تحدَّثنا في المقال السابق (عدد يناير 2004، ص 23) عن أُبوة الله للبشر حتى للأشرار (مت 5: 45). وتكلَّمنا كيف أن الرب يدعو كل خادم وكل راعٍ للنفوس أن يتشبَّه بالآب السماوي في حبِّه واتضاعه وبذله لابنه وسخائه في العطاء الذي يشمل الجميع. ثم بدأنا الحديث عن الصلاة الربانية التي علَّمها الرب يسوع لتلاميذه وأُبوة الله لنا ومسئوليات بنوَّتنا لله. وفي هذا المقال نستطرد في الحديث عن نعمة موهبة التبنِّي لله، وكيف أن الصلاة والتوبة يرجعاننا إلى هذه البنوَّة الغالية.
نعمة موهبة التبنِّي لله:
يقول القديس غريغوريوس النيسي في شرحه للصلاة الربانية:
[الرب يقول لتلاميذه: "متى صلَّيتم فقولوا: أبانا الذي في السموات"... أيُّ روح يجب أن تكون للإنسان ليقول هذه الكلمة ("أبانا")؟ أية ثقة، وأية نقاوة لضميره؟! فلنفرض أن الإنسان يحاول أن يفهم الله بقدر المستطاع من الأسماء التي يُدعَى بها وينقاد بذلك إلى فهم المجد الذي لا يوصف، فهو سيتعلَّم أن الطبيعة الإلهية مهما كانت فهي في ذاتها خيرٌ مُطلق وقداسة وفرح وقوة مجد وطهارة وأبدية مطلقة دائمة لا تتغيَّر. هذه الصفات - وأي صفات أخرى يمكن أن تخطر على البال ويمكن للإنسان أن يعرف منها الطبيعة الإلهية سواء من الأسفار المقدسة أو من تأملاته - هل يمكنها أن تجعله يتبصَّر ويتجاسر على أن ينطق داعياً هذا الكائن الأعظم بكلمة "أبانا"؟
إن كان له أي إحساس فلن يجرؤ على أن يدعو الله أباً طالما أنه لا يرى في ذاته نفس الأمور التي يراها الله؛ لأنه يستحيل من الناحية الطبيعية أن الصالح في جوهره يكون أباً لمشيئة شريرة، والقدوس أن يكون أباً لذي الحياة النجسة، ولا يمكن لمن لا يتغيَّر أن يكون أباً لمن يتقلَّب من جانب إلى آخر، ولا لأبي الحياة أن يكون له ابن يخضع للخطية حتى الموت... وباختصار، فإن ذاك الذي هو الصلاح النقي لا يمكن أن يكون أباً للمنهمكين بكُلِّيتهم في الشر. فإذا كان الإنسان عندما يمتحن نفسه يجد أنه لا يزال يحتاج إلى أن يتطهَّر لأن ضميره ممتلئ بوصمات شريرة، فهو لا يستطيع أن يُقحم نفسه بين "أهل بيت الله" (أف 2: 19) إلى أن يتنقَّى من جميع الشرور...]
الصلاة والتوبة يرجعاننا إلى البنوَّة:
ويستطرد القديس غريغوريوس النيسي قائلاً:
[فإذا كان الرب يُعلِّمنا في الصلاة الربانية التي سلَّمها لنا أن ندعوه أباً، فيبدو لي أنه لا يفعل سوى أنه يضع أمامنا أسمى نوع من الحياة كناموس لنا؛ لأن "الحق" لا يُعلِّمنا أن نخدع نفوسنا ونصفها بما ليس هو حالنا وأن نستعمل اسماً ليس لنا حق فيه. ولكننا إذا دعونا ذاك الذي هو غير فاسد وبار وصالح أباً لنا فعلينا أن نُثبت بحياتنا أن هذه القرابة حقيقية. أتُرى كم نحتاج إلى استعداد وأي نوع من الحياة علينا أن نعيش؟ وأية حرارة يجب أن تكون عليها غيرتنا حتى تحقِّق ضمائرنا نقاوةً تُعطينا شجاعةً أن نقول لله "يا أبانا"؟...
الإنسان ينبغي أن يكتسب رضى الله بحياته الفاضلة، ولكن يبدو لي أن كلمات الصلاة تشير إلى معنى أعمق، لأنها تُذكِّرنا بوطننا الأصلي الذي سقطنا منه وحقنا السامي الذي فقدناه. ففي قصة الابن الضال الذي ترك بيت أبيه وذهب بعيداً ليعيش مثل الخنزير، نجد أن الكلمة الإلهي يُظهِر بؤس الإنسان في مَثَل يحكي لنا عن رحيله وحياته الخليعة، وأنه لا يُعيده إلى حياته السابقة حتى يصير على درايةٍ واعية بسوء حالته الحاضرة ويرجع إلى داخل نفسه مردِّداً كلمات التوبة.]
التوبة وقبول الله للخاطئ الراجع، واختبار محبة الله لنا كأب:
ثم يُكمِل القديس غريغوريوس النيسي قائلاً:
[وتتفق كلمات التوبة هذه مع كلمات الصلاة الربانية، لأنه (أي الابن الضال) قال: "يا أبي، أخطأتُ إلى السماء وقُدَّامك" (لو 15: 21). إنه ما كان ليُضيف إلى اعترافه أنه أخطأ إلى السماء لو لم يكن قد اقتنع أن الوطن الذي تركه عندما أخطأ كان هو السماء. ولذلك فقد منحه هذا الاعتراف عبوراً سهلاً إلى الأب الذي أسرع نحوه واحتضنه وقبَّله...
وعلى ذلك فرجوع الشاب إلى بيت أبيه أعطى له فرصة لاختبار عطف أبيه، لأن هذا البيت الأبوي هو السماء التي أخطأ إليها كما قال لأبيه. وبنفس الطريقة يبدو لي أنه إذا كان الرب يُعلِّمنا أن ندعو الآب الذي في السماء فهو يقصد أن يُذكِّرنا بوطننا الأُم الجميل، وهو بذلك إذ يضع في أذهاننا رغبةً أقوى لتلك الصالحات فهو يضعنا على الطريق الذي يقودنا عائداً بنا إلى وطننا الأصلي.
وإذا كان "الله في السماء" حسب الكتاب (مز 115: 3)، وأنت كما يقول النبي: "تقترب إلى الله" (مز 73: 28)، فيتبع ذلك أنك لابد أن تكون حيث يوجد الله لأنك تكون متحداً به. وطالما أنه أوصى أن تدعو الله في الصلاة أباً، فهو يخبرك ألاَّ تفعل أقل من أن تصير مثل أبيك السماوي بحياةٍ جديرةٍ بالله مثلما يأمرنا بوضوح أكثر قائلاً: "كونوا أنتم كاملين كما أنَّ أباكم الذي في السموات هو كامل." (مت 5: 48)
فإن كنا قد فهمنا الآن معنى هذه الصلاة فربما بذلك يكون الوقت قد حان لنُعدَّ نفوسنا لكي ننطق بدالة الثقة بتلك الكلمات: "أبانا الذي في السموات". لأنه كما توجد صفات واضحة لمن يكون بشبه الله، تلك التي بها يصير الإنسان ابناً لله - لأنه يقول: "أما كل الذين قبلوه فأعطاهم سلطاناً أن يصيروا أولاد الله" (يو 1: 12)؛ فالذي يقبل الصلاح الكامل يقبل الله - هكذا أيضاً توجد علامات أكيدة تخص الشخصية الشريرة التي لا يمكنها أن تكون حاملةً لابن الله، لأنها مطبوعة على صورة الطبيعة العكسية المضادَّة (أي الشيطان). لذلك، فقبل أن نقترب من الله يجب أن نمتحن أنفسنا إن كان لنا في أنفسنا شيء جدير بقرابتنا لله، وهكذا تكون لنا دالة أن نستعمل كلمة "أبانا"].
التمتُّع بالبنوَّة والتطلُّع إلى المدينة السماوية:
ثم يستفيض القديس غريغوريوس النيسي في شرحه لسمو عطية التبنِّي قائلاً:
[فالذي يعيش بطريقة جديرة بالسمو الإلهي له الحق في أن يتطلَّع إلى المدينة السماوية داعياً مَلِك السماء أباً له والسعادة السماوية وطنه الأُم، لأن الغرض من هذه المشورة هو أن يفكِّر الإنسان في الأمور التي فوق حيث يوجد الله. هناك ينبغي أن توضع أساسات البيت، هناك تُكنَز الكنوز والقلب يثبت "لأنه حيث يكون كنزك هناك يكون قلبك أيضاً" (مت 6: 21). فعلينا أن نداوم على النظر إلى جمال الآب ونطابق جمال نفوسنا على جماله.
إن كنتَ هكذا فيمكنك أن تُخاطب الله بدالة باسمٍ مألوف وتدعو رب الكل أباً لك. إنه سينظر إليك بعينيِّ أب. إنه سيُلبسك الرداء الإلهي ويُزيِّنك بخاتم. إنه سيجعل في رجليك حذاء الإنجيل لأجل رحيلك إلى فوق، ويُهيِّئك لوطنك السماوي في المسيح يسوع ربنا الذي له المجد والقوة إلى أبد الآبدين. آمين.]
منقول من كلام القمص زكريا
نعمة موهبة التبنِّي لله:
يقول القديس غريغوريوس النيسي في شرحه للصلاة الربانية:
[الرب يقول لتلاميذه: "متى صلَّيتم فقولوا: أبانا الذي في السموات"... أيُّ روح يجب أن تكون للإنسان ليقول هذه الكلمة ("أبانا")؟ أية ثقة، وأية نقاوة لضميره؟! فلنفرض أن الإنسان يحاول أن يفهم الله بقدر المستطاع من الأسماء التي يُدعَى بها وينقاد بذلك إلى فهم المجد الذي لا يوصف، فهو سيتعلَّم أن الطبيعة الإلهية مهما كانت فهي في ذاتها خيرٌ مُطلق وقداسة وفرح وقوة مجد وطهارة وأبدية مطلقة دائمة لا تتغيَّر. هذه الصفات - وأي صفات أخرى يمكن أن تخطر على البال ويمكن للإنسان أن يعرف منها الطبيعة الإلهية سواء من الأسفار المقدسة أو من تأملاته - هل يمكنها أن تجعله يتبصَّر ويتجاسر على أن ينطق داعياً هذا الكائن الأعظم بكلمة "أبانا"؟
إن كان له أي إحساس فلن يجرؤ على أن يدعو الله أباً طالما أنه لا يرى في ذاته نفس الأمور التي يراها الله؛ لأنه يستحيل من الناحية الطبيعية أن الصالح في جوهره يكون أباً لمشيئة شريرة، والقدوس أن يكون أباً لذي الحياة النجسة، ولا يمكن لمن لا يتغيَّر أن يكون أباً لمن يتقلَّب من جانب إلى آخر، ولا لأبي الحياة أن يكون له ابن يخضع للخطية حتى الموت... وباختصار، فإن ذاك الذي هو الصلاح النقي لا يمكن أن يكون أباً للمنهمكين بكُلِّيتهم في الشر. فإذا كان الإنسان عندما يمتحن نفسه يجد أنه لا يزال يحتاج إلى أن يتطهَّر لأن ضميره ممتلئ بوصمات شريرة، فهو لا يستطيع أن يُقحم نفسه بين "أهل بيت الله" (أف 2: 19) إلى أن يتنقَّى من جميع الشرور...]
الصلاة والتوبة يرجعاننا إلى البنوَّة:
ويستطرد القديس غريغوريوس النيسي قائلاً:
[فإذا كان الرب يُعلِّمنا في الصلاة الربانية التي سلَّمها لنا أن ندعوه أباً، فيبدو لي أنه لا يفعل سوى أنه يضع أمامنا أسمى نوع من الحياة كناموس لنا؛ لأن "الحق" لا يُعلِّمنا أن نخدع نفوسنا ونصفها بما ليس هو حالنا وأن نستعمل اسماً ليس لنا حق فيه. ولكننا إذا دعونا ذاك الذي هو غير فاسد وبار وصالح أباً لنا فعلينا أن نُثبت بحياتنا أن هذه القرابة حقيقية. أتُرى كم نحتاج إلى استعداد وأي نوع من الحياة علينا أن نعيش؟ وأية حرارة يجب أن تكون عليها غيرتنا حتى تحقِّق ضمائرنا نقاوةً تُعطينا شجاعةً أن نقول لله "يا أبانا"؟...
الإنسان ينبغي أن يكتسب رضى الله بحياته الفاضلة، ولكن يبدو لي أن كلمات الصلاة تشير إلى معنى أعمق، لأنها تُذكِّرنا بوطننا الأصلي الذي سقطنا منه وحقنا السامي الذي فقدناه. ففي قصة الابن الضال الذي ترك بيت أبيه وذهب بعيداً ليعيش مثل الخنزير، نجد أن الكلمة الإلهي يُظهِر بؤس الإنسان في مَثَل يحكي لنا عن رحيله وحياته الخليعة، وأنه لا يُعيده إلى حياته السابقة حتى يصير على درايةٍ واعية بسوء حالته الحاضرة ويرجع إلى داخل نفسه مردِّداً كلمات التوبة.]
التوبة وقبول الله للخاطئ الراجع، واختبار محبة الله لنا كأب:
ثم يُكمِل القديس غريغوريوس النيسي قائلاً:
[وتتفق كلمات التوبة هذه مع كلمات الصلاة الربانية، لأنه (أي الابن الضال) قال: "يا أبي، أخطأتُ إلى السماء وقُدَّامك" (لو 15: 21). إنه ما كان ليُضيف إلى اعترافه أنه أخطأ إلى السماء لو لم يكن قد اقتنع أن الوطن الذي تركه عندما أخطأ كان هو السماء. ولذلك فقد منحه هذا الاعتراف عبوراً سهلاً إلى الأب الذي أسرع نحوه واحتضنه وقبَّله...
وعلى ذلك فرجوع الشاب إلى بيت أبيه أعطى له فرصة لاختبار عطف أبيه، لأن هذا البيت الأبوي هو السماء التي أخطأ إليها كما قال لأبيه. وبنفس الطريقة يبدو لي أنه إذا كان الرب يُعلِّمنا أن ندعو الآب الذي في السماء فهو يقصد أن يُذكِّرنا بوطننا الأُم الجميل، وهو بذلك إذ يضع في أذهاننا رغبةً أقوى لتلك الصالحات فهو يضعنا على الطريق الذي يقودنا عائداً بنا إلى وطننا الأصلي.
وإذا كان "الله في السماء" حسب الكتاب (مز 115: 3)، وأنت كما يقول النبي: "تقترب إلى الله" (مز 73: 28)، فيتبع ذلك أنك لابد أن تكون حيث يوجد الله لأنك تكون متحداً به. وطالما أنه أوصى أن تدعو الله في الصلاة أباً، فهو يخبرك ألاَّ تفعل أقل من أن تصير مثل أبيك السماوي بحياةٍ جديرةٍ بالله مثلما يأمرنا بوضوح أكثر قائلاً: "كونوا أنتم كاملين كما أنَّ أباكم الذي في السموات هو كامل." (مت 5: 48)
فإن كنا قد فهمنا الآن معنى هذه الصلاة فربما بذلك يكون الوقت قد حان لنُعدَّ نفوسنا لكي ننطق بدالة الثقة بتلك الكلمات: "أبانا الذي في السموات". لأنه كما توجد صفات واضحة لمن يكون بشبه الله، تلك التي بها يصير الإنسان ابناً لله - لأنه يقول: "أما كل الذين قبلوه فأعطاهم سلطاناً أن يصيروا أولاد الله" (يو 1: 12)؛ فالذي يقبل الصلاح الكامل يقبل الله - هكذا أيضاً توجد علامات أكيدة تخص الشخصية الشريرة التي لا يمكنها أن تكون حاملةً لابن الله، لأنها مطبوعة على صورة الطبيعة العكسية المضادَّة (أي الشيطان). لذلك، فقبل أن نقترب من الله يجب أن نمتحن أنفسنا إن كان لنا في أنفسنا شيء جدير بقرابتنا لله، وهكذا تكون لنا دالة أن نستعمل كلمة "أبانا"].
التمتُّع بالبنوَّة والتطلُّع إلى المدينة السماوية:
ثم يستفيض القديس غريغوريوس النيسي في شرحه لسمو عطية التبنِّي قائلاً:
[فالذي يعيش بطريقة جديرة بالسمو الإلهي له الحق في أن يتطلَّع إلى المدينة السماوية داعياً مَلِك السماء أباً له والسعادة السماوية وطنه الأُم، لأن الغرض من هذه المشورة هو أن يفكِّر الإنسان في الأمور التي فوق حيث يوجد الله. هناك ينبغي أن توضع أساسات البيت، هناك تُكنَز الكنوز والقلب يثبت "لأنه حيث يكون كنزك هناك يكون قلبك أيضاً" (مت 6: 21). فعلينا أن نداوم على النظر إلى جمال الآب ونطابق جمال نفوسنا على جماله.
إن كنتَ هكذا فيمكنك أن تُخاطب الله بدالة باسمٍ مألوف وتدعو رب الكل أباً لك. إنه سينظر إليك بعينيِّ أب. إنه سيُلبسك الرداء الإلهي ويُزيِّنك بخاتم. إنه سيجعل في رجليك حذاء الإنجيل لأجل رحيلك إلى فوق، ويُهيِّئك لوطنك السماوي في المسيح يسوع ربنا الذي له المجد والقوة إلى أبد الآبدين. آمين.]
منقول من كلام القمص زكريا
Comment