ما كنت بمدرك لتلك العلاقة الوثيقة بين الصليب وبين كنيستي الانطاكية السريانية المارونية في لاهوتها وروحانيتها وادبها الليتورجي، الا بعد عودتي الى البدايات، الى بدايات المسيحية.
لقد وعد يسوع المسيح تلاميذه بأنه لن يتركهم يتامى، سيرسل لهم الروح القدس بعد صعوده، الروح المعزي، روح الحق الذي سيذكرهم بكل شيء وسيفهمهم حدث موته وقيامته. فبينما كان الرسل مجتمعين في مكان واحد، حل عليهم الروح القدس وبدأوا يتكلمون بألسنة ولغات عديدة (أعمال الرسل 2/1 – 4)، وانطلقوا ينقلون "البشرى السارة" الى مختلف اقاصي الارض، ينقلون خبر موت يسوع المسيح وقيامته، هذا الحدث الخلاصي الذي اظهر ان يسوع هو حقا ابن الله والله.
انطلق بطرس الرسول الى عاصمة الإقليم الشرقي من الامبراطورية الرومانية، الى انطاكيا، الملقبة آنذاك "بتاج الشرق الجميل" شاهدا لآلام يسوع المسيح وصلبه وموته وقيامته وفي هذه الحقبة بالذات كان رسول الامم بولس ينادي: "بأنه لا يعرف الا يسوع المسيح مصلوبا". والانجيلي لوقا واضح بقوله في سفر اعمال الرسل بأن في انطاكيا "دعي التلاميذ ولأول مرة مسيحيين" (رسل 11/26). وفي العام 42 م اسس بطرس كرسيه، كرسي انطاكيا، قبل ان يغادر الى روما. فكانت الكنيسة الانطاكية.
وكون انطاكيا من كبريات المدن آنذاك وعاصمة الاقليم الشرقي في الامبراطورية الرومانية، كانت سلطتها تمتد من تركيا شمالا الى العراق وسوريا ولبنان، فنظرا لهذا الامتداد ونظرا لتنوع الحضارات والثقافات والشعوب فيها، نشأت عائلات وجماعات مسيحية مختلفة منها الشعوب الآرامية التي سمت نفسها بعد اعتناقها الدين المسيحي بالشعوب السريانية (اي مسيحيي سوريا). فكانت الكنيسة الانطاكية السريانية. من هذه الكنيسة الانطاكية السريانية ظهرت كوكبة من المعلمين والفلاسفة والملافنة امثال افرام السرياني ويعقوب السروجي وبالاي وافراهاط الحكيم الفارسي وغيرهم الذين علموا ونقلوا الايمان الصحيح، ايمان الرسل، منظمين الاناشيد والاشعار والصلوات ومدبجين المقالات والكتابات محاربين بها الوثنية والبدع والهرطقات التي نشأت في تلك الحقبة. فكتب ملفان البيعة افرام عن الصليب الكثير الكثير، واصفا اياه بينبوع الحياة وسلاح الظفر وجسر فوق الموت...
وفي القرن الثالث، اختفى مارون متعبدا متنسكا منعزلا في مجاهل القورشية الواقعة الى الشمال الشرقي من انطاكيا، مبتكرا طريقة نسك جديدة هي "النسك في العراء"، وما من ناسك يجاهد على هذه الفانية دون ان يضع نصب عينيه صليب السيد ودون ان يحمل صليب الحياة النسكية الشاقة. ورغم انقطاع الناسك مارون عن العالم، لحق به العالم، ففاح طيب فضائله معطرا الاجواء، وتهافت عليه عدد من السريان الانطاكيين يخترقون عزلته، مسترشدين ومصلين. ويقتفي بعضهم اثره في التنسك الفردي، ويؤثر البعض الآخر الترهب الجماعي في الاديار، ومن كانت له عائلة كان يسكن معها في جوار الاديار، فكانت نواة الكنيسة الانطاكية السريانية المارونية.
في القرن الخامس ترك ابرهيم القورشي تلميذ مارون صومعته في القورشية، واتجه مع رفاق له، الى اعالي جبال جبيل بهدف نشر الدين المسيحي. ولدى وصوله الى بعض القرى، رأى الاهلين في حالة يرثى لها من الخوف والاضطراب، اذ كانت تظهر عند المساء حيوانات غريبة تفتك بالسكان والقطعان. فأشار عليهم بنصب صليب عند مدخل كل قرية، فاختفت المخلوقات وآمن الشعب، وبقي شكل الصليب هذا محفورا على بعض صخور المنطقة، عثر عليه فريق من المنقبين، وهو في شكل كرّسه التقليد السرياني مدى الاجيال. فبدأت المارونية تنتشر في لبنان (راجع كتاب الاب يوحنا الحبيب صادر الانطوني "Croix et symboles").
ويوم جلس يوحنا مارون بطريركا على الكرسي الانطاكي في القرن السابع وسط ظروف سياسية وامنية صعبة كان يدرك ما ينتظره من صلبان يشارك بواسطتها السيد المسيح في حمل صليبه.
في القرنين الثاني عشر والثالث عشر تظهر تلك الروائع، تلك الكنوز، نصوص "البيت غازو الماروني" حاملة في حناياها فكر الموارنة ولاهوتهم. فيرتفع الصليب فيها مكرما بأجمل التعابير الناتجة عن ادب ليتورجي غني ما هو الا عصارة اختبار وعيش وتقليد نشأ على مر العصور.
وعدت الى الكنيسة المارونية في حقبة البطاركة الذين سكنوا ايليج (1120 – 1440) فوجدت ان تاريخها هناك، هو اسبوع آلام مستمر يختزن في لاوعيه اضطهاد اتباع الطبيعة الواحدة للآباء المتصلين بالكنيسة الجامعة الكاثوليكية مرورا باضطهاد العرب مع الفتح الاسلامي الى الخليفة المأمون وظلمه وبطشه الى اضطهاد الاخوة الاعداء عبر سياستهم الغبية الخرقاء (الخرمة) نسبة الى الامبراطور الاخرم القائمة على الجشع والمال. ثم اضطهاد المماليك فالعثمانيين.
وانحدرت مع التاريخ الى الوادي المقدس، وادي قنوبين (قاديشا) فوجدت تلك الصلبان الخشبية المرتفعة فوق مغاور وصوامع اولئك النساك والحبساء تلاميذ مارون، وعاودت بحثي علني اكون مخطئا فتصفحت كتاب "الاماكن المقدسة" للمستشرق النمساوي المونسنيور مسلين (القرن التاسع عشر) مدونا مشاهداته في زيارته للوادي المقدس قائلا: "... زرنا المحابس القائمة في هذا الوادي... يعيش فيها مع النسور او بالاحرى مع الملائكة – حبساء اتقياء، يقتاتون بالاعشاب وبالصلوات على مثال القديسين بولا وانطونيوس في الاسقيط. وهناك صلبان خشبية كبيرة منصوبة على صخور كالعواميد، تدلل على مقام هؤلاء الحبساء. وهذا كل ما يعرف العالم عنهم... ثم زرنا صوامع الحبساء، فاذا بجهازها: لوح من خشب للرقاد، ولحاف، وكتاب، وصليب، وكفى".
وادركت الرمز وعالمه، فأبهرتني الرموز المسيحية بمعناها وغناها، فعدت الى ذلك العلامة، المكرّم البطريرك اسطفان الدويهي، قارئا ما خلفه في كتابه "منارة الاقداس" حول رمزية اشارة الصليب في الكنيسة المارونية اذ يقول: "... والمقصود بذلك ان الآب يتمجد على الرأس لانه رأس الثالوث والابن على البطن لانه ولد منذ الابد من عقل الآب وتجسد آخر الازمنة في احشاء السيدة وولد منها، والروح القدس يتمجد على الكتفين لانه منبثق من الآب والابن لما بينهما من المحبة والاتحاد، ثم ان نقل اليد اليمنى من الراس الى الصدر يشير الى نزول ابن الله من السماء الى الارض لأجل خلاصنا، ونقلها من الشمال الى اليمين يشير الى قيامته من الموت الى الحياة، لانه بصليبه نقلنا من العظمة الى التواضع ومن شقاء هذا العالم الى المجد الدائم، ونرجو انه سوف ينقلنا يوم الدينونة من عداد الجدا الذين عن يساره الى عداد الخراف الذين عن يمينه. وانما نرسم الصليب بيدنا اليمنى لان المسيح هو يمين الآب وقوته".
وتأملت بالحياة الاجتماعية للموارنة فوجدت ان الصليب هو الرفيق الامين، فهو دائم الوجود في المنازل وفي اماكن العمل... وعدت بهذه الحياة الى الوراء فأعجبتني تلك العادة التي كانت تمارس من الاجداد، والقاضية برسم اشارة الصليب على الابناء قبل مغادرتهم العمل وعلى الطعام اثناء طهيه... ولي شهادة من جدتي لوالدي المجاورة للمئة من سني عمرها، تذكرني دوما ولغاية اليوم بضرورة رسم اشارة الصليب على وجهي قبل مغادرتي المنزل، راسمة هي بدورها علامة الصليب علي. وتذكرت ما تعلمه العلوم الانسانية عن الطقس الديني، بأنه التعبير الحضاري والثقافي عن ايمان جماعة ما، في زمن ما، لحدث ما، فتصفحت الكتب الطقسية في كنيستي المارونية، من طقس المعمودية مرورا بطقس الافخارستيا (القداس) فالزواج والجنازات، واجدا فيها ما يروي غليلي.
بالصليب يختم ويطبع الطفل الذي جاء ليصير مسكنا للروح القدس من حشا المعمودية. وبالصليب يصان العروسين. والصليب هو الرفيق والنور والجسر الآمن في كتاب الجنازات وفي ظلاله تستريح اجسادنا وتختم يوم رقادها. وفي القداس (قسم الكلمة)، الصليب هو السور والمنارة وخشبة الحياة وراية الظفر وعلامة النجاة وصانع الآيات ومفتاح باب الفردوس وسلّم يعقوب وعصا موسى...
هذه بعض من جوانب تلك العلاقة الوثقى بين الصليب وبين كنيستي المارونية، علاقة عشق الهي، اضحى فيها الصليب المبتغى والمشتهى.
كيف لا؟
والموارنة هم من ساروا في وادي الظلمات وما خافوا السوء، لان الله معهم. وضعوا صليبهم المحمول على رايتهم الاولى وكتبوا بالدم والتضحيات تلك الآية المزمورية التي تطبقها الكنيسة على المسيح يسوع الذي بصليبه قهر الشرير عدونا، ووطئ الموت مبغضنا: "بك نقهر اعداءنا وباسمك نطأ مبغضينا". فأضحت روحانية الكنيسة المارونية مطبوعة بالتقشف وبالارتباط الوثيق بسري الصليب والقيامة، وانتظار التحرر في الحياة الثانية، وذلك بتأثير من ظروف تاريخها القاسي.
فيا مشهدا معلقا على الصليب! يا ميتا موضوعا في قبر! يا حيا غلب الموت! انا الذي اشبهك، صرت فيك للعالم علامة رجاء. وعرفت انني مسؤول معك عن الرجاء في العالم.
منقول للامانة
لقد وعد يسوع المسيح تلاميذه بأنه لن يتركهم يتامى، سيرسل لهم الروح القدس بعد صعوده، الروح المعزي، روح الحق الذي سيذكرهم بكل شيء وسيفهمهم حدث موته وقيامته. فبينما كان الرسل مجتمعين في مكان واحد، حل عليهم الروح القدس وبدأوا يتكلمون بألسنة ولغات عديدة (أعمال الرسل 2/1 – 4)، وانطلقوا ينقلون "البشرى السارة" الى مختلف اقاصي الارض، ينقلون خبر موت يسوع المسيح وقيامته، هذا الحدث الخلاصي الذي اظهر ان يسوع هو حقا ابن الله والله.
انطلق بطرس الرسول الى عاصمة الإقليم الشرقي من الامبراطورية الرومانية، الى انطاكيا، الملقبة آنذاك "بتاج الشرق الجميل" شاهدا لآلام يسوع المسيح وصلبه وموته وقيامته وفي هذه الحقبة بالذات كان رسول الامم بولس ينادي: "بأنه لا يعرف الا يسوع المسيح مصلوبا". والانجيلي لوقا واضح بقوله في سفر اعمال الرسل بأن في انطاكيا "دعي التلاميذ ولأول مرة مسيحيين" (رسل 11/26). وفي العام 42 م اسس بطرس كرسيه، كرسي انطاكيا، قبل ان يغادر الى روما. فكانت الكنيسة الانطاكية.
وكون انطاكيا من كبريات المدن آنذاك وعاصمة الاقليم الشرقي في الامبراطورية الرومانية، كانت سلطتها تمتد من تركيا شمالا الى العراق وسوريا ولبنان، فنظرا لهذا الامتداد ونظرا لتنوع الحضارات والثقافات والشعوب فيها، نشأت عائلات وجماعات مسيحية مختلفة منها الشعوب الآرامية التي سمت نفسها بعد اعتناقها الدين المسيحي بالشعوب السريانية (اي مسيحيي سوريا). فكانت الكنيسة الانطاكية السريانية. من هذه الكنيسة الانطاكية السريانية ظهرت كوكبة من المعلمين والفلاسفة والملافنة امثال افرام السرياني ويعقوب السروجي وبالاي وافراهاط الحكيم الفارسي وغيرهم الذين علموا ونقلوا الايمان الصحيح، ايمان الرسل، منظمين الاناشيد والاشعار والصلوات ومدبجين المقالات والكتابات محاربين بها الوثنية والبدع والهرطقات التي نشأت في تلك الحقبة. فكتب ملفان البيعة افرام عن الصليب الكثير الكثير، واصفا اياه بينبوع الحياة وسلاح الظفر وجسر فوق الموت...
وفي القرن الثالث، اختفى مارون متعبدا متنسكا منعزلا في مجاهل القورشية الواقعة الى الشمال الشرقي من انطاكيا، مبتكرا طريقة نسك جديدة هي "النسك في العراء"، وما من ناسك يجاهد على هذه الفانية دون ان يضع نصب عينيه صليب السيد ودون ان يحمل صليب الحياة النسكية الشاقة. ورغم انقطاع الناسك مارون عن العالم، لحق به العالم، ففاح طيب فضائله معطرا الاجواء، وتهافت عليه عدد من السريان الانطاكيين يخترقون عزلته، مسترشدين ومصلين. ويقتفي بعضهم اثره في التنسك الفردي، ويؤثر البعض الآخر الترهب الجماعي في الاديار، ومن كانت له عائلة كان يسكن معها في جوار الاديار، فكانت نواة الكنيسة الانطاكية السريانية المارونية.
في القرن الخامس ترك ابرهيم القورشي تلميذ مارون صومعته في القورشية، واتجه مع رفاق له، الى اعالي جبال جبيل بهدف نشر الدين المسيحي. ولدى وصوله الى بعض القرى، رأى الاهلين في حالة يرثى لها من الخوف والاضطراب، اذ كانت تظهر عند المساء حيوانات غريبة تفتك بالسكان والقطعان. فأشار عليهم بنصب صليب عند مدخل كل قرية، فاختفت المخلوقات وآمن الشعب، وبقي شكل الصليب هذا محفورا على بعض صخور المنطقة، عثر عليه فريق من المنقبين، وهو في شكل كرّسه التقليد السرياني مدى الاجيال. فبدأت المارونية تنتشر في لبنان (راجع كتاب الاب يوحنا الحبيب صادر الانطوني "Croix et symboles").
ويوم جلس يوحنا مارون بطريركا على الكرسي الانطاكي في القرن السابع وسط ظروف سياسية وامنية صعبة كان يدرك ما ينتظره من صلبان يشارك بواسطتها السيد المسيح في حمل صليبه.
في القرنين الثاني عشر والثالث عشر تظهر تلك الروائع، تلك الكنوز، نصوص "البيت غازو الماروني" حاملة في حناياها فكر الموارنة ولاهوتهم. فيرتفع الصليب فيها مكرما بأجمل التعابير الناتجة عن ادب ليتورجي غني ما هو الا عصارة اختبار وعيش وتقليد نشأ على مر العصور.
وعدت الى الكنيسة المارونية في حقبة البطاركة الذين سكنوا ايليج (1120 – 1440) فوجدت ان تاريخها هناك، هو اسبوع آلام مستمر يختزن في لاوعيه اضطهاد اتباع الطبيعة الواحدة للآباء المتصلين بالكنيسة الجامعة الكاثوليكية مرورا باضطهاد العرب مع الفتح الاسلامي الى الخليفة المأمون وظلمه وبطشه الى اضطهاد الاخوة الاعداء عبر سياستهم الغبية الخرقاء (الخرمة) نسبة الى الامبراطور الاخرم القائمة على الجشع والمال. ثم اضطهاد المماليك فالعثمانيين.
وانحدرت مع التاريخ الى الوادي المقدس، وادي قنوبين (قاديشا) فوجدت تلك الصلبان الخشبية المرتفعة فوق مغاور وصوامع اولئك النساك والحبساء تلاميذ مارون، وعاودت بحثي علني اكون مخطئا فتصفحت كتاب "الاماكن المقدسة" للمستشرق النمساوي المونسنيور مسلين (القرن التاسع عشر) مدونا مشاهداته في زيارته للوادي المقدس قائلا: "... زرنا المحابس القائمة في هذا الوادي... يعيش فيها مع النسور او بالاحرى مع الملائكة – حبساء اتقياء، يقتاتون بالاعشاب وبالصلوات على مثال القديسين بولا وانطونيوس في الاسقيط. وهناك صلبان خشبية كبيرة منصوبة على صخور كالعواميد، تدلل على مقام هؤلاء الحبساء. وهذا كل ما يعرف العالم عنهم... ثم زرنا صوامع الحبساء، فاذا بجهازها: لوح من خشب للرقاد، ولحاف، وكتاب، وصليب، وكفى".
وادركت الرمز وعالمه، فأبهرتني الرموز المسيحية بمعناها وغناها، فعدت الى ذلك العلامة، المكرّم البطريرك اسطفان الدويهي، قارئا ما خلفه في كتابه "منارة الاقداس" حول رمزية اشارة الصليب في الكنيسة المارونية اذ يقول: "... والمقصود بذلك ان الآب يتمجد على الرأس لانه رأس الثالوث والابن على البطن لانه ولد منذ الابد من عقل الآب وتجسد آخر الازمنة في احشاء السيدة وولد منها، والروح القدس يتمجد على الكتفين لانه منبثق من الآب والابن لما بينهما من المحبة والاتحاد، ثم ان نقل اليد اليمنى من الراس الى الصدر يشير الى نزول ابن الله من السماء الى الارض لأجل خلاصنا، ونقلها من الشمال الى اليمين يشير الى قيامته من الموت الى الحياة، لانه بصليبه نقلنا من العظمة الى التواضع ومن شقاء هذا العالم الى المجد الدائم، ونرجو انه سوف ينقلنا يوم الدينونة من عداد الجدا الذين عن يساره الى عداد الخراف الذين عن يمينه. وانما نرسم الصليب بيدنا اليمنى لان المسيح هو يمين الآب وقوته".
وتأملت بالحياة الاجتماعية للموارنة فوجدت ان الصليب هو الرفيق الامين، فهو دائم الوجود في المنازل وفي اماكن العمل... وعدت بهذه الحياة الى الوراء فأعجبتني تلك العادة التي كانت تمارس من الاجداد، والقاضية برسم اشارة الصليب على الابناء قبل مغادرتهم العمل وعلى الطعام اثناء طهيه... ولي شهادة من جدتي لوالدي المجاورة للمئة من سني عمرها، تذكرني دوما ولغاية اليوم بضرورة رسم اشارة الصليب على وجهي قبل مغادرتي المنزل، راسمة هي بدورها علامة الصليب علي. وتذكرت ما تعلمه العلوم الانسانية عن الطقس الديني، بأنه التعبير الحضاري والثقافي عن ايمان جماعة ما، في زمن ما، لحدث ما، فتصفحت الكتب الطقسية في كنيستي المارونية، من طقس المعمودية مرورا بطقس الافخارستيا (القداس) فالزواج والجنازات، واجدا فيها ما يروي غليلي.
بالصليب يختم ويطبع الطفل الذي جاء ليصير مسكنا للروح القدس من حشا المعمودية. وبالصليب يصان العروسين. والصليب هو الرفيق والنور والجسر الآمن في كتاب الجنازات وفي ظلاله تستريح اجسادنا وتختم يوم رقادها. وفي القداس (قسم الكلمة)، الصليب هو السور والمنارة وخشبة الحياة وراية الظفر وعلامة النجاة وصانع الآيات ومفتاح باب الفردوس وسلّم يعقوب وعصا موسى...
هذه بعض من جوانب تلك العلاقة الوثقى بين الصليب وبين كنيستي المارونية، علاقة عشق الهي، اضحى فيها الصليب المبتغى والمشتهى.
كيف لا؟
والموارنة هم من ساروا في وادي الظلمات وما خافوا السوء، لان الله معهم. وضعوا صليبهم المحمول على رايتهم الاولى وكتبوا بالدم والتضحيات تلك الآية المزمورية التي تطبقها الكنيسة على المسيح يسوع الذي بصليبه قهر الشرير عدونا، ووطئ الموت مبغضنا: "بك نقهر اعداءنا وباسمك نطأ مبغضينا". فأضحت روحانية الكنيسة المارونية مطبوعة بالتقشف وبالارتباط الوثيق بسري الصليب والقيامة، وانتظار التحرر في الحياة الثانية، وذلك بتأثير من ظروف تاريخها القاسي.
فيا مشهدا معلقا على الصليب! يا ميتا موضوعا في قبر! يا حيا غلب الموت! انا الذي اشبهك، صرت فيك للعالم علامة رجاء. وعرفت انني مسؤول معك عن الرجاء في العالم.
منقول للامانة
Comment