في كل عام نحتفل بعيد استشهاد القديس يوحنا المعمدان في التاسع والعشرين من شهر آب. وكان المسيحيون يقيمون ذكرى المعمدان في مثل هذا اليوم في القدس منذ القرن الخامس لتدشين كنيسة على اسم يوحنا المعمدان في سبسطية حيث وضع رأس يوحنا المعمدان. ومنذ القرن السادس والسابع عشر انتشر العيد شرقا وغرباً باسم قطع رأس يوحنا المعمدان. شهد يسوع له بقوله "مَاذَا خَرَجْتُمْ لِتَنْظُرُوا؟ أَنَبِيّاً؟ نَعَمْ أَقُولُ لَكُمْ وَأَفْضَلَ مِنْ نَبِيٍّ. فَإِنَّ هَذَا هُوَ الَّذِي كُتِبَ عَنْهُ: هَا أَنَا أُرْسِلُ أَمَامَ وَجْهِكَ مَلاَكِي الَّذِي يُهَيِّئُ طَرِيقَكَ قُدَّامَكَ. اَلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: لَمْ يَقُمْ بَيْنَ الْمَوْلُودِينَ مِنَ النِّسَاءِ أَعْظَمُ مِنْ يُوحَنَّا الْمَعْمَدَانِ" (متى 11: 9-11). ويقول صاحب المزامير: "أُعِدُّ لِمَسيحي سِراجًا" (مز 131: 17). والربّ يُشيرُ من هو هذا السراج، قائلًا بخصوص يوحنّا المعمدان: "هو السِّراجَ المُوقَدَ المُنير" (يوحنا 5/ 35). كان يوحنّا خاتمةَ الأنبياء، "فجَميعُ الأنبياء قد تَنَبّأوا، وكذلك الشريعة، حتّى يوحنّا" (متّى11: 13)؛ فهو مَن افتَتَحَ العهد المسيحانيّ.
ومن هنا سنلقى نظرة على شهادة يوحنا المعمدان واستشهاده كي ينير عقولنا وأبصارنا في هذا العيد كي نجدد إيماننا في المسيح ونشهد له بالدفاع عن الحق وقيم الحياة الأخلاقية في عالم ساده الفساد والظلم.
شهادة يوحنا المعمدان:
تولي الأناجيل الأربعة أهمية كبيرة لشهادة يوحنا المعمدان ليسوع المسيح. باسمه شهد يوحنا لاسم يسوع، بولادته شهد لولادته، وبعيشه شهد لعيشه، وبكرازته شهد لكرازته، وبمعموديته شهد لمعموديته، وبآلامِه شهد لآلامِه".
شهد يوحنا باسمه. فمنذ أن كان يوحنا في أحشاء والدته اليصابات، حلَّ عليه الروح القدس وقدّسَه. فشهد يوحنا باسمه ليسوع المعروف بالحنان والشفقة. فأطلق والده زكريا الكاهن ووالدته اسم "يوحنا" على ابنهما كما طلب إليهما الرب (لوقا 1: 13). ويوحنا معناه "الله تحنن". الله الحنّان على الإنسان: هو يريده أن يحيا، ويريد خلاصه. الله الحنّان على شعبه: هو يريد أن يجعل منه بركة لكلّ أمم الأرض. الله الحنّان على البشريّة: هو يقود مسيرتها نحو الأرض التي يسودها السلام والعدل. كلّ ذلك مدوّن في هذا الاسم: يوحنّا! والحنان قيمة من قيم الأبوّة والأمومة.
وأما ميلاده فهو مرتبط ارتباطًا وثيقًا بسر تجسد ابن الله. فالحبل العجائبي به قد أعلنه الملاك لمريم، دليل "37فما مِن شَيءٍ يُعجِزُ الله " (لوقا 1، 37). في الواقع، يوحنا المعمدان هذا الذي يسمى السابق، هو الذي سبق الرب بميلاده قبل الرب بالجسد بستة أشهر. ويذكر التقليد المسيحي عين كارم على أنها موطن زكريا وأليصابات أبوي يوحنا المعمدان حيث ولد يوحنا في عين كارم. ويقوم اليوم فيها مزار "ميلاد القديس يوحنا المعمدان".
وبعيشه شهد يوحنا أسلوب عيش يسوع. كان لباس يوحنا من وبر الإبل وعلى حقويه منطقة من جلد. وأما طعامه فكان جرادا وعسلا بريا (متى 3: 4). فمن خلال ارتداء ثوب من وبر الإبل، كان مثالاً للتفاني. ومن خلال أكل الجراد، كان يَرتَفِعُ بروحه إلى السماء. ومن خلال تناول العسل، كان يتلفَّظ بكلمات أكثر حلاوة من العسل على مثال يسوع كلمة الله. وأعطى يوحنّا شهادة التلميذ الأمين الزاهد بكلّ أمجاد هذه الدنيا الفانية وبالسلطة. لقد دعا تلاميذه إلى تركه والالتحاق بالمسيح. لم يصنع لنفسه اتباعاً، بل أعدّ تلاميذه ليكونوا أتباعاً للمسيح فقط. وبناء على هذا الكلام، طلب يوحنّا إلى تلاميذه أن يتبعوا يسوع فتبعوه (يوحنّا 1: 37). والجدير بالذكر أن يوحنا الحبيب كان احد تلاميذه وكان يتردد عليه (يوحنا 1: 35-41) أصبح تلميذا ليسوع (يوحنا 36،1) و"كانَ أيضاً أَندرَاوُس أَخو سِمْعانَ بُطُرس أَحَدَ اللَّذَينِ. سَمِعا كَلامَ يوحَنَّا فَتبِعا يسوع (يوحنا 1: 40). أوضح القديس غريغوريوس الكبير أن المعمدان "يبشر بإيمان قويم وأعمال صالحة... لكي تظهر قوة النعمة، ويتألق نور الحقيقة، وتصبح الدروب نحو الله قويمة، وتولد في الروح أفكاراً مستقيمة بعد الإصغاء إلى الكلمة المرشدة إلى الخير" (Hom. in Evangelia, XX, 3, CCL 141, 155).
شهد يوحنا بكرازته. ففي أيام رئيس الكهنة حنان وقيافا كانت كلمة الله على يوحنا بن زكريا في البرية (لوقا 3: 2)، فخرج إلى صحراء اليهودية يكرز (متى 3: 1) بمعمودية التوبة لمغفرة الخطايا (مرقس 1: 4) مشدداً على التوبة كأساس للدخول في ملكوت السموات: "توبوا، قدِ اقتَربَ مَلكوتُ السَّموات" (متى 3: 2). لذا كان يقول للجموع التي كانت تأتي إليه لتعتمد عن يده: "َإثمِروا إِذاً ثَمَراً يَدُلُّ على تَوبَتِكم" (متى 3: 8). فكان يوحنّا الشاهد الأساسيّ على مجيء المسيح، وهذا ما قاله عنه القدّيس يوحنا الإنجيلي في فاتحة إنجيله: "هَذَا (المعمدان) جَاءَ لِلشَّهَادَةِ لِيَشْهَدَ لِلنُّورِ لِكَيْ يُؤْمِنَ الْكُلُّ بِوَاسِطَتِهِ. لَمْ يَكُنْ هُوَ النُّورَ بَلْ لِيَشْهَدَ لِلنُّورِ. كَانَ النُّورُ الْحَقِيقِيُّ الَّذِي يُنِيرُ كُلَّ إِنْسَانٍ آتِياً إِلَى الْعَالَمِ" (1: 7-9). وأوضح يوحنا مكانته من يسوع بقوله للجماهير: "أنا الصوت الذي يصرخ في البريّة" (يو1: 22-23). الصوت هو يوحنّا، في حين أن الربّ هو الكلمة: "في البدء كان الكلمة" (يو1: 1). يوحنّا هو الصوت لفترة من الزمن؛ المسيح هو الكلمة في البدء، إنّه الكلمة الأبدي. وأضاف يوحنا قائلا: "أَنا أُعَمِّدُكم بِالماء، ولكِن يأتي مَن هُو أَقوى مِنِّي، مَن لَستُ أَهلاً لأن أَفُكَّ رِباطَ حِذائِه. إِنَّه سيُعَمِّدُكم في الرُّوحِ القُدُسِ والنَّار" (لوقا 3: 16). ولكن في وسطكم قائم الذي لستم تعرفونه (يوحنا 1: 26 ). وهو نفسه يقول: “مَنْ لَهُ الْعَرُوسُ فَهُوَ الْعَرِيسُ وَأَمَّا صَدِيقُ الْعَرِيسِ الَّذِي يَقِفُ وَيَسْمَعُهُ فَيَفْرَحُ فَرَحاً مِنْ أَجْلِ صَوْتِ الْعَرِيسِ. إِذاً فَرَحِي هَذَا قَدْ كَمَلَ” (يوحنّا 3: 29) العريس هو المسيح والعروس هي الكنيسة، ويوحنّا يفرح بالعروسين لكي ينال هو أيضاً إكليل المجد. وبحسب شهادات كثيرين "أن يوحنا لم يفعل آية واحدة. ولكن كل ما قاله يوحنا عن يسوع كان حقا" (يوحنا 10: 41).
أما بمعموديته شهد أيضاً لمعمودية يسوع كما أكّد بولس الرسول "أن يوحنا عمد بمعمودية التوبة قائلاً للشعب أن يؤمنوا بالذي يأتي بعده أي بالمسيح يسوع" (أعمال 19: 4). فكان يقوم بتعميد أو تغطيس الذين يطلبون التوبة ومغفرة خطاياهم في "عبر الأردن" (يوحنا 1: 28)، لذلك أطلق عليه اسم "المعمدان" أي "المعمّد" (راجع متى 3، 1-6). وقد اعتمد يسوع على يده. وأثناء الاعتماد سمع يوحنا صوت الآب يدعو يسوع "ابنه الحبيب" (متى 3، 13-17). يشهد يوحنّا أنّ الله الذي أرسله (يوحنّا 1: 6) ليعمّد في الأردنّ، هو قال له إنّ الذي سينزل عليه الروح القدس هو المسيح، فرأى وآمن. هذه الشهادة للمسيح اكتملت بعد معموديّته من يوحنّا، حيث شهد يوحنّا قائلاً: "الَّذِي أَرْسَلَنِي لِأُعَمِّدَ بِالْمَاءِ ذَاكَ قَالَ لِي: الَّذِي تَرَى الرُّوحَ نَازِلاً وَمُسْتَقِرّاً عَلَيْهِ فَهَذَا هُوَ الَّذِي يُعَمِّدُ بِالرُّوحِ الْقُدُسِ. وَأَنَا قَدْ رَأَيْتُ وَشَهِدْتُ أَنَّ هَذَا هُوَ ابْنُ اللَّهِ» (يوحنّا 1: 32-34).
وأكد لوقا الإنجيلي أن يسوع: "اعتمد من يوحنا في الأردن" (لو 1/9). وعلى ضوء ما حدث عند معمودية يسوع في نهر الأردن، شهد يوحنا المعمدان أنّ يسوع المسيح هو ابن الله المتجسّد، حامل خطايا العالم فادياً، والمعمِّد بالروح القدس من أجل الولادة لحياة جديدة. ولهذا قال: "أنا رأيت وشهدت". وقال فيه: "هُوَذا حَمَلُ اللهِ الَّذي يَرفَعُ خَطيئَةَ العالَم" (يوحنا 1: 29).
وبتقديم يوحنا المعمدان الرب يسوع المسيح على أنه حمل الله جمع الرب يسوع كل: وظائف ذبيحة الحمل المشار إليها في العهد القديم بارتفاعه على الصليب وسفك دمه الأقدس كفارة للبشرية. وهكذا أصبح الرب يسوع فصحنا الجديد الذي ذبح لأجلنا (1 كو 5/7). والرب يسوع اتخذ الحمل رمزاً للوداعة والبساطة التي يجب أن يتحلى بها المؤمن فقال: ها إني أرسلكم كحملان بين ذئاب (لو 10/3). وفي سفر الرؤيا يرمز الحمل المذبوح في عرش السماء (رؤ 5/6)، إلى الرب يسوع المسيح المستحق أن يأخذ الكرامة والمجد والسلطة، وأن تخضع له كل خليقة مما في السماء وعلى الأرض إلى أبد الآبدين. فلا عجب أن يموت يوحنا شهيد الحق، شهيدا للمسيح. فاستشهاده هو شهادته الأخيرة ليسوع الذي هو الطريق والحق والحياة.
Comment