في الجسد والشهوة واللباس
الأب منيف حمصي
الفصل الثالث: في الشهوة
يقول السيد له المجد: "... لأن من نظر إلى امرأة ليشتهيه، فقد زنى بها في قلبه"(متى5: 28). يسوع لا يجعل الخطيئة مجرد النظر، إنما في النظر المقترن بالشهوة. كذلك فإنه لا يقول لنا "لا تنظر". إنما "من نظر"، وفي هذا كل الاحترام لحريتنا وقراراتنا (1).
قد يظن الناس أن كلام السيد بسيط، لا بل سطحي، ولا جدوى منه. وربما يقول البعض الآخر قديم عفا عليه الزمن وتجاوزته الأيام. وقد يظهر من يقول أن هذه الكلمات كانت نافعة للمجتمعات الأبوية، والزراعية. أما وقد مضى عليها ألفا سنة، فإن الأيام تبدلت، والمجتمعات تغيرت، وما كان يصلح لذلك الزمان، ما عاد مقبولاً في هذا الزمان.
ولكن تبقى هذه الكلمات القليلة التي تلفّظ بها الرب، تلاحقنا وتهمس في أعماقنا في سويعات، لا بل في هنيهات الهدوء والتأمل. تبقى هذه الكلمات للمؤمن رسالة شديدة الوقع والتأثير، وذلك لكونها تمهد السبيل إلى النقاوة الداخلية، لا بل تضمنها لنا بفعل قوة السيد. وتبقى هذه الكلمات نبراساً لمن يشاء أن يصحح بفعلها مسيرته وتصرفاته.
والآن دعونا نتأمل من جديد في الآية المذكورة: "من نظر إلى امرأة ليشتهيها فقد زنى بها في قلبه". ما معنى هذه الكلمات؟
من الواضح أنه ليس هناك مشكلة مع النظر بحد ذاته (2)، المشكلةهي مع الشهوة التي تضطرم في الأعماق بفعل النظر. لهذا السبب قال الرب: "سراج الجسد هو العين، فإذا كانت عينك بسيطة كان جسدك نيراً".
الشهوة في المفهوم المسيحي ناراً أكلة، أتون مشتعل، لهيب مضطرم في الأعماق. ومن شأنها متى ثارت واستفحلت، أن تنهي صاحبها بفعل تفكيك وحدة كيانه.
الشهوة حريق يشب في أعماق الإنسان المعطوب. وكل إنسان معطوب، فترتفع ألسنة اللهيب إلى أعالي العقل وتأتي على ملكات الإنسان. إنها حريق في القلب قبل أن تكون زنى جسدي، أو نجاسة يعبر عنها على نحو مرئي ومحسوس. وكما أن البراكين تنتشر في أماكن حديثة التكوين وذات قشرة أرضية غير سميكة، هكذا فالنفس الحديثة الخبرة، المغناجة واللعوب، التي لا تأخذ بجوهر الأمور، بل تعشق التفاهات، متطيرة بالشهوة ومتفجرة كل حين.
كثيرون من الناس يصرحون عن شهوتهم ويرون في التصريح عما يشاؤون، مماشاة لركب التحضر والحداثة. وكثيرون غيرهم يصرحون عن شهوتهم بحجة أنها جزء من طبيعتهم التي بدورها خليقة الله وكثيرون آخرون يرون في الاشتهاء بحد ذاته أمراً حلالاً لأنه جزء من طبيعة الجسد.
الاشتهاء رديف الاستهلاك ويعرفه كل من ينتبه لنفسه ويحاسبها. والنظر بحد ذاته ليس عليه ضريبة من أحد. فأنت تستطيع أن تنظر وتشتهي دون أن يدري بك أحد. تستطيع أن تبدو للناس سوياً موزوناً وأنت في العمق قائم في ضعف وهشاشة واشتهاء ورخاوة. من هنا فإن شرعية الخطيئة داخل القلب. إنها شرعية لا يطالها عرف وقانون، ولا يشعر بها كما ولا يحد من طغيانها أحد إلا صاحبها إذا أراد.
وهكذا فالفعل الجسدي، يبدو الأكثر صعوبة، لأن دونه رادع المجتمع، وقوانين الدول، وبطش القانون، والخشية من الانفضاح. فهذه كلها تقف حائلاً دون بلوغ الفعل الجسدي إلى نهايته. من هنا لم تكن الأخلاق يوماً في المظاهر والشكليات، بل هي دائماً في قلب نقي، لا وليدة تبريرات وشكليات. الاغتصاب مثل، هو خروج على قوانين المجتمع، واقتحام لحرية نسحقها عنوة. الاغتصاب إلغاء لكرامة الإنسان وتشييء للآخر. إنه عيش في عزلة لا يرضى بها إلا المغتصب نفسه. ولكن كم من مغتصب عرف الاغتصاب دون أن يغتصب أحداً البتة؟.
في الكتاب المقدس، العين هي بوابة الشرور، كذلك هي سراج الجسد ونوره. ويستطيع المرء أن يستزيد إذا تأمل في ما أصاب زوجة فوطيفار (تك39: 7) وما حلّ بشمشون (قضاة16: 1)، وما ابتلي فيه داوود في ساعة غفلة (2صمو11: 2). وتستطيع أن ترى عاقبة الشهوانيين المستهترين والمستعبدين لأجسادهم. لذا عليك أنت، كابن لله، بشهوة العين تقاومه، وبانتفاضات الجسد تكبحه، لا سيما وأن ديدنك الطهر، ونقاوة القلب. إن دينك إن كنت متديّن، هو أولاً أن تمتلك نقاوة القلب.
وفي الحقيقة ما أشد احتياجنا إلى العزيمة في هذه الحياة! ففي أطوار عمرنا المختلفة نحمل الضعف بكل معانيه. في طفولتنا نقصّر ويعوزنا التمييز. وفي فتوتنا نشكو ما نشكو منه من الزيغان والطيش والتهور.
أما شيخوختنا التي يفترض بها أن تختزن خبراتن، فتراها تلفتنا إلى حب الحياة والتمسك بالأرض. وكم وكم من عظماء وقادة، استبد بهم الوهم فظنو، لا بل توهموا أنهم أشداء وأشاوس لا ينكسرون ولا يقهرون. لقد ظن الإلهي بطرس أنه لن ينكسر (متى26: 31-35)، إلا أنه سقط في تجربة النكران فأدرك أن القوة لله (1بطرس4: 11).
و القوة التي تعوزنا ليست طبيعية أصل، فشمشون الذي غلب الأسد وشق فكه، عجز عن مقاومة دليلة، رغم أنه لم يكن بين الناس من هو قوي مثله، كما ولم يكن هناك ضعيف مثله أيضاً. لذا فإن سفر الأمثال قال في من هو على شاكلته ما يلي: "إن مالك روح خير ممن يأخذ مدينة" (أمثال16: 32).
القوة الحقيقة هي تلك التي تجعل المرء قادراً أن يكسر الشر ويكبح جماح الخطايا. وذلك لأن أسلحتنا ليست جسدية، بل هي قادرة بقوة الله أن تهدم حصون (2كور10: 4-5). هذه هي القوة التي أزرت يوسف فجعلته يؤثر أعماق السجون على الوقوع في إشراك زوجة فوطيفار (تك39: 7). وهي عينها التي قادت موسى فجعلته يسترخص أمجاد فرعون حباً بشعب الله. وهي نفسها التي وقفت مع داوود عندما كسر جوليات الجبار. وهي نفسها التي رافقت يوحنا الصابغ، كي يقاوم هيرودوس الضال. وأخيراًً هي القوة عينها التي توزنا كي تنظر عيوننا بسلام وهدوء ومحبة فلا نستهلك من ننظر إليه؟
إلا أني أعرف أخي القارئ وأختي القارئة أنكما تستصعبان النقاوة الداخلية في هذا الزمان، فقد رخصت كرامة الأجساد إلى حد مريع، وباتت نقاوة القلب حلماً قابعاً وراء البحار، وفي ذري الجبال البعيدة. لا بل أن عيش النقاوة الداخلية بات ضرباً من التخلّف. لقد تعاظمت أمواج الشهوات التي تكد سفينة كياننا من كل جهة، حتى أن المرء بات يشعر أنه سيغرق لا محالة أمام جيشان المفاسد وكثرة المغريات. فحيثما نظرت تجد ما يثير فيك الشهوة. حيثما نظرت، تجد نفسك قريباً من الحريق. لكن لا بد من مخرج وحلّ.
كأني في هذا الزمان أمام شهوة مدروسة ومبرمجة تعطى للناس على جرعات ودفعات لا سيما عبر الشاشتين الكبيرة والصغيرة، عبر المجلات، عبر كلمات الأغاني، عبر الصور، عبر الألوان، عبر اليافطات التجارية المختلفة المزروعة هنا وهناك على الطرقات. كأن زماننا هذ، لا يريد أن يسمح براحتنا الداخلية. وهذا ليس غريباً أصل، فالمرء لا يأتي إلى النقاوة الداخلية بدون دم.
ولما كانت هكذا صورة هذا الزمان، فالكثيرون من الناس، مقتنعون بوجوب الاستسلام والتراخي أمام موجات الشهوة والإغراء. وقليلون فقط يرون في الجهاد كرامة، وفي الانضباط كرامة، وفي القدوة كرامة، وفي نقاوة القلب كل فخر ورجولة وكرامة. وأهل التقوى المتجذرة في تسليم القلب لله، باتوا في نظر الكثيرين من الناس شريحة من المتخلفين الضالين المعتوهين الذين لا جدوى منهم في عصر التكنولوجيا والعلوم. القلة فقط، لا تقبل بتفلّت الأجساد من القيم والأعراف. بينما راح سواد الناس يقبلون على المغريات المختلفة على نحو مريع. لقد أعمتهم الدهشة وأبكمهم الذهول.
وأعجباه من أبناء هذا الزمان! وأعجباه ممن تنتقل عيونهم من فتاة إلى فتاة، ومن امرأة إلى امرأة، ومن حسناء إلى حسناء! وأعجباه ممن يهملون زوجاتهم ليرتموا في أحضان غرائزهم وشهواتهم! وأعجباه من الآباء والأمهات الذين غيّبوا القدوة من حياتهم! ترى ماذا يقطف المتهاونون والمستسلمون؟ إنهم يحصدون الحياة المرة لأنهم يزرعون الشهوات. ومن يزرع الشهوات لا يقطف إلا الحريق. ومع ذلك فإن الكثيرين لا يتعظون. بعد هذ، أليس الأجدى بنا أن ننظر بهدوء وسلام؟ أليس حريّاً بنا أن ننظر بمحبة واحترام؟ لماذا لا نقلع عن استهلاك الآخرين بعيوننا؟ لماذا لا نحجم عن تشييء الناس؟ صحيح أن كثيرات من النساء والفتيات أحببن المظهر والموضة والمساحيق فأخذتهن النشوة والزهو فتبرّجن ولبسن وتغندرن وذلك كي يجتذبن كل من ينظر إليهن. ولكن ما عاقبة هذا؟ ما الذي سنجنيه بعد حين؟
في قناعتي، ليس هناك إلا الحريق. ليس هناك إلا التفاهة. ليس هناك إلا التسطح والسذاجة. ليس هناك إلا الفراغ المميت.
والآن، رب من يقول وفي حيرة وضعف: أنا عاجز عن كبح جماح عينيّ. عاجز أن أضبط نفسي. أنا مسرور وراضٍ بما أنا فيه، ولا أقوى على التغيير، ولا أريد التغيير. دعوني كالنعامة.
في الحقيقة ليس المطلوب أن نسير في الشارع ونحن نغمض أعيينا. فإغماض العيون لا يهب النقاوة على نحو آلي. النقاوة لا تأتي من الخبل، وليست هي ثمرة الجنون، إنما هي أولاً وأخيراً في الإقلاع عن الفساد بفرح طمعاً في وجه الرب، ورغبة في الجلوس عند قدميه. النقاوة تأتي من استعداد الإنسان لاقتبال قوة الله التي وحدها تقدر أن تقود الإنسان إلى بر الأمان؟
لا يظن أحد أن النقاوة من نصيب العميان، فالعمى الجسدي ليس فضيلة في حد ذاته. لبس من علاقة بين العمى الجسدي، والنقاوة القلبية. وإذا كان الأعمى نقياً وطاهر، فإبليس أب النقاوة لأنه لا يبصر ولا جسد له.
بعد هذا ليست العظمة أن تغمض عينيك أمام المرأة، أو أمام صبية مغناج. العظمة كلها تأتي من حبك واحترامك للجميع. وشيء من حبك للمرأة يتجلى في عدم استهلاكها. ترى هل تستطيع بعد هذ، أن تنظر بدون شهوة؟ هل تجد حقاً أنك عاجز عن مقاومة متطلبات الشهوة؟ ألا تتوق نفسك إلى علاقة مع الناس تخلو من الشهوة؟ فاسمع هذه الأخبار: كان شمشون الجبار، وقبل أن وقع في يد الفلسطينيين، ذا عينين تنظران. ولكن في الأسر قلعت عيناه ففتحت بصيرته (قضاة16: 4) (قضاة16: 21، 28). وروي عن قدماء اليونانيين أنهم صوّروا آلهتهم بعينين مغمضتين. وكتبوا فوق الرسومات عبارات تهديد وتوعيد بحق من يفتح عينيه لمشاهدة ما يؤذي. وأفروديت أيضاً كانوا يرسمونها نائمة قريرة العينين وقد جعلوا فوق رسمها الكلمات التالية: انتبه، فإن هي فتحت عينيه، عليك أن تغمض عينيك.و في الكتاب المقدس تقترن خطايا الإنسان، بالنظر (تك 3: 6) لذلك لا نستغرب عندما يكلمنا الحبيب يوحنا عن شهوة العين (1يو 2 : 16). فضلاً عن ذلك، أليس النظر هو ما أدّى إلى الغمر والطوفان؟ أليس هو رؤية بني الله لبنات الناس أنهن كنّ حسنات (تك6: 2)؟ وما الذي أهلك مدينة شكيم؟ أليس هو رؤية حمور بن شكيم لدينه ابنة يعقوب (تك34)؟ ماذا بعد؟
قيل عن عظماء طروادة أنهم رغبوا في إقصاء غانية شريرة، لكن ما أن مثلت في حضرتهم لسماع الحكم بحقه، حتى تخازلوا جميع، وخارت عزيمتهم وشجاعتهم، فعدلوا عن قرارهم، استبقوه، فقد سحرهم جمالها ومظهرها. كذلك قبل عن العظيم اسكندر ذي القرنين أنه لما أخذ زوجة داريوس أسيرة، وكانت آية في الحسن والجمال، لم يرد البتة أن ينظر إليه، أو يسمع صوته، أو يأنس لحضوره، أو يكلمها. وكان يردد أمام قواد جيشه: أن من غلب جيوشاً جرارة، لا يمكن أن تغلبه امرأة. كذلك قيل عن انطوخيوس الذي جرّ جيشاً عظيماً فتح به مدينة أفسس المنيعة، أنه لما رأى الكاهنة التي كانت في هيكل أرطاميس وكانت على درجة كبيرة من الجمال، تراجع تو، لأنه لمح هزيمته في وجهه، فولى مدبراً قبل أن يسقط في شباكها وحبها.
لقد أدرك عدد كبير من النفوس ضرورة الإقلاع عن النظر بقصد الاشتهاء، وكان القديس ارسانيوس الكبير واحداً منهم. فقد رفض هذا أن يستقبل سيدة نبيلة قدمت إليه من إيطاليا تطلب بركته، وذلك كي لا يضطر للصلاة كي يبعد الرب ذكراها وصورتها من خياله. (راجع كتاب أقوال الآباء الشيوخ)
يا أخي، لا يجوز أن تستحي إذا قيل لك في البداية أنك شبه معتوه لكونك تقلع عن النظر، فبعض الحياء جمال وبركة وخير. حاول أن تنظر، فقط عندما تدعو الضرورة. هناك الكثير حولك لتراه، وربما بعضه مؤذ وبعضه الآخر نافع. فجانب ما يؤذي، ومتّع ناظريك بما يكسبك عظمة الخالق. كل ما في الكون جميل، والإنسان تاج الكون جميل بداهة، إلا أن المشكلة هي في عينيك وقلبك المعطوبين. وحاول وأنت تصلي أن تقول لنفسك: أن كل فتاة أنظر إليها في الطريق، وفي المدرسة، وفي الكنيسة، وفي الدكان، هي بمثابة أن وأخت أو نسيبة.
هذه فكرة عظيمة قد تنفعك لكسب النقاوة الداخلية، لا بل يمكنها أن تفعل فعلها إذا كنت تشفعها بالصلاة إلى الله لطلب العون والمؤازرة. لكن قد تستصعب في البداية أن ترى في القريبة، وفي عابرة السبيل، صورة الأخت والأم، فقد تكون أنت ممن قست عليهم الأيام، فعاشوا بدون أب وأم. وإذا كنت تعيش في غربة مدمرة، فاتخذ لنفسك أناساً تأمن لهم وترتاح لنصحهم وارشادهم. وربما هذا ما فعله الرب من أجلنا عندما قال ليوحنا: "هذه أمك". فقد أودعت مريم في يد يوحنا لحمايتها. تستطيع إن شئت أنت أيضاً أن تحمي نفسك بعدد من المؤمنين الطيبين، فالكنيسة أمن، وعندها ما يكفي من الأبناء الذين يمكن أن يستعان بهم لخدمة المتعبين والضالين. كذلك يمكنك أن تتردد على كاهن قديس أو أسقف قديس لالتماس النصح والبركة. وفي حياتك، حكّم عقلك كل حين، وتريّث قبل أن تقدم على أي شيء. حاول أن تجعل مرضاة الله أمام عينيك. لا تذهب أبداً حيث لا تستطيع أن تأخذ المسيح معك. حاول في كل مرة تقع عيناك على فتاة، أن تقول لنفسك: ما لي وهذه المرأة أتعقبها بنظرات ملؤها الشهوة والاستهلاك؟ إنها لا تنظر إلى كما أفعل أن، ولا تستهلكني كما أفعل بها أنا. إنها لا تتلهف إلى كما أفعل أنا. ربما هي مشغولة بأمر أخذ مجامع قلبها. وربما هي تسرع إلى موعد تتهيّب نتيجته. لا بل ربما تتجه إلى حبيب يملأ حياتها! ما لي وهذا السخف يتملكني، وهذه الشهوة تحرقني وتكويني؟ ما لي والأفكار الشريرة تنتابني؟ لماذا لا أتعقل؟ لماذا لا أنشغل بنفسي وبدوري وواجباتي ومستقبلي؟ لماذا لا أقول لنفسي: غداً عندما أتزوج وأعيش مع فتاة أحبها وتحبني سيملأني الفخر والاعتزاز عندما أبوح لها بكل سريرتي وخصوصياتي، ومن أهمها أنني لم أعرف فتاة قبلها؟ لا بد أنك ستمتلئ بالبركات عندما تفكر هكذا. ولكن لا تنسى أن هذا ليس النقاوة كله، بل هو خطوة الألف ميل. ولا تنسى أيضاً أن الناس في هذا الزمان قد يرون فيك كل السخف والتفاهة إن كنت نقي القلب وعفيفاً.
أما إذا كنت متزوج، فمن الجميل أن يعرف كل من حولك أنك تنظر بهدوء، وتتكلم بهدوء، إذا كنت متزوج، يمكنك أن تقول لنفسك: ها قد حان الوقت كي أطلق روح القدوة من أجل الصغار والكبار، من أجل الضعفاء والأقوياء، المراهقين والمتزوجين، وفوق هذا أن أكون قدوة من أجل نفسي. لا يجوز التساهل مع النفس. فالرب يصلي من أجلي كي يحييني ويقدسني. أما إذا كنت معلم، فلازم الانضباط والقدوة كي يكون عندك ما تقدمه كخميرة حياة لتلاميذك.
إلا أني أعرف بعد هذه العظة، أنك عالم بكل ما أقول، لكنّي أردت أن أذكّرك فقط أن النقاوة لا تؤخذ كشربة ماء، ولا تلبس دفعة واحدة، فالمخلص طويل الأناة ومستعد أن يهبنا دائماً النقاوة الكاملة.إلا أن التعب ضرورة منذ أن نعي أننا في الوجود. لذ، لا تتساهل مع نفسك، ولا تكن كمن جعل أفعى في حضنه وشرع يداعبها دون أن ينتبه أن الخطر منها وشيك.
نحن في عصر فقد أبناؤه القيم وتخلوا عن الرصانة والقدوة. عصرنا هو هصر الشهوات بامتياز. عصر الجنس بامتياز، عصر المخدرات بامتياز. إنه عصر اللباس والتبرّج، عصر المظهر و الأناقة، عصر الحرية غير المشروطة وغير المسؤولة. إنه عصر الفلتان غير المحدود. وما يدهشني في هذا العصر هو سكوت الكبار عن تصرفات الصغار. وربما يعود ذلك إلى أن الكبار أنفسهم أغفلوا القدوة وتعبوا من المسؤولية. في عصرنا هذا تسمع ما لم يسمعه أجدادك طوال حياتهم. لقد قرأت يوماً مقالة عن توظيف الجنس مع الصغار في جنوب شرق آسيا. وقرأت أيضاً إذا أردت الاستزادة أن هناك الملايين من الأطفال يتم ابتزازهم جنسياً بعمالة رجل معروف في الدبلوماسية البلجيكية. ترى أية شبيبة سنقدم للحياة مع مطلع الألف الثالث؟ ماذا سنحصد إذا كنا لا نزرع إلا الملذات؟ وقرأت أيضاً –إذا أردت الاستزادة- في صحيفة النهار عن مؤسسة (one-line service، computer American incorporated service) أنها أوقفت خدماتها لنحو أربعة ملايين مشترك في قسم الأفلام الجنسية وعلى (inter-net)، وذلك تحت ضغط المحققين الألمان الذين هالهم استخدام الأطفال في الأفلام الإباحية. إلا حظت كيف أن الأوربيين يتألمون وينزعجون ويحتجون من الفساد؟ (للاستزادة راجع بالتفصيل جريدة النهار عدد130 ك1 1995).
و أعود لأقول: انتبه أنت لنفسك. انتبه لمن هم حولك. انتبه للصغير وللكبير، وكن قدوة للجميع. لا تقل أنا صغير. افعل هذا من الآن، وذلك كي تتمكن من الانتباه لأطفالك إذا أعطيتهم في الزواج بعد سنين. حذار من الشهوات، لأنها لا تؤتي إلا الفراغ والعدم.
ولكن تبقى هذه الكلمات القليلة التي تلفّظ بها الرب، تلاحقنا وتهمس في أعماقنا في سويعات، لا بل في هنيهات الهدوء والتأمل. تبقى هذه الكلمات للمؤمن رسالة شديدة الوقع والتأثير، وذلك لكونها تمهد السبيل إلى النقاوة الداخلية، لا بل تضمنها لنا بفعل قوة السيد. وتبقى هذه الكلمات نبراساً لمن يشاء أن يصحح بفعلها مسيرته وتصرفاته.
والآن دعونا نتأمل من جديد في الآية المذكورة: "من نظر إلى امرأة ليشتهيها فقد زنى بها في قلبه". ما معنى هذه الكلمات؟
من الواضح أنه ليس هناك مشكلة مع النظر بحد ذاته (2)، المشكلةهي مع الشهوة التي تضطرم في الأعماق بفعل النظر. لهذا السبب قال الرب: "سراج الجسد هو العين، فإذا كانت عينك بسيطة كان جسدك نيراً".
الشهوة في المفهوم المسيحي ناراً أكلة، أتون مشتعل، لهيب مضطرم في الأعماق. ومن شأنها متى ثارت واستفحلت، أن تنهي صاحبها بفعل تفكيك وحدة كيانه.
الشهوة حريق يشب في أعماق الإنسان المعطوب. وكل إنسان معطوب، فترتفع ألسنة اللهيب إلى أعالي العقل وتأتي على ملكات الإنسان. إنها حريق في القلب قبل أن تكون زنى جسدي، أو نجاسة يعبر عنها على نحو مرئي ومحسوس. وكما أن البراكين تنتشر في أماكن حديثة التكوين وذات قشرة أرضية غير سميكة، هكذا فالنفس الحديثة الخبرة، المغناجة واللعوب، التي لا تأخذ بجوهر الأمور، بل تعشق التفاهات، متطيرة بالشهوة ومتفجرة كل حين.
كثيرون من الناس يصرحون عن شهوتهم ويرون في التصريح عما يشاؤون، مماشاة لركب التحضر والحداثة. وكثيرون غيرهم يصرحون عن شهوتهم بحجة أنها جزء من طبيعتهم التي بدورها خليقة الله وكثيرون آخرون يرون في الاشتهاء بحد ذاته أمراً حلالاً لأنه جزء من طبيعة الجسد.
الاشتهاء رديف الاستهلاك ويعرفه كل من ينتبه لنفسه ويحاسبها. والنظر بحد ذاته ليس عليه ضريبة من أحد. فأنت تستطيع أن تنظر وتشتهي دون أن يدري بك أحد. تستطيع أن تبدو للناس سوياً موزوناً وأنت في العمق قائم في ضعف وهشاشة واشتهاء ورخاوة. من هنا فإن شرعية الخطيئة داخل القلب. إنها شرعية لا يطالها عرف وقانون، ولا يشعر بها كما ولا يحد من طغيانها أحد إلا صاحبها إذا أراد.
وهكذا فالفعل الجسدي، يبدو الأكثر صعوبة، لأن دونه رادع المجتمع، وقوانين الدول، وبطش القانون، والخشية من الانفضاح. فهذه كلها تقف حائلاً دون بلوغ الفعل الجسدي إلى نهايته. من هنا لم تكن الأخلاق يوماً في المظاهر والشكليات، بل هي دائماً في قلب نقي، لا وليدة تبريرات وشكليات. الاغتصاب مثل، هو خروج على قوانين المجتمع، واقتحام لحرية نسحقها عنوة. الاغتصاب إلغاء لكرامة الإنسان وتشييء للآخر. إنه عيش في عزلة لا يرضى بها إلا المغتصب نفسه. ولكن كم من مغتصب عرف الاغتصاب دون أن يغتصب أحداً البتة؟.
في الكتاب المقدس، العين هي بوابة الشرور، كذلك هي سراج الجسد ونوره. ويستطيع المرء أن يستزيد إذا تأمل في ما أصاب زوجة فوطيفار (تك39: 7) وما حلّ بشمشون (قضاة16: 1)، وما ابتلي فيه داوود في ساعة غفلة (2صمو11: 2). وتستطيع أن ترى عاقبة الشهوانيين المستهترين والمستعبدين لأجسادهم. لذا عليك أنت، كابن لله، بشهوة العين تقاومه، وبانتفاضات الجسد تكبحه، لا سيما وأن ديدنك الطهر، ونقاوة القلب. إن دينك إن كنت متديّن، هو أولاً أن تمتلك نقاوة القلب.
وفي الحقيقة ما أشد احتياجنا إلى العزيمة في هذه الحياة! ففي أطوار عمرنا المختلفة نحمل الضعف بكل معانيه. في طفولتنا نقصّر ويعوزنا التمييز. وفي فتوتنا نشكو ما نشكو منه من الزيغان والطيش والتهور.
أما شيخوختنا التي يفترض بها أن تختزن خبراتن، فتراها تلفتنا إلى حب الحياة والتمسك بالأرض. وكم وكم من عظماء وقادة، استبد بهم الوهم فظنو، لا بل توهموا أنهم أشداء وأشاوس لا ينكسرون ولا يقهرون. لقد ظن الإلهي بطرس أنه لن ينكسر (متى26: 31-35)، إلا أنه سقط في تجربة النكران فأدرك أن القوة لله (1بطرس4: 11).
و القوة التي تعوزنا ليست طبيعية أصل، فشمشون الذي غلب الأسد وشق فكه، عجز عن مقاومة دليلة، رغم أنه لم يكن بين الناس من هو قوي مثله، كما ولم يكن هناك ضعيف مثله أيضاً. لذا فإن سفر الأمثال قال في من هو على شاكلته ما يلي: "إن مالك روح خير ممن يأخذ مدينة" (أمثال16: 32).
القوة الحقيقة هي تلك التي تجعل المرء قادراً أن يكسر الشر ويكبح جماح الخطايا. وذلك لأن أسلحتنا ليست جسدية، بل هي قادرة بقوة الله أن تهدم حصون (2كور10: 4-5). هذه هي القوة التي أزرت يوسف فجعلته يؤثر أعماق السجون على الوقوع في إشراك زوجة فوطيفار (تك39: 7). وهي عينها التي قادت موسى فجعلته يسترخص أمجاد فرعون حباً بشعب الله. وهي نفسها التي وقفت مع داوود عندما كسر جوليات الجبار. وهي نفسها التي رافقت يوحنا الصابغ، كي يقاوم هيرودوس الضال. وأخيراًً هي القوة عينها التي توزنا كي تنظر عيوننا بسلام وهدوء ومحبة فلا نستهلك من ننظر إليه؟
إلا أني أعرف أخي القارئ وأختي القارئة أنكما تستصعبان النقاوة الداخلية في هذا الزمان، فقد رخصت كرامة الأجساد إلى حد مريع، وباتت نقاوة القلب حلماً قابعاً وراء البحار، وفي ذري الجبال البعيدة. لا بل أن عيش النقاوة الداخلية بات ضرباً من التخلّف. لقد تعاظمت أمواج الشهوات التي تكد سفينة كياننا من كل جهة، حتى أن المرء بات يشعر أنه سيغرق لا محالة أمام جيشان المفاسد وكثرة المغريات. فحيثما نظرت تجد ما يثير فيك الشهوة. حيثما نظرت، تجد نفسك قريباً من الحريق. لكن لا بد من مخرج وحلّ.
كأني في هذا الزمان أمام شهوة مدروسة ومبرمجة تعطى للناس على جرعات ودفعات لا سيما عبر الشاشتين الكبيرة والصغيرة، عبر المجلات، عبر كلمات الأغاني، عبر الصور، عبر الألوان، عبر اليافطات التجارية المختلفة المزروعة هنا وهناك على الطرقات. كأن زماننا هذ، لا يريد أن يسمح براحتنا الداخلية. وهذا ليس غريباً أصل، فالمرء لا يأتي إلى النقاوة الداخلية بدون دم.
ولما كانت هكذا صورة هذا الزمان، فالكثيرون من الناس، مقتنعون بوجوب الاستسلام والتراخي أمام موجات الشهوة والإغراء. وقليلون فقط يرون في الجهاد كرامة، وفي الانضباط كرامة، وفي القدوة كرامة، وفي نقاوة القلب كل فخر ورجولة وكرامة. وأهل التقوى المتجذرة في تسليم القلب لله، باتوا في نظر الكثيرين من الناس شريحة من المتخلفين الضالين المعتوهين الذين لا جدوى منهم في عصر التكنولوجيا والعلوم. القلة فقط، لا تقبل بتفلّت الأجساد من القيم والأعراف. بينما راح سواد الناس يقبلون على المغريات المختلفة على نحو مريع. لقد أعمتهم الدهشة وأبكمهم الذهول.
وأعجباه من أبناء هذا الزمان! وأعجباه ممن تنتقل عيونهم من فتاة إلى فتاة، ومن امرأة إلى امرأة، ومن حسناء إلى حسناء! وأعجباه ممن يهملون زوجاتهم ليرتموا في أحضان غرائزهم وشهواتهم! وأعجباه من الآباء والأمهات الذين غيّبوا القدوة من حياتهم! ترى ماذا يقطف المتهاونون والمستسلمون؟ إنهم يحصدون الحياة المرة لأنهم يزرعون الشهوات. ومن يزرع الشهوات لا يقطف إلا الحريق. ومع ذلك فإن الكثيرين لا يتعظون. بعد هذ، أليس الأجدى بنا أن ننظر بهدوء وسلام؟ أليس حريّاً بنا أن ننظر بمحبة واحترام؟ لماذا لا نقلع عن استهلاك الآخرين بعيوننا؟ لماذا لا نحجم عن تشييء الناس؟ صحيح أن كثيرات من النساء والفتيات أحببن المظهر والموضة والمساحيق فأخذتهن النشوة والزهو فتبرّجن ولبسن وتغندرن وذلك كي يجتذبن كل من ينظر إليهن. ولكن ما عاقبة هذا؟ ما الذي سنجنيه بعد حين؟
في قناعتي، ليس هناك إلا الحريق. ليس هناك إلا التفاهة. ليس هناك إلا التسطح والسذاجة. ليس هناك إلا الفراغ المميت.
والآن، رب من يقول وفي حيرة وضعف: أنا عاجز عن كبح جماح عينيّ. عاجز أن أضبط نفسي. أنا مسرور وراضٍ بما أنا فيه، ولا أقوى على التغيير، ولا أريد التغيير. دعوني كالنعامة.
في الحقيقة ليس المطلوب أن نسير في الشارع ونحن نغمض أعيينا. فإغماض العيون لا يهب النقاوة على نحو آلي. النقاوة لا تأتي من الخبل، وليست هي ثمرة الجنون، إنما هي أولاً وأخيراً في الإقلاع عن الفساد بفرح طمعاً في وجه الرب، ورغبة في الجلوس عند قدميه. النقاوة تأتي من استعداد الإنسان لاقتبال قوة الله التي وحدها تقدر أن تقود الإنسان إلى بر الأمان؟
لا يظن أحد أن النقاوة من نصيب العميان، فالعمى الجسدي ليس فضيلة في حد ذاته. لبس من علاقة بين العمى الجسدي، والنقاوة القلبية. وإذا كان الأعمى نقياً وطاهر، فإبليس أب النقاوة لأنه لا يبصر ولا جسد له.
بعد هذا ليست العظمة أن تغمض عينيك أمام المرأة، أو أمام صبية مغناج. العظمة كلها تأتي من حبك واحترامك للجميع. وشيء من حبك للمرأة يتجلى في عدم استهلاكها. ترى هل تستطيع بعد هذ، أن تنظر بدون شهوة؟ هل تجد حقاً أنك عاجز عن مقاومة متطلبات الشهوة؟ ألا تتوق نفسك إلى علاقة مع الناس تخلو من الشهوة؟ فاسمع هذه الأخبار: كان شمشون الجبار، وقبل أن وقع في يد الفلسطينيين، ذا عينين تنظران. ولكن في الأسر قلعت عيناه ففتحت بصيرته (قضاة16: 4) (قضاة16: 21، 28). وروي عن قدماء اليونانيين أنهم صوّروا آلهتهم بعينين مغمضتين. وكتبوا فوق الرسومات عبارات تهديد وتوعيد بحق من يفتح عينيه لمشاهدة ما يؤذي. وأفروديت أيضاً كانوا يرسمونها نائمة قريرة العينين وقد جعلوا فوق رسمها الكلمات التالية: انتبه، فإن هي فتحت عينيه، عليك أن تغمض عينيك.و في الكتاب المقدس تقترن خطايا الإنسان، بالنظر (تك 3: 6) لذلك لا نستغرب عندما يكلمنا الحبيب يوحنا عن شهوة العين (1يو 2 : 16). فضلاً عن ذلك، أليس النظر هو ما أدّى إلى الغمر والطوفان؟ أليس هو رؤية بني الله لبنات الناس أنهن كنّ حسنات (تك6: 2)؟ وما الذي أهلك مدينة شكيم؟ أليس هو رؤية حمور بن شكيم لدينه ابنة يعقوب (تك34)؟ ماذا بعد؟
قيل عن عظماء طروادة أنهم رغبوا في إقصاء غانية شريرة، لكن ما أن مثلت في حضرتهم لسماع الحكم بحقه، حتى تخازلوا جميع، وخارت عزيمتهم وشجاعتهم، فعدلوا عن قرارهم، استبقوه، فقد سحرهم جمالها ومظهرها. كذلك قبل عن العظيم اسكندر ذي القرنين أنه لما أخذ زوجة داريوس أسيرة، وكانت آية في الحسن والجمال، لم يرد البتة أن ينظر إليه، أو يسمع صوته، أو يأنس لحضوره، أو يكلمها. وكان يردد أمام قواد جيشه: أن من غلب جيوشاً جرارة، لا يمكن أن تغلبه امرأة. كذلك قيل عن انطوخيوس الذي جرّ جيشاً عظيماً فتح به مدينة أفسس المنيعة، أنه لما رأى الكاهنة التي كانت في هيكل أرطاميس وكانت على درجة كبيرة من الجمال، تراجع تو، لأنه لمح هزيمته في وجهه، فولى مدبراً قبل أن يسقط في شباكها وحبها.
لقد أدرك عدد كبير من النفوس ضرورة الإقلاع عن النظر بقصد الاشتهاء، وكان القديس ارسانيوس الكبير واحداً منهم. فقد رفض هذا أن يستقبل سيدة نبيلة قدمت إليه من إيطاليا تطلب بركته، وذلك كي لا يضطر للصلاة كي يبعد الرب ذكراها وصورتها من خياله. (راجع كتاب أقوال الآباء الشيوخ)
يا أخي، لا يجوز أن تستحي إذا قيل لك في البداية أنك شبه معتوه لكونك تقلع عن النظر، فبعض الحياء جمال وبركة وخير. حاول أن تنظر، فقط عندما تدعو الضرورة. هناك الكثير حولك لتراه، وربما بعضه مؤذ وبعضه الآخر نافع. فجانب ما يؤذي، ومتّع ناظريك بما يكسبك عظمة الخالق. كل ما في الكون جميل، والإنسان تاج الكون جميل بداهة، إلا أن المشكلة هي في عينيك وقلبك المعطوبين. وحاول وأنت تصلي أن تقول لنفسك: أن كل فتاة أنظر إليها في الطريق، وفي المدرسة، وفي الكنيسة، وفي الدكان، هي بمثابة أن وأخت أو نسيبة.
هذه فكرة عظيمة قد تنفعك لكسب النقاوة الداخلية، لا بل يمكنها أن تفعل فعلها إذا كنت تشفعها بالصلاة إلى الله لطلب العون والمؤازرة. لكن قد تستصعب في البداية أن ترى في القريبة، وفي عابرة السبيل، صورة الأخت والأم، فقد تكون أنت ممن قست عليهم الأيام، فعاشوا بدون أب وأم. وإذا كنت تعيش في غربة مدمرة، فاتخذ لنفسك أناساً تأمن لهم وترتاح لنصحهم وارشادهم. وربما هذا ما فعله الرب من أجلنا عندما قال ليوحنا: "هذه أمك". فقد أودعت مريم في يد يوحنا لحمايتها. تستطيع إن شئت أنت أيضاً أن تحمي نفسك بعدد من المؤمنين الطيبين، فالكنيسة أمن، وعندها ما يكفي من الأبناء الذين يمكن أن يستعان بهم لخدمة المتعبين والضالين. كذلك يمكنك أن تتردد على كاهن قديس أو أسقف قديس لالتماس النصح والبركة. وفي حياتك، حكّم عقلك كل حين، وتريّث قبل أن تقدم على أي شيء. حاول أن تجعل مرضاة الله أمام عينيك. لا تذهب أبداً حيث لا تستطيع أن تأخذ المسيح معك. حاول في كل مرة تقع عيناك على فتاة، أن تقول لنفسك: ما لي وهذه المرأة أتعقبها بنظرات ملؤها الشهوة والاستهلاك؟ إنها لا تنظر إلى كما أفعل أن، ولا تستهلكني كما أفعل بها أنا. إنها لا تتلهف إلى كما أفعل أنا. ربما هي مشغولة بأمر أخذ مجامع قلبها. وربما هي تسرع إلى موعد تتهيّب نتيجته. لا بل ربما تتجه إلى حبيب يملأ حياتها! ما لي وهذا السخف يتملكني، وهذه الشهوة تحرقني وتكويني؟ ما لي والأفكار الشريرة تنتابني؟ لماذا لا أتعقل؟ لماذا لا أنشغل بنفسي وبدوري وواجباتي ومستقبلي؟ لماذا لا أقول لنفسي: غداً عندما أتزوج وأعيش مع فتاة أحبها وتحبني سيملأني الفخر والاعتزاز عندما أبوح لها بكل سريرتي وخصوصياتي، ومن أهمها أنني لم أعرف فتاة قبلها؟ لا بد أنك ستمتلئ بالبركات عندما تفكر هكذا. ولكن لا تنسى أن هذا ليس النقاوة كله، بل هو خطوة الألف ميل. ولا تنسى أيضاً أن الناس في هذا الزمان قد يرون فيك كل السخف والتفاهة إن كنت نقي القلب وعفيفاً.
أما إذا كنت متزوج، فمن الجميل أن يعرف كل من حولك أنك تنظر بهدوء، وتتكلم بهدوء، إذا كنت متزوج، يمكنك أن تقول لنفسك: ها قد حان الوقت كي أطلق روح القدوة من أجل الصغار والكبار، من أجل الضعفاء والأقوياء، المراهقين والمتزوجين، وفوق هذا أن أكون قدوة من أجل نفسي. لا يجوز التساهل مع النفس. فالرب يصلي من أجلي كي يحييني ويقدسني. أما إذا كنت معلم، فلازم الانضباط والقدوة كي يكون عندك ما تقدمه كخميرة حياة لتلاميذك.
إلا أني أعرف بعد هذه العظة، أنك عالم بكل ما أقول، لكنّي أردت أن أذكّرك فقط أن النقاوة لا تؤخذ كشربة ماء، ولا تلبس دفعة واحدة، فالمخلص طويل الأناة ومستعد أن يهبنا دائماً النقاوة الكاملة.إلا أن التعب ضرورة منذ أن نعي أننا في الوجود. لذ، لا تتساهل مع نفسك، ولا تكن كمن جعل أفعى في حضنه وشرع يداعبها دون أن ينتبه أن الخطر منها وشيك.
نحن في عصر فقد أبناؤه القيم وتخلوا عن الرصانة والقدوة. عصرنا هو هصر الشهوات بامتياز. عصر الجنس بامتياز، عصر المخدرات بامتياز. إنه عصر اللباس والتبرّج، عصر المظهر و الأناقة، عصر الحرية غير المشروطة وغير المسؤولة. إنه عصر الفلتان غير المحدود. وما يدهشني في هذا العصر هو سكوت الكبار عن تصرفات الصغار. وربما يعود ذلك إلى أن الكبار أنفسهم أغفلوا القدوة وتعبوا من المسؤولية. في عصرنا هذا تسمع ما لم يسمعه أجدادك طوال حياتهم. لقد قرأت يوماً مقالة عن توظيف الجنس مع الصغار في جنوب شرق آسيا. وقرأت أيضاً إذا أردت الاستزادة أن هناك الملايين من الأطفال يتم ابتزازهم جنسياً بعمالة رجل معروف في الدبلوماسية البلجيكية. ترى أية شبيبة سنقدم للحياة مع مطلع الألف الثالث؟ ماذا سنحصد إذا كنا لا نزرع إلا الملذات؟ وقرأت أيضاً –إذا أردت الاستزادة- في صحيفة النهار عن مؤسسة (one-line service، computer American incorporated service) أنها أوقفت خدماتها لنحو أربعة ملايين مشترك في قسم الأفلام الجنسية وعلى (inter-net)، وذلك تحت ضغط المحققين الألمان الذين هالهم استخدام الأطفال في الأفلام الإباحية. إلا حظت كيف أن الأوربيين يتألمون وينزعجون ويحتجون من الفساد؟ (للاستزادة راجع بالتفصيل جريدة النهار عدد130 ك1 1995).
و أعود لأقول: انتبه أنت لنفسك. انتبه لمن هم حولك. انتبه للصغير وللكبير، وكن قدوة للجميع. لا تقل أنا صغير. افعل هذا من الآن، وذلك كي تتمكن من الانتباه لأطفالك إذا أعطيتهم في الزواج بعد سنين. حذار من الشهوات، لأنها لا تؤتي إلا الفراغ والعدم.
Comment