هل إله العهد القديم هو نفسه إله العهد الجديد؟
كثيراً ما نسمع أو نقرأ في بعض الأوساط, حتى المسيحية منها أن الله الذي نجده في العهد القديم هو إله نقمة وغضب وقتل, وهو مختلف تماماً عن الله الذي نجده في العهد الجديد, والذي هو إله الرحمة والمسامحة والمحبة.
فما مدى صحة هذا الرأي؟
أعتقد أن هذه النظرة هي انتقائية إلى أبعد الحدود, فهي لا تريد أن ترى إلا ما تعتقد أنه صحيح, فلا ترى في الرب يسوع إلا الرحمة والغفران المجّاني للجميع, وتتناسى أنه أيضاً الدّيان العادل , بينما لا ترى في يهوه العهد القديم إلا كراهية الشعوب الأجنبية والبطش وسفك الدماء. فهل هذا صحيح ؟
لمناقشة هذا الموضوع سأحاول عرض بعض النقاط باختصار.
يسوع المسيح هو هو أمس واليوم وإلى الأبد ( عبرانيين 13 : 8)
1. الله لا يتغير فكما هي رحمته عظيمة كذلك هي دينونته رهيبة.
كما رحمته هي واسعة للجميع, كذلك هو غضبه و دينونته .
فمع كل التركيز على محبة الله وحنانه ورأفته الغزيرة التي نجدها في العهد الجديد, يجب أن ننتبه أيضاً أن يسوع يعلن غضبه وانتقامه على أبناء العصيان, وأن مصير الأردياء والمُصرّين على حياة الخطيئة هو مصير مخيف.
لنلاحظ أن أكبر كمّ من الويلات جاء على لسان الرب يسوع, فكم مرة كرّر الرب يسوع عبارة :
ويلٌ لكم أيها الناموسيون .... ويلٌ لكم أيها المراؤون .. ( لوقا 11 : 42)
لنتذكر أن الرب يسوع أعلن أن دينونة المجدّفين على الروح القدس ستتبعهم في هذا العالم وفي الآتي أيضاً :
أما من قال على الروح القدس فلن يُغفر له لا في هذا العالم ولا في الآتي ( متى 12 : 32)
لنتذكر حديثه عن الظلمة البرّانية, والبكاء, وصرير الأسنان, والدود الذي لا ينام, والذي هو حكمه العادل على الساقطين:
و أما بنو الملكوت فيطرحون إلى الظلمة الخارجية هناك يكون البكاء و صرير الأسنان ( متى 8 : 12)
ويل لذلك الرجل الذي به يسلم ابن الإنسان, كان خيرا لذلك الرجل لو لم يولد ( مرقس 14 : 21)
إن الكلام عن الغضب الآتي, والدينونة القاسية الرهيبة لهو مخيف حقاً, كما تقول الكنيسة في صلاة الجناز:
"الويل للذين يطلبون أن يروا يوم الرب الرهيب, إذ هو ظلامٌ وقتام, لأنه بالنار سيختبر الأشياء كلها."
ربما في هذا الكلام الرهيب إشارة لما يقوله سفر الرؤيا عن الرب يسوع عندما يقول:
و من فمه يخرج سيف ماض لكي يضرب به الأمم, و هو سيرعاهم بعصا من حديد, و هو يدوس معصرة خمر سخط و غضب الله القادر على كل شيء.... و طرحَ الاثنان حيّين إلى بحيرة النار المتقدة بالكبريت, و الباقون قتلوا بسيف الجالس على الفرس الخارج من فمه و جميع الطيور شبعت من لحومهم ( رؤيا 19 : 15)
وإذا أردنا الاستفاضة, فسنجد أن دينونة الله وغضبه على أبناء العصيان في العهد الجديد, هي أشد بما لا يُقاس عنها في العهد القديم.
حتى أن دينونة الله على الخاطئين قد تأتي في هذه الحياة كما في الحياة الأخرى, وهذا ما نلاحظه في سفر أعمال الرسل عندما حلّت دينونة الله على حنانيا وسفيرة.
ويكفي للتدليل على ذلك كلام الرسول بولس:
كلّ زانٍ أو نجس أو طماع الذي هو عابد للأوثان, ليس له ميراث في ملكوت المسيح و الله, لا يغركم أحد بكلام باطل لأنه بسبب هذه الأمور يأتي غضب الله على أبناء المعصية ( أفسس 5 :5)
2 - محبة الله في العهد القديم هي شاملة لكل البشر.
الذين يتهمون إله العهد القديم بالعنصرية, وبأنه يكره شعوباً بعينها ويفضّل شعباً مختاراً, هؤلاء لم يفهموا العهد القديم.
فالله منذ البداية اختار ابراهيم المؤمن والسامع لكلامه, لكي تحلّ من خلاله بركة الله على جميع الأمم:
و يتبارك في نسلك جميع أمم الأرض من أجل أنك سمعت لقولي (تكوين 22 : 18)
ولم يعلّم الله شعب إسرائيل أن يكرهوا غيرهم من الغرباء والأجانب, بل بالعكس يوصيهم بمحبتهم ( فهو إله المحبة) :
لأن الرب إلهكم هو إله الآلهة و رب الأرباب, الإله العظيم الجبار المهيب الذي لا يأخذ بالوجوه و لا يقبل رشوة, الصانع حق اليتيم و الأرملة, و المحب الغريب ليعطيه طعاما و لباسا, فأحبوا الغريب لأنكم كنتم غرباء في ارض مصر ( تثنية 10 : 17)
بل إن لعنة الله ستحل على من يظلم الغريب:
ملعون من يعوّج حقّ الغريب (تثنية 27 : 19)
أما عبارة (محبّ البشر) فيخطئ من يعتقد أنها من ابتكار العهد الجديد, بل هي أول صفة من صفات الله في العهد القديم كما نجد في سفر حكمة سليمان:
المحب البشر, الثابت, الراسخ, المطمئن, القدير, الرقيب, الذي ينفذ جميع الأرواح الفاهمة الطاهرة اللطيفة (حكمة 7 : 23)
3. أما غضب الله في العهد القديم فكان موجَّهاً فقط إلى العصاة والمتمرغين في حمأة الخطيئة.
نرى في العهد القديم أن الله دان بعض الأمم التي بلغت خطاياها ورذيلتها حداً رهيباً, بعد أن أطالَ أناته وصبره عليها أجيالاً وعصوراً طويلة, وعندما لم يعرفوا طريق التوبة, بل ازدادوا في إثمهم وعصيانهم, جاءتهم دينونة الله العادلة.
وقد تنوعت أدوات العقاب والدينونة التي استخدمها الرب.
فأهل سدوم وعمورة عندما بالغوا جداً في خطاياهم:
قال الرب إن صراخ سدوم و عمورة قد كثر و خطيتهم قد عظمت جدا (تكوين 18: 20)
عندها كانت دينونتهم هي نار وكبريت أخربت مدنهم وقطعت من التاريخ ذكرهم.
أما الأموريون ( أي شعوب كنعان) فقد أطال الله أناته عليهم حقباً طويلة , فعندما أراد ابراهيم أن يعرف متى سيدخل نسله إلى أرض الأموريين, أجابه الله بأن الأمر سيطول لأن ذنوب الأموريين لم تبلغ بعد إلى ذروتها:
لأن ذنب الأموريين ليس إلى الآن كاملا (تكوين 15 : 16)
ولكن عندما تعاظمت آثام تلك الشعوب وبلغ فسادهم إلى حد قتلهم لأولادهم تقرّباً من الشياطين التي كانوا يعبدونها.
عندها صدر حكم الله عليهم, بالفناء, والخراب على يد جيش يشوع بن نون. الذي أمره الله بطردهم وبهدم كل مذابحهم ومعابدهم:
ها أنا طارد من قدامك الأموريين و الكنعانيين و الحثيين و الفرزيين و الحويين و اليبوسيين, احترز من أن تقطع عهداً مع سكان الأرض التي أنت آتٍ إليها لئلا يصيروا فخا في وسطك, بل تهدمون مذابحهم, و تكسرون أنصابهم, و تقطعون سواريهم, فإنك لا تسجد لإله آخر لأن الرب اسمه غيور . ( خروج 34 : 11)
ولكن الرب يحذر بني إسرائيل بأنهم إذا انقادوا إلى خطايا الأموريين فإن مصيرهم ودينونتهم ستكون أسوأ وأشد:
فقال يشوع للشعب... إذا تركتم الرب و عبدتم آلهة غريبة يرجع فيسيء إليكم و يفنيكم بعد أن أحسن إليكم (يشوع 24 : 19)
وبالفعل عندما انغمس الإسرائيليون في شرورهم وزناهم وراء آلهة غريبة, فقد صدر حكم الله عليهم بسَبْيهم وتشريدهم من أرضهم, ليصيروا عبيداً للغرباء. وأما أرضهم فيعطيها الرب لأمّة أخرى غريبة:
و يكون حين تقولون لماذا صنع الرب إلهنا بنا كل هذه, تقول لهم: كما أنكم تركتموني و عبدتم آلهة غريبة في أرضكم, هكذا تعبدون الغرباء في أرض ليست لكم (أرميا 5 : 19)
إذاً الموضوع ليس موضوع شعب مختار ومفضّل من الله على سائر الشعوب, لكنها قضية أخرى.
من يُطع شرائع الله يُباركه الله كائناً من يكن, ومن يترك الله ويغرق في حمأة الخطايا, سيتركه الله ليواجه مصيره بمفرده. ولو كان ابناً لإبراهيم. هذا هو الدرس, وهذه هي دينونة الله.
و إن لم تتأدبوا مني بذلك بل سلكتم معي بالخلاف* 24 فإني أنا أسلك معكم بالخلاف و أضربكم سبعة أضعاف حسب خطاياكم* 25 أجلب عليكم سيفا ينتقم نقمة الميثاق فتجتمعون إلى مدنكم و أرسل في وسطكم الوباء فتدفعون بيد العدو * 28 فأنا أسلك معكم بالخلاف ساخطا و أؤدبكم سبعة أضعاف حسب خطاياكم* 29 فتأكلون لحم بنيكم و لحم بناتكم تأكلون* 30 و أخرّب مرتفعاتكم وأقطع شمساتكم و ألقي جثثكم على جثث أصنامكم و ترذلكم نفسي* 31 و أصيّر مدنكم خربة و مقادسكم موحشة و لا أشتم رائحة سروركم (لاويين 26 : 23)
وختاماً نطلب من الرب القدوس يسوع المسيح أن يحفظنا ويحفظ جميع الكنائس والأديرة والمدن والقرى من السخط, والجوع, والوباء, والزلازل, والغرق, والحريق, والسيف, ومن غارات القبائل الغريبة, ومن الحروب الأهلية, والموت الفجائي. ومن أجل أن يكون إلهنا الصالح والمحب البشر شفوقاً ورؤوفاً ومتعطفاً ليصرفَ, ويُبعد عنّا كلَّ سُخطٍ يثور علينا, وينقذنا من وعيده العادل ويرحمنا.
آمين
طاناسي
http://vb.orthodoxonline.org/threads/11150
Comment