كفن المسيح هو قطعة من الكتّان، يقارب طوله 4,40 مترًا، وعرضه 1,13 مترًا. إشتراه يوسف الرامي، أحد أعيان المجلس اليهوديّ أو السنهدرين، ولَفَّ به جثمان المسيح يسوع، بعد إنزاله عن الصليب،ثمّ وضَعه في قبر خاصّ كان قد أعدَّه لنفسه.
حافظ الرسل على هذه الذخيرة الثمينة، فتَناقلَها المسيحيّون من جيلٍ إلى جيل، إلى أن استقرَّت في كاتدرائيّة القدّيس يوحنّا المعمدان، في مدينة تورينو- إيطاليا، حيث تُعرَض للعموم، في مناسباتٍ نادرة، كان آخرها في العام 2000، وسيكون تاليها في العام 2010.
ميزات كفن المسيح :
هناك أربع ميزات ينفرد بها كفن المسيح المحفوظ في تورينو، ويتميّز بها عن باقي الأكفان، الحديثة أو القديمة، الموجودة في المتاحف العالميّة. وهذه الميزات هي:
1- آثار جسم الإنسان
إذا نظرنا إلى الكفن المعروض أمامنا، نرى عليه آثارًا واضحة ونقيّة لشكل إنسان كامل من الأمام، يداه الواحدة فوق الأخرى، رجلاه ممدودتان، شعره مسدل على وجهه، له شاربان ولحية منتوفة في الوسط. كما نراه كاملاً من الوراء، تنتشر على طول جسمه بقع حمر من الدم، أشدّ كثافة عند مؤخّر الرأس. إنّه شكل إنسان مصلوب، في يديه ورجليه أثرٌ لمسامير، وعلى رأسه آثار نزيف قويّ ناتج عن غرز أشواك (؟) حادّة فيه، وعلى ظهره علامات جَلْد، وفي جنبه الأيمن أثر طعنة حربة. هذا الإنسان الذي لُفَّ به هذا الكفن عانى العذابات ذاتها التي عاناها المسيح، والمكتوبة في رواية الآلام في الإنجيل، ما دفع البعض إلى القول بأنّ الكفن هو إنجيل جديد خامس، يبيّن لنا بالصورة، ما ورد كتابة في الأناجيل الأربعة الأخرى، وكأنّه يثبّت الوصف الكتابي بالصورة الحيّة.
- الخلو من بقايا اهتراء الجسد
إذا تفحصنا الأكفان التي تَلفّ أجساد الأموات، نرى في جميعها، بقايا الجسد المتحلّل. أمّا في كفن تورينو، فلا نجد فيه شيئًا من هذا القبيل، ولا أدنى أثر للإفرازات وللمواد المعروفة التي تبقى عادة بعد تحلّل الجسد. إنّ الرجل الذي لُفَّ به كفن تورينو، تمكّن من الإفلات من الموت قبل أن تبدأ عمليّة تبريد الجسد، ثمّ تفكّكه وتحلّله، فغادر الكفن، بطريقة غير مألوفة، تاركًا شكل جسده الكامل، وآثار الجروحات التي عليه. 3- الپوسيتيف / النيغاتيف
إنّ المحامي الإيطالي سِكُندو پِيّا (†1941) الذي قام بتصوير الكفن للمرّة الأولى، ليلة 28 أيار 1898، هو الذي اكتشف هذه الميزة. ففي الفنّ الفوتوغرافي عادة، يُعتبَر الشخص الذي نراه بالعين المجرّدة صورة إيجابيّة-پوسيتيف، تتحوَّل في فيلم التصوير، الموجود داخل الكاميرا، إلى صورة سلبيّة-نيغاتيف، حيث تنعكس الألوان والاتجاهات، فيصبح اللون الفاتح غامقًَا، واللون الغامق فاتحًا، وتتحوّل اليد اليمنى مثلاً إلى يسرى،
واليسرى إلى يمنى. في المختبر، يحوّل المصوّر الصورة السلبيّة إلى الصورة الإيجابيّة، بواسطة التحميض والتظهير، فيَظهر لنا شكل الشخص على حقيقته، كما لو رأيناه بالعين المجرّدة.
أمّا المحامي پِيّا فقد رأى، في الصورة السلبيّة، ما كان يُفترَض أن يراه في الصورة الإيجابيّة، أي أنّه رأى صورة الجسم على حقيقته، كما لو رآه بالعين المجرّدة، فبدا مذهولاً للأمر. وحتّى اليوم، لم يكتشف الخبراء كيفيّة حصول هذه الظاهرة على هذا الشكل.
- الأبعاد الثلاثة
بالرغم من أنّ آثار الجسم على الكفن المسطَّح تبدو في بعدين، لكنّها تحتوي على عناصر الشكل ذي الأبعاد الثلاثة، ومكّنت بعض العلماء من استخراج صورة واضحة وملموسة، ليس بالإمكان الحصول عليها من أيّة صورة عادية أخرى في بعدين. فبعد النتيجة الأولى التي حصل عليها العالِم الفرنسي پول غاستينو، العام 1973، بواسطة أشعّة اللايزر، قام العلماء الأميركيون جون جاكسون وإريك جامبر وبيل موترن، في العام 1978، بتحسين النتيجة، إذ استعملوا آلة VPeight الخاصّة من صنع النازا NASA . ثمّ أتى العالِمين الإيطاليين، طَمبورللي وبالوسّينو، اللذين تَوصّلا إلى تنقيح الصورة بواسطة الكمبيوتر. تلاهما العالِم الإيطالي أَلدو غويريسكي الذي، باستعماله الفنّ الفوتوغرافي فقط، من دون اللجوء إلى أيّة آلة أو طريقة أخرى، تَمكّن مؤخرًا من الحصول على صور رائعة للكفن المقدّس بالأبعاد الثلاثة.
ماذا تقول الكنيسة :
يس للكنيسة موقفٌ صارم من كفن تورينو وألغازه. فهي لم تؤكِّد ولم تنفِ أن يكون هذا الكفن قد لَفَّ فعلاً جسد يسوع المسيح. إنّها منفتحة على جميع النظريّات، ولا تخاف من الأبحاث العلميّة، وتترك للعِلم أن "يحكم" على العِلم. ولكن، لا الكنيسة ولا العِلم باستطاعتهما تقديم البرهان القاطع:
- لا الكنيسة، لأنّ الإيمان هو فعل حرّ لا يُفرَض على الإنسان من خلال براهين علميّة؛
- ولا العِلم، لأنّ المنطق العلمي يحتاج إلى الاختبار للتوصّل إلى البرهان، وهذا الاختبار – أي تعذيب شخص ما مثل المسيح، وصلبه، وموته، ولفّه بكفن من الكتّان، وقيامته من بين الأموات، وتركه آثار آلامه على النسيج – هو خارج عن النطاق العلمي.
على الرغم من عدم اتّخاذ الكنيسة موقفًا رسميًّا عقائديًّا إيجابيّا من كفن تورينو، فذلك لم يمنع الكثير من القدّيسين والباباوات من تكريمه. وقد تكلَّمنا سابقًا عن ما قام به القدّيس شارل بوروميه، والقدّيس فرنسيس دي سال. نضيف عليهما قصّة القدّيسة تيريزيا الطفل يسوع والوجه المقدَّس التي قالت لأختها سيلين، قبيل انتقالها إلى السماء: "إنّ أوّل شيء سأطلبه من يسوع عندما أَصِل إليه هو كشف وجهه للعالم". وهكذا صار، إذ في الوقت الذي انتقلت فيه تيريزيا من هذا العالم إلى الحياة الأبديّة، حصل المصوِّر سِكُندوبيّا على الإذن للقيام بمهمّته التصويريّة، فاستطاع، بعد بضعة أشهر، إظهار وجه المسيح للعالم، فتحقَّق طلب القدّيسة تيريزيا.
أمّا الباباوات فما برح العديد منهم، منذ القرون الأولى وحتّى أيّامنا هذه، يكرِّمون الكفن: فغريغوريوس الكبير (540-590-604) كان يوجِّه صلاته دومًا إلى الوجه المقدّس؛ وسرجيوس الرابع (...-1009-1012) شَيَّد، في روما، كنيسة الكفن المقدس؛ ويوحنا الثاني والعشرين (1245-1316 - 1334) كتب، العام 1334، نشيدًا للكفن المقدّس؛ ويوليوس الثاني (1443-1503-1513) أَعلن، العام 1506، أنّ الرابع من أيار هو عيد للكفن المقدّس، ووافق على رتبة وقدّاس خاصَّين بالمناسبة؛ أمّا بيّوس السابع (1742-1800-1823) فقصد تورينو قبل روما، بعد رجوعه من النفي في فرنسا، وركع أمام الكفن المقدّس؛ وبيّوس الحادي عشر (1857-1922- 1939) كان يعطي زوّاره صورة وجه الكفن "أجمل وأغلى ما يستطيع المرء تصوّره"؛ وبولس السادس (1897-1963-1978)، في أثناء تقديم العرض المتلفز سنة 1973، قال: "بينما نحن مجتمعون حول ذخيرة ثمينة، نشعر فينا بنمّو انجذاب غريب لشخص سيّدنا يسوع المسيح"؛ أمّا يوحنا بولس الثاني (1920-1978-2005) فقد كتب في السّجل الرّسمي، إبَّان زيارته لِكَفن تورينو، ما يلي: "إنّ هذا الشرشف لهو حقًّا علامة فريدة وإلهيّة لعصرنا، على وجود يسوع فيما بيننا"؛ وأثناء حبريتّه الطويلة زار تورينو مرّات عديدة، ورَحل من هذه الدّنيا دون التوصّل إلى تحقيق أُمنيته الغالية في أن يلتقي ألكسي الثاني، بطريرك موسكو، تحت أقدام الكفن المقدّس في تورينو.
على كلّ حال، ماذا يحصل لو برهن العلماء، بالمنطق والحجج الدامغة، أنّ كفن تورينو لم يلفّ جسد يسوع المسيح؟ هل يجحد المسيحيّون الذين علَّقوا إيمانهم بصحّة الكفن؟ كلا. فلنتذكّر قول الربّ يسوع لتوما: "طوبى للّذين آمنوا ولم يروا". والإيمان في الحقيقة، هو بشخص يسوع المسيح الحيّ، لا بالكفن أو بأيّ ذخيرة أخرى.
لكن للكفن أهمّية كبرى، لأنه يحوي أيقونة المسيح المتألِّم، ويُبرز آثار الجَلد وإكليل الشّوك و مسامير اليدين والرِجلين وطعنة الحربة. وقد حُفظ الكفن، بما عليه من الآثار، بطريقة غير مفهومة حتى الآن، ليبقى علامة لموت المسيح، وقيامته من بين الأموات.
ماذا يقول الإنجيل :
أ – الضربات واللطمات
"وأخذ بعضهم يبصقون عليه، ويقنّعون وجهه ويلطمونه ويقولون: تَنبَّأ! وانهال الخدم عليه باللطم" (مرقس 65:14).
جرى هذا ليلة القبض على يسوع، لَمَّا سيق إلى السنهدرين للمحاكمة، في حضرة قيافا، عظيم الأحبار، والكتبة والشيوخ، حيث سُجن حتّى الفجر، وقاسى شتى أنواع العذابات. هنا تمّ نتف اللحية، وذلك واضح على الوجه، إذ تبدو اللحية بشكل رقم ثمانية أي منتوفة في الوسط. وهنا لطمه على وجهه أحد حرّاس عظيم الأحبار، مسبِّبًا له تورمًا في الخدّ، ورضوضًا في الأنف (يوحنا 22:18)، ازدادت في اليوم التالي، على أثر تعرّضه لسخرية الجنود الرومان، وأثناء مسيرته الشاقّة نحو الجلجلة، بحيث طالت الوجنة اليمنى، والشفة العليا، والفكّ، والحاجب الأيسر. إنّ آثار هذه اللطمات بادية على الكفن.
ب – الجَلْد الروماني flagellatio
"فأخذ بيلاطس يسوع وجَلَدَه" (يوحنا 1:19).
إنّ آثار الجَلد ظاهرة بصورة جليّة على الجهة الخلفيّة ابتداءً من الظهر وحتى القدمين، وهي متمثلة ببقع الدم الغامقة اللون، والمنتشرة على طول الجسم. أمّا آثار الجَلد من الأمام فهي ضئيلة جدًّا لأنَّ الشخص كان يقف عريانًا، ومربوطًا إلى عمود، ووجهه تجاهه، وكان الجلاّد، الواقف وراءه، يتجنَّب توجيه ضرباته لناحية القلب، لئلاّ يموت، إذ كان المطلوب معاقبة يسوع ثمّ إطلاق سراحه (لوقا 16:23)، ولم تكن نيّة بيلاطس، في البدء، تسليمه ليُصلَب.
من المؤكَّد أن عمليّة الجَلد قام بها الجنود الرومان، لا اليهود، وذلك بسبب تطابق آثار الجَلد في صورة الكفن مع وسيلة الجَلد الرومانية المسمّاة فلاغروم flagrum، نجد نماذج عنها في المتاحف، وهي عبارة عن مقبض ينتهي بثلاثة أطراف من الجِلد، في رأس كلّ طرف قطعة من عظام أرجل الغنم، أو كُرَتان متلاصقتان من الرصاص.
كان الجَلد ينتزع قطعًا من اللحم عن الجسم، ويسبِّب جروحات بليغة، وكدمات موجعة. قام الاختصاصيّون بتعداد آثار الجَلد على الجسم، وأجمعوا أنّها حوالي الماية والعشرين أثرًا. إذا قسمناها على ثلاثة، كَون كلّ جلدة تحدث ثلاث خطوط، يتبيَّن لنا أن عدد الجلدات حوالي الأربعين. يبدو أنّ العسكر الرومانيّ راعى الشريعة اليهوديّة التي تأمر بالجَلد أربعين مرّة فقط وليس أكثر (سفر تثنية الاشتراع 3:25).
ج – إكليل الشوك
"وضفروا إكليلاً من شوك ووضعوه على رأسه، وجعلوا في يمينه قصبة" (متى 29:27).
إنّ الشوك المغروز في الرأس تسبَّب بجروحات بليغة، ونزيفٍ قويّ، آثاره واضحة على الكفن من جهة الرأس، خصوصًا من الناحية الخلفيّة، وعلى طول الشعر. وهذا يتوافق مع حركة المصلوب الذي غالبًا ما يَضرب رأسه بخشبة الصليب، فيغرز الشوك في الرأس، مسبِّبًاًَ ألمًا مبرحًا.
لم يكن إكليل الشوك من العذابات التقليديّة التي يتلقّاها المحكوم عليه بالصلب، إذ لم يذكر التاريخ حالة مماثلة، كما أنّه لم يوضع على رأس اللّصين. أمّا يسوع، فقد جعلوا على رأسه إكليل الشوك بدل التاج الذهبي ليسخروا منه، إذ قال أنّه ملك اليهود.
إنّ سيلانات الدم، والجروح البادية على الرأس، من الأمام ومن الوراء، كما نراها على الكفن، تحملنا على استبعاد فكرة وجود إكليل couronne من الشوك، كما تُصوِّره لنا الإيقونوغرافيا التقليديّة، على مثال تيجان الملوك في الغرب، بل بالأحرى، إنّه "عرقيّة" tiare من الشوك، على مثال تيجان ملوك الشرق، وقد شُدَّت أطرافه حول الرأس برباط.
ما هو جنس الشوك الذي وُضع على رأس المسيح؟ نستبعد كلّيًّا أن يكون من نبات القندول، ذات الزهرة الصفراء، كما يقول بعض اللبنانيين؛ أو من الزيزفون، نسبة إلى التقليد الذي يقول أنّ شجرة الزيزفون ملعونة، لأنّها تُزهر من دون أن تعطي ثمرًا، إذ استُعمل شوكها لتكليل المسيح. لقد صُنع الإكليل من أغصان شجر العنّاب البرّي Ziziphus Spina Christi ذات الأشواك الحادّة التي باستطاعتها اختراق الرأس، وبخاصّة، إذا "أخذوا القصبة وجعلوا يضربونه بها على رأسه" (متى 30:27). ومنهم مَن يقول بأنّه صُنع من شجيرات البلاّن Sarcopoterium Spinosum أو الكبّاد أو العكّوب Gundelia Tournefortii. وقد استعان الجنود الرومان ببعض الأغصان من قصب الخيزران، ليضبطوا الشوك على الرأس.
تحتفظ كاتدرائيّة نوتردام، في باريس، بما تَبقّى من إكليل الشوك، أي قصب الخيزران فقط، بعد أن وُزِّعت الأشواك بمثابة ذخائر، لا نعرف بالضبط، أين حطّت رحالها. يُعرض الإكليل للجمهور، أثناء زمن الصّوم الكبير. من المعروف أنّ ملك فرنسا، القدّيس لويس التاسع (1214-1270) هو الذي اشترى الإكليل، من القسطنطينيّة، بملغ كبير جدًّا، بلغ 135 ألف ليرة، وشَيّد كنيسة خاصّة، دُعيت لاسانت شابيل La Sainte Chapelle ليحفظه فيها، كَلَّف بناؤها 40 ألف ليرة فقط، وهو مبلغ زهيد، بالنسبة إلى ثمن الإكليل. وقد تَسلَّم الملك المذكور الإكليل، في 10آب 1239، وحَمَلَه في مسيرة طويلة، وهو حافي القدمين، لابسًا قميصًا بسيطًا، وخالعًا تاجه عن رأسه.
د – وضع الصليب على المحكوم عليه
"أَلبَسوه ثيابه وساقوه ليُصلَب" (متى 31:27).
كانت العادة أنْ توضع خشبة على المحكوم عليه، وينطلق بها مُساقًا من مقرّ المحكمة إلى مكان الصلب الذي يقع خارج أسوار المدينة. وكان الصليب يتألّف من خشبتين: الأولى عموديّة وتسمى Stipes، والأخرى أفقيّة وتسمى patibulum. فالعموديّة كانت تُثبَّت في مكان الصَلْب، مغروزةً في الأرض، وطرفها الأعلى، المشغول بشكل "خابور"، مجهَّز لكي يخترق وسط الخشبة الأفقيّة التي يحملها المحكوم عليه، عند وصوله إلى المكان المذكور. ويبدو أنّ هذه هي الطريقة الأكثر شيوعًا، والأقرب إلى المنطق والواقع التاريخي، بالاستناد إلى الحجج التالية:
- إنّ أمر الصلب الذي كان يلفظه القاضي الروماني، في المحكمة، يقوله كما يلي: Pone crucem servo أي "ضَع الصليب على العبد" ولا يقول مثلاً: "فليحمل العبد صليبه" أو "ضَع العبد على الصليب".
- إنّ حمل الخشبة الأفقيّة وحدها، وقد يبلغ وزنها حوالي الخمسة والعشرين كيلوغرامًا، لهو أسهل بكثير، من حمل الصليب بكامله، الذي قد يبلغ وزنه حوالي الماية كيلوغرامًا، مما يزيد من إمكانيّة استحالة حمله لمسافة طويلة، من قِبَل أي رجل، مهما كان قويًًّا.
- إنّ عمليّة تحضير صليب كامل تتطلَّب وقتًا طويلاً، وكلفة أكبر. فتوفيرًا للوقت والمصروف، وفي حال وجود عدّة محكومين بالموت صلبًا، يُعتَبر منطقيًا بقاء الخشبة العموديّة ثابتة في مكانها، وإعداد الخشبة الأفقيّة وحسب، في كل عمليّة صلب.
إنّ رجل الكفن قد وُضعت عليه خشبة الصليب الأفقيّة، وهناك آثار على الكتفين، في مستوى "عظم الرفش" تؤكِّد أنّ حِملاً ثقيلاً ضغط عليهما.
هـ - الصَلب ودقّ المسامير
المصلوب بريشة أنطون ڤان دايك (1599-1641)
"فصلبوه ثمّ اقتسموا ثيابه" (متى 35:27)"إذا لم أُبصر أثر المسمارين في يديه، وأضع إصبعي في مكان المسمارين، ويدي في جنبه، لن أومن" (يوحنا 25:20).
لم يكن الصلب شائعًا عند اليهود، إذ كانوا يلجأون إلى الرجم، أو إلى تعليق الشخص على شجرة، بعد الفراغ من قتله. أمّا الرومان فقد مارسوه بامتياز، على اللصوص والعبيد والخونة والقراصنة والثّوار. كانت الألسن تتداول أخبار المصلوبين، وتناولها المؤرِّخون الرومان في أعمالهم، والأدباء في مسرحيّاتهم، أمثال شَيشرون (106 – 43 ق.م.) الذي هاله شناعة الصليب وفظاعته ، فكتب:
"لو هدَّدونا بالموت، فلنمت أحرارًا على الأقلّ. أجل، فليبتعد الجلاّد والحِجاب على الرأس وحتّى ذِكرُ الصليب، لا عن الرومانيين وحسب، بل عن أفكارهم وعيونهم وآذانهم".
لذلك، مُنع تنفيذ الصلب على المواطنين الرومان: لم يُصلب مار بولس بل قُطع رأسه، أمّا مار بطرس الجليليّ فقد صُلب ورأسه إلى الأسفل.
غالبًا ما كان يتمّ الصلب بدقّ المسامير في اليدين والرجلين. ولا بدّ من الإشارة إلى أنّ المكان الصحيح للمسمار هو في الرسغ، لا في راحة الكف، فيتسنّى لعظام الرسغ من حمل ثقل جسم المصلوب، ما لا يمكن راحة الكفّ أن تقوم به.
أمّا بالنسبة إلى الرِجلين، فإنّنا نرى أنّه من الصعب جدًّا دقّ مسمار واحد في المكان المناسب، في القدمين معًا. لذلك نرجِّح أن يكون الجلاّد استعمل مسمارين، واحدًا في كلّ قدم، وهذا أمتن، من الناحية العمليّة، ويؤكّده الأطبّاء الاختصاصيّون.
لكنّ آباء الكنيسة اختلفوا في تحديد عدد المسامير: فقبريانُس (†258) وأومبروسيوس (†397) وغريغوريوس من تور (†594) يتكلّمون عن أربعة مسامير؛ فيما يذكر غريغوريوس النازيانزيّ (†390) وبونافنتورا (†1274) ثلاثة مسامير فقط! ومع ذلك، فالعديد من الأيقونات القديمة يُظهر يسوع المصلوب مع مسمارٍ في كلّ قدم: منمنمة إنجيل ربّولا (586) وصليب داميان ذات التأثير السريانيّ (القرن الثاني عشر).
من الواضح أنّ رجل الكفن هو مصلوب، وآثار المسامير بادية على اليدين والرجلين.
و – طعنة الحربة وكسر الساقين
"أمّا يسوع فلمّا وصلوا إليه ورأوه قد مات، لم يكسِروا ساقيه، لكنّ واحدًا من الجنود طعنه بحربة في جنبه، فخرج لوقته دمٌ وماء" (يوحنا 33:19 - 34).
إنّ رجل الكفن مطعون في جنبه الأيمن حيث الجرح المفتوح، والدم السائل منه، وهو لم تُكسر ساقاه لأننا نراها كاملة ومستقيمة، من دون أيّ تشويه. إنّ عمليّة كسر الساقين إجراءٌ عاديٌّ ونهائيٌّ يقوم به الجنود مع جميع المصلوبين. وقد ارتأوا ألاّ يكسروا ساقي يسوع لغاية في نفسهم، وبعدما رأوا أنّ لا لزوم لذلك، خاصة أنّ الوقت قد دهمهم، واستولى الخوف عليهم، نتيجة ثورة الطبيعة والرعود وهطول الأمطار؟ ثمّ إنّ الجنود استعجلوا العودة إلى المدينة المزدحمة بزوار الفصح، لحفظ الأمن، خوفًا من بروز مظاهر شغب، بين الشّعب، بسبب القيام بعمليّة الصلب، ومراعاة لحرمة "السبت" القاضية بعدم التجوّل، بعد هبوط الظّلام.
لكنّ طعنة الحربة هي من الأعمال الواجبة، ينفِّذها المسؤول عن الصلب، عند الفراغ من المهمّة الموكولة إليه وإلى أفراد فرقته، حين يشارفون على مغادرة الجلجلة، وذلك للتأكّد من أن المصلوب قد مات. وما من شكّ أنّ الطعنة طالت اللصين، أيضًا، ولو لم يَذكر الإنجيليون ذلك. كانت الطعنة مدروسة من قِبَل الجنود الرومان. فلكي تصيب القلب مباشرة، كانت تدخل من الجهة اليمنى، بين الضلعين الخامس والسادس، فتصيب الأُذين الأيمن حيث يتجمَّع الدم بعد الموت. إنّ الدم المتدفِّق من الجرح هو العلامة على الإصابة. ومن الواضح على الكفن أنّ الطعنة حصلت بعد الموت، نظرًا لكبر الجرح، إذ أنّ الجِلد، بعد الموت، لا يتقلَّص، ولا يلتحم.
Comment