هذا هو المسيح ، فقد حبل به بقوة الله بواسطة عذراء من نسل يعقوب ، أب يهوذا ، وأب اليهود ، من نسل يسى ..
( 2 ) المخلص وروح الرب :
" ويحل عليه روح الرب ، روح الحكمة والفهم ، روح المشورة والقوة ، روح المعرفة ومخافة الرب " إش 11 : 2
إذ جاء السيد المسيح ممثلا للبشرية حل عليه الروح القدس الذى ليس بغريب عنه ، لأنه روحه . حلول الروح القدس على المسيح يختلف عن حلوله علينا ؛ بالنسبة له حلول أقنومى ، واحد معه فى ذات الجوهر مع الآب ، حلول بلا حدود .
كلمة الله هو الحكمة عينها والفهم والقوة .. فحلول الروح القدس ليس حلولا زمنيا بل هو اتحاد أزلى بين الأقانيم الثلاثة . بالتجسد الإلهى قبل ربنا يسوع ظهور الروح القدس حالا عليه لكى يهبنا نحن فيه ، كأعضاء جسده ، عطية الروح القدس واهب الحكمة والفهم والمشورة والقوة والمعرفة ومخافة الرب .
ربما يسأل البعض : لماذا حل الروح القدس على السيد المسيح عند عماده ؟
نقول : الروح القدس هو الذى شكل ناسوت السيد المسيح منذ لحظة البشارة بالتجسد الإلهى . ولما كان لاهوت السيد لم يفارق ناسوته ، لم يكن الناسوت قط فى معزل عن الروح القدس . ولا فى حاجة إلى تجديد الروح له ، لأنه لم يسقط قط فى خطية ولا كان للإنسان القديم موضع فيه ، إنما طلب السيد أن يعتمد " لكى يكمل كل بر " ، أى يقدم لنا برا جديدا نحمله فينا خلال جسده المقدس . حلول الروح عليه فى الحقيقة كان لأجل الإنسانية التى تتقدس فيه ، فتقبل روحه القدوس .
( 3 ) أعمال المخلص :
" ولذته تكون فى مخافة الرب ، فلا يقضى بحسب نظر عينيه ولا يحكم بحسب سمع أذنيه ، بل يقضى بالعدل للمساكين ، ويحكم بالإنصاف لبائسى الأرض ، ويضرب الأرض بقضيب فمه ، ويميت المنافق بنفخة شفتيه " إش 11 : 3 ، 4 .
أ – يقدم لنا السيد المسيح صورة حية عن التعامل مع الآخرين ، وهى ألا تقوم على المظاهر الخارجية المجردة ، وألا تكون حواسنا هى الحكم خاصة الشم والنظر والسمع .
يقول " لذتهHis breath تكون فى مخافة الرب " إش 11 : 3 .
العبيد والأجراء يخافون سادتهم لئلا يقتلوهم أو يحرموهم الأجر أو المكافأة ، أما الأبناء فيخافون لئلا تجرح مشاعر آبائهم . هذا الخوف السامى الذى يهبه روح الرب لنا حتى نهاب الله ليس خشية العقوبة ولا الحرمان من المكافأة وإنما لأننا أبناء لا نريد أن نجرح مشاعر محبته .
ب – " لا يقضى بحسب نظر عينيه " إنما حسب الأعماق الداخلية بكونه فاحص القلوب والعارف بالأفكار والنيات . لقد وقف السيد المسيح حازما ضد القيادات الدينية التى تحكم بالمحاباة ، أى يأخذون بمظهر الناس وليس بعدل القضاء .
جـ - رفض الوشايات البشرية " لا يحكم بحسب سمع أذنيه " إش 11 : 3 .
د – اهتمامه بالمساكين والبائسين والمظلومين ( إش 11 : 4 ) .
هـ - " ويضرب الأرض بقضيب فمه " إش 11 : 4 . جاء رب المجد يضرب بكلمته ( قضيب فمه ) أو بسيف فمه ( رؤ 2 : 16 ؛ 19 : 6 ) ، سيف الكلمة ذى الحدين ( عب 4 : 3 ) كل من التصق بمحبة الأرضيات فصار أرضا . غايته أن يحطم فينا محبة الزمنيات ليرفع كل طاقاتنا نحو السمويات .
و – " ويكون البر منطقة متنيه والأمانة منطقة حقويه " إش 11 : 5
جاء ربنا يسوع المسيح إلى العالم ملكا روحيا لا يشارك العالم خاصة الأغنياء مظهرهم فى اللباس والمظاهر البراقة ، يتمنطق بالبر والأمانة علامة غناه وجماله بكونه القدوس واهب الحياة القدسية ، جاء كخادم يتمنطق لكى يغسل الأقدام البشرية حتى يظهر كل من يقبل إليه .
( 4 ) سمات العصر المسيانى :
بعد أن تحدث عن عمل السيد المسيح استطرد ليتحدث عن العصر المسيانى ، مقدما لنا صورة حية عنه أبرزها اتسام البشرية المؤمنة بالأتحاد معا فى جسد واحد ، يحملون طبيعة الحب والسلام ...
يصور هذا العصر قائلا :
" فيسكن الذئب مع الخروف " إش 11 : 6 ... لا يوجد تضاد أعظم من هذا ، يسكن سافك الدم مع الحمل الوديع العاجز عن الدفاع عن نفسه . يحملان طبيعة جديدة دستورها الحب والوفاق . صار الكل قطيعا واحدا يحمل الخليقة الجديدة التى فى المسيح يسوع .
" ويربض النمر مع الجدى " إش 11 : 6
" والعجل والشبل والمسمن معا ؛ وصبى صغير يسوقها " إش 11 : 7
قطيع عجيب غير متجانس ، تحت قيادة عجيبة . هذا الصبى الصغير يشير إلى القيادات الروحية الكنسية التى تستطيع بروح البساطة أن تخلق بروح الرب من المؤمنين القادمين من أمم وشعوب مختلفة والذين يحملون مواهب متعددة قطيعا وديعا يخضع بروح الإنجيل كما لصبى صغير .
" والبقرة والدبة ترعيان ، تربض أولادهما معا ، والأسد كالبقر يأكل تبنا " إش 11 : 7
البقرة تشير إلى اليهود لأنها من الحيوانات الطاهرة ، والدبة تشير إلى الأمم والشعوب الوثنية إذ هى مفترسة ( عنيفة ) وكأنه من سمات العصر المسيانى أن يجنمع أعضاء من أصل يهودى مع أصل أممى فى رعية واحدة تحت قيادة راعى واحد .
والأسد إذ فقد طبعه الوحشى وتغيرت طبيعته فصار كالحيوان المستأنس لا يطلب لحما بل تبنا .
" ويلعب الرضيع على سرب الصل ، ويمد الفطيم يده على جحر الأفعوان " إش 11 : 8 .
فى اختصار عمل السيد المسيح هو تغيير الطبيعة البشرية الشرسة خلال خدامه المتسمين بروح الوداعة ، فتحمل الكنيسة كلها – خداما ومخدومين – روح الحب والوحدة . بهذا لا يصيب الكنيسة – جبل قدس الرب – فساد " لأن الأرض تمتلىء من معرفة الرب ، كما تغطى المياة البحر " إش 11 : 9 .
( 5 ) سلام بين الشعوب :
أ – جاء السيد المسيح ليقيم ملكوته من كل الأمم والشعوب ، واهبا سلاما للمؤمنين الحقيقيين " ويكون فى ذلك اليوم أن أصل يسى القائم راية للشعوب إياه تطلب الأمم ويكون محله مجدا " إش 11 : 10 .
يقول " إياه تطلب الأمم " إنه مشتهى الشعوب ، بحث عنه اليونانيون ( يو 12 : 20 ، 21 ) ؛ وأرسل قائد المئة كرينليوس الأممى إلى بطرس لكى يسمع عن السيد المسيح ( أع 10 )
" ويكون محله مجدا " جاء فى الترجمة اليسوعية " يكون مثواه مجدا " ، لعله يقصد أن صليبه الذى كان عارا صار بقيامته مجدا ، إذ صار قبره الفارغ مقدسا للمؤمنين فيه يدركون حقيقة مسيحهم واهب الحياة والقيامة .
ب – ضم السيد المسيح إلى كنيسته البقية التى قبلت الخلاص ، وقد جاءت من أماكن متفرقة ( أع 2 ، يع 1 : 1 ، 1 بط 1 : 1 ) . لذلك يقول النبى : " ويكون فى ذلك اليوم أن السيد يعيد يده ثانية ليقتنى بقية شعبه التى بقيت من أشور ومن مصر ومن فتروس ( مصر العليا ) ومن كوش ومن عيلام ( مملكة فى شرق نهر دجلة وشمال شرقى الخليج الفارسى ) ومن شنعار ( سهل بابل ) ومن حماة ومن جزائر البحر " إش 11 : 11 .
تحققت هذه النبوة فى عيد العنصرة وأيضا خلال خدمة الرسل وعبر الأجيال ، وستتحقق مرة أخرى بصورة أوسع فى الأيام الأخيرة حينما يقبل اليهود الإيمان بالسيد المسيح كقول الرسول بولس ( رو 11 : 11 – 27 ) .
فى ذلك اليوم ينضم قابلو الإيمان القادمون من اليهود إلى الكنيسة التى سبق أن ضمت الأمم ويكون الكل أعضاء فى جسد واحد : " ويرفع راية للأمم ويجمع منفيى إسرائيل ويضم مشتتى يهوذا من أربعة أطراف الأرض " إش 11 : 12 .
ح – يقدم الأتحاد الذى تم بين اسرائيل ( إفرايم ) ويهوذا عند عودتهم من السبى بع أن استحكمت النزاعات بل والعداوة بينهما قرونا طويلة صورة للأتحاد بين الأمم واليهود ( إش 11 : 13 ) .
فى القديم كان الفلسطينيون وبنو المشرق وأدوم وعمون وموآب ومصر مقاومين للشعب لذا وهب الله شعبه إمكانية النصرة عليه ( إش 11 : 14 – 16 ) ، أما فى العهد الجديد فتكون الغلبة لا بانتصارات حربية وإنما بقبول هذه الأمم للإيمان الحى فتصير أدوات للبناء لا للمقاومة والهدم . الله الذى سبق فحول البحر لخلاص شعبه إذ أجازهم فيه بعد أن فتح لهم فيه طريقا للعبور هكذا يجفف كل مقاومة فى قلوب الأمم لينفتح طريق الملكوت المسيانى .
بمعنى آخر الذى أصعد شعبه من مصر مجتازا بهم وسط مياة البحر الأحمر ، هو الذى يعبر بهم من أشور بعد السبى ( إش 11 : 16 ) ، وهو الذى يعبر بالأمم إلى ملكوته بالرغم من كل العقبات والصعوبات التى تقف أمامهم .
+ + +
إشعياء – الإصحاح الثانى عشر
تسبحة المفديين
اجتاز إشعياء النبى حالة الضيق التى أصابت نفسه بسبب ما بلغ إليه الشعب من فساد ، الأمر الذى لأجله سمح الله بتأديبه بواسطة أشور وتلامس مع عمل الله الخلاصى لا بإعادة المسبيين إلى يهوذا وإنما ما هو أعظم : ظهور ابن يسى راية للأمم يجمع بحبه الفائق مؤمنيه من كل الشعوب ليتمتعوا بسلامه السماوى . لم يكن أمام النبى إلا أن يسجل على لسان هؤلاء المفديين بدم المخلص تسبحة مفرحة تعتبر امتدادا للنبوة الواردة فى الإصحاح السابق التى تشدو بمجد المسيح وشخصه وعمله وملكوته وشعبه .
( 1 ) مراحم الله وسط غضبه :
" وتقول فى ذلك اليوم : أحمدك يارب لأنه إذ غضبت على ارتد غضبك فتعزينى " إش 12 : 1 .
تبدأ الترنيمة الجديدة التى ينطق بها كل من يتمتع بعمل السيد المسيح الخلاصى بالكلمات :
" وتقول فى ذلك اليوم " . أى يوم هذا ؟
إنه يوم الصليب أو يوم الكفارة العظيم الذى فيه نحمد الرب الذى حول الغضب إلى خلاص وتعزية ومجد . لقد تجسم الغضب الإلهى على الخطية التى نرتكبها بصلب السيد المسيح – كلمة الله المتجسد – ليرفعنا من الغضب إلى المجد .
ظهرت تعزيات الله العجيبة إذ حررنا لا من السبى البابلى وإنما من أسر إبليس وجنوده وأعماله الشريرة ليملك البر فينا .
( 2 ) يهوه سر خلاصنا وقوتنا وفرحنا :
" هوذا الله خلاصى فأطمئن ولا أرتعب ، لأن ياه يهوه قوتى وترنيمتى ، وقد صار لى خلاصا ، فتستقون مياها بفرح من ينابيع الخلاص " إش 12 : 2 ، 3
اقتبست الكنيسة القبطية جزءا من هذه التسبحة لتنشدها للرب المصلوب فى يومى خميس العهد وجمعة الصلبوت ، وهو : " قوتى وتسبحتى ( ترنيمتى ) هو الرب ، وقد صار لى خلاصا . الله هو سر قوتنا وتسبيحنا وخلاصنا ! فى وسط مشاركة الكنيسة عريسها آلامه تسبح وتنشد ؛ أما تسبحتها أو أنشودتها فهو المسيح نفسه ، هو كل شىء بالنسبة لها .
بالمسيح المصلوب عرفنا الهتاف ( مز 89 : 15 ) ؛ هتاف الغلبة على إبليس وأعماله الشريرة ! هتاف الخلاص الذى به ننتقل من الشمال إلى اليمين ننعم بشركة الملكوت السماوى المفرح .
بالصليب تفجر ينبوع دم وماء من الجنب المطعون لنتقدس ونتطهر ، ولكن نشرب ونفرح ، إذ وجدنا ينبوع خلاصنا الأبدى .
هنا يدعو الله " ياه يهوه " ؛ " ياه " هى اختصار للإسم " يهوه" ، وكأن التسبحة تكرر هذا اللقب الإلهى " يهوه " لتأكيد أنه الله السرمدى غير المتغير ، يتكىء عليه المؤمن فيجد فيه قوته وفرحه وخلاصه إلى الأبد ، فيطمئن على الدوام دون تخوف .
وكما يقول القديس أغسطينوس : [ إن شئت أن يكون فرحك ثابتا باقيا ، التق بالله السرمدى ، ذاك الذى لا يعتريه تغيير ، بل يستمر ثابتا على حال واحد إلى الأبد ] .
(3 ) الشهادة لأعمال الله :
يرى البعض أن العبارات السابقة ( إش 12 : 1 – 3 ) تمثل تسبحة مستقلة عن العبارات التالية ( إش 12 : 4 – 6 ) التى تمثل تسبحة ثانية .
على أى الأحوال إن كانت الأولى تعلن انبعاث الحمد والتسبيح فى النفس خلال التمتع بخلاص الرب ، فإن الثانية مكملة لها تعلن الألتزام بالشهادة لله المخلص أمام الأمم . فما نختبره خلال اتحادنا مع الله مخلصنا يثير فينا شوقا نحو تمتع الغير بذات الخلاص .
" وتقولون فى ذلك اليوم : احمدوا الرب ، ادعوا باسمه ، عرفوا بين الشعوب بأفعاله ، ذكروا بأن اسمه قد تعالى .رنموا للرب لأنه قد صنع مفتخرا ، ليكن هذا معروفا فى كل الأرض . صوتى واهتفى يا ساكنة صهيون ، لأن قدوس إسرائيل عظيم فى وسطك " إش 12 : 4 – 6 .
كيف نكرز بالرب ؟
أ – بالتبشير : " عرفوا بين الشعوب بأفعاله " ،
وكما يقول الرب لتلاميذه : " اذهبوا إلى العالم أجمع واكرزوا بالإنجيل للخليقة كلها " مر 16 : 5 . كل مؤمن يلتزم بالشهادة لمخلصه ، إذ نرى المرتل داود وهو يعلن توبته فى المزمور الخمسين يقول : " امنحنى بهجة خلاصك فأعلم الخطاة طرقك " .
ب – بالفرح المقدس : " رنموا للرب لأنه قد صنع مفتخرا ، ليكن هذا معروفا فى كل الأرض " .
ليست شهادة للمخلص أعظم من تلامس الغير مع فرحنا الداخلى بالرب الذى يجتاز كل الأحداث والمتاعب . يقول المرتل : " حينئذ امتلأت أفواهنا فرحا وألسنتنا ترنما ، حينئذ قالوا بين الأمم : إن الرب قد عظم الصنيع معنا " مز 26 : 2 .
صوت التهليل الداخلى يشهد لسكنى القدوس فينا !
الفرح المقدس يعلن عن ملكوت الله المفرح فى داخلنا . جاء فى سيرة القديس أبوللو الكاهن بطيبة على حدود هرموبوليس ( أشمونين ) ، ان وجهه كان دائم البشاشة ، مجتذبا بذلك كثيرين إلى الحياة النسكية كحياة مفرحة فى الداخل ، ومشبعة للقلب بالرب نفسه . كثيرا ما كان يردد القول : [ لماذا نجاهد ووجوهنا عابسة ؟! ألسنا ورثة الحياة الأبدية ؟ اتركوا العبوس والوجوم للوثنيين والعويل للخطاة ( الأشرار ) ، أما الأبرار والقديسون فحرى بهم أن يمرحوا ويبتسموا لأنهم يستمتعون بالروحيات ] .
+ + +
إشعياء – الإصحاح الثالث عشر
وحى من جهة بابل
إذ تحدث النبى عن السيد المسيح وأمجاد عصره خشى أن يفهم البعض أن هذا الأمر يتم فى عهده أو فى المستقبل القريب لذلك تنبأ عن بابل وما سيحل بالشعب خلال السبى البابلى ثم العودة من السبى .
قبل مجىء السيد المسيح تظهر مملكة بابل بكل عنفوانها لتتحطم ، ويأتى المسيا ليملك ولا يكون لملكه نهاية . يتكرر الأمر بالنسبة لمجيئه الأخير حيث تظهر مملكة الدجال كمملكة بابل تقاوم الكنيسة وتسود العالم لكنها تنهار ليأتى رب المجد على السحاب .
بابل وغيرها من الأمم العنيفة إنما تمثل المقاومة لله ولكنيسته ... وقد جاء الوحى هنا يعلن أن كل القوى المعادية لله ومسيحه وشعبه لن تدوم بل تنهار .
( 1 ) وحى من جهة بابل :
" وحى من جهة بابل رآه إشعيا بن آموص " إش 13 : 1 .
أراد النبى تأكيد أنه هو كاتب النبوة ، تمتع بها من جهة بابل . أما تأكيده أنه هو الذى رآها فذلك لسببين :
أ – إن كان إشعياء قد تنبأ بخصوص يهوذا وأورشليم لكنه يتحدث هنا عن مصير الأمم المجاورة مؤكدا أن الله إله القديسين هو بعينه إله جميع الأمم .
ب – لم يكن لبابل حسبان فى ذلك الوقت ، فكان يصعب على السامع أو القارىء أن يصدق ما يقال عنها فى هذه النبوات .
( 2 ) دعوة الأمم لمقاتلة بابل :
لم تكن بابل قد ظهرت عظمتها بعد ، لكن النبى يراها قادمة ، عاصمتها مدينة عتاة ، لهذا يبدا نبوته عنها بتحريض الرب للأمم كى تتجمهر ضد بابل وتقتحم أبوابها وتذل كبرياءها ، قائلا : " أقيموا راية على جبل أقرع " إش 13 : 2 . هكذا يصدر الله أمرا بمحاربة بابل فيدعو الأمم أن تقيم راية الحرب على جبل خال من كل شجر أو نباتات حتى يمكن لكل الجيش أن يراها . لأن خلو المكان من الأشجار يساعد سرعة انتباه الجيش لبدء الحرب .
" ارفعوا صوتا إليهم " إش 13 : 2 ، أى اضربوا بالأبواق لأجل تحميس الجيوش .
" أشيروا باليد ليدخلوا أبواب العتاة ( الأشراف ) إش 13 : 2 ، أى يلوحون بالأيدى لتشجيع اهمم من أجل اقتحام مدينة الأحرار الأشراف فى شجاعة وإقدام .
ما هى بابل إلا النفس المتعجرفة التى يلزمنا أن نقتحمها لا برايات الحرب ولا بأصوات الأبواق ولا بالتلويح بأياد بشرية وإنما برفع راية الحب التى لمسيحنا المصلوب لتقول :
" علمه فوقى محبة " نش 2 : 4 .
الحديث هنا أعظم من أن يكون خاصا بدعوة فارس ومادى لأقتحام الأمبراطورية العظيمة بابل ، إنما هو دعوة تمس خلاص النفس الأبدى . لهذا يكمل قائلا :
" أنا أوصيت مقدسى ودعوت أبطالى لأجل غضبى مفتخرى عظمتى ، صوت جمهور على الجبال شبه قوم كثيرين ، صوت ضجيج ممالك أمم مجتمعة . رب الجنود يعرض جيش الحرب . يأتون من أرض بعيدة من أقصى السموات الرب وأدوات سخطه ليخرب الأرض " إش 13 : 3 – 5 .
يلاحظ فى هذا النص :
أولا : يرى البعض أن هؤلاء المقدسين والأبطال هم القيادات العسكرية لفارس ومادى .. ليسوا لأنهم قديسون وإنما لأن الله دعاهم دون أن يدروا لتحقيق أهدافه المقدسة ، ووهبهم قوة للعمل واستخدامهم لتحقيق أمور ليست فى أفكارهم .
ثانيا : ما هو صوت الجمهور القائم على الجبال شبه قوم كثيرين ، " صوت ضجيج ممالك أمم مجتمعة ، رب الجنود يعرض جيش الحرب " إش 43 : 4 إلا صوت الكنيسة المجتمعة معا بروح الحب والوحدة على الجبال المقدسة تتمتع بالحياة العلوية ، تسكن على قمم الوصايا المباركة لا عند السفح ، تجتمع من ممالك أمم كثيرة كجيش بألوية ( نش 6 : 10 ) ... إنها كنائس متعددة لها ثقافات متباينة لكنها خلال الإيمان الواحد والفكر الواحد تعيش كجيش روحى سماوى ... هذه هى سمة الكنيسة الحقيقية : كنيسة سماوية .
+ كم من كثيرين هاجموا الكنيسة فهلك الذين هاجموها ، أما هى فحلقت فى السماء .
تجتمع الكنيسة من أرض بعيدة ، إذ كان أغلب أعضائها وثنيين مرتبطين بالعالم ، غرباء عن بيت الله ، لكنهم صاروا سماء الرب ومقدسه ، يخربون الأفكار الزمنية أو محبة الأرضيات ليحملوا الآخرين إلى خبرة الحياة السماوية .
( 3 ) يوم خراب بابل :
يصور لنا النبى يوم خراب بابل المرهب على أيدى فارس ومادى بكونه يوم الرب الذى فيه يعلن غضبه على بابل المقاومة له ولأولاده .
يرى البعض أن ما ورد هنا تحقق فعلا فى أيام كورش ولكن بصورة جزئية ، غير أنه سيتحقق بصورة أشمل فى الأيام الأخيرة كما جاء فى سفر الرؤيا ( رؤ 17 ) . عن دينونة الزانية العظيمة الجالسة على مياة كثيرة ، بابل العظيمة أم الزوانى .
أ – يقول النبى : " ولولوا لأن يوم الرب قادم كخراب من القادر على كل شىء ، لذلك ترتخى كل الأيادى " إش 13 : 6 ، فلا يقووا على حمل السلاح . لقد صارت مملكة بابل سيدة العالم كله ، وقد أطال الله أناته عليها عشرات السنوات ، والبابليون يتمادون فى كبرياء قلوبهم وعجرفتهم ضد الرب نفسه ، لذلك إذ يسقطون تحت غضبه ترتخى أياديهم العنيفة الحاملة للسلاح ، فيصيرون فى ضعف شديد وموضع سخرية .
ب – " ويذوب قلب كل إنسان ، فيرتاعون " إش 13 : 7 ، 8 . هكذا ينتاب الكل حالة من الرعدة والخوف ، من رجال ونساء وشباب وشيوخ وأطفال ، يصير الكل منهارا ليس من يسند أخاه بل كل واحد يحطم نفسه كما يحطم من هم حوله !
جـ - يتلوون من الألم كالوالدة وهى فى حالة طلق ( إش 13 : 8 ) ، فقد حملوا فى داخلهم ثمر شر يلدونه مرارة المر . والعجيب أن الكتاب المقدس يشبه آلام الأشرار يآلام الطلق وأيضا آلام المؤمنين ( يو 16 : 20 ) ، الأولون يئنون فى يأس وبرعدة لأنهم يلدون ريحا ( إش 26 : 18 ) ، أما الآخرون فيفرحون وسط الحزن الخارجى لأنهم ينجبون إنسانا فى العالم ( يو 16 : 20 ) .
د – تصير " وجوهكم وجوه لهيب " إش 13 : 8 ، محمرة خجلا بسبب انكسارهم الشديد وجبنهم ، كما تبهت أحيانا وجوههم ( إش 13 : 8 ) ، إذ تصفر بسبب الخوف .
هـ - تصير أرضهم خرابا ليس من يمشى عليها ( إش 13 : 9 ) ، كرمز لما يحل بالجسد ( الأرض ) من فقدان لكل حيوية حقيقية . من يقاوم الرب من أجل شهوات الجسد يفقد حتى جسده وتخرب نفسه الداخلية ، إذ قيل : " لذلك أزلزل السموات ( النفس ) وتتزعزع الأرض ( الجسد ) من مكانها فى سخط " إش 13 : 13 . ربما يشير هنا أيضا إلى ثورة الطبيعة ضد من يعصى خالقها . وكأن من يعصى الرب تعصاه الطبيعة ذاتها !
و – يحل بهم الظلام " فإن نجوم السموات وجبابرتها لا تبرز نورها ، تظلم الشمس عند طلوعها ، والقمر لا يلمع بضوءه " إش 13 : 10 . هذا يشير إلى ظلمة الجهل التى تحل بالإنسان المقاوم لله ، لا يرى شمس البر .
ز – يموت الرجال فى الحرب ، وإذ اعتادت النساء فى بابل على الحياة الخليعة لذا يطلبن رجلا لتحقيق شهواتهن الرديئة فيصعب عليهن وجوده : " وأجعل الرجل أعز من الذهب الأبريز والإنسان أعز من ذهب أوفير " إش 13 : 12 . أيضا يشير ذلك إلى قلة الأيدى العاملة بسبب الحرب مع عودة المسبيين وتحرر الأمم من السلطان البابلى .
ح – فقدان القيادة والرعاية : " ويكونون كظبى طريد وكغنم بلا من يجمعها ،يلتفتون كل واحد إلى شعبه ، ويهربون كل واحد إلى أرضه " إش 13 : 14 . يقد هنا أنه يوم انكسار بابل يفقد الجيش القيادة فيهرب الجنود المأجورون أو المسخرون من الأمم كل إلى بلده .
هذه هى حال النفس البعيدة عن الله فإنها تفقد قيادتها الداخلية ، ليعيش الإنسان كطريد أو كغنم بلا راع يجمعها .. يحمل فى داخله صراعات مرة وتشتيت فكر مع تحطيم للطاقات الداخلية .
ط – بطش بالكل دون تمييز بين عسكرى أو مدنى ، رجل أو إمرأة أو طفل ( إش 13 : 15 ) . إن الماديين لا يحطمونها لأقتناء غنى ( إش 13 : 17 ) ، وتحطيم طاقات بابل ( إش 13 : 18 ) ،إنهم يخربون كل مواردها فتصير كسدوم وعمورة اللتين احترقتا بنار من السماء .
ى – تصير بابل قفرا أبديا ، لا يسكنها إعرابى يرعى غنمه ولا يربض فيها رعاة خوفا من الحيوانات المفترسة ( إش 13 : 20 ، 21 ) .
إنها صورة للنفس التى تستسلم لعدو الخير فيستخدمها لحساب ملكوت الظلمة ، يملأها شرا ويحولها إلى معمل للفساد :
" تربض هناك وحوش القفر " إش 13 : 21 ..
" يملأ البوم بيوتهم " إش 13 : 21 ..
" تسكن هناك بنات النعام .. ترقص هناك معز الوحش " إش 13 : 21 ، أى تسكن النجاسة ، بدلا من الفرح السماوى .. وهناك ترقص وتلهو الشياطين فى النفس الشريرة إذ تجد فيها موضعا لها .
" وتصيح بنات آوى فى قصورهم والذئاب فى هياكل التنعم " إش 13 : 22 .. أى تتحول القصور والهياكل من أماكن للتنعم إلى مأوى للحيوانات الشرسة .
هذا كله حل ببابل " بهاء الممالك وزينة فخر الكلدانيين "إش 13 : 19 ، المدينة الذهبية ( إش 14 : 4 ) ، الغنية فى كنوزها ( إر 51 : 13 ) ، فخر كل الأرض ( إر 51 : 41 ) ..
تحققت هذه النبوات بطريقة حرفية :
يذكر التاريخ أن كورش هدم جزءا كبيرا من أسوار بابل وأبنيتها ، وبعد 20 عاما قام داريوس بهدم بقية الأسوار ونزع أبوابها النحاسية مع صلب ثلاثة آلاف من عظمائها .
بالفعل تحولت بابل إلى خراب ، وقد حاول اسكندر الأكبر أن يعيد مجدها لكنه مات قبل تنفيذ مشروعاته . استخدمت حجارتها فى بناء بغداد وإصلاح الترع وإقامة الكثير من المرافق العامة .
أخيرا فقد أكد النبى أن ما يقوله يتحقق سريعا : " ووقتها قريب المجىء وأيامها لا تطول " إش 33 : 22 . فقد بدأ نجم بابل يتألق عام 606 ق . م . وسقطت فى يد فارس ومادى عام 536 ق . م . ، بينما جاءت النبوة فى القرن الثامن ق . م .
لقد بقيت بابل رمزا لكل نفس متكبرة عاصية كما جاء فى سفر الرؤيا ، وقد قيل : " إنه فى ساعة واحدة جاءت دينونتك " رؤ 18 : 10 .
+ + +
إشعياء – الإصحاح الرابع عشر
سقــــــوط بــــابــــــل
يكمل النبى حديثه عن تأديب بابل وغيرها من الممالك المقاومة لله ولشعبه ، موضحا أن غاية الله من هذا التأديب ليس سقوط بابل أو غيرها إنما تقديم راحة لشعبه بعدما تأدب بالسبى . يريد تأكيد تحقيق وعود الله وعهوده مع شعبه الذى أذلته بابل .
يظهر الله كقائد للمعركة ضد بابل يقوم بتخريبها ، لأنها بعجرفتها وكبريائها تشير إلى عدو الخير إبليس . أما ملكها فهو أداة للشيطان وممثل أو رمز له .
( 1 ) ترفق الله بشعبه
الله الذى سمح لشعبه بالمذلة خلال السبى البابلى هو نفسه الله الرحوم الذى اختاره شعبا خاصا له ( إش 14 : 1 ) .
لقد سبق أن أخرجه من مصر وحرره من فرعون وجاء به إلى أرض الموعد بذراع رفيعة ، والآن يحقق خروجا آخر إذ يحرره من السبى ويرده إلى أرضه ليس فارغا ولا فى ضعف ، إنما فى قوة يجتذب الغرباء إليهم ليصيروا دخلاء يشاركونهم ذات الإيمان والعبادة ، كما يهب شعبه قوة فيسبون من سبقوا أن سبوهم ، ويتسلطون على من سبقوا أن ظلموهم ، بهذا يستريح الشعب من التعب والعبودية ( إش 14 : 4 ) .
( 2 ) هجو على ملك بابل :
يتحدث النبى باسم الشعب المتحرر من سلطان بابل فيهجو ملكها واصفا إياه هكذا :
أ – " الظالم " إش 14 : 4 . إن كانت بابل قد دعيت مدينة الذهب بسبب غناها الفاحش ، فإن هذا الغنى قد تحقق خلال ظلم ملكها وغطرسته ، هذا الظلم لن يدوم ، وهذه الغطرسة لا بد أن تنكسر : " كيف باد الظالم بادت المغطرسة . قد كسر الرب عصا الأشرار قضيب المتسلطين " إش 14 : 4 ، 5 .
ب – " الضارب الشعوب بسخط ضربة بلا فتور ، المتسلط بغضب على الأمم باضطهاد بلا إمساك " إش 14 : 6 . لم يتوقف عن الضرب لذا كسر الرب عصاه ، ولم يمسك عن اضطهاد الشعوب ، يكتم أنفاس الناس ويحجر على حريتهم ، لهذا استحق أن يسقط فى مذلة ، وكما قيل " كما فعلت يفعل بك ، عملك يرتد على رأسك " عو 15 .
بسبب هذه السمات عندما سقطت بابل " استراحت الأرض وهتفت ترنما " ( إش 14 : 7 ) ، وقيل ليعقوب : " ويكون فى يوم يريحك الرب من تعبك ومن انزعاجك ومن العبودية القاسية التى استعبدت بها " إش 14 : 3 .
تحققت هذه الراحة جزئيا بعودة الشعب من السبى ، لكن " بقيت راحة لشعب الله " عب 4 : 9 ، هى الدخول إلى الحياة الجديدة التى فى المسيح يسوع بكونه :
" سبتنا الحقيقى " و " راحتنا الأبدية " .
بسقوط بابل شمت السرو ( الملك ) وأيضا أرز لبنان ( الرؤساء ) ، قائلين : " منذ اضطجعت لم يصعد علينا قاطع " إش 14 : 8 ، بمعنى منذ نمت فى القبر لم تعد توجد يد تؤذينا ، فقد اعتاد الأعداء أن يقطعوا الأشجار فى الحروب لمقاومة لمقاومة البلاد التى يستولون عليها ولأستخدامها كوقود ، أو للبناء كما فعل نبوخذ نصر .. على أى الأحوال ، فإن الحروب مبددة للموارد الطبيعية .
لم يقف الأمر عند إزدراء الملوك بملك بابل ، إنما يصوره النبى وهو منحدر فى الهاوية يستقبله ملوك الأرض والعظماء – ربما الذين سبق أن أضطهدهم – يقومون عن كراسيهم فى الهاوية لا لتكريمه وإنما للأستهزاء به وللسخرية منه ، لكى يجلس على كراسيهم كما فعل وهو على الأرض . يقولون له باستخفاف :
" أأنت أيضا قد ضعفت نظيرنا وصرت مثلنا ؟! " إش 14 : 10 .
كنا نحسبك إلها خالدا كما أدعيت ، ولم نتخيل أنك تموت فى مذلة مثلنا !
" أهبط إلى الهاوية فخرك ربة أعوادك ؟! تحتك تفرش الرمة ، وغطاؤك الدود " إش 14 : 11 . كنت تفترش الحرير وتتطيب بأثمن الأطياب ، فكيف نزلت إلى الهاوية كمخدع لك تفتش الرمة وتتغطى بالدود ؟ .
" كيف سقطت من السماء يا زهرة بنت الصبح ؟! كيف قطعت إلى الأرض يا قاهر الأمم ؟! وأنت قلت فى قلبك : أصعد إلى السموات ، أرفع كرسيى فوق كواكب الله ، وأجلس على جبل الأجتماع فى أقصى الشمال ، أصعد فوق مرتفعات السحاب ، أصير مثل العلى " إش 14 : 12 – 14 .
لقد تشبهت بإبليس سيدك الذى كان كوكبا عظيما ومرموقا بين السمائيين " زهرة بنت الصبح " ، فتشامخ على الله خالقه ، وظن أنه يقدر أن يرتفع على مستوى الله نفسه بل ويصير أعظم منه ، فسقط ليصير ظلاما عوض النور إذ عزل نفسه بنفسه عن الله مصدر النور . أردت أن تجلس على جبل صهيون ( مز 48 : 2 ) ، جبل الله المقدس ، حسبت نفسك كالله فى العظمة فتعاليت فوق السحاب !
هكذا إذ يعرف الله الخالق طبيب الكل أن الكبرياء هى علة كل الشرور ورأسها لهذا يحرص أن يشفى الضد بالضد ، فما هلك بواسطة الكبرياء يصلح بواسطة الأتضاع ...
[ يقول واحد : " أصير مثل العلى " إش 14 : 12 ...
أما الآخر : " إذ كان فى صورة الله لم يحسب خلسة أن يكون معادلا لله ، لكنه أخلى نفسه آخذا صورة عبد ... وضع نفسه وأطاع حتى الموت موت الصليب " فى 2 : 6 – 8
يقول واحد : " أرفع كرسيى فوق كواكب الله " .....
بينما يقول الآخر : " تعلموا منى ، لأنى وديع ومتواضع القلب " مت 11 : 28 .
واحد يقول : " أنهارى هى لى وأنا أصنعها " حز 29 : 3 ...
والآخر : " لست أفعل شيئا من نفسى لكن الآب الحال فى هو يعمل الأعمال " يو 5 : 30 ، 14 : 10 .... ] .
هكذا تحدد الكبرياء الإنسان إلى الهاوية ، لذا يحدث النبى ملك بابل قائلا : " انحدرت إلى الهاوية إلى أسافل الجب " إش 14 : 15 . لقد سقطت من قمة جبل أحلامك ، وهبطت من سحاب خيالك ، لتعيش فى الهاوية مع إبليس سيدك .
أين جبروتك يا من زلزلت الأرض وزعزعت الممالك ببطشك .. حولت العالم إلى قفر وهدمت المدن لكى تسبى سكانها ( إش 14 : 16 ، 17 ) ؟!
أين عزك ومجدك ؟ فإن كل ملوك الأرض اضجعوا بالكرامة ، حتى أولئك الذين أذللتهم وعذبتهم ، فقد ماتوا فى بيوتهم ورفعت صلوات عنهم وحنطت بعض أجسادهم ، " وأما أنت فقد طرحت من قبرك كغصن أشنع ، كلباس القتلى المضروبين بالسيف الهابطين إلى حجارة الجب كجثة مدوسة " إش 14 : 19
هذه النبوة تشير إلى ذبح بليشاصر ليلة دخول الماديين بابل حيث لم ينشغل أحد بجثمان الملك وسط الخراب الذى حل بالمدينة .
هكذا فقد ملك بابل كل شىء ، بل وقتل شعبه وبنوه ( إش 14 : 20 ، 21 ) بكبرياء قلبه ، خسر المدينة الملوكية والنسل الملوكى .
( 3 ) خراب بابل :
بسبب الكبرياء ينتزع الله من بابل اسمها ، ولا يترك فيها بقية ولا ذرية ( إر 51 : 62 ) ، لتكون مثلا أمام العالم كله تصير خرابا ، يسكنها القنفذ وآجام مياة ( إش 14 : 23 )
المدينة الملوكية العظيمة تتحول إلى مسكن سواء للحيوانات أو الطيور التى تسكن القفر ، وتحسب دنسة مملوءة رجاسات ، تحتاج إلى الكنس بمكنسة الهلاك ، أى الإبادة التامة للخلاص من رجاساتها ، حتى لا تفسد من حولها .
( 4 ) خراب أشور :
يذكر النبى ما سيحل بأشور وفلسطين لكى يتأكد السامعون صدق النبوة الخاصة ببابل والتى ستتم بعد حوالى 200 عاما من إعلانها .
يكشف الله عن خطته فى تأديبه للأشرار ، ألا وهى أنه يتركهم يتممون إرادتهم الشريرة بكامل حريتهم ، فيجنون ثمر شرهم فسادا وهلاكا ، كأن الخطية تحمل عقوبتها فيها كما أن الحياة المقدسة فى الرب تحمل مجدها داخلها . لهذا قيل : " قد حلف رب الجنود قائلا : إنه كما قصدت يصير وكما نويت يثبت " إش 14 : 24
( 5 ) خراب فلسطين :
" فى سنة وفاة الملك آحاز كان هذا الوحى : لا تفرحى يا جميع فلسطين لأن القضيب الضار بك انكسر ، فإنه من أصل الحية يخرج أفعوان ، وثمرته تكون ثعبانا ساما طيارا " ( إش 14 : 28 – 30 )
كانت فلسطين فى ذلك الحين مكونة من عدة إمارات ، لهذا يخاطبها قائلا : " يا جميع فلسطين " . يطلب منها ألا تفرح لأن القضيب الضار بها قد انكسر ، يرى البعض أن هذا القضيب هو تغلث فلاسر الذى استولى على مدن فلسطينية ، وقد مات قبل آحاز بسنة أو سنتين ، فسيخلفه شلمناصر وسرجون وسنحاريب وهم أشر منه .
يرى غالبية الدارسين أن القضيب المكسور هو عزيا الذى ضرب الفلسطينيين بقسوة ففرحوا بموته ( 2 أى 26 : 6 ) . وأن أصل الحية هو بيت داود حيث يأتى حزقيا الملك الذى ضربهم ضربة أقسى من عزيا جده ( 2 مل 18 : 8 ) ، واستعبدهم .
أما الحية الطائرة فهى مثل الحية النحاسية التى رفعها موسى فى البرية ، ترمز لشخص السيد المسيح المصلوب ، الحامل سم خطايانا فى جسده ليبيده بموته المحيى .
يعلن النبى أن فلسطين تواجه مجاعة قاسية ( إش 14 : 30 ) ، وحربا مدمرة فتتحول مدنهم إلى دخان بينما فى النهاية يحمى الرب شعبه ويترفق ببائسيه ( إش 14 : 32 ) .
الله – فى صلاحه – لا يمنع الشر ولا يلزم الأشرار على التوبة ، لكنه فى النهاية يتمم خطة خلاصه لمؤمنيه المتكلين عليه ، محولا كل الأمور لبنيانهم .
إشعياء – الإصحاح الخامس عشر
وحى من جهة موآب
يقدم إشعياء النبى نبوات تخص الأمم المحيطة بيهوذا وإسرائيل تتحقق سريعا حتى يتأكد الشعب من أمرين : صدق نبوات إشعياء النبى فيما يخص المستقبل البعيد مثل السبى والرجوع منه ومجىء المسيا وأعماله الخلاصية ، وأن الله هو إله الأرض كلها ، ضابط الكرة الأرضية ومحرك الشعوب .
( 1 ) سرعة تحقيق النبوة
" وحى من جهة موآب . إنه فى ليلة خربت عار موآب وهلكت . إنه فى ليلة خربت قير موآب وهلكت " إش 15 : 1 .
جاء الموآبيون من نسل لوط ، لذا فهم يمتون بصلة قرابة لإسرائيل ، سكنوا شرق البحر الميت ، سمح بنو رأوبين للموآبيين بالسكنى فى مدنهم وأخذوا عنهم عبادة الإله كموش ، كما وجدت علاقات طيبة أحيانا بين موآب وإسرائيل ، عندما قاوم شاول داود أودع الأخير والديه لدى ملك موآب ، ومع هذا فقد حمل الموآبيون روح عداوة تجاه إسرائيل ويهوذا ، فكثيرا ما تحالفوا مع الشعوب المجاورة ضدهم .
يتنبأ إشعياء النبى عن خراب المدن الكبرى فى موآب ، وقد تحققت هذه النبوة حرفيا وبدقة خلال ثلاث سنوات من إعلانها ( إش 16 : 14 ) ، وقد حل الخراب على يدى ملك آشور فجأة وبطريقة غير متوقعة .
هلكت المدينتان " عار وقير " فى ليلة واحدة ، وليس فى يوم واحد أو نهار واحد . فإنه إذ يغيب شمس البر عن النفس البشرية التى تشبه مدينة عظيمة مسورة ، يحل بها ظلام الشر والجهل وتفقد كل ما تعبته لسنوات طويلة ليحل بها الخراب .
( 2 ) تحطيم المدن العظمى
يصور إشعياء النبى ما حل بالمدن الكبرى فى موآب بجانب عار وقير فيقول :
" إلى البيت وديبون ؛ يصعدون إلى المرتفعات للبكاء " إش 15 : 2 . إذ حل الخراب بموآب لجأ الكثيرون إلى الآلهة الوثنية يصرخون بدموع وعويل لعلها تستطيع أن تنقذهم ، لكن بلا جدوى ، وذلك كما فعل أنبياء وكهنة البعل فى أيام إيليا النبى .
البيت : يرى البعض أنه هيكل الإله كموش
ديبون : إسم موآبى يعنى " مرتفعات " وهى مدينة وجد فيها بيت أو هيكل الإله كموش ..
كأن الموآبيون قد هربوا إلى هيكل الإله كموش أو ديبون ، يبكون وينوحون على ما حل بهم من خراب .
" تولول موآب على نبو وعلى ميدبا " إش 15 : 2 .
لقد خربت " نبو " بالقرب من الجبل العظيم نبو ، شرقى الأردن فى نهاية جنوب البحر الميت ، وهو الجبل الذى صعد عليه موسى النبى لينظر من بعيد أرض الموعد فتتهلل نفسه مشتاقا أن يعبر إلى أرض الأحياء وينعم بكنعان السماوية ، وقد مات هناك ( تث 34 ) .
كانت نبو محصنة بالجبل العظيم ، مركز دفاع للموآبيين ، لكنها ضاعت وخربت ..
ولولوا على " ميدبا " ، معناها " مياة الراحة " ، تسمى حاليا " مادبا " ، تبعد حوالى 5 أميال جنوب شرقى نبو ، 14 ميلا شرقى بحر لوط ، دعيت هكذا لأن بها بركة فى الجنوب طولها وعرضها 360 قدما كما توجد بها برك أصغر فى الشرق والشمال .
يقول النبى : " فى كل رأس منها قرعة ، كل لحية مجزوزة ، فى أزقتها يأتزرون بمسح ، على سطوحها وفى ساحاتها يولول كل واحد منها سيالا بالبكاء " إش 15 : 2 ، 3 .
هذه جميعها علامات الحزن الشديد ، قرع الرأس يشير إلى المذلة ، إذ اعتاد المنتصرون أن يحلقوا شعر الذكور والإناث المسبيين علامة العبودية والقبح ، وجز اللحية إشارة إلى مهانة الكهنوت وفقدان سلطانه الروحى وكرامته ، والإتزار بالمسح علامة اليأس الشديد ، أما البكاء حتى تصير الدموع كالسيل فمعناه فقدان الفرح الداخلى .
" وتصرخ حشبون والعالة ، يسمع صوتهما إلى ياهص ، لذلك يصرخ متسلحوا موآب ، نفسها ترتعد فيها " إش 15 : 4 . كأن الموآبيين قد هربوا من مدينة إلى مدينة ، وكأن صراخهم يسمع من بعيد ، من مدن بعيدة ، صراخ سكان حشبون والعالة يدوى فى ياهص .
حشبون والعالة مدينتان فى أقصى الشمال ، أما ياهص فتبعد إلى الجنوب منهما بمقدار حوالى 10 أو 12 ميلا .
لم يحتمل إشعياء النبى أن يرى ما حل بهذه المدن العظيمة ، " نفسها ترتعد فيها " إش 15 : 4 .. لذلك يقول " يصرخ قلبى من أجل موآب " إش 15 : 5 . لا يقف شامتا فى الأعداء ، إنما يشاركهم مرارتهم ، مشتاقا إلى رجوعهم عن عدواتهم وتمتعهم بالخلاص .
هذه هى سمة رجال الله :الحب الداخلى الصادق والرغبة العميقة لخلاص حتى المقامومين لهم !
يقول النبى :
" يصرخ قلبى من أجل موآب ، الهاربين منها إلى صوغر كعجلة ثلاثية لأنهم يصعدون فى عقبة اللوحيث بالبكاء ، لأنهم فى طريق حورونايم يرفعون صراخ الإنكسار " إش 15 : 5 .
كأن إشعياء النبى يصور الهاربين من أقصى الشمال إلى صوغر فى الجنوب ، المدينة الصغيرة التى لجأ إليها لوط عند حرق سدوم وعمورة ، أشبه بعجلة واحدة عمرها ثلاث سنوات قد هربت كما من النير الثقيل الذى لم تعتد عليه .
أما اللوحيت وحورونايم فلا يعرف موضعهما ، إنما غالبا ما كانا بجوار صوغر .
( 3 ) حلول المجاعة
لا يقف الأمر عند خراب المدن والهزيمة المنكرة إنما يحل لموآب مجاعة كثمرة طبيعية للهزيمة فى الحرب ، " لأن مياة نمريم تصير خربة ، لأن العشب يبس ، الكلأ فنى ، الخضرة لا توجد ، لذلك الثروة التى اكتسبوها وذخائرهم يحملونها إلى عبر وادى الصفصاف " إش 15 : 6 ، 7 .
نمريم : اسم سامى معناه " مياة صافية " وهى ينابيع فى وادى نميرة فى الساحل الجنوبى الشرقى للبحر الميت . المعنى أن المياة لا تكفيهم هم وحيواناتهم ، فيتكونها ويحملون ما يستطيعون حمله من ثروة وذخائر ليكملوا الطريق .
فى اختصار تفقد موآب مدنها العظمى، وحقولها ، ومياهها ، وسلامها لتصير فى خراب تام
+ + +
إشعياء – الإصحاح السادس عشر
خضوع موآب ليهوذا
فى أيام حزقيا يقدم إشعياء النبى مشورة لموآب أن تفى بالجزية التى تعهدت بها أمام يهوذا فترسل إليه حملان ، وهى جزية مناسبة لأن موآب مشهورة بقطعانها ( عد 32 : 4 ) . قدمت موآب فيما بعد جزية أيضا لإسرائيل ( 2 مل 3 : 4 ) . بهذه المشورة تتمتع موآب بالحماية عوض أن تصير كطائر تائه لا يجد عشا . وإذ خشى النبى ألا تقبل موآب مشورته كشف لها جراحاتها المهلكة ألا وهى الكبرياء .
هذه دعوة مقدمة لكل نفس لكى تخضع للسيد المسيح الملك الخارج من سبط يهوذا ، لكى تقدم حياتها كحمل ذبيح من أجل الرب ، فتنعم بالسلام الداخلى عوض أن يحطمها جحود الإيمان والكبرياء .
( 1 ) مشورة للخضوع ليهوذا
سبق أن رأينا قلب إشعياء النبى يتحرك بحنان شديد نحو موآب فصار يصرخ من أجلهم . الآن يقدم للموآبيين مشورة صالحة لإصلاحهم حالهم وتمتعهم بعلاقات طيبة مع بنى يهوذا وتذوقهم للسلام والحماية ، بتقديم الجزية ( حملان ) لحزقيا الملك ، كرمز لدعوة الأمم إلى الخضوع للسيد المسيح ، الأسد الخارج من سبط يهوذا ، فإنه لا سلام ولا حياة أبدية دون قبوله ملكا فى حياتنا الداخلية .
يتقدم النبى نفسه ليعلن استعداده أن يكون وسيطا أو شفيعا لدى يهوذا عن موآب ، مطالبا الموآبيين بدفع الجزية : " أرسلوا خرفان حاكم الأرض من سالع نحو البرية إلى جبل ابنة صهيون ، ويحدث أنه كطائر كفراخ منفرة تكون بنات موآب فى معابر أرنون " إش 16 : 1 ، 2 .
" سالع " اسم عبرى معناه " صخرة " ، موقع حصين فى أرض أدوم ، كأن النبى يدعو الموآبيين الذين التجأوا إلى أدوم وتحصنوا فى سالع أن يتقدموا مع بقية الموآبيين الذين فى البرية ليهوذا ، وأن يقدموا الحملان فى أورشليم " جبل ابنة صهيون " .
إنها دعوة لكل إنسان ألا يظن فى الذراع البشرى أو الإمكانيات الطبيعية ملجأ له . إنما يكمن سلامه فى بلوغ أورشليم ، وتقديم حياته ذبيحة حب لأبن داود ، الأسد الخارج من سبط يهوذا .
يقدم النبى أيضا مشورة لشيوخ يهوذا ، مطالبا إياهم أن يستقبلوا الموآبيين اللاجئين إليهم ليقدموا لهم ظلا وسط الظهيرة ، فيصير لهم الوقت كأنه ليل للراحة من شمس التجارب والضيقات ، وأن يستردوا المطرودين والهاربين إليهم بدون خداع ، فلا يسلموهم عبيدا للأعداء (إش 16 : 3 ، 4 ) .
يليق برجال يهوذا أن يحملوا مزا للسيد المسيح الملجأ الحقيقى ، فيفتحوا قلوبهم ومدنهم للهاربين ، ويستقبلوهم بإخلاص ، بهذا تعلن مملكة المسيح القائمة على كرسى الرحمة أبديا : " فيثبت الكرسى بالرحمة ، ويجلس عليه بالأمانة فى خيمة داود قاض ويطلب الحق ويبادر بالعدل " إش 16 : 5 .
هكذا يقدم لنا النبى نصا مسيانيا ، معلنا أن الكنيسة – خيمة داود – هى موضع النجاة ، يملك فيها المسيا ليجتذب الأمم إليه فيجدوا فيه الحق ويتمتعوا بالمراحم الإلهية ، مترنمين : " العدل والحق قاعدة كرسيك ، الرحمة والأمانة تتقدمان وجهك .. لأن الرب مجننا وقدوس إسرائيل ملكنا " مز 89 : 14 ، 18 .
( 2 ) الكبرياء محطم الإنسان
قدم إشعياء النبى المشورة الصالحة لموآب ، كما كشف لهم عن ضعفهم الروحى – الكبرياء – العائق عن قبول المشورة " قد سمعنا بكبرياء موآب المتكبرة جدا عظمتها وكبريائها وصلفها بطل افتخارها " إش 16 : 6 . لقد سمع النبى عن كبرياء الموآبيين وتشامخهم الزائد وكلماتهم الباطلة !
الكبرياء محطم للإنسان كما للأمم ، يحرم صاحبه من قبول المشورة الصالحة ، ويفقده التمتع بنعمة الله ورحمته .
( 3 ) ولولة على موآب
لم يسمع قادة موآب لصوت إشعياء النبى بسبب كبريائهم لهذا سقطوا تحت العقوبة واستحقوا الويلات التى يلاحظ فيها الآتى :
( أ ) حدوث ولولة شاملة : " لذلك تولول موآب على موآب كلها يولول " إش 16 : 7 ، إذ صارت الولولة سمة عامة فى كل موآب .
( ب ) شملت الولولة أكبر المدن مثل قير حارسة ( إش 16 : 7 ) التى ضربت ، وأيضا الحقول التى ذبلت كحقول حشبون وكرمة سبمة ويعزير ( إش 16 : 8 ، 9 ) ، شملت المدن والقرى ، المتعلمين والجهال ، الأغنياء والفقراء الخ ....
( جـ ) تحولت أفراح الحصاد إلى بكاء ونوح ( إش 16 : 10) .
( د ) انطلق الموآبيون إلى المرتفعة للصلاة فى هيكل الإله كموش بلا جدوى ( إش 16 : 12 )
( هـ ) تحدد ميعاد العقوبة بثلاث سنوات خلالها تنهار موآب أمام سنحاريب ملك أشور ، ويذل الموآبيين ويتحطم مجدهم ( إش 16 : 14 ) .
وسط هذه الصورة القاتمة يكشف إشعياء النبى عن جانبين مبهجين : الأول مشاركة النبى بنى موآب متاعبهم ، إذ يقول : " لذلك ترن أحشائى كعود من أجل موآب وبطنى من أجل قير حارس " إش 16 : 11 . لا تحتمل أحشاؤه الداخلية أن تنظر نفوسا متألمة حتى وإن كانت آلامها ثمرة خطاياها .
الجانب الثانى وجود بقية قليلة جدا وضعيفة للغاية ( إش 16 : 14 ) ، ففى القديم تمتعت راعوث الموآبية بالخلاص ، إذ جاءت تحتمى تحت ظل الله ، وفى العهد الجديد جاء الأمم إلى الإيمان ليتمتعوا بالحياة الجديدة فى المسيح يسوع .
+ + +
إشعياء – الإصحاح السابع عشر
وحى من جهة دمشق وافرايم .
ليس عند الله محاباة ، فإن كان يؤدب الأمم الوثنية مثل موآب لجحدها الإيمان وعجرفتها وتجديفها عليه فإنه يؤدب إسرائيل ( أو افرايم – العشرة أسباط ) لأنها تحالفت مع آرام أو سوريا ( عاصمتها دمشق ) ضد يهوذا متكئين على فرعون مصر ضد أشور . لهذا سمح الله لملك أشور أن يهجم على آرام وافرايم ويغلبهما سريعا .
( 1 ) تدمير دمشق
تعتبر من أعرق المدن ، ورد ذكرها فى أيام إبراهيم ( تك 14 : 15 ) ؛ غزاها داود الملك وأقام فيها حامية ( 2 صم 8 : 5 ، 6 ، 1 أى 18 : 5 ، 6 ) .
قام رزون وتمكن من تأسيس المملكة السورية ودامت الحرب بينهما وبين إسرائيل زمانا طويلا لكنهما تحالفا معا فيما بعد ضد يهوذا وأشور . وقد تعرضت للهزيمة عدة مرات ، ففى سنة 843 ق.م. هاجم شلمناصر دمشق وهزم ملكها حزائيل ...
انتهى الأمر بسوريا إلى أن تكون مقاطعة رومانية عام 63 ق . م .
" هوذا دمشق تزال من بين المدن وتكون رجمة ردم ؛ مدن عروعير متروكة ، تكون للقطعان فتربض وليس من يخيف " إش 17 : 1 – 2 .
كانت دمشق مزدهرة جدا حتى حاصرها تغلث فلاشر وقتل ملكها وسبى شعبها فصارت أشبه برجمة خربة .
عروعير – المذكورة هنا – مدينة فى جلعاد بالقرب من ربة التى هى ربة عمون ( يش 30 : 25 ، قض 11 : 33 ) عمان عاصمة الأردن .
دمشق وعروعير يمثلان النفس المتشامخة على الله والمتحالفة مع الغير ضد كنيسته ، فإنه وإن كان الله يتركها زمانا لتظهر قوية وناجحة ومزدهرة ، لكنها تعود فتنهار من جانبين :
( أ ) تتحول من مدينة عظيمة إلى رجمة خربة ...
( ب ) تتحول عروعير من مسكن للناس ( مع الله ) إلى مرعى للقطعان والحيوانات . وكأن مقاومتنا للحق تفقدنا كرامتنا وتحول حياتنا إلى ملهى لكل حيوان ، فنحمل الطبيعة الحيوانية الجسدانية .
( 2 ) هزيمة افرايم
تزعمت دمشق فكرة التحالف ضد يهوذا لهذا استحقت أن تعاقب أولا ، وإذ ضعفت إسرائيل وخضعت للمشورة استحقت هى أيضا التأديب القاسى مع فتح باب الرجاء أمامها وإعلان وجود بقية أمينة ومخلصة تتمتع بخلاص الله .
تقدم النبوة الثمرة الطبيعية للتحالف الشرير الذى فيه اتكاء على الذراع البشرى والفكر الإنسانى البحت مع تجاهل العمل الإلهى ، هذه الثمرة هى عقوبة طبيعية يسقط تحتها الإنسان فى شره .
( أ ) فقدان الحصانة : " يزول الحصن من أفرايم " إش 17 : 3 ؛
" فى ذلك اليوم تصير مدنه الحصينة كالردم فى الغاب والشوامخ التى تركوها من وجه بنى إسرائيل فصارت خرابا " إش 17 : 9 .
إن كان الله إله خلاصنا هو صخرة حصننا ( إش 17 : 10 ) فإن اعتزالنا إياه ورفضنا لعمله هو زوال للحصن الحقيقى ... عندئذ لا تقدر الحصون أن تحمى مدينتنا الداخلية بل تصير كردم فى وسط الغاب بلا قيمة وكشوامخ متروكة لها المظهر الخارجى دون قوة العمل !
الله هو حصننا الذى فيه نلتجىء فتستريح أعماقنا ، عندئذ لا تقدر كل قوى الظلمة أن تتسلل إلينا .
( ب ) فقدان المجد الداخلى : " ويكون فى ذلك اليوم أن مجد يعقوب يذل " إش 17 : 4 . إن كان مجد ابنة الملك من الداخل ( مز 45 ) ، فإن سر مجدها هو مسيحها الساكن فيها ، الذى يقيم ملكوته داخلها . بالمسيح يسوع نتمجد ليس فقط أمام الناس وإنما أيضا أمام الآب ، إذ يقول القديس جيروم :
تطلع إلينا ، فإنك ترى إبنك الساكن فينا
( جـ ) فقدان القوة : " وسمان لحمه تهزل " إش 17 : 4 ، لهذا يقول السيد المسيح :
" بدونى لا تقدرون أن تفعلوا شيئا " يو 15 : 5 .
+ لا نقدر أن نجرى فى طريق الله ما لم نكن محمولين
على أجنحة الروح .
+ ليس أقوى من الذى يتمتع بالعون السماوى كما
أنه ليس أضعف من الذى يحرم منه .
+ لا نخشى شيئا ، فإننا لكى نقهر الشيطان يلزمنا أن نعرف أن مهارتنا لن تفيد شيئا ،
وأن كل شىء هو من نعمة الله . [ القديس يوحنا الذهبى الفم ] .
( د ) فقدان الثمر ، فقد عرف وادى رفايم بخصوبة أرضه ووفرة ثماره ومحصولاته ، لكن بسبب الأعداء لا يتبقى لأفرايم إلا أن يلتقط السنابل الساقطة وراء الحصادين ويجمع ما تبقى فى رأس الفروع من شجر الزيتون حبتين أو ثلاث فقط ( إش 17 : 5 ، 6 ) أى يصيروا كالفقراء الذين ليس لهم ما يحصدونه ( تث 24 : 20 ) .
إنهم يسيجون الحقول ويزرعون ولكن فى وقت الحصاد يأتى العدو ليغتصب تاركا لهم ما يسقط منه على الأرض ، فتتحول أعياد الحصاد إلى أزمنة للكآبة وعدم الرجاء ( إش 17 : 11 ) . بمعنى آخر يفقدون تعب جهادهم ويخسرون فرحهم وسلامهم .
الآن نتساءل : لماذا يسمح الله لأفرايم بهذا الذل ؟
لكى يرجع إلى الله خالقه عوض مشاركة الأراميين مشوراتهم الشريرة وعباداتهم الوثنية ورجاساتهم الدنسة ، إذ يقول : " فى ذلك اليوم يلتفت الإنسان إلى صانعه وتنظر عيناه إلى قدوس إسرائيل ، ولا يلتفت إلى المذابح صنعة يديه ، ولا ينظر إلى ما صنعته أصابعه السوارى والشماسات " إش 17 : 7 ، 8 .
السوارى هنا تعنى تماثيل الوثنيين ، والصور الخاصة بإلهة الحب والجمال ( عشتار ) ، كانت هذه السوارى تحمل معانى جنسية إباحية ، سمح الله بتأديب شعبه لكى لا يدنس نظرته للجنس بل يرتفع بقلبه وفكره نحو الله ..
أما بالنسبة للشماسات فهى خاصة " مذبح البخور " عند الوثنيين ، لذا جاء هذا التعبير خاصا بالعبادة الوثنية متمايزا عن البخور المقدس الذى يقدم فى الهيكل .
( 3 ) هجوم الأعداء
يشبه الأعداء بالبحر الذى لا يمكن مقاومته .. فى تصوير رائع يقول :
" آه ضجيج شعوب كثيرة .. قبائل تهدر كهدير مياة كثيرة ، ولكنه ينتهرها فتهرب بعيدا وتطرد كعصافة الجبال أمام الريح ، وكالجل أمام الزوبعة ، فى وقت المساء إذا رعب ، قبل الصبح ليسوا هم . هذا نصيب ناهبينا وحظ سالبينا " إش 17 : 12 – 14 .
يسمح الله للأعداء أن يهجموا كمياة بحار غزيرة لا يقف أحد أمامها ، لكنه إذ ينتهرها تصير كعافة فى مهب الريح على الجبال ليس لها موضع استقرار ولا قدرة على المقاومة .
لذلك يقول " فى وقت المساء رعب " إش 17 : 14 .
بمعنى أنه متى غاب شمس البر عن حياتنا تحل الظلمة فينا ونصير كما فى المساء ليجد العدو له فينا موضعا فيرعبنا ...
إشعياء – الإصحاح الثامن عشر
كوش تقدم هدية اللـــه
يعتبر هذا الإصحاح من أكثر الإصحاحات غموضا فى الكتاب المقدس . يرى قلة من الدارسين أن الحديث هنا يخص أشور أما الغالبية فترى أن الحديث إما يخص مصر أو أثيوبيا . وقد رفض البعض نسبته إلى مصر بحجة أن الوحى الخاص بمصر جاء فى الإصحاح التالى متدئا بالقول " وحى من جهة مصر " إش 19 : 1 .
يقصد بكوش جنوب مصر ، حاليا النوبة والسودان وأثيوبيا ، وكان ملكها القدير ترهاقة ( 2 مل 19 : 9 ) قد ملك على كوش ومصر ، هذا بعث برسل على سفن صغيرة مصنوعة من حلف البردى إلى يهوذا طالبا التحالف معه ضد سنحاريب ملك أشور .
لقد أراد النبىأن يؤكد إن كان كوش يطلب تحالفا ضد قوى أشور المتزايدة ، فإن كوش ومعها مصر ستأتى إلى أورشليم مع بقية الأمم لتتعبد خاضعة لرب الجنود . بمعنى آخر الله لا يحتاج إلى تحالفات بشرية ضد قوى الشر إنما هو حصن منيع لكل الأمم التى تترجاه وتتعبد له .
( 1 ) إرسالية من كوش
يوجه النبى حديثه إلى كوش قائلا : " يا أرض حفيف الأجنحة التى فى عبر أنهار كوش " إش 18 : 1 .
ماذا يقصد بارض حفيف الأجنحة ؟
( أ ) يرى البعض أنها إشارة إلى السلطان الأمبراطورى الذى كان يبسط جناحيه على كل أرض كوش وما حولها . وقد استخدم الكتاب المقدس هذا التشبيه مرارا كثيرة ، فقيل عن ملك أشور " يكون بسط جناحيه ملء عرض بلادك يا عمانوئيل " إش 8 : 8 . كما شبه ملك أشور بنسر عظيم ذى منكبين ( حز 17 ) .
( ب ) يرى بعض الدارسين أن حفيف الأجنحة يشير إلى سلطان مصر وعظمتها ، وآخرون يروا أنها بريطانيا العظمى التى حملت أمجادا عظيمة عبرالبحار وآخرون حسبوها الولايات المتحدة الأميريكية التى تتخذ النسر شعارا لها .
( جـ ) يشير حفيف الأجنحة إلى الحشرات ، لذا فهى ترمز إلى كوش كبلاد تشتهر بحشراتها الطائرة ، خاصة وأن الكلمة العبرية هنا استخدمت فى تث 28 : 42 عن الحشرات ( الصرصر )
( د) كلمة sel تعنى " ظلا " ، لذا فهى تشير إلى بلاد قريبة من خط الأستواء حيث يكون الظل مضاعفا ( أو ذات أهمية لشدة الحر )
على أى الأحوال بعث ملك أثيوبيا رسلا خلال سفنه المصنوعة من البردى ، وكان على عجلة ، لأن العدو على الأبواب ويمثل خطرا على العالم كله فى ذلك الحين . لقد عرف الأثيوبيون بقدرتهم على التجسس على مواقع الأعداء وتحركاتهم بواسطة سفنهم الصغيرة السريعة ، لهذا لم يتوان الملك فى التحرك ليدعو يهوذا إلى التحالف ضد خطر أشور المتزايد .
كانت إرسالية الملك هى للتحالف ، لكنها ليست إرسالية سلام ، وإنما إرسالية دعوة للحرب ضد أشور وثورة ضد سنحاريب ، الأمر الذى تترقبه كل الشعوب ، إذ قيل : " يا جميع سكان المسكونة وقاطنى الأرض عندما ترتفع الراية ( راية الحرب ) على الجبال تنظرون ، وعندما يضرب بالبوق تسمعون " إش 18 : 3 .
يقول النبى : " اذهبوا أيها الرسل السريعون إلى أمة طويلة وجرداء ، إلى شعب مخوف منذ كان فصاعدا ، أمة قوة وشدة ودوس قد خرقت الأنهار أرضها " .
يرى البعض أن الوصف هناك ينطبق على الأثيوبيين أو الأشوريين أو الماديين .. لكن الإرسالية كانت موجهة إلى شعب الله الذى دعى " شعب مخوف " ، لأن إلهه مخوف ( خر 23 : 27 ؛ 34 : 10 ، تث 28 : 58 ، يش 2 : 9 ، مز 139 : 14 ) . إنه شعب مخوف منذ كان ، أى منذ بداية نشأته ، إذ خرج من مصر بيد قوية وذراع رفيعة . أما قوله " قد خرقت الأنهار ارضها " إش 18 : 2 فيشير إلى خطورة موقفها ، لأن العدو مزمع أن يهاجمها فيكون كنهر جارف ، ووصفها " أمة طويلة ( ممدودة ) وجرداء ( حادة ) " إش 18 : 2 ، جاء فى الترجمة السبعينية " أمة مسحوقة وممزقة " ... إذ يسحب العدو الشعب كالغنم ويجرونهم إلى السبى فيصيروا مسحولين .
إن كان النبى يطلب من الشعب ألا يقبل إرسالية ملك كوش للتحالف معا ، فما هو موقف الله من هجمات أشور على شعبه ؟
" لأنه هكذا قال لى الرب : إنى أهدأ وأنظر فى مسكنى كالحر الصافى على البقل ، كغيم الندى فى حر الحصاد " إش 18 : 4 .
يبدو كأن الله هادئا ساكنا لا يعبأ بأمورنا ، وقد يترك الله ملك أشور المتجبر يدمر ويهلك ويحطم مدنا حتى يبلغ إلى أبواب أورشليم عندئذ يعلن الله عن دوره الخفى ويرد ملك أشور خائبا محطما كبرياءه وجيشه .
ما ندعوه تركا هو رعاية ، فإن الله ينظر إلينا وسط ضيقتنا فيحول المر إلى حلو يعطى نضوجا للبقول ، أو كغيم فى حر الحصاد يعطى رطوبة وظلا ... من الظاهر آلام ومن الداخل بنيان وراحة !
يرى أيضا فى الضيقات نوعا من " تقليم الأشجار " أى نزع الفروع الزائدة حتى تأتى الشجرة بثمر متكاثر ( إش 18 : 5 ) .
أخيرا بعد أن سمح لسنحاريب بالنصرة على كثير من مدن يهوذا حطمه وحطم جيشه قبل دخولـه أورشليم ، فصارت جثثهم مأكلا للوحوش والطيور الجارحة ( إش 18 : 6 ) ، إذ مات فى يوم واحد 185 ألفا من جيش سنحاريب .
( 2 ) كوش تقدم هدية لله
إن كانت كوش أو مصر أو غيرهما من الأمم يحسبون أنهم قادرون على حماية شعب الله من أشور فستكشف الأمم جميعا أنها فى حاجة إلى الخارج من سبط يهوذا لكى يحميهم من إبليس وكل أعماله الشريرة ، فتأتى الأمم التى كانت مضروبة بالتشامخ فى خضوع لتقدم هدية لرب الجنود ( إش 18 : 7 ) فى جبل صهيون ، أى فى كنيسته .
رأى إشعياء النبى أعدادا بلا حصر من الملوك والرؤساء ةالعظماء يأتون إلى أورشليم يسجدون للملك الحقيقى الذى لم يحمل على رأسه إكليلا زمنيا بل إكليل شوك . رأى المؤمنين كملوك روحيين يخضعون لملك الملوك رب المجد يسوع الخارج من سبط يهوذا .
+ +
إشعيــــــاء - الإصحاح التاسع عشر
مبارك شعبى مصر
مبــــارك شعبـــى مصـــــر
فى الإصحاح السابق حث النبى ملك كوش ومصر على تقديم هدية لرب الجنود فى جبل صهيون عوض أن يبعث برسله طالبا التحالف مع شعب الله ضد أشور ، أما فى هذا الإصحاح فيقدم إشعيا النبى وحيا من جهة مصر .. بكونها تمثل بفرعونها عنف العالم وقسوته ، وبخصوبة أرضها إغراءات العالم وترفه ، وبأوثانها وهياكلها الإتكال على الحكمة البشرية والقدرات الإنسانية .. لقد رأى النبى الرب نفسه قادما إلى مصر محمولا على يدى القديسة مريم ، السحابة البيضاء الخفيفة السريعة ، يأتى فى طفولته ليحطم ببساطته أوثانها وحكماءها وسحرتها .. وليقيم مذبحا له فى وسطها .. وعمودا عند تخومها .. نبوة صريحة عما حدث بخصوص العائلة المقدسة وأيضا عن إقامة الكنيسة المسيحية الحية فى مصر كشعب مبارك للرب .
( 1 ) هروب العائلة المقدسة :
لا نجد بلدا يتحدث عنه الكتاب المقدس مثل مصر وذلك بعد كنعان ، والسبب فى ذلك أن إسرائيل كأمة وكشعب أقامت فى مصر ، وعاش اليهود هناك حوالى 400 سنة وأخيرا خرجوا بذراع رفيعة . بخروجهم خلال دم الحملان صاروا رمزا للعالم كله المتحرر من عبودية إبليس خلال دم المسيح الذبيح الفريد ، صارت مصر تمثل قوة العالم بصفة عامة وبيت العبودية الذى يخلص شعبه منه .
افتتح إشعياء نبوته عن مصر بصورة تخص مصر ، قائلا : " هوذا الرب راكب على سحابة سريعة وقادم إلى مصر فترتجف أوثان مصر من وجهه ويذوب قلب مصر داخلها " إ ش 19 : 1
يرى القديس كيرلس الكبير : أن السحابة الخفيفة السريعة هى القديسة العذراء مريم التى قدسها روح الرب فصارت خفيفة ومرتفعة تحمل رب المجد يسوع لتهرب به إلى مصر من وجه هيرودس ( مت 2 : 13 – 15 ) .. بدخولـه ارتجفت الأوثان واهتزت العبادة الوثنية ، وذاب قلب المصريين حبا ليقبلوه ساكنا فيهم ؛ لهذا تسبح الكنيسة فى عيد دخول السيد المسيح مصر ، قائلة : [ افرحى وتهللى يامصر مع بنيها وكل تخومها ، لأنه قد أتى إليك محب البشر ، الكائن قبل كل الدهور ] .
إن كانت مصر قد مثلت العالم الوثنى القديم فى عنفه ورجاساته ولكنها أيضا كانت ملجأ للكثيرين : جاء إليها أبونا إبراهيم ( تك 12 : 10 ) ، واستقبلت يوسف المضطهد من إخوته ليصير الرجل الثانى بعد فرعون ، وإليها جاء ابونا غبراهيم وبنوه حيث بدأت نواة الشعب العبرانى .. شعب الله المختار .. والأسباط الأثنى عشر فى داخلها .. وظهر أول قائد لهم هو موسى العظيم فى الأنبياء يسنده أول رئيس كهنة . وجاء أرميا النبى ( إر 43 ) . أما مجىء المسيح له المجد إلى أرضنا فقد أقام كنيسته فيها تصطبغ بروح البركة الربانية .
تحولت مصر من كونها أكبر معقل للوثنية إلى أعظم مركز للفكر المسيحى والعبادة الروحية والحياة الإنجيلية فى فترة وجيزة .. تلألأ نجم كنيسة مصر بمدرسة السكندرية معلمة اللاهوت وتفسير الكتاب المقدس للعالم المسيحى الأول . وقائدة حركة الدفاع عن الإيمان المستقيم على مستوى مسكونى .. ومن مصر انطلقت حركة الرهبنة المسيحية بكل صورها لتسحب قلب الكنيسة إلى البرية ، فتمارس الحياة الداخلية الملائكية ..
وقدمت مصر أعدادا بلا حصر من الشهداء والمعترفين ، تسابق الكثيرون على نوال أكاليل الأستشهاد بفرح وبهجة قلب .
جاء السيد المسيح إلى مصر ليضع حجر أساس الكرازة المرقسية قبل مجىء مارمرقس بسنين .
وليعلن للعالم أن مصر هى البلد الوحيد المؤهلة لحفظ الإيمان المستقيم فى العالم : " ... وعلى هذه الصخرة أبنى كنيسنى وأبواب الجحيم لن تقوى عليها " .
وتاريخ مصر القديم والحديث شاهد على ذلك ، كل من يحاول أن يمد يده بالإساءة إلى الكنيسة فى مصر يتحطم ويذهب ، وتبقى كنيستنا قوية وشامخة بفاديها .. " من له أذنان للسمع فليسمع " .
( 2 ) تأديب مصر
هروب العائلة المقدسة إلى مصر وإقامة مذبح للرب هناك لا يعنى التغطية على شرورها ، وإنما على العكس كشف الرب عن ضعفاتها وجراحاتها الروحية حتى ينزع عنها كل ضعف ( مملكة الشر ) ويقيم ما هو جديد ( ملكوت الله ) .
مجىء الرب إليها يعنى هدم أوثانها وإزالة رجاساتها لأجل تقديس شعبها .
لقد أبرز ثمار الرجاسات القديمة ، ألا وهى :
أولا : قيام حروب أهلية ، : " وأهيج مصريين على مصريين فيحاربون كل واحد أخاه وكل واحد صاحبه مدينة مدينة ومملكة مملكة ، وتهراق روح مصر " إ ش 19 : 2 ، 3 .
هذه ثمرة طبيعية لأعتزالها الله واهب السلام الداخلى والحب والوحدة . تحدث حروب على مستوى الأشخاص حتى بين الأصدقاء وعلى مستوى المدن والممالك
[ وجدت مملكة فى مصر العليا وأخرى فى مصر السفلى ] ، الشر يحطم النفس الداخلية ويدخل بها إلى حالة يأس وإحباط .
ثانيا : فقدان الحكمة الحقيقية ، فقد عرف المصريون كشعب ذكى جدا ، وموسى النبى تهذب بكل حكمة المصريين ( أع 7 : 20 ) ، لكن اعتزالهم الله أفقدهم كل شىء فلجأوا إلى الأوثان يطلبون المشورة : " وأفنى مشورتها ، فيسألون الأوثان والعرفين وأصحاب التوابع والعرافين " إش 19 : 3 .
ثالثا : المعاناة من حكام عتاة ( إش 19 : 4 ) .. يميلون إلى التسلط والسيطرة لا إلى خدمة الشعب وبنيان البلد .
عندما يتقسى قلبنا الداخلى نحو الغير لا نتوقع إلا أن يكال لنا من ذات الكيل الذى به نكيل للغير .. لذا يسمح لنا أن نسقط تحت قيادات عنيفة .
رابعا : المعاناة من حالة جفاف : " وتنشف المياة من البحر ويجف النهر وييبس ، وتنتن الأنهار وتضعف وتجف سواقى مصر ويتلف القصب والأسل ... والصيادون يئنون وكل الذين يلقون شصا فى النيل ينوحون .. ويخزى الذين يعملون الكتان الممشط والذين يحيكون الأنسجة البيضاء ، وتكون عمدها مسحوقة وكل العاملين بالأجرة مكتئبى النفس " إش 19 : 5 – 10
كأن الشر يحمل ثمره المر حتى فى حياة الإنسان اليومية واحتياجاته الضرورية ، إذ يجف نهر النيل ، فتنهار جميع الفوائد المستفادة منه كالزرع والشرب والصيد .... إلخ
خامسا : فقدان الحكماء والمشيرين ، فلا يعانى الإنسان فقط من حالة حرمان مادى ، وإنما من معينين حكماء يسندونه وسط ضيقه . لذا قيل : " إن رؤساء صوعن أغبياء ، حكماء مشيرى فرعون مشورتهم بهيمية . كيف تقولون لفرعون أنا ابن حكماء ابن ملوك قدماء ، فأين هم حكماؤك فليخبروك ليعرفوا ماذا قضى به رب الجنود على مصر " إش 19 : 11 ، 12 .
عوض الحكمة التى عرفت بها مصر حلت الغباوة حتى فى صوعن ، عاصمة شمال مصر القديمة ، لقد قيل : " وفاقت حكمة سليمان حكمة جميع بنى المشرق وكل حكمة مصر " 1 مل 4 : 30 ... لكن هذه الحكمة تزول باعتزال الإنسان إلهه مصدر الحكمة ، لذا يقدم الحكماء مشيرو فرعون مشورة بهيمية ، أى أفكارا جسدانية ( 1 كو 2 ) .
" رؤساء نوف انخدعوا وأضل مصر وجوه أسباطها " إش 19 : 13 . هذه كارثة مصر أنها قبلت الضلالة على أنها حكمة ، فقد انخدع رؤساء عاصمة مصر العليا ( جنوبى الصعيد ) منوف ( ممفيس ) بواسطة الحكماء الشرفاء ، الذين يقابلون الأنبياء الكذبة المنافقين الذين كثيرا ما تحدث عنهم إرميا النبى .
سادسا : فقدان الوعى والدخول فى حالة سكر ؛ " مزج الرب فى وسطها روح غى فأضلوا مصر فى كل عملها كترنح السكران فى قيئه " إش 19 : 14 .
لما كانت الخطية مسكرة تفقد الإنسان وعيه وهدفه فى الحياة لهذا متى شرب كأسها يسمح الله أن يحل به روح الضلال ليترنح كالسكران بلا هدف .
سابعا : الإرتباك بحالة من الخوف : " فى ذلك اليوم تكون مصر كالنساء فترتعد وترتجف من هزة يد الجنود الذى يقضى به عليها " إش 19 : 16 . فرعون الذى يحسب نفسه منقذا لإسرائيل ويهوذا من يد أشور فى عجرفة وكبرياء يرتعب هو ورجاله ويصيرون كالنساء أمام رب الجنود وأمام يهوذا ( إش 19 : 17 ) .
كأن الرب يشجع يهوذا ألا يرلعب من كلمات فرعون ولا يدخل معه فى تحالف كما فعل إسرائيل وآرام ، فإن فرعون نفسه يرتعب لا أمام أشور بل أمام يهوذا نفسه .
( 3 ) إقامة مذبح للرب
بعد أن كشف الله عن جراحات مصر وما فعلته الخطية بها من فقدان للوحدة الداخلية والحكمة الحقة مع معاناة من قسوة الحاكم وقسوة الطبيعة ( الجفاف ) وارتباك فى إقتصادياتها ( الزراعة والصناعة ) وعجز فى الطاقات البشرية القيادية بل ودخول فى حالة من اللاوعى والسكر مع الخوف والأرتباك حتى أمام يهوذا المملكة الصغيرة ، فإن الله يتدخل ليشفى جراحاتها ويخلصها ، مقدما لها البركات التالية :
( أ ) لغة جديدة : " فى ذلك اليوم يكون فى أرض مصر خمس مدن تتكلم بلغة كنعان وتحلف لرب الجنود يقال لأحداها مدينة الشمس " إش 19 : 18 ..
ما هذه المدن الخمسة إلا حواس المؤمن ؛ فإذ يقبل الأمم على الإيمان بالسيد المسيح يسلمون الحواس الخمس فى يديه لتقديسها لتتكلم بلغة الروح عوض لغة الجسد ، فيقال لها كما قيل لبطرس الرسول : " لغتك تظهرك " مت 26 : 73 ، مر 14 : 70 .
يرتفع قلب المؤمن إلى كنعان السماوية ، نشارك السمائيين ليتورجياتهم وفرحهم الدائم ، ولا نكون شعبا " غامض اللغة " حز 3 : 5 .
( ب ) القسم باسم رب الجنود ؛ ماذا يعنى : " تحلف لرب الجنود " إش 19 : 18 ؟
كان القسم دليل الثقة والإيمان بمن يقسم الإنسان بإسمه ، فعوض القسم بالآلهة الوثنية يقبل الأمم – وعلى رأسهم مصر – الإيمان برب الجنود ويتمسك المصريون بإسمه ، حاسبين ذلك سر قوتهم .
( جـ ) دعوة إحدى المدن " مدينة الشـــمس " إ ش 19 : 18 ، يقصـــــد بهــا : " هليوبوليس " التى كانت مركزا لعبادة الشمس ، فقد تحولت عن العبادة للشمس المادية إلى العبادة لشمس البر الذى يشرق على الجالسين فى الظلمة .
جاءت فى الترجمة السبعينية " المدينة البارة " إذ تحمل بر المسيح فيها .
( د ) إقامة مذبح للرب : " فى ذلك الوقت يكون مذبح للرب فى وسط أرض مصر وعمود للرب عند تخمها " إش 19 : 19 .. يقصد بها مذابح كنيسة العهد الجديد ، إذ كان مذبح العهد القديم فى أورشليم ولا يجوز تقديم ذبائح للرب خارجها . لقد عبرت العائلة المقدسة إلى صعيد مصر واختفت حوالى ستة شهور فى الموضع الذى أقيم عليه الآن دير العذراء الشهير بالمحرق ، وهو يعتبر فى وسط مصر ، فيه أقيم كنيسة للرب وتقدم عليه ذبيحة الأفخارستيا ، التى هى تمتع بذبيحة الصليب عينها .
أما العمود الذى فى تخمها فهو القديس مارمرقس الرسول الذى جاء إلى الأسكندرية ( على تخم مصر ) يكرز بلإنجيل ، ويقيم مذبح كنيسة العهد الجديد ، لكى يتمتع المصريون بالخلاص من عدو الخير مضايقهم ، ويكون الرب نفسه محاميا وشفيعا ومنقذا لهم ( إش 19 : 20 ) .
( هـ ) المعرفة الروحية : " فيعرف الرب فى مصر ، ويعرف المصريون الرب فى ذلك اليوم " إش 19 : 21 . اهتم المصريون بالمعرفة الروحية ، وأقيمت مدرسة الأسكندرية لهذه الغاية ، نشر معرفة الرب لا خلال أفكار عقلانية مجردة ، وإنما خلال حياة تعبدية نسكية وخبرة شركة مع الله الآب فى إبنه يسوع المسيح بروحه القدوس .
امتزجت المعرفة بالعبادة ، إذ يكمل النبى : " ويقدون ذبيحة وتقدمة وينذرون للرب نذرا ويوفون به " إش 19 : 21 .
( و ) شفاء داخلى : " ويضرب الرب مصر ضاربا فشافيا فيرجعون إلى الرب فيستجيب لهم ويشفيهم " إش 19 : 22
يسمح الله بضربها أى بتأديبها عن الضعف الذى فيها لكى تكتشف ذاتها وتدرك حاجتها إلى المخلص ، فترجع إليه لتجده الطبيب القادر وحده أن يشفى جراحات النفس ويرد لها سلامها ... جاء مسيحنا طبيبا ودواء فى نفس الوقت :
+ مبارك هو " الطبيب الذى نزل وبتر بغير ألم ، شفى جراحاتنا بداء غير مرير ، فقد أظهر إبنه " دواء " يشفى الخطاة ! ( القديس مار آفرام السريانى ) .
( ز ) إذ كان الصراع العالمى فى ذلك الحين قائم بين أشور ومصر ، وكانت الدول الأخرى من بينها إسرائيل ضحية هذا الصراع ، فإن مجىء رب المجد يسوع يعطى للكل سلاما ، ويشعر الكل – فى المسيح يسوع – أن الأرض للرب ولمسيحه ، وليست مركزا للنزاع ، ويشترك الكل معا فى العبادة .
فى تصوير رائع لهذا السلام يقول النبى : " فى ذلك اليوم تكون سكة من مصر إلى أشور فيجىء الأشوريون إلى مصر والمصريون إلى أشور ، ويعبد المصريون مع الأشوريون . فى ذلك اليوم يكون إسرائيل ثلثا لمصر ولأشور بركة فى الأرض ، بها يبارك رب الجنود قائلا :
مبارك شعبى مصر وعمل يدى أشور وميراثى إسرائيل " ( إش 19 : 24 )
ماذا يعنى " فى ذلك اليوم " التى تكررت حوالى خمس مرات فى الأعداد 18 – 25 ، إلا ملء الزمان الذى فيه جاء السيد المسيح ليحقق لنا هذه البركات ، جاء بكونه " الطريق " الذى فيه تجتمع الأمم لتتمتع برح الوحدة الروحية وفيض البركة .
ماذا يعنى اجتماع مصر وأشور وإسرائيل معا فى التمتع بالبركة الإلهية والميراث الأبدى ؟ إنها صورة رمزية للكنيسة الجامعة التى ضمت الأعداء معا بروح الحب والوحدة . لقد كانت اسرائيل فى ذلك الحين فى صراع بين التحالف مع مصر أو أشور القوتين العالميتين المتضادتين فى ذلك الحين . لكن مجىء السيد المسيح عالج المشكلة إذ صار الكل أعضاء فى كنيسة واحدة تتمتع بالعمل الإلهى ، فدعى المصريون شعب الله ، وأشور عمل يدية ، وإسرائيل ميراثه .
+ + +
إشعياء – الإصحاح العشرون
خضوع مصر لآشور
فى الوقت الذى فيه يعلن الله عن خطته من جهة مصر بل ومن جهة كل الأمم ممثلة فى مصر أنه يقيم مملكته الروحية فى وسطها ويهبها بركته يعود فيؤكد لبنى يهوذا أنه يجب ألا يتكلوا على مصر لحمايتهم من أشور فإن مصر نفسها ( وكوش ) يسبيها أشور ، حتى لا يثقوا فى الأذرع البشرية .
( 1 ) سبى مصر وكوش
كان بعض النقاد يظنون أن سرجون ملك أشور الذى أرسل ترتان إلى أشدود هو شلمناصر أو سنحاريب . بينما أنكر البعض وجود ملك بهذا الإسم فى أشور ، لكن كما يقول أحد الآباء أن الله جعل الحجارة تنطق ليخجل غير المؤمنين ، فقد عرف اليوم أن سرجون من أقوى ملوك أشور . وأنه هو أب سنحاريب ، اغتصب العرش من شلمناصر الخامس وخلفه .
كلمة " سرجون " ليس إسم شخص وإنما فى الغالب كان لقبا خاصا بقيادة الجيش .
أرسل سرجون رئيس جيشه إلى أشدود قاصدا سوا ملك مصر ( 2 مل 17 : 4 ) ، إذ تعتبر أشدود التى على حدود الفلسطينيين مفتاحا للدخول إلى مصر .
كشفت الدراسات الحديثة أن سوا ليس اسما لفرعون ، وإنما هو اختصار لإسم قائد كتيبة فى الدلتا يدعى Sibe ، أو هو اختصار لأسم مدينة فى غرب الدلتا تسمى Sais استخدمها تافنخت لأقامته .
إذ هزم أشور آرام وافرايم حان الوقت لضرب فرعون ، لذا أرسل الملك قائده إلى اشدود فافتتحها ، وهو نفس القائد الذى استخدمه سنحاريب فى حصار أورشليم .
أراد الله أن يحرك مشاعر شعبه ويغير قلوبهم ويؤنبهم على اتكالهم على مصر وكوش لذا طلب من نبيه أن يمشى أمام الشعب عريانا حافى القدمين لمدة ثلاث سنوات ليكون هو نفسه نبوة عما سيحل بمصر وكوش حين يسبيهما أشور ويقود عظمائهما للسبى عبيدا عراة حفاة الأقدام ومكشوفى الأستاه . صار إشعياء نفسه آية وأعجوبة ( إش 20 : 3 ) يستهزىء به كل ناظريه من أجل ما حل به ، وذلك لأجل خلاص شعبه ومنعهم من الإتكال على فرعون مصر .
كان إشعياء فى آلامه وعريه يحمل ظلا لآلام السيد المسيح الذى احتمل العرى لكى يسترنا ببره ، حمل جراحات شعبه فى جسده لكى يشفينا . سار إشعياء كعبد لا يرتدى الثوب الخارجى ولا ينتعل حذاء صورة لسيده الذى صار كعبد ( فى 2 : 7 ) لكى يحررنا من نير العبودية .
( 2 ) انهيار يهوذا
إذ يخضع فرعون لأشور يرتعب بنو يهوذا ، ويتحطم رجاؤهم وتذل مصر فخرهم ، قائلين : " هوذا هكذا ملجأنا الذى هربنا إليه للمعونة لننجو من ملك أشور فكيف نسلم نحن ؟! " إش 20 : 6 .
هذه هى نهاية كل من يتكل على ذراع بشرى !
================================================== =======
تم في 4-9-2006
HUNTER: الأخ
الله محبة