أولاً: الأساس اللاهوتي للأيقونة:
ففي العهد القديم تعامل الله مع الناس بواسطة أفعال إلهية، وعن طريق أفواه الأنبياء, أما في العهد الجديد فقد تجسد كلمة الله "وحَلَّ بَينَنا، ورأينا مَجدَهُ" (يو1 :14)، "اللهُ، بَعدَ ما كلَّمَ الآباءَ بالأنبياءِ قَديمًا، بأنواعٍ وطُرُقٍ كثيرَةٍ، كلَّمَنا في هذِهِ الأيّامِ الأخيرَةِ في ابنِهِ، الذي جَعَلهُ وارِثًا لكُل شَيءٍ، الذي بهِ أيضًا عَمِلَ العالَمينَ، الذي، وهو بَهاءُ مَجدِهِ، ورَسمُ جَوْهَرِهِ، وحامِلٌ كُلَّ الأشياءِ بكلِمَةِ قُدرَتِهِ" (عب1 :1 -3).
أي أن الآب نفسه ظهر للبشر بشخص الابن.. "أنا معكُمْ زَمانًا هذِهِ مُدَّتُهُ ولم تعرِفني يا فيلُبُّسُ! الذي رَآني فقد رأَى الآبَ" (يو14 :9). أي أننا نستطيع أن نرى الله في شخص ربنا يسوع المسيح, وهذا ما نتميز به عن الوضع في العهد القديم لأن المسيح هو "صورَةُ اللهِ غَيرِ المَنظورِ" (كو1 :15).
لذلك أمكننا أن نرسم أيقونة للمسيح "الذي هو صورَةُ اللهِ" (2كو4 :4), كعلامة منظورة لحضور الله غير المنظور، وتأكيد لهذا الحضور الإلهي، وتنبيه للذهن إلى أصل الصورة.. أي المسيح نفسه، فنحن لا نخلط بين الصورة والأصل، ولا نعبد الخشب والألوان والأوراق التي تُكون الصورة، بل نعبد الله الحي وحده ونُكرم أيقونته.
ثانيًا: عهد الناموس والأيقونات:
لقد مُنع شعب العهد القديم من صنع الأصنام والصور وعبادتها.. "لا تصنَعْ لكَ تِمثالاً مَنحوتًا، ولا صورَةً ما مِمّا في السماءِ مِنْ فوقُ، وما في الأرضِ مِنْ تحتُ، وما في الماءِ مِنْ تحتِ الأرضِ. لا تسجُدْ لهُنَّ ولا تعبُدهُنَّ" (خر20 :5,4). فكيف نُفسر هذا الأمر؟
إن المعنى الحقيقي لهذه الوصية واضح فيما قبله من آيات.. "أنا الرَّبُّ إلهُكَ الذي أخرَجَكَ مِنْ أرضِ مِصرَ مِنْ بَيتِ العُبوديَّةِ. لا يَكُنْ لكَ آلِهَةٌ أُخرَى أمامي" (خر20 :3,2).
فالغرض من الوصية ألاَّ ينقاد الشعب إلى عبادة غريبة عن الله، خاصة وأنهم كانوا قد خرجوا للتو من أرض مصر التي تلوثت بعبادات وثنية عديدة وآلهة كثيرة وكانوا وقتئذ وحتى مجيء المسيح مُحاطين بأمم كثيرة تعبد آلهة عديدة مصورة في تماثيل وأحجار وألواح.
لذلك كان الله يؤكد عليهم دائمًا ألاَّ يختلطوا بالأمم، وألاَّ يتنجسوا بعباداتهم الرديئة.. "أنا الأوَّلُ وأنا الآخِرُ، ولا إلهَ غَيري" (إش44 :6).
ومع ذلك فقد سقط الشعب الإسرائيلي مرارًا عديدة في العصيان وعبادة الأوثان، لذلك كان من المنطقي أن يشدد الله عليهم ألاَّ يلتفتوا إلى المنحوتات ومصنوعات الأيادي والصور، وأن يعبدوا فقط الله غير المنظور.
ومع وجود هذا المنع القاطع إلاَّ أن الله قد أوصى شعبه في العهد القديم أن يصنع بعض الأدوات المادية التي تساعد في العبادة، وأن تنال هذه الأدوات كرامة وتقديسًا يليق بالله الحاضر فيها والمُعلن عنه بواسطتها مثل:
1- لوحي العهد:
"ثُمَّ قالَ الرَّبُّ لموسَى: انحَتْ لكَ لوحَينِ مِنْ حَجَرٍ مِثلَ الأوَّلَينِ، فأكتُبَ أنا علَى اللَّوْحَينِ الكلِماتِ..." (خر34 :1), ولا شك أن هذين اللوحين قد نالا كرامة ومجدًا واحترامًا من بني إسرائيل، ولم يكن أحد يجرؤ أن يلمسهما أو حتى أن ينظر إليهما، إذ قد حفظا في التابوت الذي لا يلمسه أحد به يحمله اللاويون بطقس خاص دون أن يلمسوه, ومع كل هذا التوقير الزائد للألواح لم يكن يُعتبر هذا انحراف أو عبادة ألواح.
2- محتويات خيمة الاجتماع:
وقد شرح الرب لموسى أدق تفاصيل صناعة التابوت والمائدة والمذبح ومرحضة النحاس والمسكن... وكل هذه كانت تُعامل بوقار وهيبة، ولا يقترب إليها إلاَّ اللاويون باستعدادات خاصة وبطرق خاصة، حتى أنه عندما "مَدَّ عُزَّةُ يَدَهُ إلَى تابوتِ اللهِ وأمسَكَهُ، لأنَّ الثيرانَ انشَمَصَتْ. فحَميَ غَضَبُ الرَّب علَى عُزَّةَ، وضَرَبَهُ اللهُ هناكَ لأجلِ غَفَلِهِ، فماتَ هناكَ لَدَى تابوتِ اللهِ" (2صم6 :6 ,7).
3- تماثيل أخرى:
فقد أوصى الله بعمل تمثالين من الذهب للكاروبيم.. "وتصنَعُ كروبَينِ مِنْ ذَهَبٍ. صَنعَةَ خِراطَةٍ تصنَعُهُما علَى طَرَفَيِ الغِطاءِ. فاصنَعْ كروبًا واحِدًا علَى الطَّرَفِ مِنْ هنا، وكروبًا آخَرَ علَى الطَّرَفِ مِنْ هناكَ. مِنَ الغِطاءِ تصنَعونَ الكَروبَينِ علَى طَرَفَيهِ. ويكونُ الكَروبانِ باسِطَينِ أجنِحَتَهُما إلَى فوقُ، مُظَللَينِ بأجنِحَتِهِما علَى الغِطاءِ، ووَجهاهُما كُلُّ واحِدٍ إلَى الآخَرِ. نَحوَ الغِطاءِ يكونُ وجها الكَروبَينِ" (خر25 :18 -20). وهذان الكاروبان أسماهما مُعلِّمنا بولس "كروبا المَجدِ" (عب9 :5).
4- في هيكل سليمان:
"وعَمِلَ في المِحرابِ كروبَينِ مِنْ خَشَبِ الزَّيتونِ، عُلوُّ الواحِدِ عشَرُ أذرُعٍ... وشَكلٌ واحِدٌ للكَروبَينِ... وغَشَّى الكَروبَينِ بذَهَبٍ. وجميعُ حيطانِ البَيتِ في مُستَديرِها رَسَمَها نَقشًا بنَقرِ كروبيمَ ونَخيلٍ وبَراعِمِ زُهورٍ مِنْ داخِلٍ ومِنْ خارِجٍ... ورَسَمَ علَيهِما نَقشَ كروبيمَ ونَخيلٍ وبَراعِمِ زُهورٍ... وبَنَى الدّارَ الدّاخِليَّةَ ثَلاثَةَ صُفوفٍ مَنحوتةٍ، وصَفًّا مِنْ جَوائزِ الأرزِ" (1مل6 :23 -36).
وأشكال أخرى كثيرة عملها الملك سليمان.. "وعَمِلَ البحرَ مَسبوكًا. عشَرَ أذرُعٍ مِنْ شَفَتِهِ إلَى شَفَتِهِ، وكانَ مُدَوَّرًا مُستَديرًا. ارتِفاعُهُ خَمسُ أذرُعٍ، وخَيطٌ ثَلاثونَ ذِراعًا يُحيطُ بهِ بدائرِهِ. وتحتَ شَفَتِهِ قِثّاءٌ مُستَديرًا تُحيطُ بهِ. عشَرٌ للذراعِ. مُحيطَةٌ بالبحرِ بمُستَديرِهِ صَفَّينِ. القِثّاءُ قد سُبِكَتْ بسَبكِهِ. وكانَ قائمًا علَى اثنَيْ عشَرَ ثَوْرًا: ثَلاثَةٌ مُتَوَجهَةٌ إلَى الشمالِ، وثَلاثَةٌ مُتَوَجهَةٌ إلَى الغَربِ، وثَلاثَةٌ مُتَوَجهَةٌ إلَى الجَنوبِ، وثَلاثَةٌ مُتَوَجهَةٌ إلَى الشَّرقِ. والبحرُ علَيها مِنْ فوقُ، وجميعُ أعجازِها إلَى داخِلٍ. وغِلَظُهُ شِبرٌ، وشَفَتُهُ كعَمَلِ شَفَةِ كأسٍ بزَهرِ سوسَن" (1مل7 :23-26). ومناظر أُسود وثيران وقلائد زهور وأكاليل أعمدة مزينة برمانات.. إلخ (راجع 1مل7 :29-50).
كل هذا يدلنا على أن الله عندما أوصى بعدم عمل صور وتماثيل لم يحظر استعمال أدوات للعبادات، ولكن منع منعًا قاطعًا عبادة الأوثان وتأليه المادة.
ثالثًا: عهد النعمة والأيقونات:
لقد تغيّر الوضع بسبب التجسد:
1- التجسد قدّس المادة، وأعاد إليها بهاءها الأول، وإمكانية اتحاد الله بالإنسان وتَجليه في المادة.
2- صار الله حاضرًا فينا، ورأيناه وتلامسنا معه, فلم يعُد قريبًا لذهن الإنسان أن يتخيل الله في شكل وثن كما حدث قديمًا بسبب احتجاب الله وانحجاب معرفته.
3- ترقت البشرية وصار الله يُعاملها كالبنين الناضجين "سمعتم أنه قيل للقدماء... أما أنا فأقول لكم...". فلم تعُد هناك رغبة انحراف العبادة إلى الأوثان.
4- الله بتجسده قد جدّد طبيعتنا الساقطة الفاسدة، وجعلنا مُشابهين صورته.. "لأنَّ الذينَ سبَقَ فعَرَفَهُمْ سبَقَ فعَيَّنَهُمْ ليكونوا مُشابِهينَ صورَةَ ابنِهِ، ليكونَ هو بكرًا بَينَ إخوَةٍ كثيرينَ" (رو8 :29)، "الذي سيُغَيرُ شَكلَ جَسَدِ تواضُعِنا ليكونَ علَى صورَةِ جَسَدِ مَجدِهِ" (في3 :21).
لذلك صار في إمكاننا أن نُعاين الصورة الأصلية للإنسان التي قصدها الله في آدم.. نراها في أولئك الذين جددّهم المسيح بتجسده، وحفظوا بطهارتهم نقاوة الصورة، فلبسوا "صورَةَ السماوي" (1كو15 :49), "ونَحنُ جميعًا ناظِرينَ مَجدَ الرَّب بوَجهٍ مَكشوفٍ، كما في مِرآةٍ، نتغَيَّرُ إلَى تِلكَ الصّورَةِ عَينِها، مِنْ مَجدٍ إلَى مَجدٍ، كما مِنَ الرَّب الرّوحِ" (2كو3 :18).
فالأيقونة الكنسية لا ترسم شخصًا عاديًا (كالفوتوغرافي)، ولكنها ترسم "الإنسانَ الجديدَ المَخلوقَ بحَسَبِ اللهِ في البِر وقَداسَةِ الحَق" (أف4 :24).
رابعًا: ماذا يحدث في طقس تدشين الأيقونات؟
1- التدشين هو التكريس، أي التقديس والتخصيص لله، فتصير الأيقونة بعد تدشينها أداة مُقدسة لإعلان حضور الله بفِعل الروح القدس. لذلك وجب تكريمها والتبخير أمامها وتقبيلها بكل وقار.
2- يقوم بطقس التدشين الآب الأسقف وليس غيره.. والأصل في ذلك أن كل أعمال الكهنوت كالمعمودية والإفخارستيا وسيامات الكهنوت والشمامسة والتدشين والزواج... وغيره كان يقوم بها الآب الأسقف، ويعاونه في ذلك الآباء الكهنة.. وعندما اتسعت المسيحية وكثُر المؤمنون، وظهرت الحاجة إلى ممارسات كهنوتية في كل مكان، وفي أطراف الإيبارشيات, سُمح للكاهن بأن يُمارس الممارسات المتكررة كالمعمودية والإفخارستيا والزواج ومسحة المرضى وغيره... أما الطقوس التي قد تُمارس مرة واحدة في العمر وفي مناسبات نادرة مثل تدشين الكنائس والمعموديات والأيقونات وأواني المذبح فظلت من اختصاص الأسقف بالإضافة إلى سيامة الكهنوت والشمامسة.
3- في الصلاة التي يصليها الآب الأسقف لتدشين الأيقونة يذكُر الأساس الكتابي واللاهوتي لعمل الأيقونات:
أ- الأساس الكتابي:
"أيها السيد الرب الإله ضابط الكل أبا ربنا وإلهنا ومخلصنا يسوع المسيح الذي من قِبَل عبده موسى أعطانا الناموس منذ البدء أن يضع في قبة الشهادة (خيمة الاجتماع) نماذج للشاروبيم (تماثيل)، هؤلاء الذين يُغطون بأجنحتهم على المذبح، وأعطيت حكمة لسليمان من جهة البيت الذي بناه لك في أورشليم".. وهنا في إيجاز تذكر الكنيسة مرجعها الكتابي في عمل الأيقونة.. وكأنها ترفع أذهان المؤمنين أن يراجعوا في الكتاب كل الزينة والنقوش والصور والمثالات التي صنعها كل من موسى وسليمان عند بناء بيت الله سواء أيام أن كان خيمة أو عندما بنى كحجارة.
ب- الأساس اللاهوتي:
"وظهرت لأصفيائك الرسل بتجسد ابنك الوحيد ربنا وإلهنا ومخلصنا يسوع المسيح ليبنوا لك كنائس وأديرة على اسم قديسك وشهدائك".. وهنا تبرز الكنيسة أن الأساس الخريسيتولوجي الذي يبني عليه الكنائس، وما فيها هو ظهور الابن الوحيد وتجسده كما سبق أن شرحنا في هذا المقال.
ج- عمل الروح القدس:
"من أجل هذا نسأل ونطلب منك يا محب البشر أرسل روحك القدوس على هذه الصور التي للقديسين أو (للشهداء) (الفلانيين)".
وإننا نؤمن إيمانًا قاطعًا أن الروح القدس يحل على الأيقونات بالصلاة وبالدهن بالميرون، فيُقدسها ويؤهلها للكرامة والتوقير اللذين تستحقها، فيرشم الأسقف الأيقونات بالميرون، وينفخ فيها نفخة الروح القدس قائلاً: "فليكونوا ميناء الخلاص. ميناء ثبات.. لكي مَنْ يتقدم إليهم بأمانة (بإيمان صادق) ينال نعمة من الله بواسطتهم لمغفرة الخطايا".
إنه تعبير رائع تُطلقه الكنيسة على الأيقونة. إنها ميناء خلاص وميناء ثابت لكل نفس متعبة في بحر العالم المتلاطم الذي يزعج سلامنا وأمننا، ويُهددنا بالغرق في الخطية والمشاكل والهموم الدنيوية.. فتلجأ النفس إلى أيقونات القديسين لترى فيهم إشعاعات النور الإلهي.. وترى فيها إلهام النصرة والطهارة، فتتشجع النفس وترتقي إلى السماويات ماسكة برجاء المجد، ناظرة إلى رئيس الإيمان ومُكمله الرب يسوع.
خاتمة الصلاة:
"لأنه مبارك ومملوء مجداً اسمك القدوس أيها الآب والابن والروح القدس الآن وكل أوان وإلى دهر الدهور أمين".. حقاً القديسون يمجدونك يارب وبمجد مُلكك ينطقون، ووجودهم بيننا في الكنيسة هو برهان مجد الله.. "فليُضِئْ نورُكُمْ هكذا قُدّامَ الناسِ، لكَيْ يَرَوْا أعمالكُمُ الحَسَنَةَ، ويُمَجدوا أباكُمُ الذي في السماواتِ" (مت5 :16).
لذلك تعتبر الكنيسة أن تدشين الأيقونة هو مباركة وتمجيد لأسم الله القدوس.. وإذ عندما يلتف المؤمنون إلى كرامة القديسين ومجدهم ترتفع أنظارهم إلى السماء، ليمجدوا اسم الله ويباركونه.. لك المجد في جميع القديسين آمين.
Comment