الـبيئــة.. من وجهة نظر مسيحية
بقلم الأرشمندريت إيليا طعمه
تتزايد يوماً بعد يوم الأخبارُ التي نسمعها عن ذوبان الغطاء الجليدي فوق سطح الأرض، وارتفاع حرارة القشرة الأرضية، والجفاف المتزايد، والتلوث المستفحل في الهواء وما ينتج عنه من احتباس حراري وشح في المياه، والتبدلات المناخية غير المنتظمة أو المتوقعة، وغيرها الكثير من المشاكل الإيكولوجية أو البيئية التي صارت حديث الجميع.
وتالياً، لم يعد خافياً على أحد أن المشكلة الإيكولوجية صارت تهدد الجميع ولم يعد الحديث عنها ترفاً فكرياً بل صارت قريبة إلينا أكثر مما نتخيل. المشكلة الإيكولوجية صارت تهدد الطعام الذي نتناوله، والماء الذي نشربه، والهواء الذي نستنشقه. والسؤال ما هو الحل؟ وما هو دور الدين وموقفه؟
مقدمة:
منذ أن تأكّد للعيان النتائج الخطيرة المترتبة من جراء تعامل الإنسان مع المحيط الطبيعي لم تتوقف البشرية عن الانشغال بعلوم البيئة على كل المستويات العلمية والمدنية والاجتماعية والسياسية. ولم يغب عن هذه المناقشات الطويلة، علم اللاهوت الذي شدّد على أن تلوّث المحيط ليس مسألة بيئية وحسب، بل لاهوتية بامتياز. لقد ذكّر العالم المسيحي، ويذكر باستمرار، بمواقف الكتاب المقدس وبتفاسير الآباء في التقليد والتي تبعاً لها فإن الهرمونية بين الإنسان والمحيط الطبيعي تتوقف على علاقته الصحيحة مع الله وأخيه الإنسان. نقول هذا لأن ثمة من اعتبر أن المسيحية مسؤولة عن المشكلة البيئية الحالية مستندين إلى المقطع الكتابي الذي يقرّر سلطة الإنسان على الخليقة .
ستقتصر مداخلتي على موقف المسيحية من البيئة. هذا الموقف صار ضرورياً وحاسماً طالما أن كل الدراسات الإيكولوجية تؤكد أن السبب الرئيسي في هذه المشكلة البيئية تحديدًا يعود إلى الإنسان. إن الإنسان في ملاحقته العمياء والمندفعة للثروة المادية أخل \"بميزان الطبيعة\"، وهدد الأنظمة البيئية التي لا يمكن للحياة البشرية أن تقوم إلا بها. لقد افسد الإنسان البيئة وأساء إليها جداً، عن جهل أو عن عمد فالنتيجة واحدة.
وطالما نتحدث عن الإنسان يصير موقف الدين حاسماً و مزدوج الطابع: فمن جهة أولى، هناك الخليقة التي هي ملك لله، وثانياً، ثمة الإنسان المؤتمن على الخليقة. موقف الدين هام جداً لأنه يهتم بالوجهين، ولأن الحل، على الأقل جزئياً، هو في يد الإنسان ليصلح ما أفسدت يداه.
ولابد من الإشارة هنا إلى أن الأيديولوجيات التقليدية لم تنظر بجدية أبداً إلى العلاقة بين الطبيعة والجنس البشري؛ فهي كلها تزعم أن البشر هم \"أسياد\" العالم الطبيعي، ولم تزد الطبيعة في نظرهم عن كونها أحد الموارد الاقتصادية وحسب، فكانت بذلك جزءًا من المشكلة لا جزءًا من الحل.
الإشكالية الأساسية:
بعيداً عن الإشكالية الإيكولوجية، تتمحور الإشكالية الدينية في أمرين:
الأول، توجيه إصبع الاتهام إلى الدين الذي أطلق يد الإنسان في الطبيعة من خلال جعله الإنسان \"سيداً\" على الطبيعة والخليقة. فهل ُتبرأ ساحات الدين من هذا الاتهام؟ أما الأمر الثاني فيتجلى في اعتبار الكثيرين أنهم غير معنيين بالمشكلة أو أنهم حصينون تجاهها. فهل يساهم الدين في قرع جرس الإنذار في المساجد والكنائس؟
أولاً، البيئة في الكتاب المقدس:
قبل أن نورد موقف الكتاب المقدس، من المفيد الإشارة إلى أن كلمة بيئة في اللغة اليونانية هي إيكولوجيا (οικολογία). المقطع الأول من الكلمة هو \"البيت\"، فالإنسان إذاً ساكن في هذا البيت الذي هو البيئة وليس مالكاً له. هذا هو الموقف اللاهوتي الأول للمسيحية: بأن الله هو خالق الطبيعة وهو مالكها والإنسان مجرد ساكن فيها.
بالعودة إلى الكتاب المقدس، يرد ذكر البيئة في الصفحات الأولى من الكتاب المقدس حيث يقول إن الله رأى كل ما خلقه أنه حسن بل وحسن جداً . ثم إن الله خلق أدم على صورته (تكوين 1: 27) ونفخ فيه من روحه فصار حياً (تكوين 2: 7). بالفعل، لقد سلط الله الإنسان على الطبيعة وعلى الحيوانات والنباتات (تكوين 1: 26)، ولكن مفهوم السلطة في الكتاب المقدس يتضمن مفهوم الخدمة والرعاية، لذلك كلف الله الإنسان بالعديد من المسؤوليات البيئية مباشرة أهمها:
1- حراثة الأرض والإهتمام بها (تكوين 2: 15).
2- تسمية الحيوانات باسمائها (تكوين 2: 19).
3- أن يكون في خدمة الخليقة (تكوين 1: 28).
4- أن يكون حارساً أو مسؤولاً عن الأرض.
إذا لقد وكل الله الإنسان \"تدبير\" شؤون الأرض باستخراج واستخدام طاقاتها، لكن الإنسان أساء إلى تدبير الله هذا منذ أن اخطأ آدم وحواء. إن خطيئة الإنسان وعدم طاعته للأوامر الإلهية أدى إلى تدمير علاقته مع الله وبالتالي مع محيطه الخارجي، مع النبات والحيوان والطبيعة والبيئة بشكل عام. وكنتيجة لهذا التعدي نجد في الكتاب المقدس كيف ثارت البيئة ضد الإنسان منذ اللحظة الأولى، فصارت \"تنبت له شوكاً وحسكاً\" وصار يتعب في فلاحتها (تكوين 3 : 17-18).
بعد هذا الخلل البيئي، يتحدث الكتاب المقدس عن أرض جديدة وعن خليقة جديدة وعن بيئة جديدة ، وهذا حتماً يحتاج إلى إنسان جديد ، كما يقول بولس الرسول. وهذا يعني أن الكتاب المقدس يدعو إلى \"توبة بيئية\"، إذا صح التعبير. هذه التوبة البيئية هي الوسيلة الوحيدة التي ستجعل الإنسان يعيد النظر في سلوكه البيئي.
الغريب هنا أن الكثير ممن يوجهون أصابع الاتهام إلى المسيحية كجزءا من المشكلة يغضون النظر عن الوصية الإلهية في سفر العدد حينما يوصي الله الإنسان قائلاً: \"لا تلوثوا الأرض\" (عدد 35: 34).
ثانياً، البيئة في اللاهوت المسيحي:
لطالما كانت الخليقة أو الطبيعة درباً إلى الله لأن الله ترك فيها بصمات الإلوهة حتى يعقل الذين لا يعقلون. فبحسب آباء الكنيسة كانت الخليقة دوماً \"كتاب الوحي الطبيعي\". لقد أعطى الله الإنسان البيئة من حوله هبة منه ليس بدون سبب بل بسبب فرادة الإنسان في الخليقة من حيث قدرته على الاعتناء بها. يرى اللاهوت المسيحي أن الخليقة هي مرآة تجلي الله، من هنا يجب على الإنسان أن يحافظ على هذه المرآة ناصعة صافية.
في اللاهوت المسيحي، واستناداً إلى الكتاب المقدس، تشارك الخليقة في تسبيح وتمجيد الخالق. فالكون يعمل في تناغم وانسجام. يقول المزمور: \"سبحوا الرب يا جميع مخلوقاته\"، سبحيه أيتها الشمس والقمر، سبحيه أيتها الأنهار والبحار وجميع اللج…..الخ\". كما نجد في الصلوات والقداديس المسيحية إشاراتٍ إلى البيئة وإلى جمالها وقيمتها. فتصلي الكنيسة \"من اجل اعتدال الأهوية وخصب الأرض بالثمار\". ثم إن الكنيسة الأرثوذكسية خصصت عيداً خاصاً للبيئة في الأول من أيلول تقام فيه القداديس والصلوات لتوعية المؤمنين إلى أهمية البيئة وإلى دور الإنسان الأساسي في الحفاظ عليها.
ثالثاً، الكنيسة والبيئة في عالمنا الحاضر:
يلقب البطريرك الأرثوذكسي المسكوني برثلماوس \"بالبطريرك الأخضر\" لأنه يتحدث عن البيئة ويهتم بها. فقد دعا إلى لقاءات بيئية كثيرة للكنائس التي يرعاها. وفي آخر تصريحاته عن هذا الموضوع قال البطريرك: \"إن ثمة نوعاً جديداً من الجريمة في العالم، إنها جرائم موجه نحو البيئة، وأقل ما يقال فيها إنها خطيئة كبرى\". ويتابع في قوله \"إن المسؤولية الأخلاقية نحو خليقة الله تتطلب طواعية ذاتية\". ورأى أن \"الاستهلاك المبالغ به بل المجنون لهو مبرر من هذا العالم المتغرب عن ذاته وعن الخليقة وعن الله\".
اليوم في عصرنا الحالي تستمع الكنيسة باهتمام بالغ لما يقوله العلم عن الحلول البيئية الضرورية، وتطلب من أبناءها المؤمنين أن يتبعوا الإرشادات البيئية التي يقرها العلماء لتطويق الخطر البيئي عالمياً. كما وتشجع الكنيسة كل الهيئات والفعاليات العاملة فيها على المشاركة في النشاطات البيئية والتوعية البيئية.
الخاتمة:
تسعى الكنيسة إلى تربية أولادها على الأخلاق البيئية Ecological Ethics وذلك عبر توجيه أفكار أبنائها إلى رفض مبدأ الانتفاع في التعامل مع موارد البيئة وتجاوزه إلى مبدأ تكامل العناصر البيئية. الأخلاق البيئية توسع مفهوم سلطة الإنسان على البيئة فتشمل حمايته للموارد البيئية واستبدالَ السلوك الأناني في استخدام الثروات بسلوك يتوافق مع الأخلاقية البيئية والضمير الإيكولوجي.
تنظر الكنيسة إذاً بجدية كبيرة إلى علاقة الإنسان بالبيئة وإلى الدور الأساسي للإنسان في الحفاظ على البيئة، وتعتبر أي تعدٍ عليها بمثابة خطيئة حقيقية لذلك تطلب من المؤمنين سلوكاً بيئياً يراعي الضمير الإيكولوجي والأخلاق البيئية التي سبق الحديث عنها.
لقد شدد البيان الصادر عن الاجتماع التاريخي لرؤساء الكنائس الأرثوذكسية المنعقد من 10-12 تشرين الأول 2008 في اسطنبول على المشكلة الإيكولوجية حيث يقول البيان: \"إن الأزمة الايكولوجية الحالية، والتي تعود لأسباب روحية وأخلاقية، تفرض واجباً ملحاً على الكنيسة بان تساهم من خلال وسائلها الروحية في حماية الخليقة من نتائج الطمع البشري. لذلك نعيد التأكيد على تحديد الأول من أيلول كيوم صلاة لحماية خليقة الله وندعم دخول موضوع البيئة في نشاط كنائسنا التعليمي، الوعظي والرعائي عامة \".
ختاماً أود أن أقرأ على مسامعكم الصلاة الخاصة التي وضعتها الكنيسة في اليوم المخصص للبيئة:
\"يا من أبدع كل شيء حسناً من العدم، أنقذ خليقتك التي فَسُدت وامنحْ جبلّتك (الإنسان) دموع توبةٍ لتروي الأرض القاحلة. لأنك وعدت بأرض وسماء جديدتين وبخيرات أبدية للذين يحبونك. أمين\".
بقلم الأرشمندريت إيليا طعمه
محاضرة في جامعة حلب 22/10/2008
Comment