لأننا في الرجاء نلنا الخلاص
رسالة بابوية لمنحالعالم الرجاء المطران أنطوان
أودو
نشر البابا بنديكتس 16 يوم الجمعة 3 ت2 رسالة جديدة حول موضوع الرجاء المسيحي، وفيها يعرض على الإنسانية التي تبدو وكأنها خائبة، الرجاء الذي يحمله إليها المسيح. تبدأ الرسالة بمقطع من رسالة القديس بولس الرسول إلى أهل رومة: " لأننا في الرجاء نلنا الخلاص " (روم 8 / 24) ويشدّد البابا على أنَّ ما يميّز المسيحيين هو كونهم لهم مستقبل، وهم يعرفون أن حياتهم لا تنتهي بالعدم (الفقرة 2) (راجع 1 تس 4 / 13) " ولا نريد أيها الإخوة، أن تجهلوا مصير الأموات لئلا تحزنوا كسائر الناس الذين لا رجاء لهم "
الرجاء هو لقاء " أن نصل إلى معرفة الله، الله الحقّ، هذا يعني أنّنا نِلنا الرجاء "، هذا ما يقوله البابا في الفقرة 3 من الرسالة، ولكي يوضّح ذلك، فإنه يلجأ إلى مثل واقعي من حياة الكنيسة وقدّيسيها. فالرجاء المسيحي يتجلّى في حياة عبدة سودانية جوزفين باخيتا المولودة في دارفور سنة 1869 وكانت دوماً تردّد: " إنني محبوبة بشكل نهائي ومهما حصل لي، فإن الحب ينتظرني وهكذا أصبحت حياتي صالحة " ( الفقرة 3 ). فبمعرفة هذا الرجاء " خَلُصَتْ " باخيتا ولم تعد تشعر بأنها مستعبدة بل هي إبنة لله، حرّة. وتعمَّدت ودخلت الحياة الرهبانية في إيطاليا وتحوّلت إلى مُرسَلة. فاللقاء مع الله جعلها تشعر بمسؤولية إعلانه للآخرين. ويتابع البابا في الفقرة الرابعة مُظهراً أن يسوع لم يأتِ لكي يعرض علينا رسالة اجتماعية ثورية لأنّه لم يكن " محارباً في سبيل تحرير سياسي ". لقد حمل لنا يسوع: " اللقاء مع الإله الحيّ، وبالتالي اللقاء مع الرجاء الذي هو أقوى من عذابات العبودية، ولذلك فهو يحوّل من الداخل حياة العالم ".
ويختم البابا الفقرة الخامسة قائلاً: " السماء ليست بفارغة. الحياة ليست حصيلة بسيطة لقوانين المادة ونتائجها، ولكن في كل شيء وفي الوقت نفسه، وفوق كل شيء، هناك إرادة شخصية، هناك الروح الذي بيسوع، ظهر لنا على أنّه الحب."
فالمسيح هو " الذي يقول لنا في الواقع من هو الإنسان وما عليه أن يعمل ليصبح حقاً إنساناً ". " إنّه يدلنا على هذه الطريق، وهذه الطريق هي الحقيقة " ( الفقرة 6 )
نستخلص من ذلك كلّه أنّه بالنسبة للبابا، ليس الرجاء " شيئاً "، ولكن " شخصاً "، فهو لا يعتمد على ما هو عابر، بل على الله الذي يَهِب نفسه وبشكل دائم.
اعتباراً من الفقرة 16 يتوقف البابا عند فكر الفيلسوف فرنسيس بيكُن: تحوّل الإيمان – الرجاء المسيحي في الأزمنة الحديثة . يقول بيكُن: هناك علاقة جديدة بين العلم والواقع ويُطبّق ذلك على اللاهوت. فهذه العلاقة بين العلم والواقع تعني أن السيطرة على الطبيعة التي أعطاها الله للإنسان، والتي فُقدت بالخطيئة الأصلية، قد أخذت مكانها ثانية، بالعلم طبعاً.
ويتابع البابا في الفقرة 17 شرح فكر بيكُن: إلى الآن، كان الإنسان ينتظر استرجاع ما خسر عندما طُرِد من الفردوس، بواسطة الإيمان بيسوع المسيح، وفي ذلك كان يرى الخلاص . أما الآن، فهذا الخلاص الذي هو استرجاع " الفردوس " الضائع، لم يعد الإنسان ينتظره من الإيمان، ولكن من العلاقة المكتشفة بين العلم والوقع. هذا لا يعني أن الإيمان، مع هذه الرؤية الجديدة، قد أصبح منفياً: ولكنه بالأحرى انتقل إلى مستوى آخر – إلى مستوى الحياة الخصوصية والأرضية – وفي الوقت نفسه، يصبح الإيمان نوعاً ما، من دون معنى، بالنسبة للعالم. هذه الرؤية قد حددت اتجاه الأزمنة الحديثة، وهي تؤثر بالتالي على أزمنة الإيمان الحالية، التي هي في الواقع وخاصة أزمة الرجاء المسيحي. وهكذا يتخذ الرجاء لدى بيكُن شكلاً جديداًَ، لقد أصبح إيماناً في التطور... سوف يقودنا إلى " ملك الإنسان".
ويتابع البابا تفسيره في الفقرة 18 قائلاً: لدينا مفهومان مرتبطان ارتباطاً وثيقاً بفكرة التطور وهما العقل والحرية. فالتطور هو تطور في نمو مُلِك العقل، ويعتبر هذا العقل بوضوح كقوّة خير ومن اجل الخير. فالتطور يتجاوز كل التبعيات – إنّه تطوّر نحو الحرية التامة. وفي هذا المجال تعتبر الحرية كوعد فيه يتجّه الإنسان نحو الكمال.
أمّا في الفقرة 19 فيتوقف البابا عند شرح الثورة الفرنسية انطلاقاً من مفهوميْ العقل والحرية، قبل أن ينتقل في الفقرة التي تتبع إلى الثورة الماركسية.
فالثورة الفرنسية هي محاولة لبسط سلطة العقل والحرية على الحاصر وبأسلوب سياسي واقعي. انطلاقاً من واقع الثورة ونتائجها يفكر " عمانوئيل كانت " حول معنى الأحداث في مرحلتيْها الأولى والثانية وينشر كتاباً في السنة 1792 عنوانه : " انتصار مبدأ الخير على مبدأ الشر وتأسيس مُلْكَ الله على الأرض " ويكتب " كانت " في هذا المجال: " إن العبور المتدرج من إيمان الكنيسة إلى سلطة الإيمان الصافي الوحيدة هي اقتراب ملكوت الله ". ويزيد " كانت " أن باستطاعة الثورات أن تسرع في العبور من إيمان الكنيسة إلى الإيمان العقلاني، إلى الإيمان الديني، أعني بواسطة الإيمان العقلاني.
يتابع البابا في الفقرة 20 ملاحظاً أن هيمنة العقل والحرية خلقت في القرن التاسع عشر البروليتاريا الصناعية. فكان لا بدَّ من ثورة بروليتارية بعد الثورة البورجوازية. لقد برز ماركس لكي يحقّق ما سمّاه " كانت " " ملك الله ". فبعد القضاء على حقيقة الماورائيات، لا بدَّ من إقامة حقيقة الأرض. إن انتقاد السماء يتحوّل إلى انتقاد الأرض، وانتقاد اللاهوت يتحوّل إلى انتقاد السياسة. فالتطوّر نحو الأفضل، نحو عالم صالح نهائياً لا يتأصّل في العلم ولكن في السياسة – في سياسة قائمة على العلم – التي تعرف كيف تكتشف بنية التاريخ والمجتمع والتي توجّه نحو طريق الثورة، نحو تغيير كل شيء. إنّ وعد ماركس، استناداً إلى دقة تحاليله وإلى تحديده الوسائل التي تقود نحو التغيير الجذري، قد بهرت الجماهير ولا زالت.
الفقرة 21 : انتصر ماركس في ثورته إلاّ أنّ خطاه ظهر للعيان. لقد أشار إلى تحقيق الثورة إلاّ أنّه لم يقُل كيف على الأمور أن تستمر فيما بعد. إن خطأ ماركس هو المادية، لأنّ الإنسان ليس فقط نتاج الشروط الاقتصادية، ولا يستطاع شفاؤه من الخارج فقط، بواسطة الشروط الاقتصادية المناسبة.
يتابع البابا تحليله فكرة التطور والعقل والحرية في الفقرة 23، وفيها يطرح بعض الأسئلة الجوهرية على الفلسفة الحديثة: يقول البابا أجل إن العقل هو عطية الله الكبرى للإنسان، وانتصار العقل على اللاعقل هو أيضاً هدف من أهداف الإيمان المسيحي. ولكن متى يسيطر العقل ؟ أعندما ينفصل عن الله ؟ أم عندما يصبح أعمى أمام الله ؟ هل يبقى العقل عقلاً كاملاً في هذه الحالة ؟ لكي يكون التطوّر تطوّراً، فإنّه يحتاج إلى نمو الإنسانية الأخلاقي، وكذلك على مقدرة العقل أن تنفتح على قوّة الإيمان الخلاصيّة، على موقف التمييز بين الخير والشرّ. بهذه الطريقة فقط يصبح العقل حقاً إنسانياً.
يصبح إنسانياً إن استطاع أن يدلّ الإرادة إلى الطريق، ولا يستطيع ذلك إلاّ إذا نظر إلى أبعد من ذاته. فالإنسان بحاجة إلى الله وإلاّ بقي محروماً من الرجاء.
وفي الفقرات 24 – 26 يجد البابا أنَّ باستطاعة العلم المساهمة كثيراً في أنْسَنة العالم والإنسانية، إلاّ أنّ باستطاعة العلم أيضاً أن يهدم الإنسان والإنسانية، إن لم يتوجّه بواسطة قوى خارجة عنه. فليس العلم هو الذي يخلّص الإنسان، فالإنسان مُخَلَّص بالحب. ولذلك باستطاعتنا القول إن فرنسيس بيكُن وأتباع التيار الفكري الحديث الذي أسّسه، الذين اعتبروا أنّ الإنسان يخلص بالعلم قد خطئوا. يحتاج الإنسان إلى الحب غير المشروط من اجل الخلاص، يحتاج إلى أن يسمع قول بولس الرسول: ( روم 8 / 38 – 39 ) ( راجع غل 2/20 )
خاتمة القسم الأول الفقرة 30 - 31
هذا الرجاء العظيم الذي يسعى وراءه الإنسان من خلال رجاءاته الصغيرة والمتعددة لا يستطيع أن يكون إلاّ الله وحده الذي يُشعل العالم والذي يستطيع أن يُقدّم لنا ما لا نستطيع أن نصل إليه وحدنا.
الله هو أساس الرجاء، وليس أي إله كان، ولكن الله الذي له وجه بشري والذي أحبنا حتى النهاية كل واحد بمفرده والإنسانية بكاملها.
ملكوته ليس بعالم خيالي آخر، وليس موجوداً في مستقبل لا يتحقّق أبداً. ملكوته هو حاضر حيث هو محبوب وحيث حبّه يلتقي بنا. إن حبّه فقط يعطينا إمكانية الثبات بتجرّد يوماً بعد يوم، دون أن نفقد اندفاع الرجاء، في عالم هو في طبيعته غير كامل، ولكن وفي الوقت نفسه، إنّ حبّه لنا هو الضمان لوجود ما نشعر به بغموض ومع ذلك ننتظر في أعماقنا الحياة التي " حقاً " الحياة.
" الأمكنة التي فيها نتعلم الرجاء ونعيشه " 1– الصلاة ( 32 – 34 ) 2 – العمل ( 35 )
3 – الألم ( 36 – 40 )
4 – الدينونة ( 41 – 48 )
يتوقف بنديكتوس 16 عند أربع محطات فيها يتعلم الإنسان الرجاء ويعيشه.
1 – وأول محطة هي " الصلاة " : ويقول البابا في الفقرة الأولى الرقم 32: " إن لم يسمعني أحد، فالله يستمر في الإصغاء. وإن لم أستطع بعد الكلام مع أحد ولا أستطيع أن أنادي أيّاً كان، أستطيع أقلّه أن أخاطب الله دوماً ... فالإنسان الذي يصلّي لا يكون أبداً وحيداً كلياً. " بعد هذه المقدمة حول أهمية الصلاة في العلاقة مع الله يتحدث البابا عن شخصية فيتنامية: الكاردينال نكوين فان توان. لقد سُجِن مدة ثلاث عشرة سنة في الفيتنام وفي السجن كتب كتاباً صغيراً عنوانه: " صلوات الرجاء ". وبعد تخْلية سبيله انطلق في العالم كلّه شاهداً للرجاء.
ولكي يؤكد على أهمية الصلاة يستشهد البابا بمفكِّره المفضّل أوغسطينس فيما يقول في الصلاة والعلاقة مع الله : " وهكذا فالله، عندما يجعل الإنسان ينتظر يوسّع رغبة الإنسان، وعندما يجعله يرغب فيه، يوسّع روحه، وعندما يوسّع روحَه يزيد في مقدرته على الاستيعاب ". ( راجع فل 3 / 13 )
ويختم البابا تعليقه على كلام أوغسطينس الرائع بقوله: " أن نصلّي لا يعني الخروج من التاريخ والانكفاء في مجال خاص بسعادة فردية. فالطريقة الصحيحة في الصلاة هي عملية تطهير داخلي تجعلنا أهلاً للوقوف أمام الله وبالتالي الوقوف أمام الناس".
ويتابع البابا تأمله في تعلّم الصلاة قائلاً: " الصلاة هي تنقية لرغباتنا ورجاءاتنا. فبواسطتها يتحرّر الإنسان من الأكاذيب الباطنية التي بها يغش نفسه: فالله يتمحصها والمقابلة مع الله تحمل الإنسان على أن يعترف بأكاذيبه... فإن كان الله غائباً، فعلي لربما أن أختبئ وراء الأكاذيب، لأنه لا يوجد أحد يستطيع أن يغفر لي ... فاللقاء مع الله يوقظ ضميري، لأنّه لم يعد يقدّم لي التبرير الذاتي، ولم يعد ضميري تأثيراً ذاتياً أو نتيجة لما يحوط بي، بل يصبح الضمير المقدرة على الإصغاء للخير في حد ذاته.
2 – في الفقرة 35 التي تبدأ بالحديث عن " العمل " يقول البابا : كل عمل جدي ومستقيم يقوم به الإنسان هو رجاء فعّال ". ويتابع البابا تفكيره في هذا المجال مشدّداً على معنى الرجاء في المفهوم المسيحي. فالرجاء هو دوماً رجاء من أجل الآخرين، وهو رجاء فعّال، بواسطته نجاهد في سبيل ألاّ تتوجه الأمور نحو " نهاية فاسدة " فهذا الرجاء الفعّال يحافظ على العالم في حالة من الانفتاح على الله. واستناداً إلى هذه الرؤية يبقى الرجاء حقاً رجاءً إنسانياً.
3- " الألم " : يتوقف البابا عند فكرة الألم وعلاقتها بالرجاء مطوّلاً ويخصص لذلك الفقرات 36–40، وهذا مما يشير إلى الأهمية الفكرية والوجودية التي يمنحها اللاهوتي والمسيحي إلى مثل هذه الحقيقة الإنسانية. يقول البابا: " لا بدَّ لنا من أن نعمل كل شيء في سبيل تخفيف الألم ولكن علينا أن ننتبه، ليس بتحاشي العذاب وبالهرب من الألم الذي يشفي الإنسان، ولكن بالمقدرة على قبول الاضطرابات والولوج إلى النضوج من خلالها، وان نجد معنى لها بالاتحاد مع المسيح الذي تألم بحب ليس حدود ". وفي هذا المجال يتوقف البابا مطولاً عند صلاة وشهادة حياة عاشها الشهيد الفيتنامي في السجن بول لورباو- تين ( +1857) ( تحوَّل الألم بقوّة الرجاء، إلى صلاة شكر وتسبيح.)
فالألم – دون أن يتوقف عن كونه ألماً – يتحوّل رغم كل شيء إلى نشيد تسبيح.
4 – الدينونة : وفي الفقرات 41 - 48 يعطي البابا أهمية شديدة لموضوع الدينونة من حيث أنه قِبْلَة الرجاء والحقيقة. يبدو أن هذا الجزء هو مخصص للدينونة في علاقتها مع الرجاء وهو في الوقت نفسه خاتمة لكل الرسالة، فيها يصل البابا إلى النتائج التي يريد ان يستخلصها من كل ما تقدّم. يبدأ البابا بالقول: ينتهي الجزء الذي يتحدّث عن سرّ المسيح في " النؤمن" " وأيضاً سيأتي بمجد عظيم ليدين الأحياء والأموات ". فمنذ البدايات كانت الدينونة بالنسبة للمسيحيين مقياساً لتنظيم حياتهم اليومية، وكدعوة موجّهة إلى ضمائرهم وأيضاً كرجاء في عدل الله ... هذه النظرة نحو المستقبل مُنحت المسيحية اهتماماً كبيراً بالحاضر. (راجع الكاتدرائيات)
في الفقرة 42 ، يلاحظ البابا أنّه في العصر الحديث الاهتمام بالدينونة النهائية قد اختفى: يصبح الإيمان المسيحي فردياً ويتوجّه نحو خلاص النفس الشخصي. أمّا التفكير في التاريخ العام، على العكس من ذلك، فيسيطر عليه الاهتمام بالتطوّر، واتخّذ الانتظار شكلاً جديداً مختلفاً جذرياً. فالإلحاد في القرن التاسع عشر والقرن العشرين، هو بحسب جذوره وأهدافه أخلاقية، هو اعتراض على الظلم وعلى التاريخ العام. فالعالم الذي فيه هذا الكم من الظلم، من ألم الأبرياء، ومن تعسّف الحكم لا يستطيع أن يكون من صنع الله. فالله الذي قد يكون مسؤولاً عن عالم كهذا، لا يستطيع أن يكون إلهاً عادلاً ولا حتى بالطبع إلهاً صالحاً. فباسم الأخلاق لا بُدَّ من رفض هذا الإله وبما أنّه ليس هناك إله يخلق العدل، يبدو أنّه على الإنسان نفسه أن يكون مدعواً إلى أن يحقق العدل.
إن كنّا نقبل بهذا الاعتراض الذي يحمله العالم ضد الله ونفهمه، إلاّ أنَّ ادّعاء الإنسانية مقدرتها على القيام بما لم يعمله أيّ إله هو ادّعاء خاطئ في أساسه. ومن مثل هذا الادّعاء نصل إلى أوحش التعديات على العدل، لأنَّ مبدأ هذا الادّعاء خاطئ. إنَّ العالم الذي يريد أن يخلق بذاته عدله، هو عالم من دون رجاء.
لذلك، بتابع البابا في الفقرة 44: الاعتراض على الله باسم العدل لا يجدينا نفعاً. فالعالم من دون الله هو عالم من دون رجاء ( راجع أف 2/12 ). وحده الله يستطيع أن يخلق العدل. والإيمان يؤكّد لنا بأنَّ الله يحقق ذلك. فصورة الدينونة الأخيرة ليست بالدرجة الأولى صورة مخيفة، ولكنها صورة رجاء ... وهي صورة فيها الخوف، لأنّها تدعو إلى المسؤولية. الله هو العدل ويخلق العدل، هذه هي تعزيتنا ورجاؤنا. ولكن في عدل الله هناك أيضاً في الوقت نفسه النعمة، ونعرف ذلك عندما نرفع نظرنا إلى يسوع المصلوب والقائم من بين الأموات؛ فعلى العدالة والنعمة أن يؤخذا معاً في علاقتهما الباطنية. فالنعمة لا تلغي العدالة، ولا تحوّل الباطل إلى حق. ( راجع مثل الغني ولعازر لو 16/ 19 – 31 ) ( راجع أيضاً 1 قور 3 / 12 – 15 ).
في الفقرة 47 يجد بعض اللاهوتيين أن النار هو المسيح، هو النار الذي تحرق وتخلّص، هو الديّان والمخلّص ... فنظرة المسيح، وخفقان قلبه يشفياننا بواسطة التحوّل المؤلم، وكأنّنا نعبر " بالنار". وهذا ألم مفرح، لأنّه بواسطته يخترقنا حبّه كالشعلة، يساعدنا على أن نكون في النهاية " ذواتنا " بشكل كامل وفي الوقت نفسه " من الله " بشكل كامل. هكذا يتوضّح التداخل بين العدالة والنعمة: هذا لا يعني أن طريقة حياتنا هي بدون معنى، ولكن قدراتنا لا تلتصق بنا إلى ما لانهاية، إذا بقينا، أقلّه، مشدودين نحو المسيح، نحو الحقيقة ونحو الحب.
فدينونة الله هي رجاء لأنّها في آن عدالة ونعمة ( راجع ص 76 آخر الرقم 47 علاقة العدالة مع النعمة في الله)
الخاتمة مريم نجمة الرجاء ( الفقرتان الأخيرتان 49 – 50 ) تُحيِّ الكنيسة مريم، أم الله، على أنّها نجمة البحر في نشيد قديم يعود إلى ما بين القرنين السابع والتاسع، أعني منذ أكثر من ألف سنة.
يقول قداسة البابا مستوحياً من صورة البحر والنجمة، الحياة البشرية هي طريق، ونحو أيّة نهاية ؟ وكيف نجد الطريق ؟ فالحياة هي رحلة على بحر التاريخ، وغالباً ما يكون معتماً وعبر العواصف، هي رحلة فيها نحدّق بالكواكب التي تدلنا على الطريق.
فالكواكب الحقيقية في حياتنا هم الأشخاص الذي عرفوا أن يعيشوا بالاستقامة. هم أنوار الرجاء. لا شكَّ أن يسوع هو النور، هو الشمس الذي يشرق على ظلمات التاريخ كلّها. ولكن للوصول إليه، نحن نحتاج إلى أنوار قريبة منّا، أشخاص يعطوننا النور وهم يستقونه من نوره فيقدمون لنا اتجاهاً في عبورنا.
ومَنْ يستطيع أكثر مِنْ مريم أن يكون لنا نجمة الرجاء، هي التي " بالنَّعَم " التي قالتها لله نفسه فتحت باب عالمنا، وأصبحت تابوت العهد الحي الذي فيه صار الله بشراً، وأصبح واحداً منّا، ونصب خيمته في وسطنا ( راجع يو 1 / 14).
وفي الفقرة 50 يرفع البابا الصلاة إلى مريم التي قبلت الرجاء وأعطته للعالم، طالباً منها الشفاعة
Comment