المغارة: إنها أكثر الأشياء بساطة حتى أنّ الأطفال كلهم يفهمونها. ولكن ما هو جوهري وملفت للانتباه، أنّ فيها تجلس مريم ويوسف، ومن حولهما ثور وحمار كأنهما ينتظران بشغف مولد يسوع ليسجدا له بعد وضعه في المذود. وهكذا يبدو سرُّ ميلاد يسوع في بيت لحم، على غرار المذود بسيطاً غاية في البساطة ومقترناً بروح الفقر والفرح.
ليس من اليسير على المنطق والعقل فهم ما ترمي إليه هذه الأشياء،
لكننا سنقوم بمحاولة علَّها تساعدنا في ذلك.
إنّ سرّ الميلاد هو بكل تأكيد سرُّ فقرٍ وتجرّد: فالمسيح الغني قد افتقر حبّاً بنا، وصار شبيهاً بنا، وبأفقرنا. كلُّ شيءٍ هنا يلفّه الفقر والبساطة والتواضع، وهذا سهلٌ إدراكه، ولا سيّما الذين ينعمون بعيني الإيمان؛ إيمان الصغار الذين لهم ملكوت السماوات، كما قال يسوع: "فإن كانت عينك سليمة، كان جسدك كلُّه نيِّراً" (متى 6، 22). إنّ بساطة الإيمان هذه تنير لنا درب الحياة وتجعلنا نقبل بطواعية عظائم الله. فالإيمان يُولد من المحبة التي تدفعنا إلى رؤية كلّ ما هو حولنا بنظرة جديدة نابعة من محبة الله لنا. ونجد ثمرة هذا كلّه في كلمات الإنجيليّ يوحنا في رسالته الأولى، عندما يصف اختبار مريم ويوسف وهما في المغارة: "ذاك الذي رأيناه بعينينا، ذاك الذي تأملناه ولمسته يدانا من كلمة الحياة لأن كلمة الحياة ظهرت فرأينا ونشهد"، ولقد تحقق ذلك كلّه ليصير فرحنا تاماً. لقد تحقق ذلك كلّه لنبلغ ملء الفرح (1يو 1، 1-3). إنّ نعمة الفرح تلك لم تغمر معاصري يسوع فحسب، بل غمرتنا نحن أيضاً: لقد صار كلمة الحياة ملموساً في حياتنا اليومية، في القريب الذي يحتاج للمحبة، في درب الصليب، في الصلاة، في الإفخارستيا التي تملؤنا فرحاً.
الفقر والبساطة والفرح: كلمات لم تعد بنت عصرنا، لدرجة بِتنا معها نخشى التحدث عنها أو نخجل من ذكرها؛ فالفرح الحقيقي أضحى مستحيلاً بسبب كثرة الهموم والآلام والظلم، ولكن يبقى السؤال مطروحاً: كيف يمكننا أمام ذلك كلِّه اختبار معنى الفرح الحقيقي؟
وحتى البساطة، لم تكن أحسن حظاً من الفرح؛ فهناك الكثير من الأمور التي نرفضها لأنها صعبة ومعقّدة وعسيرة الفهم. كيف لنا أن ننعم بعطية البساطة في غمرة الحياة وتعقيداتها؟
أما الفقر، فيبقى الغول المُحارَب بضراوة ليُستأصل من على وجه الأرض.
وتجدر الإشارة إلى أنّ الفرح الحقيقي لا يعني اجتثاث الألم والفقر والمعاناة التي يتعرّض لها العديد من الأشخاص من حولنا، بل يعني بكل بساطة الثقة بالله والتأكّد أنه على علمٍ بكلّ ما يجري من حولنا، وأنه يعتني بنا ويمدّنا بالنِّعم التي نحتاجها نحن والآخرون والعالم. ومن هذا المفهوم يولد روح الفقر: أي الثقة بالله وبكلمته التي تشفينا من كلّ علّة وفقر وظلمٍ ومرض.
فإذا جرت الأمور بهذه البساطة، أصبح فعل الإيمان سهلاً وبسيطاً. ولكن للأسف كثيراً ما نرى الإيمان في أيامنا هذه، يغرق في بحرٍ من اللامبالاة والنسبيّة، بتأثير بعض الخطابات العلميّة عالية المستوى، التي تسعى إلى عزل الإنسان والكون عن علّة وجودهما. صحيح أنه لا يمكننا اليوم نفي حقيقة أن الإثبات العقلاني للإيمان أصبح صعباً وأنه يحتاج لجهدٍ مضاعف، ولكن يجب علينا أنّ لا ننسى كلمات القديس بولس الرسول: يكفي للإيمان القلب واللسان. فعندما يؤمن القلب بدافع من الروح القدس (راجع روم 5، 5؛ يو 3، 34) أنّ الله أقام يسوع من بين الأموات ويعلن اللسان ذلك، ننال الخلاص (راجع روم 10، 8-12).
وفي هذا الصدد، نحن لا ننكر أن الدراسات والخُلاصات اللاهوتيّة التي توصَّل إليها الشرق والغَرب هي وسائل جيدة، ولكن يجب أن لا يغيب عن أذهاننا بأن الإيمان في جوهره فعلٌ بسيط يعبِّر عنه القلب واللسان بالقول أن "يسوع قام وهو ربّ!".
إنه فعلٌ بسيط للغاية لا يفرّق بين عالِم وجاهل، كبير أو صغير، غني أم فقير. فهو غنيٌّ بالمحبة تجاه كل الذين يطلبونه. لقد قمنا في الماضي، أفراد وجماعات، بالتّعمُّق بسرّ الإيمان وحاولنا قراءته وفهمه من خلال صفحات الكتاب المقدس، وكثيراً ما واجهتنا طرق صعبة ومتعرّجة، لكنني أعود فأقول أنّ الإيمان فعلٌ بسيط بطبيعته لأنه فعل تسليم واثق. وعلينا التأكيد على هذه الحقيقة التي تنير دربنا وتساعدنا في علاج مشكلاتنا بعيداً عن الخوف والقلق.
فلكي تؤمن، عليك أن تطلب الروح القدس من جهة، وأن تنتبه إلى بعض الإشارات من حولك من جهة أخرى. وكمثال على ذلك، لننظر إلى ما جرى بجانب قبر يسوع الفارغ. فمريم المجدلية كانت تبكي وتقول "أخذوا ربّي ولا أعلم أين وضعوه!". وبطرس الذي دخل إلى القبر ورأى اللفائف ممدودة والمنديل الذي كان حول رأس يسوع على شكل طوق، لم يفهم أيضاً!. أما التلميذ الذي أحبَّه يسوع، فقد "رأى وآمن"؛ لأنه كان معتمداً على قوة حدْسِه وبساطته.
فلقد "رأى وآمن"، أي فهم الإشارات التي أكَّدت له أن الربّ قد قام حقاً، ولم يكن بحاجة إلى براهين لاهوتية معمّقة ولم يكتب صفحات كثيرة عن هذا الحدث. لقد اكتفى بمؤشرات قليلة كتلك التي في المذود. لكنها كانت كافية؛ لأن قلبه كان مستعداً تماماً لفهم سرِّ محبة الله اللامتناهية.
في كثير من الأحيان نميلُ، نحن أيضاً، إلى طلب إشاراتٍ معقّدة، وقد يكون هذا صحيحاً ولكنه غير ضروري؛ إذ يكفي القليل لكي نؤمن. فلو كان قلبنا مستعداً ومنفتحاً على عمل الروح القدس السَّاكن فينا والذي يملؤنا فرحاً وسلاماً وراحةً وإيماناً، ولو كنَّا نتحلّى فعلاً بهذه البساطة والاستعداد لعمل النعمةِ في حياتنا، فسوف ندخلُ نحن أيضاً في عدادِ أولئك الذين أُعطيت لهم نعمة إعلان تلك الحقائق، التي تعطي الوجود معنىً، وتمكِّننا من أن نعاين ونلمس لمسَ اليد السرّ الذي كَشَفهُ الكَلمةُ بتجسُّده. وحينها سنكتشف أن الفرح الحقيقي مُمكن، حتى في هذا العالم، بالرُّغم من الصعوبات والآلام في كلّ يوم.
ليس من اليسير على المنطق والعقل فهم ما ترمي إليه هذه الأشياء،
لكننا سنقوم بمحاولة علَّها تساعدنا في ذلك.
إنّ سرّ الميلاد هو بكل تأكيد سرُّ فقرٍ وتجرّد: فالمسيح الغني قد افتقر حبّاً بنا، وصار شبيهاً بنا، وبأفقرنا. كلُّ شيءٍ هنا يلفّه الفقر والبساطة والتواضع، وهذا سهلٌ إدراكه، ولا سيّما الذين ينعمون بعيني الإيمان؛ إيمان الصغار الذين لهم ملكوت السماوات، كما قال يسوع: "فإن كانت عينك سليمة، كان جسدك كلُّه نيِّراً" (متى 6، 22). إنّ بساطة الإيمان هذه تنير لنا درب الحياة وتجعلنا نقبل بطواعية عظائم الله. فالإيمان يُولد من المحبة التي تدفعنا إلى رؤية كلّ ما هو حولنا بنظرة جديدة نابعة من محبة الله لنا. ونجد ثمرة هذا كلّه في كلمات الإنجيليّ يوحنا في رسالته الأولى، عندما يصف اختبار مريم ويوسف وهما في المغارة: "ذاك الذي رأيناه بعينينا، ذاك الذي تأملناه ولمسته يدانا من كلمة الحياة لأن كلمة الحياة ظهرت فرأينا ونشهد"، ولقد تحقق ذلك كلّه ليصير فرحنا تاماً. لقد تحقق ذلك كلّه لنبلغ ملء الفرح (1يو 1، 1-3). إنّ نعمة الفرح تلك لم تغمر معاصري يسوع فحسب، بل غمرتنا نحن أيضاً: لقد صار كلمة الحياة ملموساً في حياتنا اليومية، في القريب الذي يحتاج للمحبة، في درب الصليب، في الصلاة، في الإفخارستيا التي تملؤنا فرحاً.
الفقر والبساطة والفرح: كلمات لم تعد بنت عصرنا، لدرجة بِتنا معها نخشى التحدث عنها أو نخجل من ذكرها؛ فالفرح الحقيقي أضحى مستحيلاً بسبب كثرة الهموم والآلام والظلم، ولكن يبقى السؤال مطروحاً: كيف يمكننا أمام ذلك كلِّه اختبار معنى الفرح الحقيقي؟
وحتى البساطة، لم تكن أحسن حظاً من الفرح؛ فهناك الكثير من الأمور التي نرفضها لأنها صعبة ومعقّدة وعسيرة الفهم. كيف لنا أن ننعم بعطية البساطة في غمرة الحياة وتعقيداتها؟
أما الفقر، فيبقى الغول المُحارَب بضراوة ليُستأصل من على وجه الأرض.
وتجدر الإشارة إلى أنّ الفرح الحقيقي لا يعني اجتثاث الألم والفقر والمعاناة التي يتعرّض لها العديد من الأشخاص من حولنا، بل يعني بكل بساطة الثقة بالله والتأكّد أنه على علمٍ بكلّ ما يجري من حولنا، وأنه يعتني بنا ويمدّنا بالنِّعم التي نحتاجها نحن والآخرون والعالم. ومن هذا المفهوم يولد روح الفقر: أي الثقة بالله وبكلمته التي تشفينا من كلّ علّة وفقر وظلمٍ ومرض.
فإذا جرت الأمور بهذه البساطة، أصبح فعل الإيمان سهلاً وبسيطاً. ولكن للأسف كثيراً ما نرى الإيمان في أيامنا هذه، يغرق في بحرٍ من اللامبالاة والنسبيّة، بتأثير بعض الخطابات العلميّة عالية المستوى، التي تسعى إلى عزل الإنسان والكون عن علّة وجودهما. صحيح أنه لا يمكننا اليوم نفي حقيقة أن الإثبات العقلاني للإيمان أصبح صعباً وأنه يحتاج لجهدٍ مضاعف، ولكن يجب علينا أنّ لا ننسى كلمات القديس بولس الرسول: يكفي للإيمان القلب واللسان. فعندما يؤمن القلب بدافع من الروح القدس (راجع روم 5، 5؛ يو 3، 34) أنّ الله أقام يسوع من بين الأموات ويعلن اللسان ذلك، ننال الخلاص (راجع روم 10، 8-12).
وفي هذا الصدد، نحن لا ننكر أن الدراسات والخُلاصات اللاهوتيّة التي توصَّل إليها الشرق والغَرب هي وسائل جيدة، ولكن يجب أن لا يغيب عن أذهاننا بأن الإيمان في جوهره فعلٌ بسيط يعبِّر عنه القلب واللسان بالقول أن "يسوع قام وهو ربّ!".
إنه فعلٌ بسيط للغاية لا يفرّق بين عالِم وجاهل، كبير أو صغير، غني أم فقير. فهو غنيٌّ بالمحبة تجاه كل الذين يطلبونه. لقد قمنا في الماضي، أفراد وجماعات، بالتّعمُّق بسرّ الإيمان وحاولنا قراءته وفهمه من خلال صفحات الكتاب المقدس، وكثيراً ما واجهتنا طرق صعبة ومتعرّجة، لكنني أعود فأقول أنّ الإيمان فعلٌ بسيط بطبيعته لأنه فعل تسليم واثق. وعلينا التأكيد على هذه الحقيقة التي تنير دربنا وتساعدنا في علاج مشكلاتنا بعيداً عن الخوف والقلق.
فلكي تؤمن، عليك أن تطلب الروح القدس من جهة، وأن تنتبه إلى بعض الإشارات من حولك من جهة أخرى. وكمثال على ذلك، لننظر إلى ما جرى بجانب قبر يسوع الفارغ. فمريم المجدلية كانت تبكي وتقول "أخذوا ربّي ولا أعلم أين وضعوه!". وبطرس الذي دخل إلى القبر ورأى اللفائف ممدودة والمنديل الذي كان حول رأس يسوع على شكل طوق، لم يفهم أيضاً!. أما التلميذ الذي أحبَّه يسوع، فقد "رأى وآمن"؛ لأنه كان معتمداً على قوة حدْسِه وبساطته.
فلقد "رأى وآمن"، أي فهم الإشارات التي أكَّدت له أن الربّ قد قام حقاً، ولم يكن بحاجة إلى براهين لاهوتية معمّقة ولم يكتب صفحات كثيرة عن هذا الحدث. لقد اكتفى بمؤشرات قليلة كتلك التي في المذود. لكنها كانت كافية؛ لأن قلبه كان مستعداً تماماً لفهم سرِّ محبة الله اللامتناهية.
في كثير من الأحيان نميلُ، نحن أيضاً، إلى طلب إشاراتٍ معقّدة، وقد يكون هذا صحيحاً ولكنه غير ضروري؛ إذ يكفي القليل لكي نؤمن. فلو كان قلبنا مستعداً ومنفتحاً على عمل الروح القدس السَّاكن فينا والذي يملؤنا فرحاً وسلاماً وراحةً وإيماناً، ولو كنَّا نتحلّى فعلاً بهذه البساطة والاستعداد لعمل النعمةِ في حياتنا، فسوف ندخلُ نحن أيضاً في عدادِ أولئك الذين أُعطيت لهم نعمة إعلان تلك الحقائق، التي تعطي الوجود معنىً، وتمكِّننا من أن نعاين ونلمس لمسَ اليد السرّ الذي كَشَفهُ الكَلمةُ بتجسُّده. وحينها سنكتشف أن الفرح الحقيقي مُمكن، حتى في هذا العالم، بالرُّغم من الصعوبات والآلام في كلّ يوم.
الكاردينال كارلو ماريا مارتيني
(تعريب الأب فراس لطفي الفرنسيسكاني)
(تعريب الأب فراس لطفي الفرنسيسكاني)
Comment