الحياة الرهبانية في الفترة المسيحية الوسيطة
1 ـ مقدمة :
منذ أنْ وجدت المسيحية ظهرت نفوس واعية, جَهِدتْ باستمرار للتقرب إلى الله والاتحاد به بواسطة الاقتداء بفضائله, والتمثل بحياة المسيح من خلال ممارسة وعيش المحبة وخدمة القريب. وهذه الجهود المسيحية الأولى كانت جهوداً شخصية. فكان أنَّ كثيراً من الناس رجالاً ونساء تركوا العالم وما فيه وعاشوا حياتهم في الخلوة, والبعد عن الناس, ساعين في ذلك لتحقيق الكمال. وقد ذكر كتاب أعمال الرسل كيف كان يعيش المسيحيون الأوائل ( أع 2/44 ), وبولس الرسول لمّح في رسالته الأولى إلى الكورنثيين إلى أفضلية العفة، وضرورة القناعـة, وجمال التجرد من المال لأجل خدمة القريب. لكنَّ المسيحية كما نعلم مرّت في القرون الثلاثة الأولى في زمن الاضطهادات حتى صدور مرسوم ميلانو عام 313 م من قبل الإمبراطور قسطنطين والذي أطلق من خلاله حريَّة الإيمان المسيحي , قال أحدهم: "إنَّ الحياة الرهبانية تعززت وانتشرت لما خفت زوبعة الاضطهاد. فهي في الحقيقـة ظهور دائم للاستشهاد". نعم فعند انتهاء المرحلة المسيحية الأولى بكل ما حملته من صعوبات في ممارسة المعتقد المسيحي والتعبير عنه , وجد كثيرون أنَّ الحياة السهلة وحياة الحرية لا تقل عن الأولى حرباً وضراوةً. لذلك فإن البعض يرجع ظهور الرهبنات وحياة التنسك إلى رد الفعل على الحياة المادية التي تبعد الإنسان عن حياة مثالية تصله بالله , عن حياة يكون الإنسان بكليته متجهاً فيها إلى لله.
نجد مما سبق أنَّ حياة النسك والسعي وراء الكمال الرهباني لم تبدأ فعلاً إلا في القرن الرابع مع القديس أنطونيوس الكبير الذي شجع على الحياة الرهبانية الجماعية. ويعود تنظيم الحياة الرهبانية الجماعية إلى القديس باخوميوس (346 م ) الذي سنّ قوانين لتسعة أديار للرهبان ولديرين للراهبات. وكانت كلها في صحراء تيبس فـي مصـر. وكان هؤلاء الرهبان يعيشون في الفقر والعفة والطاعة, ويلتزمون بالعمل اليدوي في الصمت , وبالصلاة المشتركة صباحاً ومساءً وفي الليل , ويأكلون وقعتين في النهار ويصومون يوماً في الأسبوع. ( 1 )
ـ القديس باسيليوس مصلح الحياة الرهبانية :
من شواطئ النيل انتقلت الحياة الرهبانية إلى الشرق كله, حيث نجد أنها ازدهرت جداً في صحاري فلسطين وجبال سوريا وسهولها, وعلى شواطئ دجلة والفرات في العراق وخصوصاً في الرها, وفي ضواحي إنطاكية وفي أقليم البنطس وكبادوكية. ولكن القديس باسيليوس يعتبر المؤسس الحقيقي للحياة الرهبانية في الشرق والغرب.
" إن القديس باسيليوس في تخطيطه للحياة الرهبانية أراد بعث روح جديدة فيها. ولذلك اتبع نهجاً فلسفياً, متدرجاً استوحاه من تفهمه لحالة الإنسان ومن معرفته لطرق الحياة الرهبانية المختلفة... وإن الراغب في الحياة الرهبانيـة , حسب القديس باسيليوس إنما هو فيلسوف باحث , ومكتشف أصيل لنداء الرب".. (2).. (Hermont:les ascetiques ou traits spirituelsde St.Basile le grand )
ـ الحياة الرهبانية في الغرب :
لقد نقل الحياة الرهبانية إلى الغرب القديس كاسيانوس الذي استقى كثيراً من القديس باسيليوس الكبير. وقد ترجم قوانينه المطولة والمختصرة إلى اللغة اللاتينية. وهذه الترجمة هي التي عرفها القديس بندكتوس فيما بعد.
عملياً ابتدأت الحياة الرهبانية في إيطاليا وأول ما كان ذلك عندما جاء القديس أثناسيوس منفياً إليها سنة 339 م ومعه مجموعة من الرهبان. سنة 382 م نجد في روما مجموعـة مـن الأديار بإدارة القديس إيرونيموس (جيروم). وحتى عام 461م انتشرت الأديار في كافة أنحاء إيطاليا لكلا الجنسين وكانت كلها تتبع قوانين القديس باخوميوس مع التعديلات التي أدخلها عليها القديس كاسيانوس.
ومن إيطاليا انتقلت الحياة الرهبانية إلى بلاد غاليا وإلى إسبانيا وباقي أنحاء أوروبا, ومن ثم انتشرت مع القديس أوغسطينس في شمال أفريقية.
في الغرب يعتبر القديس بندكتوس منظم الحياة الرهبانية بدون منازع الذي عاش من عام 480إلى 567 م. ففي سنة 545 سنَّ قانوناً أخضع له دير سان كاسينو ودير سوبيكو اللذين أسسهما الأول للرجال والثاني للنساء.وما لبثت قوانين القديس بندكتوس أنْ شاعت في الغرب الأوروبي بكامله في عهد البابا غريغوريوس الكبير ( 590 – 604 ) إلى عهد الإمبراطور شارلمان. ( 3 )
2 ـ الحياة العامة في القرن الثالث عشر الميلادي :
قبل بدء الحديث عن الحياة الرهبانية في هذه الفترة لا بد من الحديث عن الحياة الاجتماعية في إيطاليا وما آلت إليه من انحدار وضعف. وحسب المؤرخ شيلانو فإن الأولاد كانوا يربون تربية شنعاء وقد كتب ما يلي: "في أيامنا اعتاد الآباء المسيحيون أن يربوا أطفالهم في الرخاوة والتلذذ منذ المهد. وما يكاد هؤلاء يلجلجون حتى يلقنوهم حتى يلقنوهم أشياء مخجلة وقبيحة. وبعد الإفطام يحثوهم على التلفظ بالكلام البذيء الشهواني وعلى ارتكاب الأعمال الشنيعة. وكان الآباء يرضون عن بنيهم بقدر ما تفسد أخلاقهم. لهذا السبب عندما يترعرعون كانوا يتطوحون في الجرائم بكل قواهم". ( 4 )
أما بالنسبـة لوضع البابويـة والكنيسـة, فلم يكن الحال أفضل. لقد اعتبر الكثيرون أن القرن الثالث عشر "الجيل المسيحي الكبير" والعصر الذي عاش فيه القديس فرنسيس وحبرية البابا إينوشينسوس الثالث والتي تعتبر من أمجد الحبريات في التاريخ. لقد نصر البابا مذهب السيفين. هذا المذهب الذي كان يدعي ويثبت أن الكنيسة، بما أنها تسلمت سلطان السماء والأرض فقد سلطها الله على كل ملوك العالم، ومكنها أن تخلعهم عن عروشهم إذا استحقوا ذلك. لذا لم تكن هناك بلاد لم يفرض البابا إرادته عليها، بدأ من إيطاليا إلى صقلية، إلى ألمانيا، إنكلترا... فرنسا وحدها حاولت أن تقاومه زمن الملك فيليب أغسطس. مع ذلك هذه اللوحة المجيدة للسياسة البابوية كان لها ما يعاكسها، ألا وهو الشكوك والأضاليل التي أحزنت العالم المسيحي. فكثيرون من الأمراء لم يعبأوا بمذهب السيفين ولا بالحرم الذي رشقهم به البابا، بل على العكس حاربوه وعلموا شعوبهم احتقار امتيازاته الروحية. ونقول بشديد الحزن أن الكثيرين من الإكليروس كانوا مشهداً مؤسفاً للبشرية، فكانوا يهتمون باستثمار أموالهم وأملاكهم الواسعة أكثر من اهتمامهم بواجباتهم الكنسية. كانوا يعظون قليلاً ويدرسون أقل. همهم الأكبر أن يتسلطوا ويرتفعوا ويغتنوا ويتمتعوا بكل ثمين ولذيذ.
أما المؤمنون فكانت حالتهم الدينية مماثلة لحالة رعاتهم. وبالاختصار كان الشر هكذا متفاقماً حتى أن البابا إينوشينسيوس ذاته قال : "يجب الحديد والنار لشفائه". ( 5 )
3 ـ الرهبنات المتسوّلة : (Mendiant)
ظهرت هذه الرهبنيات كرد فعل احتجاجي على الغنى التي كانت تتمتع به أديرة الرهبان، والذي كان سبباً لفتور الحياة الرهبانية، وسميت بالرهبنيات المتسوّلة.
كان هدفها الأول الاهتمام بحاجات الشعب الدينية والأدبية، رافضين بذلك تياراً في الرهبانيات القائمة كان يحرص فيه الرهبان على خلاصهم الشخصي.
وكان الطابع المميز لهذه الرهبنيات التنظيم الدقيق حول رئيس واحد، وعيشٍ من حسنات المؤمنين، دون أن يكون لهم دخل ثابت ودائم. ومن أشهر هذه الرهبانيات في هذه الفترة:
أ ـ الرهبانية الفرنسيسكانية : هي من أول الرهبانيات المتسولة، أسسها القديس فرنسيس الأسيزي (1182 – 1226). وقد وجه دعوته إلى الذين يريدون العيشة كرهبانٍ فقراء من شغلهم ومن الحسنات، وإلى الذين يريدون أن يعظوا بكلامهم وبمثلهم، وإلى الذين يريدون خصوصاً أن تكون حياتهم الرهبانية تنديداً بالغنى وتوبيخاً للأغنياء.
ثم كان إصلاح الرهبانية الفرنسيسكانية كلها مع ظهور الرهبانية الكبوشية.
ب ـ الرهبانية الثانية المتسولة هي رهبانية القديس دومنيك (عبد الأحد) (1170 ـ 1226). وقد هدف هذا القديس إزاء تقاعس وكسل الرهبان عن محاربة بدعة ألبيجيوا (Albigois) على تأسيس رهبانية تتخصص لمحاربة البدعة المذكورة وسائر البدع بالمثل وخصوصاً بوعظ الإنجيل بطريقة متواضعة ومتقشفة.
وفي الواقع إشتهرت هذه الرهبانيات بالوعظ، ولذلك دعي أعضاؤها بالإخوة الوعاظ (Freres Precheurs) أو الدومينيكان. وقد ثبتت قوانين القديس دومينيك سنة 1216، وقد نصت على فقر تام وعلى ضرورة الوعظ. إن الفقر هو غاية في الجمعية الفرنسيسكانية أما في الجمعية الدومينيكانية فهو لخدمة الرسالة.
ج ـ الرهبانية الكرملية: وهي ثالث رهبانية متسولة، وقد إنتسبت إلى النبي إيليا الذي عاش على جبل الكرمل في فلسطين. والحقيقة أن هذه الرهبانية تأسست مع الحروب الصليبية في جبل الكرمل نفسه، والقوانين ثبتت سنة 1219. وهذه الرهبانية تعرف برهبانية الكرمليين الحفاة. ومن أشهرأتباعها في العصور اللاحقة القديس يوحنا الصليب والقديسة تيريزيا الأفيلية والقديسة تيريزيا الطفل يسوع. تهدف هذه الرهبانية إلى الصلاة، والوحدة والتوبة، ولا تتجه كثيراً إلى الرسالة والوعظ.
د ـ رابع رهبانية متسولة هي رهبانية الأوغسطينيين: وتنتسب إلى القديس أوغسطينس معلم الكنيسة العظيم. ويرتقي تاريخها إلى سنة 1252 وتهدف هذه الرهبانية إلى التجرد عن كطل ملك فردي، وإلى التحسس بحاجات الشعب، وكان تأسيسها ردة فعل لغنى وأرستقراطية بعض الرهبانيات.
وكانت خدمة المحبة من أهدافها الرئيسية.( 6 )
4ـ الرهبانية الفرنسيسكانية: أسس هذه الرهبانية القديس فرنسيس الأسيزي من بلدة أسيزي . ولد هذا القديس سنة 1182 وكان إسمه " بطرس برنردونه " لأب تاجر غني وأم تقية إسمها بيكا فرنسية الأصل. لذلك عاش حياة بذخ وترف، وكان يصرف أموله بدون حساب ويعيش حياته مع الأصحاب في اللهو وفي معاقرة الخمرة وإقامة الحفلات الصاخبة. سجن في إحدى المعارك بين مدينتي أسيزي وبيروجيا ولما أطلق سراحه إلتحق بجيش البابا.
وفي أثناء إستعداده لإحدى المعارك سمع في الحلم صوت الله يدعوه إليه، فترك الجيش وعاد إلى مدينته وبدأ مشوار التغيير في حياته، حيث أخذ في التأمل وممارسة أعمال الرحمة والتقشف. وفي إحدى المرات إذ كان في كنيسة القديس " داميانوس " شاهد الصليب يتحرك وتكلم المصلوب قائلاً له : " يا فرنسيس هلا أعدت بناء بيتي الذي ينهار ". ( 7 )
فرح فرنسيس وأخذ يفكر كيف يخدم الله. فأخذ يساعد الفقراء ويشفق عليهم ويعمل على ترميم بعض الكنائس مثل ( كنيسة تعرف باسم سلطانة الملائكة Portioncule ) ومنها إنطلقت نواة الرهبنة الفرنسيسكانية.
رويدأ رويداً عرف فرنسيس أن الكنيسة التي يجب ترميمها هي الشعب المسيحي. وما لبث إشعاع فقير المسيح يمتد في كل صوب، وفي شهور قلائل تبعه إثنا عشر تلميذاً كانوا النواة الأولى للرهبانية. (8 )
ركز القديس فرنسيس على فضيلة الفقر , من خلال تأمله في حياة يسوع الفقير لأجلنا نحن البشر لذلك رفض كل تملك وكل مال وكل طعام فاخر لأن في ذلك سقوط للراهب. قال في إحدى صلواته :
" فمن لا يحب الفقر يا ترى فوق كل شيء ؟ فيا يسوع أفقر الجميع، أرجوك أن تختمني بختم الفقر. أتوسل إليك أن تغنيني من هذا الكنز ولتدم هذه الفضيلة ملكاً لي ولأولادي. إجعلنا من أجل إسمك لا نملك شيئاً تحت السماء. ولكي نقوت هذا الجسد التعيس إجعلنا لا نستعمل إلى النفس الأخير إلا أشياء نستعطيها وبكل إقتصاد أيضاً. آمين.( 9)
دعا تعليم القديس فرنسيس إضافة إلى فضيلة الفقر أيضاً إلى فضيلة الصبر التي تحبط عمل الشيطان ومكايده، ومثال الصبر الحقيقي الواجب الإقتداء به، هو المسيح المذبوح كالحمل الطائع.دعا فرنسيس أيضاً إلى فضيلة البساطة قال لتلاميذه " مارسوا أيضاً البساطة المقدسة الطاهرة " البساطة في الأكل واللباس وفي كل شيء حيث يتحقق الفرح الروحي الحقيقي المغذى بالكفر بالذات.
أحدثت الرهبانية الفرنسيسكانية مع الرهبنيات المتسولة الأخرى نهضة إيمانية عظيمة، فكثير هم المؤمنون الأغنياء الذين باعوا كل ما يملكون ووزعوه على الفقراء وتبعوا القديس فرنسيس رغم ما ترك هذا من أثر على الرهبانية بعد مماته وأدى ذلك إلى ظهور رهبانيات منشقة عن الفرنسيسكانية هي: الإخوة الأصاغر، الإخوة الأصاغر الكنفتواليون، والإخوة الأصاغر الكبوشيون. كذلك أسس القديس فرنسيس رهبنة نسائية ترأستها القديسة كلارا وهي ما تسمى بالرهبانية الفرنسيسكانية الثانية ثم أطلق عليها أسم "الكلاريست" وحتى لا يترك المتزوجون بدون أي حياة روحية أسس ما يعرف بالرهبنة الثالثة. ( 10 )
أخيراً أختم كلامي عن الرهبانية الفرنسيسكانية بهذه الصلاة الرائعة للقديس فرنسيس قالها في اليوم التالي لظهور علامات جراح المسيح على جسده أي في 15 أيلول 1224 :
" إنك قدوس أيها الرب، أنت الإله الوحيد، أنت وحدك صانع العجائب.
إنك القوي، الكبير،العلي، أنت الضابط الكل أنت الآب القدوس وملك السماء والأرض.
أنت المثلث والوحيد، سيد الآلهة، إنك صالح، كلي الصلاح، أنت الحياة والحق ذاته.
أنت المحبة والحب، أنت التواضع والصبر، أنت الراحة والفرح والسعادة.
أنت العدل والحكمة والغنى الكافي كل شيء.
أنت الجمال واللطف، أنت محامينا، أنت حارسنا، أنت المدافع عنا.
أنت ملجأنا وقوتنا، أنت إيماننا ورجاؤنا ومحبتنا وعذوبتنا الفائقة الحد.
أنت حياتنا الأبدية، أيها الرب الكبير العجيب، الإله القادر على كل شيء والمخلص الكلي
الرحمة. " ( 11 )
المراجع :
1 ـ مراقي الكمال الرهباني ص 42 ( الأب الياس كويترالمخلصي )
2 ـ " " " ص 43
3 ـ " " " ص 45
4 ـ حياة القديس فرنسيس الأسيزي ص 11 - 12 ( الأب أومير أنجيلبرت )
5 ـ " " " " ص 54 - 55
6 ـ مراقي الكمال الرهباني ص 45
7 ـ سيرة القديس فرنسيس الأسيزي ص 43 ( الأب لويس برصوم الفرنسيسكاني )
8 ـ سيرة القديس فرنسيس الأسيزي ص 66
9 ـ حياة القديس فرنسيس الأسيزي ص68
10 ـ حياة القديس فرنسيس الأسيزي ص 155
11 ـ معلّم الصلاة فرنسيس الأسيزي ص 28