على مدى شهر كامل، هل بقي أحد لم يتابع المُنديال؟ أعلام الدول في الشوارع وعلى السيارات وفوق السطوح، والتجمعات حول التلفاز في التاسعة والنصف كل مساء. وتبدأ الجوجلات والغربلات. منتخبات تتهاوى وأخرى تتألق. وتشتدّ الرهانات على آخِر ثمانية فأربعة فاثنين فبطل الكأس. وتفوز إسبانيا، وينتهي كل شيء، أو بالحري لا ينتهي شيء، فعرس الانتصار لا يزال يعمّ إسبانيا ليل نهار حتى اليوم، ومثله في هولندة. وحتى الأوروغواي وإلى حدٍّ ما ألمانيا. وماذا بعد؟
التعليقات والمواقف متباينة. فهناك قنوات كانت تحرّم وتكفّر المنظّم واللاعب والمُشاهد، وهناك من يعرض الخبر دون تعليق. أما الغالبية الساحقة من وسائل الإعلام المقروءة والمسموعة والمرئية، بالإضافة إلى الإنترنت، فكادت المُنديال تكون شغلها وهمّها الوحيد. وكنتَ تعجب لرؤية مئات الملايين من البشر يتسمّرون الساعات الطويلة، يتابعون بعيونهم وأعصابهم كرة صغيرة، تتققاذفها أقدامٌ بارعة التصويب. هي ولا شك ظاهرة من أروع ظواهر العولمة المعاصرة. ولكن هل هم كثيرون اولئك الذين يتخطون الظاهرة ليطرحوا أيّ سؤال يتجاوزها؟
أدعو قارئي العزيز إلى مثل هذه المغامرة. وليبدأ بشدّ الحزام. فهل وعى مُتابِعُ كرةِ المُنديال، وهو جالس أمام التلفاز، يظنّ نفسه مستقرا ثابتًا على مقعده الوثير المُريح، هل وعى أنه، في تلك اللحظات عينها، كانت الأرض تدور به في الفضاء، بسرعةٍ تساوي أضعافَ أضعافِ سرعة الطابة التي يحاول متابعتها بين أقدام اللاعبين؟ وهذه الأرض الفسيحة (والعلماء يسمّونها كوكب الأرض) إنما تدور حول نفسها، وأيضا حول ما نسمّيه الشمس، التي تكبر الأرضَ مليون مرة، وتستنفد من الطاقة 600 مليون طن من الهيدروجين في الثانية، وستستمرّ على ذلك لخمسة مليارات من السنين، ثم تنطفئ...الشمس في لغة الفلكيين تسمّى نجمًا. والكون الفضائي المعروف اليوم (وهو كلَ يوم على امتدادٍ واتساعٍ غيرِ متناهٍ) يشمل، في عرفهم، أكثر من 300 مليار شمس أو نجم، لكل منها منظومته الخاصة من كواكبَ سيّارةٍ وأقمار وكويكبات... ولو أردنا، يقول هؤلاء العلماء، جَمْع هذا الكون المعروف الآن عندهم، لو أردنا جَمْعَه في كرَةٍ واحدة، لكان قطرها بحدود 28 مليار سنة ضوئية (والسنة الضوئية تساوي في حساباتهم 10 آلاف مليار من الكيلومترات)، وفيها 15 تريليار شمس أو نجم، لكل منها منظومته (والتريليار هو أن تضع الرقم 1 وتسبقه الى اليمين ب21 صِفرًا).
هل "دُخْتَ" يا قارئي أم لا تزال صاحيًا؟ وأين أصبحَت كرةُ المُنديال؟ ألا تزال تراها بين أقدام اللاعبين أم قد اختفَت؟ وهل بينهم مَن لا يزال يستحق أن تراهنَ عليه؟ ولكنْ كل ذلك في الخارج، فماذا لو تعود إلى داخلك وترى؟ أنت تراقب على الشاشة، ولكن هل توقفتَ على ما يجري في داخلك، وأنتَ تراقب الخارج؟ إذَن تمسّكْ جيدا بمقعدك، وأوثِق شدَّ الحزام.
في جسمك يا أخي أكثر من 100 ألف مليار خليّة، تعمل كلها معًا لتعيش أنتَ بضع عشرات من السنين. وهناك مئات من أنواع الخلايا، لكل وظيفته، ومكانه في الجسم، ومدى ما قدِّرَ له أن يعيش. وكلها تتواصل في ما بينها، وتعمل معا في اتفاق عجيب؟ هل أحدّثك عن جهاز الهضم أو التنفس، أم عن عمل القلب والدورة الدموية، أم عن الأذن أو العين، أم عن الكلى أو الغدد؟ ولكن دعني أدخل معك إلى غرفة المراقبة، المسؤولة عن العمل كله، إلى ذلك الصندوق العجيب الغريب، إلى الرأس وما فيه من تلافيف الدماغ ودهاليز تشعباته. تشجّعْ ولا تخَف. قد يعتريك الذهول كما اعتراني، ويخامرك الشك كما خامرني. ولكن ثِق، فما أقوله ليس مني، إذ لستُ ذا اختصاص فيه، ولكنه قول العلماء العارفين، ومراجعه ثابتة وموثّقة عندي.
في دماغك يا عزيزي أكثر من 100 مليار خلية، تتصل كل منها بآلاف الخلايا، وبعضها بمئتين وخمسين ألف خلية معا (تصوّرْ نفسك في 250,000 اتصال هاتفي في آن واحد) لتوزيع الأوامر والنواهي... هذا الدماغ، والقول للعلماء لا لي، ولك أن تصدّق أو لا تصدّق، أما أنا فصدّقتُ وإن لم أفهم كل شيء، هذا الدماغ، يقولون، يُجري، باتصالات خلاياه، أكثر من 20 مليون عملية في الثانية، أي أنه أسرع من أسرع حاسوب معروف إلى الآن بملايين المرات...فهل بغير هذا يمكن أن نفهم كيف يتعامل لاعب المُنديال مع الكرة، فيتابعها بكسور الأعشار من الثانية نظرًا وتحرّكًا، ليدرس وينفذ توجيه الفكرة إلى الساق فالقدم، لتصويب الضربة وحسن تسديدها وتحديد سرعتها، لتردّ الكرة عن الهدف أو لتستقرّ فيه...
الذين أفتوا بتحريمِ وتكفير اللعبة ومنظميها ولاعبيها ومشاهديها، نحترمهم ولكنا لا نشاركهم الرأي. والذين سحرتهم اللعبة فتسمّروا شهرًا أمامها لا يرون غير تقاذُف الكرة ورَكلها، هؤلاء يستحقون الشفقة، لأن أفكارهم وقلوبهم لم تَسْمُ بهم الى ما فوق الأقدام والسيقان. اما الذين عرفوا أن يقرأوا ما وراء الظاهر، فلم تضِع الكرة عندهم ولا اختفت في اللامتناهيات من الفضاء، بل بقيت لها قيمتها كاملة رغم صغرها اللامتناهي، فغدت اللعبة عندهم ترنيمة شكر وتسبحة صلاة، ونشيد عبادة لخالق المسافات الفضائية اللامتناهية في العالَم الأكبر المسمّى الماكروكوزموس، كما لخالق الخلايا اللامتناهية في الصِغَر، في العالَم الأصغر المسمّى الميكوكوزموس... هؤلاء والحمد لله كثيرون، وإن في الغالب جهلوا أنفسهم. أليس بلسانهم يقول أينشتاين، وإن جهل بعضهم حتى اسمه ومن هو: هناك لحظات يشعر فيها المرء أنه تحرّر من محدوديته ونقصه البشري. عندئذ يرى الإنسان نفسه صغيرًا في زاوية صغيرة جدا من كوكبٍ غايةٍ في الصِغَر(أليس ذلك مثل كرة المُنديال؟)، ينظر في دهشةٍ وذهول إلى كائنٍ أزلي أبدي لا يُدرَك. هناك لا تطورٌ ولا قدَر، هناك فقط "الكائن" الواجب الوجود. هل هو العالِم يتكلم، أم الشاعرالصوفيّ، المترنم بعظمة الخالق؟ وإن شئتَ يا قارئي العزيز أن تبقى في أجواء التسبيح والعبادة، فإني انصح لك أن تتأمل مثلا في سفر أيوب (38-41) أو سفر المزامير (103-104/102-103 أو 148)، وملخصها: "ما أعظمَ أعمالك يا رب، لقد صنعتَ جميعها بالحكمة!".
التعليقات والمواقف متباينة. فهناك قنوات كانت تحرّم وتكفّر المنظّم واللاعب والمُشاهد، وهناك من يعرض الخبر دون تعليق. أما الغالبية الساحقة من وسائل الإعلام المقروءة والمسموعة والمرئية، بالإضافة إلى الإنترنت، فكادت المُنديال تكون شغلها وهمّها الوحيد. وكنتَ تعجب لرؤية مئات الملايين من البشر يتسمّرون الساعات الطويلة، يتابعون بعيونهم وأعصابهم كرة صغيرة، تتققاذفها أقدامٌ بارعة التصويب. هي ولا شك ظاهرة من أروع ظواهر العولمة المعاصرة. ولكن هل هم كثيرون اولئك الذين يتخطون الظاهرة ليطرحوا أيّ سؤال يتجاوزها؟
أدعو قارئي العزيز إلى مثل هذه المغامرة. وليبدأ بشدّ الحزام. فهل وعى مُتابِعُ كرةِ المُنديال، وهو جالس أمام التلفاز، يظنّ نفسه مستقرا ثابتًا على مقعده الوثير المُريح، هل وعى أنه، في تلك اللحظات عينها، كانت الأرض تدور به في الفضاء، بسرعةٍ تساوي أضعافَ أضعافِ سرعة الطابة التي يحاول متابعتها بين أقدام اللاعبين؟ وهذه الأرض الفسيحة (والعلماء يسمّونها كوكب الأرض) إنما تدور حول نفسها، وأيضا حول ما نسمّيه الشمس، التي تكبر الأرضَ مليون مرة، وتستنفد من الطاقة 600 مليون طن من الهيدروجين في الثانية، وستستمرّ على ذلك لخمسة مليارات من السنين، ثم تنطفئ...الشمس في لغة الفلكيين تسمّى نجمًا. والكون الفضائي المعروف اليوم (وهو كلَ يوم على امتدادٍ واتساعٍ غيرِ متناهٍ) يشمل، في عرفهم، أكثر من 300 مليار شمس أو نجم، لكل منها منظومته الخاصة من كواكبَ سيّارةٍ وأقمار وكويكبات... ولو أردنا، يقول هؤلاء العلماء، جَمْع هذا الكون المعروف الآن عندهم، لو أردنا جَمْعَه في كرَةٍ واحدة، لكان قطرها بحدود 28 مليار سنة ضوئية (والسنة الضوئية تساوي في حساباتهم 10 آلاف مليار من الكيلومترات)، وفيها 15 تريليار شمس أو نجم، لكل منها منظومته (والتريليار هو أن تضع الرقم 1 وتسبقه الى اليمين ب21 صِفرًا).
هل "دُخْتَ" يا قارئي أم لا تزال صاحيًا؟ وأين أصبحَت كرةُ المُنديال؟ ألا تزال تراها بين أقدام اللاعبين أم قد اختفَت؟ وهل بينهم مَن لا يزال يستحق أن تراهنَ عليه؟ ولكنْ كل ذلك في الخارج، فماذا لو تعود إلى داخلك وترى؟ أنت تراقب على الشاشة، ولكن هل توقفتَ على ما يجري في داخلك، وأنتَ تراقب الخارج؟ إذَن تمسّكْ جيدا بمقعدك، وأوثِق شدَّ الحزام.
في جسمك يا أخي أكثر من 100 ألف مليار خليّة، تعمل كلها معًا لتعيش أنتَ بضع عشرات من السنين. وهناك مئات من أنواع الخلايا، لكل وظيفته، ومكانه في الجسم، ومدى ما قدِّرَ له أن يعيش. وكلها تتواصل في ما بينها، وتعمل معا في اتفاق عجيب؟ هل أحدّثك عن جهاز الهضم أو التنفس، أم عن عمل القلب والدورة الدموية، أم عن الأذن أو العين، أم عن الكلى أو الغدد؟ ولكن دعني أدخل معك إلى غرفة المراقبة، المسؤولة عن العمل كله، إلى ذلك الصندوق العجيب الغريب، إلى الرأس وما فيه من تلافيف الدماغ ودهاليز تشعباته. تشجّعْ ولا تخَف. قد يعتريك الذهول كما اعتراني، ويخامرك الشك كما خامرني. ولكن ثِق، فما أقوله ليس مني، إذ لستُ ذا اختصاص فيه، ولكنه قول العلماء العارفين، ومراجعه ثابتة وموثّقة عندي.
في دماغك يا عزيزي أكثر من 100 مليار خلية، تتصل كل منها بآلاف الخلايا، وبعضها بمئتين وخمسين ألف خلية معا (تصوّرْ نفسك في 250,000 اتصال هاتفي في آن واحد) لتوزيع الأوامر والنواهي... هذا الدماغ، والقول للعلماء لا لي، ولك أن تصدّق أو لا تصدّق، أما أنا فصدّقتُ وإن لم أفهم كل شيء، هذا الدماغ، يقولون، يُجري، باتصالات خلاياه، أكثر من 20 مليون عملية في الثانية، أي أنه أسرع من أسرع حاسوب معروف إلى الآن بملايين المرات...فهل بغير هذا يمكن أن نفهم كيف يتعامل لاعب المُنديال مع الكرة، فيتابعها بكسور الأعشار من الثانية نظرًا وتحرّكًا، ليدرس وينفذ توجيه الفكرة إلى الساق فالقدم، لتصويب الضربة وحسن تسديدها وتحديد سرعتها، لتردّ الكرة عن الهدف أو لتستقرّ فيه...
الذين أفتوا بتحريمِ وتكفير اللعبة ومنظميها ولاعبيها ومشاهديها، نحترمهم ولكنا لا نشاركهم الرأي. والذين سحرتهم اللعبة فتسمّروا شهرًا أمامها لا يرون غير تقاذُف الكرة ورَكلها، هؤلاء يستحقون الشفقة، لأن أفكارهم وقلوبهم لم تَسْمُ بهم الى ما فوق الأقدام والسيقان. اما الذين عرفوا أن يقرأوا ما وراء الظاهر، فلم تضِع الكرة عندهم ولا اختفت في اللامتناهيات من الفضاء، بل بقيت لها قيمتها كاملة رغم صغرها اللامتناهي، فغدت اللعبة عندهم ترنيمة شكر وتسبحة صلاة، ونشيد عبادة لخالق المسافات الفضائية اللامتناهية في العالَم الأكبر المسمّى الماكروكوزموس، كما لخالق الخلايا اللامتناهية في الصِغَر، في العالَم الأصغر المسمّى الميكوكوزموس... هؤلاء والحمد لله كثيرون، وإن في الغالب جهلوا أنفسهم. أليس بلسانهم يقول أينشتاين، وإن جهل بعضهم حتى اسمه ومن هو: هناك لحظات يشعر فيها المرء أنه تحرّر من محدوديته ونقصه البشري. عندئذ يرى الإنسان نفسه صغيرًا في زاوية صغيرة جدا من كوكبٍ غايةٍ في الصِغَر(أليس ذلك مثل كرة المُنديال؟)، ينظر في دهشةٍ وذهول إلى كائنٍ أزلي أبدي لا يُدرَك. هناك لا تطورٌ ولا قدَر، هناك فقط "الكائن" الواجب الوجود. هل هو العالِم يتكلم، أم الشاعرالصوفيّ، المترنم بعظمة الخالق؟ وإن شئتَ يا قارئي العزيز أن تبقى في أجواء التسبيح والعبادة، فإني انصح لك أن تتأمل مثلا في سفر أيوب (38-41) أو سفر المزامير (103-104/102-103 أو 148)، وملخصها: "ما أعظمَ أعمالك يا رب، لقد صنعتَ جميعها بالحكمة!".
بقلم سيادة المطران بطرس المعلم -المطران السابق لابرشية عكا حيفا الناصرة وسائر الجليل للروم الكاثوليك
Comment