الإلحادية الجديدة في الغرب
ترجمه عن الفرنسية
أسرة النشرة
"لماذا الألم والشر إذا كان كل شيءٍ حياة، والحياة صالحة؟"
لقاء مع بيرتران فيرجيلي
عن نشرة SOP الصادرة عن معهد القديس سرجيوس- باريس- العدد 314- كانون الثاني 2007
*- أقدمتم على إصدار كتاب عن الألم منذ عشر سنين والآن نشرتم "صمت الله تجاه مآسي العالم"، هل من صلة بينهما؟
- صلة حميمة، فالكتاب الأخير يطرح القضية اللاهوتية التي تطرق إليها الكتاب الأول: إذا كان الله موجوداً، هل يمكن أن يسمح للشر وللألم بأن يصيبا الأبرياء؟ هذا هو الاعتراض الأكبر والحديث ضد الله الذي طرحه دوستويفسكي Dostoïevski، ويمتد الاعتراض إلى كونت سبونفيل Comte-Sponville مروراً بـ كاموس Camus. اختصاراً، هناك ثلاثة أنواع من الاعتراضات ضد الله: الاعتراض الأول: هو اعتراض الحكماء الذين يختارون وضعية الإنسان-الرجل الذي يخلص نفسه بنفسه دون الاتكال على الله، والاعتراض الثاني: هو انتقاد الكنيسة عبر التاريخ، أما الاعتراض الثالث: فهو الاستناد على الشر لإنكار وجود الله.
"لا يمكن أن نقتل الله ونفلت من العقاب"
- كتبتم: أصبح الله غير صحيح بالمفهوم السياسي.
- في الأمس كان مفكرو القرن الثامن عشر يعتقدون أن الله هو مجرد وهم أوخيال، اليوم، الذين يهاجمون الله يعتقدون أنه كائنٌ لا يمكن التعايش معه: الله لا يراعي معايير الإنسانية، إنه ليس بموجود لأنه لا يستحق الوجود. وفي مجال الاعتراض على الله، فقد تم تجاوز العلم من قبل الأخلاق، وتم إهمال حجج الواقع لصالح حجج الحق. ها قد وصل الإلحاد الحديث، وهو ليس بالمادة العلمية بل هو مادة قانونية. لا يستحق أيُّ إلهٍ أن يُوجَد نظراً لما جرى في الماضي على الأرض، ونظراً لما يجري حالياً، فقد تم القضاء على عقوبة الإعدام بالنسبة للجميع، ما عدا بالنسبة لله.
- هل الله هو- بامتياز- كبش محرقة لا يُجيب؟
- نعم، إنما لا يمكن أن نقتل الله ونفلت من العقاب، عندما نقتله يجب أن نستبدله، ويتم ذلك بإجبار الإنسان على أن يصبح إلهاً. بالإضافة إلى أن هذا الأمر لا يخلو من الإكراه، فهو بالضرورة خاطئ. موت الله في الغرب يُثقلُ العالم والمستقبل بتهديدات ضخمة.
- ألا يمكن أن يُطرح علينا اعتراض دوستويفسكي يوماً ما؟
- تلك هي صرختنا، هناك شيء لا يُحتمل في آلام طفلٍ، وعلى الألم يضاف عار الظلم. كيف لا نفهم ثورة الإنسان الذي يفضِّل أن لا يؤمن بالله على أن يعتنق إيماناً يبرِّر هكذا ألم؟
"ليس هناك معنى للألم"
- هل تبحث عن تبرئة الله؟
- بالتأكيد لا، فإن تبرئة الله بالرجوع إلى ترسانة من الحجج يسبب شراً أكثر مما يسبب خيراً، فبالإضافة إلى أن هذا التبرير يُقصي الله بتحجيم دوره إلى مجرد حجر شطرنج في نظام ديني، فإن ذلك يثير شراً لا حد له بتبريره ألم الأبرياء.
- ماذا تقول لأمٍّ تسهر على ابنها المحتضر؟
- عندما نتألم لا نلجأ لأساليب فلسفية، هناك زمنٌ للكلام، زمن للتفكير، زمن للصمت، زمن للصراخ وزمن لنمسك بيد الآخر وللبكاء. أعتقد أننا نساعد المتألم بمساعدته على الحياة، بأن نردد له بأنه يستطيع عيش ما يعيشه، بأن نقويه، لا أن نشرح له لماذا يستحق أن يتألم بهذا القدر. لا يوجد معنى في الألم، لا يوجد إلا معنى واحد للحياة يسمح لنا أن نحيا الألم والموت.
"الله لا يحب الألم"
- برأيكم هل هناك نقص في الرصانة في الجدال الفكري؟
- "ما هذا الله الذي يترك الغزلان للأسود والأطفال للسرطان"؟ يتساءل سبونفيل Comte-Sponville. إن العديد من النصوص المعاصرة هي صرخات في غاية الجمال، ومع ذلك، فإذا تجاوزناها، شيءٌ ما يزعجني: هل يحق لنا أن نسخِّر الألم في العالم لنجعل منه دلالة على عدم وجود الله؟ عندما تتألم الإنسانية تقتضي كرامتنا أن نوقف نزاعاتنا. من المؤسف أن نسمع أصواتاً ترتفع لتقول بأن الإنسان سعى وراء ذلك وكان عليه أن يتجنب الخطيئة وما عليه إلا أن يهتدي. ولكن، أليس من المؤسف أكثر من ذلك أن نسمع بالمقابل أن الشر هو دليل عدم وجود الله وأن اللاهوتيين هم على خطأ وأن المؤمنين عميان؟ هل نتقدم إذا استبدلنا انعدام اللاهوت الناقم بلاهوت يُشْعِر بالذنب؟
- ومع ذلك فإن الله يسمح بالألم؟
- الله لا يحب الألم، إذا كنت أتألم فهذا لا يعني أن الله يريد ذلك، وإنما لأنني أنا مع الله في الحياة، نحو مستقبل. الفلسفة العقلية البحتة (الرواقية) stoicisme تقول لنا أن الألم هو ممرٌّ إجباري، والهندوسية تقول أننا نتألم لأننا خارج الذات وعلينا أن نسدد عدداً من الأمور.
ما يُبهرني في المسيحية هو هذا الإله الذي أتى ليحرر الإنسانية من الألم والموت، الذي هو على النقيض تماماً من إلهٍ يتلاعب بالألم: فالله ليس إله موت إنما إله حياة!
لا يوجد ألله يرى الإنسان يُصارعُ ذاته، إنما يوجد هذا الإله الذي هو معنا في الحياة. الله هو الحياة. يأتي ليعطي الحياة للإنسان لا ليعطي له شرحاً للألم. يأتي ليدعونا للحياة في جِدَّةٍ خلَّاقة التي هي القيامة في قلب العالم بالذات: إنه الحدث الأساس والذي يحررنا من سهم الموت.
"الحياة ليست عدماً"
- بماذا تجيبون على محاوركم الملحد؟
- بأن يكون منطقياً مع نفسه! إن الذي يعتقد بأننا نأتي من العدم ونذهب للعدم يعني بالفعل بأن الحياة المطلقة لا معنى لها مطلقاً ولا قيمة لها. في هذه الحال يكون دوستويفسكي على حق بأن كل شيء مسموح. في هذه الحالة باستطاعتي أن أقتل أو أنتحر دون أن يرمش لي هُدبٌ.
إلا أن الحياة تعلمنا بأن الأمور ليست بهذه البساطة... وبأن الحياة ليست لا شيء. وهنا الإلحاد يجني على نفسه: هو ازدواج في الشخصية يؤكد بأن لا معنى للحياة ولكننا في النهاية يمكن أن نعطيها معنىً ما... وهذا لا معنى له.
- في حال أدى الإلحاد المتطرف إلى العدمية، ماذا يبقى في الإلحاد؟
- عندما لا يكون عدمياً يكون ضد المسيحية ويقذف الدين التاريخي بقنابل حمراء، ما يدل على ذلك: نيتشه Nietzsche وميشيل أونفريه MichelOnfray، أو في المقابل يسير نحو حكمة يجسدها أبيقراط Epicure والبوذية أو كونت سبونفيل. يعترف هذا الأخير بأنه ملحد، لكنه يعترف أيضاً أن لديه الإحساس بالسر وبمحبة الآخر بالإضافة إلى إعجابه بيسوع، هذا موقف فريد يصل إلى حدود الإيمان كما يبدو!!!.
أخيراً هناك أسلوب أخير للإلحاد وهو الوثنية، وهذا يخص الأكثرية ويعطي لنفسه أصناماً ويختار لنفسه إلهاً بديلاً: الجسد، الجنس، الطعام، العمل، الأسرة، عبادة ما.. على غرار القدماء، مع الفرق بأن معاصرينا يجهلون في العموم بأنها صنمية.
"لأننا، كي نحارب الشر، نحن بحاجة لله"
- هل تقصدون أن الإلحاد الحقيقي غير موجود؟
- نادراً ما يكون موجوداً، وعندما يُوجَد فهو بالحقيقة مرعبٌ. لا أعرف سوى ملحداً واحداً هو الماركيز دوساد Marquis de Sade. الإلحاد العصري هو "مجرَّة" وهو رد فعل أكثر منه فلسفة، وهو يلجأ إلى الخيال.
- الخيال؟
- نعم، فإن الإلحاد لا يخترع الدين الذي يناسبه كي يتخلص منه فحسب، بل إنه يناقض نفسه. كيف لنا أن نقول –مثل مارسيل كونش MarcelConche- بأن الله ليس موجوداً، ولكن الشر المطلق موجود؟ هذا يعود بنا إلى أن نقبل مطلق الشر وننفي المطلق البحت الذي هو الله. من الصعب أن نفكر بالمقدس كي ننتقد الشر، وأن ننفي المقدس لنفكر بالإنسان!.
- هلا تعطون إذاً أي قيمة للتمرد ضد الله؟
- إطلاقاً، لقد تمخض التمرد ضد الله في العالم عن أمرين: الانتحار –بريمو ليفي PrimoLévi- أو الشمولية totalitarisme، حيث يتم وضع منظومة يُفترض بها أن تقصي الشر.
للأسف يتم تعريف الشر بما يُسيء للإنسان، بينما هو شيء آخر على الإطلاق.
ألا يجب أن نعيد النظر بما يعني الله لنا ونفكر من جديد بمعنى الألم؟ هذا يبدو لي مهماً. حتى نحارب الشر نحن بحاجة لله، فالثورة على من ينتهك الإنسان تفترض وجود ذاك الذي لا يُنْتَهَك، عطاءٌ من المقدَّس.
الكائن البشري ليس بكائن تائه على الأرض، بل إن حياته ثمينة في عينيّ الله، و لها بالتالي قيمة لا متناهية، ذاك ما يجعلني أحيا، نعم هذا هو الشيء الذي يجعلني لا أنتحر ولا أقتل ولا أتعمَّد أن أقيم " شمولية " totalitarisme. لا يمكننا أن نتلمس ذاك الصرح دون أن تكون هناك نتائج جدية على الحضارة والوجود الإنساني السياسي والاجتماعي.
أن تكون ملحداً حقيقياً يعني أن تكون قاتلاً لله، لا برجوازي أصولي اجتماعي. الشيوعية صرَّحت علانيةً كرهها للمسيح: وهذا الكره لم ينتهِ.
الفردية المُتَعيَّة hédonisme التي تُستخدم اليوم كإيديولوجية لليمين الحر ولليسار الذي يعوزه مشروع مستقبلي، تعطي لذاتها شرعية بخسة بنشر رؤية غوغائية للعالم، رؤية قائمة على مانوية manichéisme (عقيدة الصراع بين الخير والشر) مُبَسَّطة وفَظَّة: من جهة هناك الأشرار من متدينين ومسيحيين، ومن جهةٍ أخرى هناك الأفراد المساكين المضطهدين، ومن المهم أن نمنع الأشرار أن يقوموا بالأذى.
" يمكن للعالم، من خلال القديسين، أن يجد معنى للإنسان"
- هل أنتَ متشائم؟
لا، لأنه من خلال القديسين يجد العالم معنى الإنسان ويفهم ما هو الدين.
إنْ سَعَيْنا لتقديس أنفسنا، نتيح للعالم فرصٌاً كبيرةً بأن يخرج من الحقد والخوف، وإلا فسوف نعرف الحقد والخوف إلى أن نتقدس. من جهة أخرى عندي رهان بأننا سنستطيع أن نخرج بسلام من الإرهاق والمرارة اللتين قادتنا الإلحادية والمُتَعيَّة إليهما. أنا لا أؤمن بالكارثة المُعَمَّمة0 فهناك أناس في بلدنا يفكرون ويعيدون النظر ويبحثون عن المسيحية الضائعة. ذلك يعمل في الأعماق.. ولكن الشجرة التي تسقط وتنهار تحدث ضجيجاً أكبر من غابة تنمو وتكبر.
- بالنسبة لكم ألا يوجد "صمتٌ إلهي" يجتاز تاريخ الناس؟
- هناك صمتٌ الله إزاء معارضيه المستهزئين الذين يطالبونه بحسابات. إنه صمتٌ مليءٌ بالعطف تجاه هؤلاء الأطفال المساكين الثائرين، رافعين قبضتهم نحو السماء، يطالبونه بالظهور. الله يصمت لئلا يكونوا أكثر مدعاة للسخرية! لحسن الحظ، الله لا يثور كما يتمنى المتعصبون والملحدون، ففي هذه الحالة سوف يتعاظم الخوف على الأرض، إن صمت الله هو صمت خلاصي أكثر مما نعتقد.
"الله يمضي في الحياة مع الإنسان، وليس بدلاً عنه"
- بالمنظور الإنساني، هلَّا يتدخل الله كثيراً؟
- إن الله الذي يتدخل كثيراً هو الإله السحري، الله ليس هو ذاك البطل كما في فلم MinorityReport حيث يتصور سبيلبرغ Spielberg "سرايا تدخل" تقرأ في أفكار الناس، مما يسمح للشرطة بالتدخل قبل أن يقترفوا جريمة أو جنحة. الله يمضي في الحياة مع الإنسان وليس بدلاً عنه. كم من مرةٍ نتحقق، بعد التجربة والاختبار، أن الله كان هنا، ولكن لم يكن حيث كنا نتوقع، ولم يكن إطلاقاً حيث كنا نتخيل. الأم لا تحمل ابنها طوال الوقت، يأتي يومٌ تتركه يمشي لوحده قائلةً له: "اذهب، بإمكانك الوصول". ما نشعر به أحياناً كصمتٍ إلهي في حياتنا هو جزء من هذه التربية "أنا هنا بجانبك، ولكن امشِ لوحدك فأنت أقوى مما تظن".
- إذاً لماذا الألم والشر طالما كل شيءٍ هو حياة والحياة هي صالحة؟
- آباء الصحراء يقولون إنه عندما نتقدم نُهاجَم. خُلق الإنسان ليتقدم إذاً سوف يُهاجَم. الإنسان الأول هو في كل إنسان، عليه أن يعيش خيار آدم ذاته: هو في الفردوس و يعرض الله عليه أن يذهب إلى ما هو أبعد، ولكن الإنسان يرفض ويقول لله: "أنا مرتاحٌ هنا". ما يقترحه الله على الإنسان يظهر له وكأنه الموت، بينما هو الحياة، والذي يختاره الإنسان هو الموت الذي يظنه الحياة.
"المسيح، آدم الجديد، يقودنا إلى الـ "ما بعد" "
- بالنسبة لكم هل تكمن خطيئة الإنسان في أن يتوقف؟
- وكل إنسان يتوقف... سقوط الإنسانية يحصل في كل شخص كلَّ يومٍ، والسقوط لا يكون إلا كنسبةٍ من الشاقولية. خُلق الإنسان ليرتفع. إن لم ترتفع تسقط. وتأتي لحظات ستكون مدعواً فيها لتتخلى عن أشياء حسنة لتمضي نحو ما هو أفضل منها...
إننا نتمسك بهذا العالم في حين نحن مدعوون للمضي نحو حياةٍ أعظم. آدم هو ذاك الذي يرفض الذهاب إلى ما هو أبعد ويكتفي بحياة بشرية، الله يقول له: "إني أعرض عليك حياةً إلهية" فيرفض. هذه هي مأساة كل إنسان. أما المسيح، آدم الجديد، فهو الذي يقودنا إلى الـ "ما بعد".
-هل يقبل آدم حياةً تبدو كأنها حياة... في حين أنها الموت؟
- ...والمسيح يقبل الموت الذي يبدو موتاً ولكنه الحياة. في الكنيسة الأرثوذكسية نتذكر هذه المفارقة: المسيحية هي في نفس الوقت رفض للموت وقبول له. لأن هناك نوعين من الموت و نوعين من الحياة. الحياة مع الروح تقود للحياة الإلهية، والحياة بدون الروح تختلط مع العالم. ترك العالم لا يعني الموت والامتزاج به لا يعني الحياة.
-هل تركت مرافقتك الأخيرة لأمك حتى الموت مكاناً في فكرك؟
- مكاناً واسعاً. كان عليَّ أن أقبل ضعفي: بأني لا أستطيع أن افهم، وأني لا أستطيع أن أفعل شيئا، وأن قبولي بأن لا أعمل شيئاً ...ذاك ما كان يتوجب فعله. لم تعد هناك تحليلات "عظيمة": بل الواقع المتواضع. الحدود هي عبارة عمَّا يبقينا ضمن الواقع.
لقد تحقَّقتُ إلى أيِّ درجة الإله المسيحي هو فائق الطبيعة: فهو لا يستثني نفسه أبداً مما يعيشه الإنسان. كل ما عاشه الإنسان عاشه الله عدا الخطيئة من خلال ابنه، والعليُّ يقبل أن يعيش اختبار وتجربة المحدود... الذي هو الإنسان.
* [1] بيرتران فيرجيلي: خريج فلسفة ويعلم في معهد الدراسات السياسية في باريس وفي معهد سان سيرج
ترجمه عن الفرنسية
أسرة النشرة
"لماذا الألم والشر إذا كان كل شيءٍ حياة، والحياة صالحة؟"
لقاء مع بيرتران فيرجيلي
عن نشرة SOP الصادرة عن معهد القديس سرجيوس- باريس- العدد 314- كانون الثاني 2007
*- أقدمتم على إصدار كتاب عن الألم منذ عشر سنين والآن نشرتم "صمت الله تجاه مآسي العالم"، هل من صلة بينهما؟
- صلة حميمة، فالكتاب الأخير يطرح القضية اللاهوتية التي تطرق إليها الكتاب الأول: إذا كان الله موجوداً، هل يمكن أن يسمح للشر وللألم بأن يصيبا الأبرياء؟ هذا هو الاعتراض الأكبر والحديث ضد الله الذي طرحه دوستويفسكي Dostoïevski، ويمتد الاعتراض إلى كونت سبونفيل Comte-Sponville مروراً بـ كاموس Camus. اختصاراً، هناك ثلاثة أنواع من الاعتراضات ضد الله: الاعتراض الأول: هو اعتراض الحكماء الذين يختارون وضعية الإنسان-الرجل الذي يخلص نفسه بنفسه دون الاتكال على الله، والاعتراض الثاني: هو انتقاد الكنيسة عبر التاريخ، أما الاعتراض الثالث: فهو الاستناد على الشر لإنكار وجود الله.
"لا يمكن أن نقتل الله ونفلت من العقاب"
- كتبتم: أصبح الله غير صحيح بالمفهوم السياسي.
- في الأمس كان مفكرو القرن الثامن عشر يعتقدون أن الله هو مجرد وهم أوخيال، اليوم، الذين يهاجمون الله يعتقدون أنه كائنٌ لا يمكن التعايش معه: الله لا يراعي معايير الإنسانية، إنه ليس بموجود لأنه لا يستحق الوجود. وفي مجال الاعتراض على الله، فقد تم تجاوز العلم من قبل الأخلاق، وتم إهمال حجج الواقع لصالح حجج الحق. ها قد وصل الإلحاد الحديث، وهو ليس بالمادة العلمية بل هو مادة قانونية. لا يستحق أيُّ إلهٍ أن يُوجَد نظراً لما جرى في الماضي على الأرض، ونظراً لما يجري حالياً، فقد تم القضاء على عقوبة الإعدام بالنسبة للجميع، ما عدا بالنسبة لله.
- هل الله هو- بامتياز- كبش محرقة لا يُجيب؟
- نعم، إنما لا يمكن أن نقتل الله ونفلت من العقاب، عندما نقتله يجب أن نستبدله، ويتم ذلك بإجبار الإنسان على أن يصبح إلهاً. بالإضافة إلى أن هذا الأمر لا يخلو من الإكراه، فهو بالضرورة خاطئ. موت الله في الغرب يُثقلُ العالم والمستقبل بتهديدات ضخمة.
- ألا يمكن أن يُطرح علينا اعتراض دوستويفسكي يوماً ما؟
- تلك هي صرختنا، هناك شيء لا يُحتمل في آلام طفلٍ، وعلى الألم يضاف عار الظلم. كيف لا نفهم ثورة الإنسان الذي يفضِّل أن لا يؤمن بالله على أن يعتنق إيماناً يبرِّر هكذا ألم؟
"ليس هناك معنى للألم"
- هل تبحث عن تبرئة الله؟
- بالتأكيد لا، فإن تبرئة الله بالرجوع إلى ترسانة من الحجج يسبب شراً أكثر مما يسبب خيراً، فبالإضافة إلى أن هذا التبرير يُقصي الله بتحجيم دوره إلى مجرد حجر شطرنج في نظام ديني، فإن ذلك يثير شراً لا حد له بتبريره ألم الأبرياء.
- ماذا تقول لأمٍّ تسهر على ابنها المحتضر؟
- عندما نتألم لا نلجأ لأساليب فلسفية، هناك زمنٌ للكلام، زمن للتفكير، زمن للصمت، زمن للصراخ وزمن لنمسك بيد الآخر وللبكاء. أعتقد أننا نساعد المتألم بمساعدته على الحياة، بأن نردد له بأنه يستطيع عيش ما يعيشه، بأن نقويه، لا أن نشرح له لماذا يستحق أن يتألم بهذا القدر. لا يوجد معنى في الألم، لا يوجد إلا معنى واحد للحياة يسمح لنا أن نحيا الألم والموت.
"الله لا يحب الألم"
- برأيكم هل هناك نقص في الرصانة في الجدال الفكري؟
- "ما هذا الله الذي يترك الغزلان للأسود والأطفال للسرطان"؟ يتساءل سبونفيل Comte-Sponville. إن العديد من النصوص المعاصرة هي صرخات في غاية الجمال، ومع ذلك، فإذا تجاوزناها، شيءٌ ما يزعجني: هل يحق لنا أن نسخِّر الألم في العالم لنجعل منه دلالة على عدم وجود الله؟ عندما تتألم الإنسانية تقتضي كرامتنا أن نوقف نزاعاتنا. من المؤسف أن نسمع أصواتاً ترتفع لتقول بأن الإنسان سعى وراء ذلك وكان عليه أن يتجنب الخطيئة وما عليه إلا أن يهتدي. ولكن، أليس من المؤسف أكثر من ذلك أن نسمع بالمقابل أن الشر هو دليل عدم وجود الله وأن اللاهوتيين هم على خطأ وأن المؤمنين عميان؟ هل نتقدم إذا استبدلنا انعدام اللاهوت الناقم بلاهوت يُشْعِر بالذنب؟
- ومع ذلك فإن الله يسمح بالألم؟
- الله لا يحب الألم، إذا كنت أتألم فهذا لا يعني أن الله يريد ذلك، وإنما لأنني أنا مع الله في الحياة، نحو مستقبل. الفلسفة العقلية البحتة (الرواقية) stoicisme تقول لنا أن الألم هو ممرٌّ إجباري، والهندوسية تقول أننا نتألم لأننا خارج الذات وعلينا أن نسدد عدداً من الأمور.
ما يُبهرني في المسيحية هو هذا الإله الذي أتى ليحرر الإنسانية من الألم والموت، الذي هو على النقيض تماماً من إلهٍ يتلاعب بالألم: فالله ليس إله موت إنما إله حياة!
لا يوجد ألله يرى الإنسان يُصارعُ ذاته، إنما يوجد هذا الإله الذي هو معنا في الحياة. الله هو الحياة. يأتي ليعطي الحياة للإنسان لا ليعطي له شرحاً للألم. يأتي ليدعونا للحياة في جِدَّةٍ خلَّاقة التي هي القيامة في قلب العالم بالذات: إنه الحدث الأساس والذي يحررنا من سهم الموت.
"الحياة ليست عدماً"
- بماذا تجيبون على محاوركم الملحد؟
- بأن يكون منطقياً مع نفسه! إن الذي يعتقد بأننا نأتي من العدم ونذهب للعدم يعني بالفعل بأن الحياة المطلقة لا معنى لها مطلقاً ولا قيمة لها. في هذه الحال يكون دوستويفسكي على حق بأن كل شيء مسموح. في هذه الحالة باستطاعتي أن أقتل أو أنتحر دون أن يرمش لي هُدبٌ.
إلا أن الحياة تعلمنا بأن الأمور ليست بهذه البساطة... وبأن الحياة ليست لا شيء. وهنا الإلحاد يجني على نفسه: هو ازدواج في الشخصية يؤكد بأن لا معنى للحياة ولكننا في النهاية يمكن أن نعطيها معنىً ما... وهذا لا معنى له.
- في حال أدى الإلحاد المتطرف إلى العدمية، ماذا يبقى في الإلحاد؟
- عندما لا يكون عدمياً يكون ضد المسيحية ويقذف الدين التاريخي بقنابل حمراء، ما يدل على ذلك: نيتشه Nietzsche وميشيل أونفريه MichelOnfray، أو في المقابل يسير نحو حكمة يجسدها أبيقراط Epicure والبوذية أو كونت سبونفيل. يعترف هذا الأخير بأنه ملحد، لكنه يعترف أيضاً أن لديه الإحساس بالسر وبمحبة الآخر بالإضافة إلى إعجابه بيسوع، هذا موقف فريد يصل إلى حدود الإيمان كما يبدو!!!.
أخيراً هناك أسلوب أخير للإلحاد وهو الوثنية، وهذا يخص الأكثرية ويعطي لنفسه أصناماً ويختار لنفسه إلهاً بديلاً: الجسد، الجنس، الطعام، العمل، الأسرة، عبادة ما.. على غرار القدماء، مع الفرق بأن معاصرينا يجهلون في العموم بأنها صنمية.
"لأننا، كي نحارب الشر، نحن بحاجة لله"
- هل تقصدون أن الإلحاد الحقيقي غير موجود؟
- نادراً ما يكون موجوداً، وعندما يُوجَد فهو بالحقيقة مرعبٌ. لا أعرف سوى ملحداً واحداً هو الماركيز دوساد Marquis de Sade. الإلحاد العصري هو "مجرَّة" وهو رد فعل أكثر منه فلسفة، وهو يلجأ إلى الخيال.
- الخيال؟
- نعم، فإن الإلحاد لا يخترع الدين الذي يناسبه كي يتخلص منه فحسب، بل إنه يناقض نفسه. كيف لنا أن نقول –مثل مارسيل كونش MarcelConche- بأن الله ليس موجوداً، ولكن الشر المطلق موجود؟ هذا يعود بنا إلى أن نقبل مطلق الشر وننفي المطلق البحت الذي هو الله. من الصعب أن نفكر بالمقدس كي ننتقد الشر، وأن ننفي المقدس لنفكر بالإنسان!.
- هلا تعطون إذاً أي قيمة للتمرد ضد الله؟
- إطلاقاً، لقد تمخض التمرد ضد الله في العالم عن أمرين: الانتحار –بريمو ليفي PrimoLévi- أو الشمولية totalitarisme، حيث يتم وضع منظومة يُفترض بها أن تقصي الشر.
للأسف يتم تعريف الشر بما يُسيء للإنسان، بينما هو شيء آخر على الإطلاق.
ألا يجب أن نعيد النظر بما يعني الله لنا ونفكر من جديد بمعنى الألم؟ هذا يبدو لي مهماً. حتى نحارب الشر نحن بحاجة لله، فالثورة على من ينتهك الإنسان تفترض وجود ذاك الذي لا يُنْتَهَك، عطاءٌ من المقدَّس.
الكائن البشري ليس بكائن تائه على الأرض، بل إن حياته ثمينة في عينيّ الله، و لها بالتالي قيمة لا متناهية، ذاك ما يجعلني أحيا، نعم هذا هو الشيء الذي يجعلني لا أنتحر ولا أقتل ولا أتعمَّد أن أقيم " شمولية " totalitarisme. لا يمكننا أن نتلمس ذاك الصرح دون أن تكون هناك نتائج جدية على الحضارة والوجود الإنساني السياسي والاجتماعي.
أن تكون ملحداً حقيقياً يعني أن تكون قاتلاً لله، لا برجوازي أصولي اجتماعي. الشيوعية صرَّحت علانيةً كرهها للمسيح: وهذا الكره لم ينتهِ.
الفردية المُتَعيَّة hédonisme التي تُستخدم اليوم كإيديولوجية لليمين الحر ولليسار الذي يعوزه مشروع مستقبلي، تعطي لذاتها شرعية بخسة بنشر رؤية غوغائية للعالم، رؤية قائمة على مانوية manichéisme (عقيدة الصراع بين الخير والشر) مُبَسَّطة وفَظَّة: من جهة هناك الأشرار من متدينين ومسيحيين، ومن جهةٍ أخرى هناك الأفراد المساكين المضطهدين، ومن المهم أن نمنع الأشرار أن يقوموا بالأذى.
" يمكن للعالم، من خلال القديسين، أن يجد معنى للإنسان"
- هل أنتَ متشائم؟
لا، لأنه من خلال القديسين يجد العالم معنى الإنسان ويفهم ما هو الدين.
إنْ سَعَيْنا لتقديس أنفسنا، نتيح للعالم فرصٌاً كبيرةً بأن يخرج من الحقد والخوف، وإلا فسوف نعرف الحقد والخوف إلى أن نتقدس. من جهة أخرى عندي رهان بأننا سنستطيع أن نخرج بسلام من الإرهاق والمرارة اللتين قادتنا الإلحادية والمُتَعيَّة إليهما. أنا لا أؤمن بالكارثة المُعَمَّمة0 فهناك أناس في بلدنا يفكرون ويعيدون النظر ويبحثون عن المسيحية الضائعة. ذلك يعمل في الأعماق.. ولكن الشجرة التي تسقط وتنهار تحدث ضجيجاً أكبر من غابة تنمو وتكبر.
- بالنسبة لكم ألا يوجد "صمتٌ إلهي" يجتاز تاريخ الناس؟
- هناك صمتٌ الله إزاء معارضيه المستهزئين الذين يطالبونه بحسابات. إنه صمتٌ مليءٌ بالعطف تجاه هؤلاء الأطفال المساكين الثائرين، رافعين قبضتهم نحو السماء، يطالبونه بالظهور. الله يصمت لئلا يكونوا أكثر مدعاة للسخرية! لحسن الحظ، الله لا يثور كما يتمنى المتعصبون والملحدون، ففي هذه الحالة سوف يتعاظم الخوف على الأرض، إن صمت الله هو صمت خلاصي أكثر مما نعتقد.
"الله يمضي في الحياة مع الإنسان، وليس بدلاً عنه"
- بالمنظور الإنساني، هلَّا يتدخل الله كثيراً؟
- إن الله الذي يتدخل كثيراً هو الإله السحري، الله ليس هو ذاك البطل كما في فلم MinorityReport حيث يتصور سبيلبرغ Spielberg "سرايا تدخل" تقرأ في أفكار الناس، مما يسمح للشرطة بالتدخل قبل أن يقترفوا جريمة أو جنحة. الله يمضي في الحياة مع الإنسان وليس بدلاً عنه. كم من مرةٍ نتحقق، بعد التجربة والاختبار، أن الله كان هنا، ولكن لم يكن حيث كنا نتوقع، ولم يكن إطلاقاً حيث كنا نتخيل. الأم لا تحمل ابنها طوال الوقت، يأتي يومٌ تتركه يمشي لوحده قائلةً له: "اذهب، بإمكانك الوصول". ما نشعر به أحياناً كصمتٍ إلهي في حياتنا هو جزء من هذه التربية "أنا هنا بجانبك، ولكن امشِ لوحدك فأنت أقوى مما تظن".
- إذاً لماذا الألم والشر طالما كل شيءٍ هو حياة والحياة هي صالحة؟
- آباء الصحراء يقولون إنه عندما نتقدم نُهاجَم. خُلق الإنسان ليتقدم إذاً سوف يُهاجَم. الإنسان الأول هو في كل إنسان، عليه أن يعيش خيار آدم ذاته: هو في الفردوس و يعرض الله عليه أن يذهب إلى ما هو أبعد، ولكن الإنسان يرفض ويقول لله: "أنا مرتاحٌ هنا". ما يقترحه الله على الإنسان يظهر له وكأنه الموت، بينما هو الحياة، والذي يختاره الإنسان هو الموت الذي يظنه الحياة.
"المسيح، آدم الجديد، يقودنا إلى الـ "ما بعد" "
- بالنسبة لكم هل تكمن خطيئة الإنسان في أن يتوقف؟
- وكل إنسان يتوقف... سقوط الإنسانية يحصل في كل شخص كلَّ يومٍ، والسقوط لا يكون إلا كنسبةٍ من الشاقولية. خُلق الإنسان ليرتفع. إن لم ترتفع تسقط. وتأتي لحظات ستكون مدعواً فيها لتتخلى عن أشياء حسنة لتمضي نحو ما هو أفضل منها...
إننا نتمسك بهذا العالم في حين نحن مدعوون للمضي نحو حياةٍ أعظم. آدم هو ذاك الذي يرفض الذهاب إلى ما هو أبعد ويكتفي بحياة بشرية، الله يقول له: "إني أعرض عليك حياةً إلهية" فيرفض. هذه هي مأساة كل إنسان. أما المسيح، آدم الجديد، فهو الذي يقودنا إلى الـ "ما بعد".
-هل يقبل آدم حياةً تبدو كأنها حياة... في حين أنها الموت؟
- ...والمسيح يقبل الموت الذي يبدو موتاً ولكنه الحياة. في الكنيسة الأرثوذكسية نتذكر هذه المفارقة: المسيحية هي في نفس الوقت رفض للموت وقبول له. لأن هناك نوعين من الموت و نوعين من الحياة. الحياة مع الروح تقود للحياة الإلهية، والحياة بدون الروح تختلط مع العالم. ترك العالم لا يعني الموت والامتزاج به لا يعني الحياة.
-هل تركت مرافقتك الأخيرة لأمك حتى الموت مكاناً في فكرك؟
- مكاناً واسعاً. كان عليَّ أن أقبل ضعفي: بأني لا أستطيع أن افهم، وأني لا أستطيع أن أفعل شيئا، وأن قبولي بأن لا أعمل شيئاً ...ذاك ما كان يتوجب فعله. لم تعد هناك تحليلات "عظيمة": بل الواقع المتواضع. الحدود هي عبارة عمَّا يبقينا ضمن الواقع.
لقد تحقَّقتُ إلى أيِّ درجة الإله المسيحي هو فائق الطبيعة: فهو لا يستثني نفسه أبداً مما يعيشه الإنسان. كل ما عاشه الإنسان عاشه الله عدا الخطيئة من خلال ابنه، والعليُّ يقبل أن يعيش اختبار وتجربة المحدود... الذي هو الإنسان.
* [1] بيرتران فيرجيلي: خريج فلسفة ويعلم في معهد الدراسات السياسية في باريس وفي معهد سان سيرج
Comment