النبى النارى
إيليــــــا النبـــــى
+ + فى وسط هذا الجو الحالك الظلمة بعث الله بنبى عجيب ليشــهد لـه ويعمل لخلاص أخوته وهو إيليا التسبى . بينما أعد عدو الخير أخاب وإيزابل لبث روح الفساد ، أعد الله إيليا النبى ليشهد ويعمل لحساب ملكوته ، لم يكن أحد جريئا بين ملوك إسرائيل فى ارتكاب الخطية مثل أخاب ، ولم يوجد نبى جرىء ونارى مثل إيليا .
كان أخاب ضعيف الشخصية أمام ايزابل ، جرى وراء زوجته التى اضطهدت الكهنة وانبياء اللــــه ، فقد قتلت منهم من قتلت ، وهرب البعض إلى الكهوف ، استطاعت الملكة بشرها ، يعاونها كهنة البعل ، أن تحتذب الشعب إلى عبادة البعل بكل رجاساتها .
هذا وقد اتسمت بالعنف ؛ حين اشتهى رجلها كرم نابوت اليزرعيلى خططت لقتل نابوت وورثته
لقد بدأت سيرة إيليا من اصحاح 17 ( ملوك أول ) مؤيدا من الله بعجائب فائقة .
وعندما نتأمل فيما ورد فى سفر ( ملوك أول ) حتى نهاية أصحاح 17 الذى يصور لنا الحالة المحزنة التى وصلت اليها الأسباط العشرة ، وكيف سادتها العبادة الوثنية بشكل عام قد نتخيل بأن هذه هى نهاية الأمر وأن عبادة الاله الحى لن تسترد مكانتها الأولى وقوتها السابقة ، هذا ما اعتقده أخاب وايزابل ، والأنبياء الكذبة بل والبقية من جماعة أولاد الله الأمناء الذين كانوا قد تشتتوا مختبئين .
ولكنهم اسقطوا من حسابهم أمرا جوهريا ، انهم نسوا الله نفسه ، ففى أزمة خطيرة كهذه كان ينبغى أن يقول الله كلمته ...
عندما يأتى البشر آخر ما عندهم من الشر فحينئذ يحين الوقت للـــه ليبدأ عمله ، وعندما يبدأ الله عمله فانه يستطيع بأبسط الوسائل أن يقلب رأسا على عقب كل ما عمله البشر من دونه ، ويسطر بعض الصحائف فى تاريخ البشرية ، لتكون درسا ثمينا وهدى لكل الأجيال القادمة .
ان الأصحاح الـ 17 من سفر ( ملوك اول ) يبدأ بحرف العطف " و " ... " وقال ايليا التشبى من مستوطنى جلعاد ...... " ، ان هذا الحرف مرعب جدا لأعداء اللــــه ، ولكنه ملىء بالرجاء والمواعيد الأكيدة لأولاده الأمناء .
ايزابل الشريرة :
عندما تركت ايزابل الشابة الجميلة قصور مدينة صور العظيمة لكى تكون زوجة الملك اسرائيل الجديد ، كان يظن أن هذا الزواج توفيق عظيم ، فقد كانت صور ملكة البحار فى أوج عزها ومجدها ، انتشرت مستعمراتها على شواطىء البحر الأبيض المتوسط حتى وصلت الى اسبانيا ، وملأت سفنها كل البحار والمحيطات حتى تجاسرت على الوصول إلى بلاد قارة أوربا .
على أن ذلك الزواج مع الأسف الشديد كان سبب بؤس وشقاء ونذير شؤم وخراب كغيره من الزيجات التى تبدو فى أعيننا جميلة وموفقة ، اذا فلا يمكن أن يكسر أحد وصية الله الصريحة التى تقضى بعدم الأقتران بأى شخص لا يعرف الله دون أن يشرب مرارة العلقم فى النهاية .
ولعل ايزابل قبل أن تغادر بيت أبيها فى صور قد أوصاها بشدة الكهنة الذين تربت على أيديهم ، لكى تبذل كل ما فى وسعها لتنشر فى اسرائيل ديانة بلادها البغيضة ، لهذا نراها لا تتردد ولا تتباطأ فى تلبية هذا النداء ، فانها فى بداية الأمر يظهر أنها شيدت مذبحا لعشتاروت بجوار يزرعيل مقر القصر الخاص لسكن الملك ، وكانت تعول كهنته القائمين على خدمة عشتاروت من مالها الخاص .
بعد ذلك شيدت هى وأخاب مذبحا للبعل فى السامرة ، التى هى عاصمة المملكة ، وكان ذلك المذبح متسعا جدا يكفى للكثيرين من العابدين ( 2 مل 10 : 21 ) ، ثم بدأت الهياكل الوثنية تشيد فى كل أرجاء المملكة ، أما مذابح الأله الحى كمذبح الكرمل ، فكانت قد تهدمت واكتظت الأرض بأنبياء البعل وعشتاروت الذين كانوا يفخرون بما لهم من الحظوى لدى البلاط الملكى ، ويتيهون عجبا بسبب السلطة التى انتقلت اليهم فجأة مع سفالة أخلاقهم وانحطاط مستوى حياتهم الأدبية .
وهكذا بدت الأرض كلها مرتدة عن الله ، فمن كل ألوف وربوات اسرائيل لم يبق سوى سبعة الآف ركبة لم تجث لبعل . وحتى هؤلاء كانت حياتهم مشلولة بسبب الخوف ، فانهم كانوا منزوين لدرجة أن ايليا لم يشعر بوجودهم فى ساعة وحدته ....
جاءت سيرة إيليا مشرقة بروح البهاء والقوة ، وهو الوحيد من بين الأنبياء نال كرامة الأشتراك مع اخنوخ بانتقاله حيا من العالم ، كما نال مع موسى النبى كرامة اللقاء مع السيد المسيح فى تجليه على جبل تابور .
من هو إيليا ؟
" إيليا " كلمة عبرية معناها " إلهى هو يهوه " – يناسب الأسم رسالته ، فقد اتسم بالشجاعة مع الغيرة من أجل اللـــــه ، والصيغة اليونانية لهذا الأسم هى الياس وتستعمل أحيانا فى العربية ، وهو نبى عظيم عاش فى المملكة الشمالية فى النصف الأول من القرن التاسع ق . م . ظهر بطريقة سرية ، لا نعرف شيئا عن أسرته ،
نشأ ايليا صبيا فى تلك البلاد كباقى الأولاد فى جيله ، ربما كان فى صباه يشتغل برعاية الأعنام على تلك الجبال الجرداء ، وعندما صار رجلا كان يمتاز عن سكان الأودية والسيول بقوة عضلاته ، وعباءته التى من وبر الأبل ، وطول قامته واستقامتها ، وساعده المفتول ، وقوته البدنية التى مكنته من أن يسبق الخيل فى المركبة الملكية ، ....
وبما أنه يدعى التشبى فيرجع أنه ولد فى تشبى .
وما هى التشبى ؟ معناه " الغريب " ،
إنها قرية تقع فى شرق الأردن فى جلعاد ،
جلعاد : قطر جبلى شرقى الأردن يمتد إلى بلاد العرب ، وهو يشتمل البلقاء الحديثة ، أرض هىصخرية ، وعرة ، وجاء فى ( يش 13 : 25 ) أن تخم جاد كان يشمل كل مدن جلعاد ، ونصف سبط منسى ، أخذوا كل بشان ونصف جلعاد ( يش 13 : 30 ، 31 ) .
وجاء فى ( تث 3 : 12 ، 13 ، 16 ) أن نصف جبل جلعاد أعطى لرأوبين وجاد وبقية جلعاد أعطيت لنصف سبط منسى .
فبالقول " التشبى من مستوطنى جلعاد " معناها " من المتغربين المقيمين فى جلعاد " ..
تبقى سيرة إيليا النبى تؤكد عبر الأجيال ألا نبحث عن أسرة الأنسان وأسلافه ، بل عن شخصه وحياته وأفكاره وتصرفاته .
كان إيليا يعيش زهدا كاملا ، وأحب الله الذى ملك قلبه وملك على كل كيانه ، فأبغض العالم وكل ما فيه ، ملقيا به خلف ظهره لأن هذا العالم سيمضى وكل شهوته .
لم يعطى أهمية للجسد الذى يشتهى ضد الروح .. أراد أن يدخل فى دائرة السمائيات منجذبا اليها ليتمتع فى عالم الروح بحياة ملائكية مع السمائيين فى تسبيح دائم .
وكان عادة يلبس ثوبا من الشعر ومنطقة من الجلد على حقويه ( 2 مل 1 : 8 ) . وكان يوحنا يشبهه إذ أعد قلب الشعب للإيمان بالمسيح ( مت 3 : 4 ) .
والمسوح التى كان إيليا النبى يغطى بها جسده تشير إلى حياة الأنسحاق والتذلل قدام الله ، وهو يحمل فى انسحاقه الداخلى قوة !! انها قوة إلهية تعمل فيه ....
إيليا النبى سلم للرب حياته تسليما كاملا ... ليعمل بها حسب قصده المعروف فى علمه السابق
ويقول أشعياء النبى : " يعطى المعى قدرة ولعديم القوة يكثر شدة . الغلمان يعيون ويتعبون والفتيان يتعثرون تعثرا ، وأما منتظروا الرب فيجددون قوة ، يرفعون أجنحة كالنسور ، يركضون ولا يتعبون يمشون ولا يعيون " ( أش 40 : 29 – 31 ) .
وكان إيليا يلبس منطقة من جلد على حقويه : علامة الأشتداد بالحق .. الحق يطلب ... وبالحق يسلك ... وللحق يشهد .
فايليا النبى .. بحق نبى عظيم مقتدر فى الأيمان مملوء من روح الله يشهد للحق ويحفظ العبادة الطاهرة .
+ + +
يمكن تقسيم حياة ايليا إلى خمس مراحل :
1- ظهوره أمام أخاب المرتد ، وتأديبه له بسنوات الجفاف – ( لقاؤه مع أرملة صرفة صيدا على ساحل البحر الأبيض المتوسط – قتل أنبياء البعل ) ( 1 مل 17 – 18
2- اضطراره إلى الهروب إلى جبل حوريب من وجه ايزابل ( ظهور الله له فى نفس المغارة التى فيها رأى موسى مجد اللـــــه – اختيار إليشع تلميذا له ) ( 1 مل 19 )
3- تنبؤه عن خراب بيت أخاب بسبب قتل نابوت ( 1 مل 21 ) .
4- انتهاره أخزيا بن أخاب ( احتراق قائدى الخمسين بنار من السماء ) ( 2 مل 1 )
5- صعود إيليا إلى السماء .
نظرة الكتاب المقدس إليه
فى ملاخى ( 4 : 5 ، 6 ) وعد الرب أن يرسل إيليا النبى قبل يوم الرب العظيم ، وقد تحقق ذلك عند مجيئه الأول ، إذ ورد فى لوقا 1 : 17 أن يوحنا المعمدان جاء بروح إيليا وقوته
سيأتى ايليا النبى مع أخنوخ فى أيام ضد المسيح ويسندا الكنيسة ويستشهدا .
شخصيته
يشبه إيليا ببريق نور يضىء فجأة على تاريخ مظلم ليعلن الحق الإلهى
+ ظهر فى التاريخ فجأة ، ولا نعرف أسرته .
+ صعد فى المركبة النارية فجأة
+ وظهر مع السيد المسيح فجأة فى تجليه .
كانت تحركاته جميعا تحمل ذات العنصر : مع الملك لإيقاف المطر ، ولقاؤه مع أرملة صرفة صيدا ، ولقاؤه مع ملاك يطعمه ، ولقاؤه مع الله خلال الصوت المنخفض الخفيف ، ولقاؤه مع إليشع ، ولقاؤه مع أخاب بعد قتله نابوت اليزرعيلى ، ولقاؤه مع رسل أخزيا بن أخاب الذين كانوا ذاهبين إلى بعل زبوب إله عقرون يسألونه شفاء الملك .
نبوته عن الجفاف :
لماذا بدأ إيليا النبى عمله النبوى بنبوته عن الجفاف والقحط الذى يحل لإسرائيل ؟
إذ انحدر الملك وشعبه فى الفساد إلى المنتهى احتاجوا لا إلى تحذير شفوى بل عمل يهز وجودهم وحياتهم ، فالنبوة عن القحط وتحقيقها غايتها مراجعتهم لأنفسهم ليدركوا القحط الداخلى الذى حل بهم بحرمانهم من مياة النعمة الإلهية .
"وقال إيليا التشبى من مستوطنى جلعاد لأخاب :
حى هو الرب إله إسرائيل الذى وقفت أمامه ،
أنه لا يكون طل ولا مطر فى هذه السنين إلا عند قولى " ( 1 مل 17 : 1 )
تحدث إيليا إلى الملك علنا لأن الشر قد بلغ إلى كل الشعب ، صارت الحاجة إلى صرخة قوية لكى يرجع الكل إلى إلهه ، لذا يقول : " حى هو الرب إله إسرائيل " الذى يقاومه الملك ورجاله ، ونسيه الشعب وتجاهله .
إنه ليس إله جماد كالبعل ، وعلى الملك أن يدرك أن الأوثان غير قادرة أن تعطيه المطر
لم يفعل ايليا سوى أمر واحد يعلمه ، وهو ما تلجأ اليه كل النفوس المجربة المثقلة ، كان أمامه أن يصلى ، وهذا ما فعله فانه " صلى صلاة " ( يع 5 : 17 ) ، ويظهر أنه فى صلاته مثل أمامه ذلك التهديد الذى نطق به موسى منذ أجيال مضت مهددا شعبه بأنهم أن ابتعدوا عن اللـــه ، وعبدوا آلهة أخرى ، اشتعل غضب الله عليهم ، واغلق السماء عنهم فلا يكون مطرا ولا تعطى الأرض غلتها ( تث 11 : 17 ) .
ويالها من صلاة مرعبة ، ولكن أليس أمرا أشد هولا أن ينسى الشعب إله آبائهم ، ويتجاهلوه ويستسلموا لعبادة البعل وعشتاروت بما فيها من نجاسات وأقذار ؟
تذكر أيضا سلسلة الآراء الخاطئة التى كانت لا بد أن تستخلص فيما لو سكت الرب نهائيا عن حالة كهذه ، فهل هناك أخطر من أن يظن بأن الكتاب المقدس مشحون بشرائع لا يستطيع المشرع أن يتممها أو يتردد فى تنفيذها ؟
إن كنا نرزح تحت أعباء جفاف شديد ،
إن كنا قد حرمنا أياما طويلة من ندى النعمة ، ومطر البركة ،
فانه ليس أمرا وليد الصدفة ،
بل هو تدخل إلهى من يد الذى أحبنا إلى المنتهى فلم يسمح بأن نتركه نهائيا ،
قبل أن يبذل معنا آخر مجهود ، لعلنا نقف عند حدنا ونرجع إليه ،
وإن كان الجفاف قد سمح به الرب فلأجل ترميم المذبح على جبل الكرمل ، وابادة الأنبياء الكذبة فى الوادى .
مصدر قوة إيليا :
لم يكن سر قوة ايليا راجعا الى شخصه أو الى الوسط الذى عاش فيه ، فقد كان من أصل متواضع وقد قيل عنه صراحة أنه " كان انسانا تحت الآلام مثلنا " ( يع 5 : 17 ) ، هنا يذكر لنا ايليا ثلاثة أدلة لمصدر قوته :
( 1 ) " حى هـــــو الرب " .. كان ينظر إلى الله بأنه هو الأله الحى ، ومعطى الحياة ، فإن أردنا أن نكون أقوياء فلنتعلم نحن أيضا بأن تقول " أنا أعلم أن وليى حى ، هو حى فى كل حين ليشفع فينا ، نحن نحيا لأنه هو حى " ( أى 19 : 25 ، عب 7 ، 25 ، يو 14 : 19 ) ، لقد كان موت الصليب قاسيا ولكن يسوع " حى "
( 2 ) " الذى أنا واقف أمامه " .. لقد كان واقفا فى حضرة أخاب ، ولكنه كان واثقا من أنه واقف فى حضرة من هو أعظم من أعظم ملوك العالم ، فى حضرة الرب ، الذى تخر أمامه الملائكة فى رهبة وخشوع لتصغى إلى صوت كلمته .. وجبرائيل نفسه لم يقف موقفا أسمى من هذا " أنا جبرائيل الواقف قدام اللــــه " ( لو 1 : 19 ) ،
ليتنا نبنى مخدعنا بحيث تطل منه كل نافذة على جبل حضرة اللــــــه ...
( 3 ) ان لفظة " ايليا " معناها " الرب الهى "... على أنها يمكن أن تحمل معنى آخر " الرب قوتى " .. وهذه توضح لنا سر حياته ، فقد كان الله حصن حياته فممن يرتعب ؟
لنكف من هذه اللحظة عن الأتكال على قوتنا التى مهما عظمت فهى ضعف ، ونلجأ الى قوة اللــه فقط كل يوم بل كل ساعة بالأيمان ، وعندئذ يصبح شعار حيلتنا فى المستقبل " انما بالرب البر والقوة ، استطيع كل شىء فى المسيح الذى يقوينى ، الرب قوتى ونشيدى وقد صار خلاصى "
إيليا .. هذا النبى النارى ،
لم يكن أصلا إلا فتيلــــة مدخنــــة ،
ولكنه بالأيمان وصــل الى ما وصـــل إليه .
إعالة الغربان له :
" انطلق من هنا واتجه نحو المشرق واختبىء عند نهر كريث " ( 1 مل 17 :3 )
طلب الرب من إيليا أن ينسحب من السامرة ومن وسط الشعب ليختفى ثلاث سنوات ونصف .. لم تكن هذه السنوات فترة خمول للنبى ليحيا بلا عمل ، لكنها كانت فترة مع الله للصلاة والتأمل ، تهبانه قوة متزايدة تسنده فى رسالته المقبلة .
فى وسط الجفاف ، فى البرية القاحلة قدم له الله ماء من نبع أو مجرى كريث ، وأرسل له طعاما بواسطة الغربان الخاطفة .
الغربان التى تحتاج الى من يعولها ! وياله من درس تلقاه ايليا عن قدرة الله على اعالته ، ولا شك فى أن ايليا كان يتأمل مرارا فى هذه الحادثة فى أيامه التالية كبداية لعصر جديد فى حياته ،
كان الله يعوله ليأكل خبزا طازجا ولحما مرتين كل يوم ، كان أنبياء البعل والسوارى يأكلون على مائدة إيزابل فجاعوا بسبب الجفاف ، أما إيليا فكان يعوله الله الحى ... أما كيف كان الخبز واللحم يعدان ، فإننا نجيب مع يعقوب : " إن الرب إلهك قد يسر لى " ( تك 27 : 20 ) .
بأمر إلهى اعتزل إيليا عن شعب الله المنحرف لكى يتعامل مع الغربان التى تخدمه ،
هكذا بالخطية يفقد الأنسان علاقته بالله ورجاله ، بينما الحيوانات والطيور غير العاقلة تمجد الله وتخدم أولاده .
البرية فى حياة إيليا النبى :
كان يقضى الكثير من وقته فى البرية ( 1 مل 17 : 5 ، 1 مل 19 )
ليست هناك طريقة انجح لأذلال نفس الأنسان أكثر من سحبه فجأة من الدائرة التى كان قد بدأ يظن نفسه أنه لا غنى عنه فيها ، لكى يتعلم أنه لا حاجة اليه على الأطلاق لأتمام مقاصد الله ، وحتى يدرك اذا ما عزل فى جهة نائية كنهر كريث ، كيف كانت افكاره مشوشة ، وكيف كانت قوته كلا شىء ...
اذا فلا نعجب ان سمعنا أبانا السماوى يهمس فى آذاننا أحيانا : يكفيك يا أبنى ما قد اربكت نفسك فيه هناك من مشاغل واعلانات وارتباكات ، تعال هنا ، واختبىء عند النهر ،
اختبىء عند " كريث " فراش المرض ...
أو عند " كريث " الآمال الخائبة ....
أو عند " كريث " الخسائر .... أو فقد الأعزاء ... أو فى الوحدة التى هجرتها الجموع المزدحمة ،
وسعيد هو الأنسان الذى يستطيع أن يقدم هذا الجواب : ارادتك هذه هى ارادتى أيضا ، اننى اطير يا إلهى لكى نختبىء فى ستر خيمتك وفى ظل جناحيك استرنى .
ان الأنتصار العظيم على جبل الكرمل يجب أن يسبقه نهـــــر كريث ....
ماذا تمثل البرية بالنسبة لحياة إيليا التشبى ؟
1- الخلوة المقدسة : يوجد مع الله بعيدا عن صخب العالم ، يترك كل شىء ويسير نحو الله بخطى ثابتة ، يوجه نظره نحو الله الحب اللانهائى وينبوع الحب الفياض ، نحو الله المحبوب والحنون الشفوق المتراءف ، الذى يسكب حبه فى القلوب فتتعلق به النفوس وتنجذب اليه
الذى يفيض من ينبوع ماء الحياة لتستقى منه كل نفس ظمآى تريد أن تروى عطشها .
ويقول أشعياء النبى : " أيها العطاش جميعا هلموا إلى المياة والذى ليس له فضة تعالوا اشتروا وكلوا هلموا اشتروا بلا فضة وبلا ثمن خمرا ولبنا " ( أش 55 : 1 ) .
2- الهدوء والسكينة : حيث الهدوء والسكون تهدأ النفس من الداخل ، ويتلاشى من الذاكرة كل ما علق بها من صور العالم التى كثيرا ما تسبب اضطرابا للنفس من الداخل .
واغراءات العالم تهز الأنسان داخليا فيتعلق بالأرضيات ، ويرتبط بالزمنيات فى محدوديتها فى قصور وجمود خارج حرية ارادته وداخل قيود الماديات ، ليظل مرتبطا بها ، مائلا الى الأمور الجسدية ، متمتعا باللذات منزلقا الى الترابيات .
فتبعد الروح عن مصدر حياتها وعزاءها وفرحها ، ولكن حين تستقر النفس داخل دائرة السكون والهدوء ، تبدأ الروح فى الأنطلاق خارج دائرة العالم المحسوس والمحدود ، وتعبر المدى والأفق المحدود الى اللامحدود .
3 - حياة التأمل : التأمل فى مجد الخالق .... فى السماء وصفاءها أشارة الى العلو والسمو .... التأمل فى محبة الله الفائقة ..... حب الله للخليقة ... حب الله للأنسان .... والتأمل فى رعاية الله للأنسان .... الذى أحبه ، ليحفظه فى دخوله وخروجه ، وفى كل خطوة يخطوها فلا يخاف شيئا .
4- الصبر والأحتمال وطول الأناة : البرية القاسية تعلم الأنسان الصبر والجلد والأحتمال ، فى زهد ونسك غالبا ومنتصرا على كل القوى التى تحاربه والشرور التى قد تحدق به .
5- مدرسة الصلاة : اتخذ الرب يسوع من البرية موضعا للصلاة فتقدست البرية بالرب معلم الصلاة الذى كان يخرج الى موضع خلاء ليصلى ، ويقضى الليل كله فى الصلاة
كان إيليا النبى فى البرية يناجى الله منفردا فى خلوة مقدسة ، منقطعا عن العالم ، انحل عن الكل ليرتبط بالواحد . صلاة ايليا كانت تنطلق من أعماق قلبه وكيانه قوية تصعد الى السماء لتدخل الى حضرةالقدير .
دعى إيليا رجل الصلاة ... الذى صلى صلاة بايمان قوى راسخ رسوخ الجبال وثقة كاملة لا يتطرق اليها الشك .
صلى إيليا أن لا تمطر السماء كم ورد فى رسالة يعقوب : " صلى صلاة أن لا تمطر فلم تمطر على الأرض ثلاث سنين وستة أشهر ، ثم صلى أيضا فأعطت السماء مطرا وأخرجت الأرض ثمرها " ( يع 5 : 17 – 18 ) .
6- حياة الجرأة والشجاعة : وقف فى وجه آخاب الملك ... موبخا إياه شاهدا للحق فى جرأة ليعلن كلمة الله التى ينطقها على فمه منذرا الخطاة والبعيدين عن الله ، والذين جعلوا قلوبهم وراء آلهة الأمم بالهلاك والموت .
+ + +
جفاف النهـــــر :
" وكان بعد مدة من الزمان أن النهر يبس " ( 1 مل 17 : 7 )
لا نستطيع أن نكون صورة صحيحة عن حالة أرض الموعد فى شهور الجفاف الأولى ، أننى اتخيلها الآن وقد جفت مراعى الجبال كأن ألسنة النيران قد اندلعت فأفحمتها ، وأما الأنهار فقد نضب ماؤها رويدا رويدا حتى تلاشت منها آخر نقطة . كما لم تكن هنالك أمطار لتعيد الحياة الى المزروعات أو تفيض على ينابيع المياة . والشمس كانت تشرق وتغرب ، لمدة عدة شهور ، فى سماء صافية لا أثر للسحاب فيها .
لقد قضى على الكثيرون منا أن يجلسوا بجوار أنهار تجف :
قد يكون نهر الصيت والشهرة بدأ يجف ...
وقد يكون نهر الصحة بدأ يجف وسمح الرب بمرض عضال لا شفاء منه ...
وقد يكون نهر الثروة بدأ يجف رويدا رويدا بسبب مطاليب المرض أو الديون أو أى نوع آخر من مظاهر الأسراف .... حقا انه لأختبار مر على النفس أن يجلس المرء بجوار نهر يبس ، وهو حقا أمر أشد صعوبة من الوقوف أمام أنبياء البعل على جبل الكرمل .
ولماذا يسمح الرب بأن تيبس كل هذه الأنهار ؟ لأنه يريد أن يعلمنا بأن لا نتكل على نعمه ؛ بل على شخصـــــه ....
إنه يريد أن يرفع أبصارنا الى النهر الخارج من عرش اللـــــه الذى لن ييبس الى الأبد
اذا فلنتعلم هذه الدروس ، ولنتحول من نهر كريث الذى خيب آمالنا الى مخلصنا الذى لن يخيب لنا رجاء ، فيه نجد كل كفايتنا ، ينابيعه لا تنضب بمرور الدهور ، ولا ينقصها عطش ربوات القديسين الذين يشربون منها فى الأعالى بجوار منبعها كما نشرب نحن منها هنا على الأرض بجوار مصبها " سواقى اللـــــه ملآنه ماء " ( مز 65 : 9 ) .....
" كل من يشرب من هذا الماء يعطش أيضا ، ولكن من يشرب من الماء الذى أعطيه أنا فلن يعطش الى الأبد ، بل الماء الذى أعطيه يصير فيه ينبوع ماء ينبع الى حياة أبدية " ( يو 4 : 13 ، 14 ) .
Comment