رسالة رعوية بمناسبة حلول الصوم الكبير المقدس 2008
إنّ أقسى الكلمات على مسامع إنساننا المعاصر هي كلمة "التوبة" التي يدعونا إلى عيشها الصوم الكبير المقدس! ولعلّ ذلك لأن هذه الكلمة هي أكثر الحقائق غموضاً في حياته!
لا يرتاح إنساننا اليوم لهذه الكلمة لأنه يحب العادة ويركن إليها، ويخشى التبديل ويتجنّبه. التوبة تهزّ كيان الإنسان لأنها تشكّك بكلّ ما هو راهن أو عادي، أو على الأقل تمتحنه وتفحصه وتقيّمه!
مراجعة الحسابات في حياة الإنسان اليوم ممارسة غير محبوبة دائماً. وذلك لأن أي تشكيك في "صحة" مسلكيته يقوده إلى شعور بعدم الأمان، طالما أنه ثبّت ضمانه على قواعد متبّدلة بالأساس.
امتحان سريع لمواقف الإنسان المعاصر وقناعاته يكشف على الفور أن هذه المواقف مرات عديدة لا تستند إلى المنطق أو الحق أو العدالة، بل وللأسف إلى الإعجاب بالذات والادّعاء وربما إلى المصلحة الذاتية. حينها لا تبرّر هذه المواقف إلاّ "عللُ الخطايا"، كما يقول المزمور "لا تمل قلبي إلى كلام الشر فيتعلل بعلل الخطايا". لكن هذه التبريرات تسند مواقف الإنسان على مستوى اللحظة المتبدلة وليس على قاعدة الحقيقة الثابتة. لهذا تأتي تجارب الحياة، أو ربما تسطع الحقيقة، وتهدم كل هذه المستندات، وتفضح هشاشة وعدم إنسانية كل تلك المعايير الخاطئة وغاياتها. هل هي قليلة المفاجآت والمآسي والعثرات التي تظهر في حياة الناس؟
لكن "التوبة"، لنا نحن المسيحيين، هي الكلمة الأحبّ والأقرب إلى قلوبنا. لأنّ حياتنا هي مسيرة صاعدة، ولأنّ السيد وعدنا أنّه عندما يرتفع (على الصليب) سيرفعنا معه عن الهابط من دنيانا.
الصوم هو ممارسة من أجل التوبة. الصوم هو رياضة روحيّة تخرجنا من ستاتيكية حياتنا إلى طلب ما هو أفضل. الصوم يحرّكنا، نحن صورة الله، إلى تحقيق أكبر من مثاله. الصوم يمنع الرضى الكاذب عن الذات، الصوم يدفعنا إلى امتحان واقع حياتنا وتصحيح ما يلزم في مسيرتها. الصوم ليس هو مجرّد ممارسة جسدية أو صحيّة، الصوم فترةٌ مقدسة نقصد فيها عيش حياة التوبة.
التوبة ليست أيضاً مجرّد لوم الذات أو تقريعها. إنّ الندامة عن الضعفات والشعور بالألم من جراء أخطائنا أمور مطلوبة وضرورية جداً. لكن هذه دون صوم وأفعال محبة تبقى مجرّد آلام نفسية مضرّة أكثر مما هي مفيدة. ألم تَقُدْ مجرّدُ الندامةِ يهوذا إلى الانتحار؟
التوبة تتميز بالحزن البهي، هذا الحزن الذي يطبع الصوم الكبير بالتعب وبالفرح معاً. للتوبة فعلان. الفعل الأول هو الندامة والفعل الثاني هو المصالحة. الندامة هي نتيجة ضعفنا ومواجهتنا لذواتنا المقصّرة والكسولة، والمصالحة هي ثمرة الحبّ الإلهي المجانية. الندامة تلد الحزن والمصالحة تهب البهاء.
يأسف منْ يندم ويبقى كما هو. يفرح من يندم ويتوب. يبتهج من يعرف خطيئته ويقدر على تجاوزها. مؤلم أن نكتشف بُعدَنا عن الله، ومفرح أن نجد أنفسنا عائدين إليه.
لكن شتان ما بين الطريقين! بين طريق التبرير بعلل الخطايا وبين الاعتراف بوصية الله وقبولها. شتان بين واقعنا في الكسل البشري وبين مرتجانا في الدعوة الإلهية. عندما نعي هذا الفارق الكبير تتحرك نفسنا نحو التوبة.
التوبة إذن هي تغيير في الوجهة وتبديل في المسيرة التي نحدّدها لحياتنا غداً، بناء على رفض ما كان فيها بالأمس. التائب إذن هو الإنسان المتحرّك نحو الأفضل. التائب هو المتقدّم، في المعرفة في الحقّ في الحرّية وفي المثال الإلهي. هكذا تغدو التوبة عذبة، لأنّها تقودنا إلى الحقّ، والحقّ يحرّرنا، والإنسان عاشق الحرّية ومتمرّدٌ على العبودية.
الصوم إذن هو ممارسة لتحقيق هذه التوبة. لذلك يبدأ الصوم من "تبديل المعايير" لحياتنا. عمل الصوم هو تدريبنا على اختيار العفة، العفة في كل شيء: في الرغبات في المصالح في العلاقات... الصوم إذن هو العفة في "خيارنا" لكل حاجات حياتنا.
"تبديل المعايير" يعني تماماً "التوبة" = ****noia = تبديل الذهنية. هذا التبديل يعني أن نجعل مثال الله مثالنا بعد أن كنّا ربّما قد جعلنا بشريتنا ورغباتها وجهتَنا! الصوم يمتحن فينا مقدار تعلّقنا بالطعام بدل كلمة الله ولحدّ ربّما مفرط! الصوم يمتحن تقديرنا للمجد الدنيوي، وتقديرنا للإحسان، وتقديرنا للمحبة وتقديرنا للاستهلاك. الصوم حركة تسليط نور قوي على حنايا نفسنا في داخلها العميق يكشف الرغبات الداخلية التي تحرّكنا.
عندما نصوم، وبشكل صحيح، نجعل ناموس الربّ نوراً لسبلنا! هذا النور القوي، وقوي جداً، يتسلّل إلى أعماقنا ويكشف كلّ الخلجات التي هناك في حقيقتها. هناك نعاين أنفسنا فنعمل برحمة الله ونعمته على تطهيرها.
عندما نصوم نحيا روحياً، وعندما نحيا بالروح نتحرّك إلى المثال الذي وهبه الله لنا، إلى كمالنا، عندها سنكتشف أنّ مفاهيم كثيرة عن معانٍ أساسية في الحياة ربما كانت مغلوطة.
عندما نصوم حقّاً ونمتنع عن الرشوة مثلاً أو الأرباح غير المشروعة، عندها نتكّل على عناية الله ولا نستند على المال فقط.
عندما نصوم حقاً ونمتنع عن المبالغة في الشبع حتّى الجشع، عندها نحدّد لأنفسنا أنّ طعامها الأساسي هو الكلمة التي تخرج من فم الله.
عندما نصوم حقاً ونمدّ يد المساعدة المادّية والمعنويّة للمحتاجين، عندها نعرف أنّ الآخر – المحتاج- هو رسالة أمامنا وليس مادة حرّة لاستهلاكنا.
عندما نصوم فنسامح من أساء إلينا، عندها نعرف أنّ المحبة الأخوية دائماً أثمن من الخطيئة، وأن المصالحة عفّة والخلاف إشباع شهوة غير طاهرة.
وهكذا نقضي الصوم الكبير، متصادمين مع الرواسب غير الإنجيلية التي تجمّعت في داخلنا. في الصوم نحيا الصراع بين ما نريد وما نحن عليه، بين النور والظلمة، بين الفضائل والرذائل. لكن النور أقوى من الظلمة لأن "كلمة الله" ألذّ من"الخبز". فهذا ضروري وتلك أفضل. الصوم ممارسة تفضح الظلمات التي فينا. الصوم يجعل ناموس الرب نبراسَ حياتنا. إذن الصوم استنارة. لهذا كانت فترة الصوم الكبير خاصة هي فترة الإعداد للمعموديات. ولهذا حافظنا في صلواتنا الصيامية على الدعوة إلى "الاستنارة" وإلى رفض الظلمة. الصوم القادم كبير، لهذا نوره كبير.
النور الكبير يشرق ونفوسنا تتباشر بالفرح لأن زمن الحرية آتٍ وظروف العبودية ستغيب. النور الآن في السحر ويوم الجهاد الروحي يبدو جميلاً. فلنخطُ بخطاً ثابتة، بتفاؤل، بشفافية، بتواضع. لنبسط نفسنا عارية أمام النور ولنترك ضعفاتها بصراحة بين يدي الله الذي سيمسّها بحنان الأب فيفتح بصيرتها فترى وتؤمن.
صلاتي الأبوية إلى جميعكم أن نسير معاً في هذا الصوم متدرّبين بواسطة الصيام على العيش في النور وتحطيم ألم الظلمة. "لا تكن فاتراً فأتقيأوك من فمي" (رؤيا 3، 16). لنكن إذن حارّين بالروح، ولنمارس الصوم ونمسح وجهنا بمسحة البهجة، حتى نكون في النور الكبير، ونوزع حولنا النور الكثير.
المطران بولس يازجي
متروبوليت حلب واللواء وتوابعهما للروم الأرثوذكسي
إنّ أقسى الكلمات على مسامع إنساننا المعاصر هي كلمة "التوبة" التي يدعونا إلى عيشها الصوم الكبير المقدس! ولعلّ ذلك لأن هذه الكلمة هي أكثر الحقائق غموضاً في حياته!
لا يرتاح إنساننا اليوم لهذه الكلمة لأنه يحب العادة ويركن إليها، ويخشى التبديل ويتجنّبه. التوبة تهزّ كيان الإنسان لأنها تشكّك بكلّ ما هو راهن أو عادي، أو على الأقل تمتحنه وتفحصه وتقيّمه!
مراجعة الحسابات في حياة الإنسان اليوم ممارسة غير محبوبة دائماً. وذلك لأن أي تشكيك في "صحة" مسلكيته يقوده إلى شعور بعدم الأمان، طالما أنه ثبّت ضمانه على قواعد متبّدلة بالأساس.
امتحان سريع لمواقف الإنسان المعاصر وقناعاته يكشف على الفور أن هذه المواقف مرات عديدة لا تستند إلى المنطق أو الحق أو العدالة، بل وللأسف إلى الإعجاب بالذات والادّعاء وربما إلى المصلحة الذاتية. حينها لا تبرّر هذه المواقف إلاّ "عللُ الخطايا"، كما يقول المزمور "لا تمل قلبي إلى كلام الشر فيتعلل بعلل الخطايا". لكن هذه التبريرات تسند مواقف الإنسان على مستوى اللحظة المتبدلة وليس على قاعدة الحقيقة الثابتة. لهذا تأتي تجارب الحياة، أو ربما تسطع الحقيقة، وتهدم كل هذه المستندات، وتفضح هشاشة وعدم إنسانية كل تلك المعايير الخاطئة وغاياتها. هل هي قليلة المفاجآت والمآسي والعثرات التي تظهر في حياة الناس؟
لكن "التوبة"، لنا نحن المسيحيين، هي الكلمة الأحبّ والأقرب إلى قلوبنا. لأنّ حياتنا هي مسيرة صاعدة، ولأنّ السيد وعدنا أنّه عندما يرتفع (على الصليب) سيرفعنا معه عن الهابط من دنيانا.
الصوم هو ممارسة من أجل التوبة. الصوم هو رياضة روحيّة تخرجنا من ستاتيكية حياتنا إلى طلب ما هو أفضل. الصوم يحرّكنا، نحن صورة الله، إلى تحقيق أكبر من مثاله. الصوم يمنع الرضى الكاذب عن الذات، الصوم يدفعنا إلى امتحان واقع حياتنا وتصحيح ما يلزم في مسيرتها. الصوم ليس هو مجرّد ممارسة جسدية أو صحيّة، الصوم فترةٌ مقدسة نقصد فيها عيش حياة التوبة.
التوبة ليست أيضاً مجرّد لوم الذات أو تقريعها. إنّ الندامة عن الضعفات والشعور بالألم من جراء أخطائنا أمور مطلوبة وضرورية جداً. لكن هذه دون صوم وأفعال محبة تبقى مجرّد آلام نفسية مضرّة أكثر مما هي مفيدة. ألم تَقُدْ مجرّدُ الندامةِ يهوذا إلى الانتحار؟
التوبة تتميز بالحزن البهي، هذا الحزن الذي يطبع الصوم الكبير بالتعب وبالفرح معاً. للتوبة فعلان. الفعل الأول هو الندامة والفعل الثاني هو المصالحة. الندامة هي نتيجة ضعفنا ومواجهتنا لذواتنا المقصّرة والكسولة، والمصالحة هي ثمرة الحبّ الإلهي المجانية. الندامة تلد الحزن والمصالحة تهب البهاء.
يأسف منْ يندم ويبقى كما هو. يفرح من يندم ويتوب. يبتهج من يعرف خطيئته ويقدر على تجاوزها. مؤلم أن نكتشف بُعدَنا عن الله، ومفرح أن نجد أنفسنا عائدين إليه.
لكن شتان ما بين الطريقين! بين طريق التبرير بعلل الخطايا وبين الاعتراف بوصية الله وقبولها. شتان بين واقعنا في الكسل البشري وبين مرتجانا في الدعوة الإلهية. عندما نعي هذا الفارق الكبير تتحرك نفسنا نحو التوبة.
التوبة إذن هي تغيير في الوجهة وتبديل في المسيرة التي نحدّدها لحياتنا غداً، بناء على رفض ما كان فيها بالأمس. التائب إذن هو الإنسان المتحرّك نحو الأفضل. التائب هو المتقدّم، في المعرفة في الحقّ في الحرّية وفي المثال الإلهي. هكذا تغدو التوبة عذبة، لأنّها تقودنا إلى الحقّ، والحقّ يحرّرنا، والإنسان عاشق الحرّية ومتمرّدٌ على العبودية.
الصوم إذن هو ممارسة لتحقيق هذه التوبة. لذلك يبدأ الصوم من "تبديل المعايير" لحياتنا. عمل الصوم هو تدريبنا على اختيار العفة، العفة في كل شيء: في الرغبات في المصالح في العلاقات... الصوم إذن هو العفة في "خيارنا" لكل حاجات حياتنا.
"تبديل المعايير" يعني تماماً "التوبة" = ****noia = تبديل الذهنية. هذا التبديل يعني أن نجعل مثال الله مثالنا بعد أن كنّا ربّما قد جعلنا بشريتنا ورغباتها وجهتَنا! الصوم يمتحن فينا مقدار تعلّقنا بالطعام بدل كلمة الله ولحدّ ربّما مفرط! الصوم يمتحن تقديرنا للمجد الدنيوي، وتقديرنا للإحسان، وتقديرنا للمحبة وتقديرنا للاستهلاك. الصوم حركة تسليط نور قوي على حنايا نفسنا في داخلها العميق يكشف الرغبات الداخلية التي تحرّكنا.
عندما نصوم، وبشكل صحيح، نجعل ناموس الربّ نوراً لسبلنا! هذا النور القوي، وقوي جداً، يتسلّل إلى أعماقنا ويكشف كلّ الخلجات التي هناك في حقيقتها. هناك نعاين أنفسنا فنعمل برحمة الله ونعمته على تطهيرها.
عندما نصوم نحيا روحياً، وعندما نحيا بالروح نتحرّك إلى المثال الذي وهبه الله لنا، إلى كمالنا، عندها سنكتشف أنّ مفاهيم كثيرة عن معانٍ أساسية في الحياة ربما كانت مغلوطة.
عندما نصوم حقّاً ونمتنع عن الرشوة مثلاً أو الأرباح غير المشروعة، عندها نتكّل على عناية الله ولا نستند على المال فقط.
عندما نصوم حقاً ونمتنع عن المبالغة في الشبع حتّى الجشع، عندها نحدّد لأنفسنا أنّ طعامها الأساسي هو الكلمة التي تخرج من فم الله.
عندما نصوم حقاً ونمدّ يد المساعدة المادّية والمعنويّة للمحتاجين، عندها نعرف أنّ الآخر – المحتاج- هو رسالة أمامنا وليس مادة حرّة لاستهلاكنا.
عندما نصوم فنسامح من أساء إلينا، عندها نعرف أنّ المحبة الأخوية دائماً أثمن من الخطيئة، وأن المصالحة عفّة والخلاف إشباع شهوة غير طاهرة.
وهكذا نقضي الصوم الكبير، متصادمين مع الرواسب غير الإنجيلية التي تجمّعت في داخلنا. في الصوم نحيا الصراع بين ما نريد وما نحن عليه، بين النور والظلمة، بين الفضائل والرذائل. لكن النور أقوى من الظلمة لأن "كلمة الله" ألذّ من"الخبز". فهذا ضروري وتلك أفضل. الصوم ممارسة تفضح الظلمات التي فينا. الصوم يجعل ناموس الرب نبراسَ حياتنا. إذن الصوم استنارة. لهذا كانت فترة الصوم الكبير خاصة هي فترة الإعداد للمعموديات. ولهذا حافظنا في صلواتنا الصيامية على الدعوة إلى "الاستنارة" وإلى رفض الظلمة. الصوم القادم كبير، لهذا نوره كبير.
النور الكبير يشرق ونفوسنا تتباشر بالفرح لأن زمن الحرية آتٍ وظروف العبودية ستغيب. النور الآن في السحر ويوم الجهاد الروحي يبدو جميلاً. فلنخطُ بخطاً ثابتة، بتفاؤل، بشفافية، بتواضع. لنبسط نفسنا عارية أمام النور ولنترك ضعفاتها بصراحة بين يدي الله الذي سيمسّها بحنان الأب فيفتح بصيرتها فترى وتؤمن.
صلاتي الأبوية إلى جميعكم أن نسير معاً في هذا الصوم متدرّبين بواسطة الصيام على العيش في النور وتحطيم ألم الظلمة. "لا تكن فاتراً فأتقيأوك من فمي" (رؤيا 3، 16). لنكن إذن حارّين بالروح، ولنمارس الصوم ونمسح وجهنا بمسحة البهجة، حتى نكون في النور الكبير، ونوزع حولنا النور الكثير.
المطران بولس يازجي
متروبوليت حلب واللواء وتوابعهما للروم الأرثوذكسي
Comment