الخطيئة
الخطيئة قصة ومشكلة. هي قصة الحياة كلها فلا يخلو منها يوم اذا اعتبرنا ان عندنا ما يظهر لنا من رتبة الهفوة الى مرتبة المعصية وعندنا ما يخفى علينا من تموجات الفساد. اما المشكلة فهي اننا "نفعل الشر الذي لا نريده ولا نفعل الخير الذي نريده". وهذا ما يلوينا وما يطوينا وما يحزن ويكسر حتى يقضي الموت وحده على تمرد كياننا او تردده او حيرته لأن الكثير مما ارتضينا واستلذذنا يغري ويسحر فيقهر حتى البكاء.
أتكلم على الخطيئة في زمن الاستعفاف لانها تطلع من بعد قمعها، تطلع عليك مما سماه آباؤنا الاهواء أي جذور الشر المعششة فينا. هذه اذا اردت ان تعرفها بدقة وان تعرف التخلص منها عليك بحوالى الف وخمسمئة صفحة (بالترجمة الفرنسية مثلا) لهذا الكتاب العظيم الذي هو الفيلوكاليا اي محبة الجمال الذي وضعه آباؤنا في النسك.
كيف فهموا الخطيئة بهذا الاتساع وهذا العمق؟ يقول روحاني معاصر لما سمعه واحد يتحدث عن الخطيئة: يا أبتِ كيف تعرف هذا؟ اجاب بمداعبة: "هذه اما ارتكبتها واما اخشى ارتكابها". الاطهار يعلمون اكثر من الخطائين لأنهم يرون السقوط بوضوح كبير باعتباره نقيض النور الذي فيهم.
وما حداني على ان اتحدث في هذا ان الموغل في الشر لا يفقه جسامة فعلته لأنه بات مع الشر أليفاً فصار من كينونته. وليس هذا اعظم الشرور. اعظمها ان الفساد أمسى منتشراً الى حد ان الناس اليوم غير البسطاء ليسوا مع القولة الدينية التقليدية القائلة ان الخطيئة هي ما نهى الله عنه في الوصايا العشر او ما يشبهها في الكتب المقدسة في هذا الدين او ذاك. البشر ليسوا متفقين مثلا على ان الكذب دائما حرام والقتل كذلك والرشوة والخيانة الزوجية. وهذا على سبيل المثال. هذا اذا لم نشر الى المتأثرين بالفلسفات الآسيوية التي ترى عند البشر جهلاً لا ارتكاباً مسؤولاً.
اضف الى هذا الرافضين الكلام عن جهنم او جحيم ويؤثرون الكلام على السماء كأن ثمة سماء ممكنة (او جنة عند المسلمين) ان لم يكن هناك ما عبّر عنه بمصطلح النار.
ان الذين سمَوا كثيراً في ذوق الله يصلّون حتى تزول النار ولا يتعذب فيها أحد. ان تدعو الله مثل اسحق السرياني الى ان يغفر للشياطين شيء وان تنكر العذاب في المبدأ شيء آخر. ان يطفئ الله اللهيب برحمته شيء وان تقول اننا جميعاً صائرون الى السعادة الأبدية شيء آخر. الجحيم أساسية لمن اعترف بحرية الانسان ان يهلك او ان ينجو. لا ينجو أحد الا بالرحمة. الجحيم أمر جدي كثيراً لنؤكد قدرتنا على رفض الله واحترام الله لحريتنا برفضه.
وبصرف النظر عما سنؤول اليه في اليوم الأخير فليس عليك ان تنتظر اليوم الأخير لتعرف ان الجحيم محرقة الآن وانها هي التي تحل في قلبك وتخربه اليوم. الذي لم يذق دمار الخطيئة فيه وكيف تدك الكيان خالŸ من الاحساس الروحي. الجحيم تبدأ اليوم عند البالغ وتواصل نفسها من بعد موت. العذاب داخلي وأنت لا تذهب الى مكان فتعذب فيه. قلبك هو المكان.
الى هذا يقول أحدهم يجب ان نتكلم على الجمال الالهي الذي يسكب فينا برّاً لا ان نتكلم على المعصية لئلا تخور قوانا. ولكن أنى لنا ان نفهم البرّ الاّ غلبة للخطيئة. هذه القفزة الى البر من غير ان نكره الاثم قفزة هينة. أجل لا ينبغي ان يأتي الحديث عن المعصية سبباً لليأس. من زاوية تربوية لا بد من تغليب الحديث عن الطهارة. ولكن لا رؤية للطهارة الاّ من بعد كراهية الشر، من بعد التقزز من الشر. الخطيئة جدية الى درجة اننا لا نقدر على التهرب من الحديث عنها وكيف تنشر في النفس ظلاماً رهيباً. وما من كلام ممكن على الزلات الا من بعد توبة أي من بعد رؤية الله. لذلك تبسط القديسون في وصف الخطايا وتعدادها وتصنيفها. كان هذا ضرورياً ليتبين الانسان بهاء الفضائل.
لقد عمق يسوع فهمنا للخطيئة بقوله: "من باطن الناس، من قلوبهم، تنبعث المقاصد السيئة والفحش والسرقة والقتل والزنى والطمع والخبث والمكر والفجور والحسد والشتم والكبرياء والغباوة. جميع هذه المنكرات تخرج من باطن الانسان فتنجسه" (مرقس :7 21-23). هذه كلها أهواء أي انفعالات داخلية (باثوس في اليونانية ومنها اشتقت الـpathologie أي علم الأمراض). ولهذا لم يكتف آباؤنا بوصف عوارض الخطيئة ولكنهم تبسطوا في الحديث عما هو في الأعماق ووضعوا رسائل للشفاء من الأمراض الروحية أو من الرذائل الباعثة باطنياً الى مخالفة الشريعة.
واذا ابتغينا تعريفاً للخطيئة يشمل كل التعديات كان لا بد لنا ان نعود الى بدايات الانسانية، الى صورة الخطيئة الأولى حيث اشتهى آدم وحواء ان يصيرا كآلهة "يعرفان الخير والشر" (تكوين 5:3). التفسير الشائع انهما جعلا نفسهما قياساً لاعمالهما وان تصدر عنهما الشريعة برفضهما شريعة الخالق، برفضهما ان يستمدا فكرهما من الله.
ان يخطىء الانسان هو في الأخير ان يجعل كلمته هي الكلمة. هو لا يجيء من احد. هذا ما تعبر عنه لفظة autonomie الاجنبية بمعنى ان الانسان واضع ناموساً لنفسه. لقد قال الله: "من جميع اشجار الجنة تأكل، وأما شجرة معرفة الخير والشر فلا تأكل منها، فانك يوم تأكل منها تموت موتاً".
إزاء هذا القوم يقول الانسان: هذا الكلام ليس صحيحاً. انا ان دخلت نطاق الخطيئة أحيا. انا عندما اتممها اعرف اني موجود ولا يهمني ان يكون الله موجوداً. انه يلغي حريتي في ان اكون انا خالقاً لأعمالي، خالقاً لكلمتي.
آدم وحواء هنا نموذج. هكذا نتصرف جميعاً. هكذا يتبين ان المعصية ليست سلوكاً من ضعف فحسب. انها جحود بحيث يعبد فيها الانسان نفسه ويضع وجوداً جديداً ويأتي منه. "إن معاصينا معنا وآثامنا قد عرفناها: العصيان والكذب على الرب" (اشعياء 13:59). فمهما عرفنا الشر انعداماً للخير الا انه قائم في النفس، قاتلها مثل الخلية السرطانية وما من شفاء قبل الاعتراف بالمرض والاقرار اننا بدلنا الإله الحقيقي بالإله الكاذب الذي هو الانسان. ان لم نعترف بهذا الالحاد العملي لا نقيم الرب سيداً علينا. بعد استعادتنا الايمان به تأتي الطاعة. والايمان ان نراه من جديد مأمناً لنا وحصناً واننا قائمون به وانه هو وحده يقيمنا من العدم الذي القتنا فيه المعصية لأنه خالقنا باستمرار ومعيدنا الى مثاله ومجدد فينا الفكر الالهي الذي وضعه فينا في الخلق. من يؤمن بأنه حبيب الله ابداً تجعله هذه المحبوبية يكفر باستقلاليته الكاذبة.
لا تحصل لنا رؤية المحبوبية ما لم يشع علينا النور الالهي بمجانيته. هو وحده يدمر كبرياءنا وما كنا نحسبه تبعية لله نراه لطفا في ناسوتنا ومجداً له.
وهذا نضال العمر. اجل هناك من بلغ من الصفاء قدراً كبيراً ومن تعلق بالله تعلقاً كثيراً وصار خليل الله. هناك من تصعب عليه الرذائل كما تصعب على الكثيرين الفضائل. هناك ناس مألوهون في هذه الارض ويبيتون في المألوهية. لكن الكتاب اوصانا بالسهر الدائم لكون العدو يتربص بنا ولكوننا اردنا لأنفسنا المعطوبية والهزالة. والخوف من عودة الانسان الى ما الفه من كذب وجوده ومن اختلال اعماقه. فالخطيئة تعاود لأنها تعشش بسبب من عدم الرصانة في كفاحها وعدم الصدق في التوبة. هذه كثيراً ما كانت قراراً سطحياً لم يخض الاعماق ولم يلزمها. يحلو لله احياناً ان يهبنا البكاء، ان يعمدنا بالبكاء، ان يكشف لنا قباحة الاصنام التي اصطنعناها حتى نحطمها ونرجع اليه لتحلو البنوة المستعادة.
بقلم سيادة المطران جورج خضر
أتكلم على الخطيئة في زمن الاستعفاف لانها تطلع من بعد قمعها، تطلع عليك مما سماه آباؤنا الاهواء أي جذور الشر المعششة فينا. هذه اذا اردت ان تعرفها بدقة وان تعرف التخلص منها عليك بحوالى الف وخمسمئة صفحة (بالترجمة الفرنسية مثلا) لهذا الكتاب العظيم الذي هو الفيلوكاليا اي محبة الجمال الذي وضعه آباؤنا في النسك.
كيف فهموا الخطيئة بهذا الاتساع وهذا العمق؟ يقول روحاني معاصر لما سمعه واحد يتحدث عن الخطيئة: يا أبتِ كيف تعرف هذا؟ اجاب بمداعبة: "هذه اما ارتكبتها واما اخشى ارتكابها". الاطهار يعلمون اكثر من الخطائين لأنهم يرون السقوط بوضوح كبير باعتباره نقيض النور الذي فيهم.
وما حداني على ان اتحدث في هذا ان الموغل في الشر لا يفقه جسامة فعلته لأنه بات مع الشر أليفاً فصار من كينونته. وليس هذا اعظم الشرور. اعظمها ان الفساد أمسى منتشراً الى حد ان الناس اليوم غير البسطاء ليسوا مع القولة الدينية التقليدية القائلة ان الخطيئة هي ما نهى الله عنه في الوصايا العشر او ما يشبهها في الكتب المقدسة في هذا الدين او ذاك. البشر ليسوا متفقين مثلا على ان الكذب دائما حرام والقتل كذلك والرشوة والخيانة الزوجية. وهذا على سبيل المثال. هذا اذا لم نشر الى المتأثرين بالفلسفات الآسيوية التي ترى عند البشر جهلاً لا ارتكاباً مسؤولاً.
اضف الى هذا الرافضين الكلام عن جهنم او جحيم ويؤثرون الكلام على السماء كأن ثمة سماء ممكنة (او جنة عند المسلمين) ان لم يكن هناك ما عبّر عنه بمصطلح النار.
ان الذين سمَوا كثيراً في ذوق الله يصلّون حتى تزول النار ولا يتعذب فيها أحد. ان تدعو الله مثل اسحق السرياني الى ان يغفر للشياطين شيء وان تنكر العذاب في المبدأ شيء آخر. ان يطفئ الله اللهيب برحمته شيء وان تقول اننا جميعاً صائرون الى السعادة الأبدية شيء آخر. الجحيم أساسية لمن اعترف بحرية الانسان ان يهلك او ان ينجو. لا ينجو أحد الا بالرحمة. الجحيم أمر جدي كثيراً لنؤكد قدرتنا على رفض الله واحترام الله لحريتنا برفضه.
وبصرف النظر عما سنؤول اليه في اليوم الأخير فليس عليك ان تنتظر اليوم الأخير لتعرف ان الجحيم محرقة الآن وانها هي التي تحل في قلبك وتخربه اليوم. الذي لم يذق دمار الخطيئة فيه وكيف تدك الكيان خالŸ من الاحساس الروحي. الجحيم تبدأ اليوم عند البالغ وتواصل نفسها من بعد موت. العذاب داخلي وأنت لا تذهب الى مكان فتعذب فيه. قلبك هو المكان.
الى هذا يقول أحدهم يجب ان نتكلم على الجمال الالهي الذي يسكب فينا برّاً لا ان نتكلم على المعصية لئلا تخور قوانا. ولكن أنى لنا ان نفهم البرّ الاّ غلبة للخطيئة. هذه القفزة الى البر من غير ان نكره الاثم قفزة هينة. أجل لا ينبغي ان يأتي الحديث عن المعصية سبباً لليأس. من زاوية تربوية لا بد من تغليب الحديث عن الطهارة. ولكن لا رؤية للطهارة الاّ من بعد كراهية الشر، من بعد التقزز من الشر. الخطيئة جدية الى درجة اننا لا نقدر على التهرب من الحديث عنها وكيف تنشر في النفس ظلاماً رهيباً. وما من كلام ممكن على الزلات الا من بعد توبة أي من بعد رؤية الله. لذلك تبسط القديسون في وصف الخطايا وتعدادها وتصنيفها. كان هذا ضرورياً ليتبين الانسان بهاء الفضائل.
لقد عمق يسوع فهمنا للخطيئة بقوله: "من باطن الناس، من قلوبهم، تنبعث المقاصد السيئة والفحش والسرقة والقتل والزنى والطمع والخبث والمكر والفجور والحسد والشتم والكبرياء والغباوة. جميع هذه المنكرات تخرج من باطن الانسان فتنجسه" (مرقس :7 21-23). هذه كلها أهواء أي انفعالات داخلية (باثوس في اليونانية ومنها اشتقت الـpathologie أي علم الأمراض). ولهذا لم يكتف آباؤنا بوصف عوارض الخطيئة ولكنهم تبسطوا في الحديث عما هو في الأعماق ووضعوا رسائل للشفاء من الأمراض الروحية أو من الرذائل الباعثة باطنياً الى مخالفة الشريعة.
واذا ابتغينا تعريفاً للخطيئة يشمل كل التعديات كان لا بد لنا ان نعود الى بدايات الانسانية، الى صورة الخطيئة الأولى حيث اشتهى آدم وحواء ان يصيرا كآلهة "يعرفان الخير والشر" (تكوين 5:3). التفسير الشائع انهما جعلا نفسهما قياساً لاعمالهما وان تصدر عنهما الشريعة برفضهما شريعة الخالق، برفضهما ان يستمدا فكرهما من الله.
ان يخطىء الانسان هو في الأخير ان يجعل كلمته هي الكلمة. هو لا يجيء من احد. هذا ما تعبر عنه لفظة autonomie الاجنبية بمعنى ان الانسان واضع ناموساً لنفسه. لقد قال الله: "من جميع اشجار الجنة تأكل، وأما شجرة معرفة الخير والشر فلا تأكل منها، فانك يوم تأكل منها تموت موتاً".
إزاء هذا القوم يقول الانسان: هذا الكلام ليس صحيحاً. انا ان دخلت نطاق الخطيئة أحيا. انا عندما اتممها اعرف اني موجود ولا يهمني ان يكون الله موجوداً. انه يلغي حريتي في ان اكون انا خالقاً لأعمالي، خالقاً لكلمتي.
آدم وحواء هنا نموذج. هكذا نتصرف جميعاً. هكذا يتبين ان المعصية ليست سلوكاً من ضعف فحسب. انها جحود بحيث يعبد فيها الانسان نفسه ويضع وجوداً جديداً ويأتي منه. "إن معاصينا معنا وآثامنا قد عرفناها: العصيان والكذب على الرب" (اشعياء 13:59). فمهما عرفنا الشر انعداماً للخير الا انه قائم في النفس، قاتلها مثل الخلية السرطانية وما من شفاء قبل الاعتراف بالمرض والاقرار اننا بدلنا الإله الحقيقي بالإله الكاذب الذي هو الانسان. ان لم نعترف بهذا الالحاد العملي لا نقيم الرب سيداً علينا. بعد استعادتنا الايمان به تأتي الطاعة. والايمان ان نراه من جديد مأمناً لنا وحصناً واننا قائمون به وانه هو وحده يقيمنا من العدم الذي القتنا فيه المعصية لأنه خالقنا باستمرار ومعيدنا الى مثاله ومجدد فينا الفكر الالهي الذي وضعه فينا في الخلق. من يؤمن بأنه حبيب الله ابداً تجعله هذه المحبوبية يكفر باستقلاليته الكاذبة.
لا تحصل لنا رؤية المحبوبية ما لم يشع علينا النور الالهي بمجانيته. هو وحده يدمر كبرياءنا وما كنا نحسبه تبعية لله نراه لطفا في ناسوتنا ومجداً له.
وهذا نضال العمر. اجل هناك من بلغ من الصفاء قدراً كبيراً ومن تعلق بالله تعلقاً كثيراً وصار خليل الله. هناك من تصعب عليه الرذائل كما تصعب على الكثيرين الفضائل. هناك ناس مألوهون في هذه الارض ويبيتون في المألوهية. لكن الكتاب اوصانا بالسهر الدائم لكون العدو يتربص بنا ولكوننا اردنا لأنفسنا المعطوبية والهزالة. والخوف من عودة الانسان الى ما الفه من كذب وجوده ومن اختلال اعماقه. فالخطيئة تعاود لأنها تعشش بسبب من عدم الرصانة في كفاحها وعدم الصدق في التوبة. هذه كثيراً ما كانت قراراً سطحياً لم يخض الاعماق ولم يلزمها. يحلو لله احياناً ان يهبنا البكاء، ان يعمدنا بالبكاء، ان يكشف لنا قباحة الاصنام التي اصطنعناها حتى نحطمها ونرجع اليه لتحلو البنوة المستعادة.
بقلم سيادة المطران جورج خضر
Comment