سمعان العمودي (389-459): قديس وناسك عربي ولد في قرية سيسان بين سورية وقيليقية في الربع الأخير من القرن الرابع. عاش في منطقة حلب في سوريا وهو أول من ابتكر طريقة التنسك على عمود حجري، وهي طريقة انتشرت بعده في كافة مدن ومناطق الشمال السوري ومنها إلى أوروبا.
يقع دير القديس سمعان وقلعة سمعان وفيها العمود الذي تعبد وتنسك فوقه القديس سمعان في منطقة جبل سمعان شمالي حلب في سورية وبلغ طول العمود حوالي 15 متراً. وصفه تيودوريطس أسقف قورش في كتاب يتحدث فيه عن نساك سوريا، ونسب إليه الكثير من المعجزات، منها أنه كان يقضي الصوم الأربعيني منتصباً على قمة العمود ليلاً ونهاراً دون طعام أو شراب، ويقال أنه توفي بهذه الهيئة.
بعد وفاة القديس سمعان بنى الإمبراطور الروماني في نفس المكان كنيسة فخمة حول العمود لا تزال قائمة اليوم ما عدا السقف ضمن آثار دير كبير. أصر بطريرك أنطاكية على نقل جثمان سمعان إلى أنطاكية بأمر من الإمبراطور ليون، ولكن الأهالي رفضوا، فأرسل الإمبراطور 600 جندي للقضاء على مقاومتهم، واستطاع نقل الجثمان إلى كنيسة القديس قسطنطين في أنطاكية. نقل الرفات لاحقاً إلى القسطنطينية ودفن في كنيسة آياصوفيا.
أصبحت الكنيسة في جبل سمعان في سوريا مقصداً للحجاج المسيحيين من أوروبا والشرق فكان الناس تحج اليها طوال العام، حررها صلاح الدين من الصليبيين وحولها إلى قلعة عسكرية، لا زالت تعرف باسم "قلعة سمعان" ودير سمعان وهي من الأماكن الأثرية المسيحية الهامة في سوريا.
" سمعان (العامودي
1- نداء إلى ايمان القارىء
جميع رعايا الامبراطورية الرومانية، يعرفون سمعان الشهير، عجب عجاب المسكونة. وهو مشهور بعد عند الفرس والماديين والأحباش، وقد بلغت شهرته البدو في "شيتيا" ليعلّمهم تعشّقه للتوبة وللحكمة. أما أنا، وقد شهد لي جميع الناس على جهاده الذي يفوق الوصف، فاني أخشى الحديث عنه، خوفًا من أن يظهر للناس في المستقبل، وكأنه أسطورة عارية عن الصحة. فهناك ما يفوق الطبيعة البشرية. ان الناس يحكمون عادة على ما يروى لهم من وقائع، حكمًا يعتمد على الطبيعة. فإذا روينا رواية تجاوز حدود الطبيعة، اعتبرها تلفيقًا كلُّ الذين لم يتدربوا في الأمور الإلهية. وبما أن الأرض والبحار تعجُّ بالمؤمنين المدرّبين بالأمور الإلهية، والعارفين نعمة الروح القدس، وهم لن يشكّوا بكلامي، بل يمحضونه ثقتهم، فاني سأروي قصتي عن طيبة خاطر ورباطة جأش. واستهلّ حديثي انطلاقًا ممّا خصّ الله به سمعان من دعاءٍ علوي.
2- أصل سمعان ودعوته
ولد سمعان في بلدة سيزا، التي تقع على حدود بلادنا، وحدود بلاد القيليقيين. تعلّم من أهله، أولا، ان يرعى القطعان، فتشبّه بالرجال العظام: يعقوب البطريرك، ويوسف العفيف، وموسى المشترع، وداود الملك النبي، وميخا النبي،والرجال الملهمين، الذين اقتدوا بهم. ففي ذات يوم، ثلجت السماء ثلجًا كثيرًا، فاضطرّت النعاج إلى البقاء في الحظيرة. فأفاد سمعان من وقت الراحة هذا، فانقلب مع أهله إلى المعبد الإلهي. لقد سمعت فمه الطاهر يروي هذه القصّة، فيقول أنه سمع كلة الانجيل التي تعلن ان طوبى للباكين والحزانى، وويل للضاحكين. وان النقية قلوبهم هم محسدة (متى 5:5). ثم سأل أحد الحاضرين، ماذا عليه أن يفعل، للحصول على هذه التطويبات، فأوحى له بحياة النسك. وجعله يتبيّن سموّ الحكمة.
3- حلم نبوي
أخبرني انه بعد ان اقتبل بذور الكلمة الإلهية، وطمرها في أثلام نفسه العميقة، أسرع إلى مزار الشهداء القديسين، في الجوار. هناك، جثا على ركبتيه، وجبينه إلى الأرض، وطلب إلى الذي يشاء أن يخلّص جميع البشر، أن يهديه سواء السبيل إلى التقوى. ولما كان قد قضى وقتًا طوبلاً على هذه الحال، استغرق في نوم عذب، ورأى في الحلم رؤيا. قال:"بدا لي اني أحفر اساسات، فسمعت شخصًا واقفًا هنا، يقول لي: أن عمِّق الحفرة بعد. فحفرت، على أمره، ثم عدت وحاولت التوقف، لكنه، هذه المرة أيضًا، أمرني أن أحفر ألا أتراخى في عملي. وبعد أن جدّد لي الأمر هذا، ثلاثًا وأربعًان انتهى إلى القول: ان العمق أصبح كافيًا. وأمرني بأن أبني من الآن وصاعدًا، بلا عناء. لأنه، وقد زال كل تعب، يتم البناء بدون جهد". ان الوقائع تثبت صحة هذه النبؤة، لأن هناك أمورًا تفوق الطبيعة.
4- من المنسك إلى دير "تالادا"
نهض من هناك، وقصد خلوة للرهبان في الجوار. وبعد أن قضى سنتين برفقتهم، وهام بمزيد من الفضيلة، عاد إلى بلدة "تالادا" المذكورة آنفًا، وبالقرب منها أقام الرجلان الإلاهيان العظيمان، أميانوس وحوشب، مقرًا نسكيًا لهما، ولكن سمعان الملهم، لم يأت إلى هذا المكان، بل إلى مكان آخر، هو فرع منه حيث ابتنى ايزبوناس وابيبيون، دير الحكمة هذا، بعد أن نفعهما نفعًا جزيلاً، تعليم حوشب العظيم. ولأنهما تحليا، مدى الحياة، بالمشاعر والسجايا ذاتها، ولأنهما، وهما في جسدين، لم يظهرا إلا روحًا واحدة، اكتسبا أصدقاءً كُثُرًا، هاموا بنمط حياتهماز ولما غادرا هذه الحياة بالمجد، كلّف هيليودور العجيب، ارشاد رفاقه. كان هذا قد عاش خمسًا وستين سنة، قضى منها اثنتين وستين سنة حبيسًا في صومعة. لأنه بعد أن عاله والداه ثلاث سنوات، انضمَّ إلى هذا القطيع، ولمّا يرَمّما في العالم شيءًا. وكان يصرح أنه لا يعرف شكل الخنازير والديوك وغيرها من الحيوانات. وقد أسعدني الحظ أن أراه مرارًا، فأعجبتني بساطة طبعه، وأدهشتني، كل الدهش، طهارة نفسه.
5- مآثر سمعان وابعاده عن "تالادا"
عندما وصل إلى هيليودور، قضى، بطل التقوى هذا سمعان، عشر سنوات في الجهاد. وكان معه في نضاله ثمانون رفيقًا، وهو يفوقهم جميعًا. وبينما جميعهم يتناولون طعامهم مرة كل ثلاثة أيام، كان هو يمكث طوال الأسبوع دون طعام. وكان الرؤساء يرون أن هذا التصرف لا يطاق، ولم يكفوا عن اعلان الحرب عليه، معتبرين تصرفاته فوضوية. فما أقنعوه بحججهم وما تمكّنوا من أن يخفّفوا من حماسه. وقد سمعت الرئيس الحالي لهذا القطيع يروي، ان سمعان أخذ، ذات يوم، حبلاً من ألياف النخيل – وهي خشنة اللمس – فزنّر غيه خصره، لا على ثيابه، بل على بدنه، وشدّه بقوّة، فرضّ ما لامسه من الجسم. ولما كان قد مضى عليه أكثر من عشرة ايام في هذا الوضع، وصار الجرح الخطير يقطر دمًا، انتبه للأمر أحدهم، فسأله لماذا ينزف؟ فأجاب بأنه ليس هناك ما يشغل البال. غبر أن رفيقه في الجهاد، أدخل يده تحت ثوب سمعان، وتبيّن سبب النزف وكشفه لرئيسه. فأسرع هذا، من فوره، وفك الحزام بكل جهد، وهو يوبّخه، وينصحه، ويندّد بما في التصرف من قساوة. ولكنه، على هذا، لم يتمكن من اقناعه بمعالجة الجرح، ببعض الدواء. ولما رأوه يمارس أعمالاً باهرة أخرى، توسلوا اليه أن يغادر هذا المقر، خوفًا من أن يصبح سبب هلاك للذين يحاولون، وهم أضعف بنية، أن يتنافسوا معه.
6- سمعان غي حوض ماء
فارتحل لسبيله، وبلغ الجبل المقفر، فوجد حوضًا جافًا، وقليل العمق، فنول فيه.. وكان يقدّم إلى للرب نشيد التسابيح. وبعد انقضاء خمسة ايام، عاد رؤساء المقر إلى نفوسهم، وأرسلوا أخوين، وأمروهما بأن يبحثا عنه، ويردّاه إلى حيث كان. فبعد أن جابا الجبل، ولم يجداه، سألا رعاة يرعون قطعانهم: هل رأيتم أحدًا لون بشرته كذا، وثوبه كذا. وبعدما دلهما الرعاة على الحوض، أخذا يصرخان بأعلى صوتهما، ثم أحضرا حبلاً وأصعداه، بعد عناء كبير. فالصعود من الحوض ليس سهلاً مثل النزول اليه.
7- محبسة في "تيلانيسوس"
بعد أن قضى بعض الوقت عند هؤلاء الرهبان، اتجه إلى بلدة "تيلانيسوس"، الواقعة في سفح القمة، حيث يقيم حاليًّا. فوجد هناك بيتًا صغيرًا، فاحتبس فيه ثلاث سنوات. ولما كان لا ينفك يطمح إلى ازدياد كنز فضيلتهن خطر بباله ان يمكث أربعين يومًان دون طعام، مثل موسى وايليا، ذينك الرجلين الالهيين (خر: 18:24). حاول في ذلك الوقت، أن يقنع "باسوس" العجيب. وهو يتجول في القرى، يزور كهنتها، أن لا يُبقي عنده على شيءن وأن يسد بابه بالطين. ولما كان "باسوس" يبيّن له ما في الأمر من مشقة، وينصحه بأن لا يعتبر الانتحار فضيلة، لأنه أعظم الجرائم وأولها، قال له سمعان:"حسنًا يا أبتِ، ضع لي جانبًا عشرة أرغفة وابريق ماء، استعملها اذا تبيّنت في جسمي حاجة إلى طعام". فكان له ما أراد. وضع له الطعام، وسد الباب بالطين. وفي نهاية الأربعين يومًا، وصل رجل الله العجيب "باسوس". وعندما نزع الطين ودخل الباب، عدّ الخبزات فإذا هي عشر، وهزّ الابريق فإذا هو ملآن بعد. وسمعان منهار، لا نفس ولا صوت ولا حركة. فاستحضر "باسوس" اسفنجة ليبلل فمه ويغسله. وناوله رموز الأسرار الالهية. فتشدّد ونهض وحده، وتناول بعض الطعام، خسًا برّيًا وهندباء وبعض الخضارز كان يمضغها لقمًا صغيرة، ويمرّرها إلى معدته.
8- ابتعاد عن الموضوع: دير "باسوس"
رجع "باسوس" العظيم إلى قطيعه، وقد بلغ من الدهشة ذروتها، فروى لهم هذه المعجزة الكبرى. كان يهتم بمئتي أخٍ، لا يأذن لهم بأن يقتنوا لا دوابًا ولا رحىً، ولا أن يقتلبوا ذهبًا، إذا قدِّمَ لهم، ولا أن يتعدّوا الباب، سواء لشراء الحاجات الضرورية، أو للذهاب لرؤية أحد من معارفهم. لكنه كان يأمرهم أن يمكثوا في الداخل، وأن ينتظروا ما ترسله اليهم النعمة الإلهية من طعام. هذا هو النظام الذي يعتمده الأخوة، حتى اليوم. ورغم أنه قد كثر عددهم، فانهم لم يخالفوا ما أمروا به.
9- سمعان يصوم الصوم الكبير
يجب أن أعود إلى سمعان العظيم.
فمنذ ذلك الحين، حتى اليوم – وقد انقضى ثمان وعشرون سنة – ما زال يمكث دون طعام، في الأربعين يومًا: فالزمن، والتمرين، قد خفّفا عليه من العناء قسطًا كبيرًا. فقد تعوّد أن يلبث واقفًا، في الأيام الأولى، وأن يرنّم تسابيح الله. وعندما لم يعد في جسده من القوة ما يخوّله أن يستمر واقفًا، بسبب تقشّفه، أصبح يتمّ الطقس الإلهي، وهو جالس. وفي الأيام الأخيرة من صومه، كان يتمدّد. ولأن قواه قد خارت، وانطفأت رويدًا رويدًا، اضطر أن يبقى نائمًا، نصف ميّت. ولكنه عندما أقام على العامود، وراح يرفض النزول عنه، استنبط طريقة أخرى، ليظلّ واقفًا، فربط جسرًا بالعامود، وربط نفسه بحبال بالجسر، وقضى أربعين يومًا على هذه الحال. ثم أنه، فيما بعد،وقد خصّه العلي بنعمة أوفر، لم تعد به حاجة إلى هذه المساعدة، بل ظلّ واقفًا طوال الأربعين يومًا، دون طعام، مستمدًا قوته من شجاعته، ومن النعمة الإلهية.
10- مهب الريح، على الجبل المقدّس
بعد أن قضى ثلاث سنوات في البيت الصغير، كما ذكرت سابقًا، أتى ليشغل هذه القمة الشهيرة، وابتنى له فيها حائطًا لتصوينة مستديرة. وبعد أن استحصل على سلسلة من الحديد، طولها عشرون ذراعًا، وثبَّت أحد طرفيها في حجر كبير جدًا، والطرف الثاني في رجله اليمنى، بحيث يتعذر عليه تجاوز هذه الحدود، حتى لو رغب في ذلك. قضى كل وقته في الداخل، لا يبرح يتمثل السماء، ويجهد في تأمل روعة السماوي. فسلاسل الحديد لا تمنع تحليق الفكر. ولكن، عندما كلّف، في ذلك الوقت، ميلاس العجيب، زيارة ناحية انطاكية، وهو رجل متزن، حاد الذكاء، فطن، وأعلن أن لا ضرورة لسلاسل الحديد، فالضمير وحده قادرعلى أن يقيّد الجسد برباط روحي، خضع سمعان وامتثل النصيحة، واستحضر حدادًا، وأمره بأن يفك السلسلة. ولكن، بما أنه كان قد وضع جلدًا على جنبه، ليمنع الحديد من أن يجرح الجسم، وكان لا بدّ من تمزيقه، لأنه كان قد خاط طرفيه، شوهدت، على ما يقال، حوالي عشرين بقة كبيرة، مختبئة في هذا الجلد. وهذا أيضًا ما أكّد ميلاس العجيب انه رآه بذاته. أما أنا فقد ذكرت هذا لأبرهن، من خلاله أيضًا، على شديد التجلّد عند هذا الرجل. ومع انه كان بإمكانه أن يقرص الجلد، فيقتل جميع البق، فلم يفعل. بل كان يتحمّل بشجاعة وخزها المؤلم، مفتشًا، من خلال الأعمال الوضيعة، على التمرس بأعمال الجهاد الرفيعة.
11- شهرة سمعان
ذاعت شهرته في كل مكان، فتوافد عليه الجميع. لا أهل الجوار فحسب، بل والبعيدون مسافة ايام ايضًا: بعضهم يجيئه بالأشلاء، وبعضهم يطلب الصحة للمرضى، وغيرهم يستنصرون به ليرزقوا ولدًا. وكل ما لا تمكنهم الطبيعة من الحصول عليه بشفاعته، ومتى حصلوا على طلبهم، واستجيبت صلواتهم، كانوا يعودون من عنده فرحين. وبينا هم يعلنون ما حصلوا عليه من نعم، كان يتدفق عليه الناس في الطلب ذاته، فيفدون عليه من كل مكان، فيصبح كل طريق وكأنه نهر يمشي، فيتكون حوله بحر من الناس، تصب فيه الأنهر الجارية من كل الجهات. والمتدفقون ليسوا من سكان امبراطوريتنا فقط، بل هناك أيضًا: الاسماعيليون، والفرس، والأرمن الخاضعون لهم، والايبريون، والحميريون، وسائر الشعوب الذين في الداخل. ويأتي كثيرون من سكان الغرب الأقصى: من أسبان، وبريتونيين، وغاليين يقيمون في ما بين الاثنين. أما الايطاليون، فمن الفضول أن نتحدث عنهم، لأن سمعان أصبح له من الشهرة في روما الكبرى، ما حمل السكان على اقامة تماثيل له على مداخل الحوانيت، ليضمنوا لهم نوعًا من السلام والحماية.
12- سمعان العامودي
كان الزوار اذًا، يتدفقون بأعداد لا تحصى، ويحاول كل منهم أن يلمسه، ويجني بركة ما من لمس معاطفه الشهيرة، التي من جلد. في أول الأمر، رأى أن هذه المبالغة في تكريمه، هي في غير محلّها، وان الأمر يسبّب له ارهاقًا لا يحتمل، ففكّر في الاقامة واقفًا على عامود، أمر بنحته عاليًا عشرة أذرع أولاً، ثم اثني عشر ذراعًا، وبعد ذلك اثنين وعشرين، والآن اثنين وثلاثين. لأنه يصبو إلى التحليق في السماء، ومغادرة المسكن الأرضي.
من جهتي، لا أعتقد أن هذا الوضع حصل من دون تدبير خاص من الله. هذا ما حداني على أن أدعو الناقدين إلى أن يلجموا لسانهم، فلا يدعونه ينطلق بدون رقابة، وان يعتبروا، ان الربّ ابتكر مثل هذه الأعمال، لخير الناس المستهترين. فقد أوحى لأشعيا، مثلاً، بأن يمشي عريانًا حافيًا. ولأرميا، بأن يشدّ حقويه، ويعلن النبوءة للجاحدين. وأمره مرة أخرى، أن يضع، حول عنقه، طوقًا من خشب، ثم من حديد. ولهوشع، أن يتخذ امرأة زنىً، وان يحب امرأة محبوبة لخليل، وهي فاسقة. ولحزقيال، أن يضطجع أربعين يومًا على جنبه الأيمن، وماية وخمسين يومًا على جنبه الأيسر، ثم ان ينقب الحائط ويخرج منه هاربًا، وان يتظاهر بمظهر سجين. وأمر، مرة أخرى، أن يأخذ سيفًا ماضيًا، ويحلق به شعر رأسه، ثم يقسم شعره إلى أربعة أقسام، وأن يعطي البعض إلى هذا، والبعض الآخر إلى ذاك، ولا أعدد كل شيء. فسيّد الكون، لعمري، كان يرسم هذه الحركات، ليجمع، بما في الأمر من مظهر مستغرب، أولئك الذين لا يؤمنون بالكلمة، ويرفضون الاصغاء إلى النبوءة، ويهيئهم لسماع كلمة الله. فَمَن، ترى، لا ينذهل، اذا ما شاهد رجلاً فاضلاً يتنزّه عاريًا؟ ومن لا يودّ أن يعرف سبب هذه الظاهرة؟ ومن لا يسأل، كيف يرضى النبي أن يساكن عاهرة؟ وهكذا، كما أن إله الكون، كان يرسم كل حركة من هذه الحركات، متوخيًا مساعدة اولئك الذين يعيشون في اللامبالاة، هكذا أوجد هذا المشهد الجديد والمستغرب، ليجذب، بغرابته، جميع الناس، فيأتون اليه، ويقبلون ما يوجهه اليهم من ارشاد. ولأن في طرافة المشهد ضمانة كافية للعقيدة، فالذي يحضر ليرى المشهد، يعود وقد تثقف بالأمور الإلهية. وكما أن الذين قيّض لهم أن يحكموا الناس، يبدلون، بطريقة دورية، الرسوم المنقوشة على عملاتهم، فيحفرون تارة رسوم أسود، وطورًا رسوم كواكب وانتصارات، ومرات أخرى، يحاولون تعديل قيمة القطعة الذهبية، بغرابة الشكل المحفور، هكذا، فإن ملك الكون السامي، وهو يُلبس التقوى، ضروبًا من العيش جديدة، ومن الإلهامات المتنوعة، وكأنها بعض النقوش، فإنه يحثّ على المديح، ليس فقط لسان الرضع في الايمان، بل وألسنة مرضى الكفر.
13- حج وارتدادات
ان ما يشهد على أن الأمور تنحو هذا المنحى، ليس من باب التأويل، بل هي وقائع صارخة. فعشرات الألوف من الاسماعيليين، مثلاً، وقد استعبدتهم ظلمات الإلحاد، هداهم إلى النور الوقوفُ على العامود.
والحال، ان هذا السراج المضيء، وهو كأنه على المنارة، نشر في كل الجهات نوره مثل الشمسز ويرى هناك، كما قلت، ايبيريون، وأرمن، وفرس، يفدون إلى المكان، ويقتبلون العماد المقدس. أما الاسماعيليون الوافدون زرافات، مائتين أو ثلاثمائة، وألفًا أحيانًا، فانهم يكفرون بأعلى أصواتهم بضلال أجدادهم، ويحطّمون، أمام هذه المنارة العظيمة، أوثانًا كان آباؤهم يعبدونها، ويقلعون عن "دعارة" افروديت – لأنهم منذ أمد طويل، كانوا قد تعبّدوا لهذا الشيطان – ويشتركون في الأسرار الإلهية، ويقتبلون سالشرائع من هذا الفم المقدّس، ويودعون إلى الأبد عادات آبائهم، ويمتنعون عن أكل لحم الحمار الوحشي والجمل.
14- خصومات حول العامود
هؤلاء الناس، رأيتهم بأم العين، وسمعتهم يقلعون عن كفر توارثوه عن أجدادهم، ويقتنعون تعليم الانجيل. وقد تعرضت مرة لخطر كبير. فسمعان ذاته، كان قد أمرهم بأن يدنوا مني، ويطلبوا البركة الكهنوتية. وهو يقول لهم، بأنهم سيحصلون منها على فائدة جُلّى. فانقضّوا علي انقضاضًا بربريًا، وشدّوني، بعضهم من أمام، وبعضهم من وراء، وبعضهم من الجانبين. بينما الأباعد كانوا يريدون أن يمرّوا قبل الآخرين، فراحوا يمدّون أيديهم، هؤلاء يشدون لحيتي، واولئك يمسكون بثيابي. فكدت أختنق تحت وطأة هجومهم العنيف، لو لم يرتفع صراخ سمعان ليشتتهم جميعًا. هذا هو الخير فجّره هذا العامود، سخرة الساخرين، وهذا هو شعاع المعرفة الالهية، الذي أنزله على عقول البرابرة.
15- اني أعرف قصة تشبه هذه، حدثت مع هؤلاء البرابرة
مرة أخرى، كانت قد طلبت قبيلة، إلى الرجل الإلهي، أن يقدم صلاة وبركة لزعيمها. ال أن قبيلة أخرى، كانت هناك أخرى، كانت هناك، اعترضت قائلة: انه يجب توجيه البركة لا إلى هذا الزعيم، بل إلى زعيمها. لأن زعيمها بريء، بينما الآخر ظالم جائر. فإذا بينهم مماحكة، ثم خصومة. ومن شأن البرابرة أن يفعلوا هذا. وفي نهاية الأمر، هاجم بعضهم بعضًا. فطلبت أنا اليهم، بكثير من التوسّل، أن يهدأوا، لأن لدى رجل الله من البركة ما يكفي كلاً من الزعيمين. الا أن بعضهم ظل يردد: انه يجب الا يحصل الثاني على البركة. والآخرون أيضًا، حاولوا أن يحرموا الأول منها، فهدّدهم من أعلى عاموده وتمكّن بصعوبة كبرى من ايقاف شجارهم. وقد رويت هذه الحادثة لأبرهن عن روح الايمان عندهم. لأنهم لولا اعتقادهم بأن لبركة الرجل الملهم قدرة عظيمة، لما تعاملوا تعامل مجانين.
16- معجزات: شفاء النعمان
اني شهدت في غير مناسبة، معجزة خارقة. فقد دخل النعمان بن امرؤ القيس، وتوسل إلى الوجه المقدّس، أن يسعف رجلاً أصابه الشلل وهو في الطريق، قال: انتابه هذا الألم وهو في كلينيكوس (قرب مدينة الرقة السورية)، وهي قلعة بالغة الأهمية. وعندما أحضروه، أمام جميع الناس، أمره سمعان بأن ينكر كفر آبائه، فوافق عن طيبة خاطر، وخضع خضوعًا تامًا للأمر. فسأله القديس، هل يؤمن بالآب والابن والروح القدس، فاعترف هذا بأنه يؤمن، فقال له سمعان: "بما أنك تؤمن بهذه الأسماء الإلهية، فانهض". ولما وقف، أمره بأن يحمل، على كتفيه، زعيم القبيلة، حتى خيمته. وكان هذا الزعيم طويل القامة، فحمله، من فوره، وانصرف. بينما الحاضرون كانوا يلهجون بالتسبيح لله, وهذه المعجزة تروى بطرق أخرى.
17- يسوع يعمل بواسطة سمعان
أعطى سمعان هذا الأمر، مقتديًا بالمعلّم، الذي أمر المخلع بأن يحمل سريره (متى6:9). ولا يقولنّ أحد أن هذا الاقتداء هو اغتصاب للسلطة.لأن المعلّم قال:"من آمن بي يعمل هو أيضًاالأعمال التي أعملها، بل يعمل أعظم منها" (يو 12:14). والحال اننا قد رأينا نحن انجاز هذا الوعد، لأن ظلّ المسيح لم يحدث معجزات، أما ظلّ بطرس فكسر شوكة الموت، وطرد الأمراض، وهرّب الشياطين (أعمال 15:5). ولكن هذه المعجزات، انما كان السيد يصنعها بواسطة خدامه، واليوم أيضًا، على استدعاء اسمه، يفعل سمعان عجائبه التي لا تحصى.
18- العصفور المتحجّر
ويفعله أيضًا، حصلت أعجوبة، لا تقلّ أهمية عن الأعجوبة السابقة. فبين الذين آمنوا باسم المسيح المخلّص ربّنا، اسماعيليّ شريف، صلّى إلى الله، ونذر نذرًا، والشاهد عليه سمعان. والنذر امتناعه عن كل طعام حيواني، من الآن وصاعدًا، حتى نهاية حياته. ولا أعرف كيف نقض هذا الوعد ذات يوم. فقد اصطاد عصفورًا، وحاول أن يأكله. ولأن الله أخزاه، ليرجعه إلى التوبة، ويكرم خادمه الشاهد عل العهد النقيض. تحوّل لحم العصفور إلى حجر، حتى أعجزه أكله، ولو تمنى ذلك. فكيف يتسنى له أكله، وقد صار حجرًا ما كان قد اشتهاه له طعامًا؟ هذا المشهد غير المنتظر، أذهل البربري، فأسرع إلى القديس، وكشف عن خطيئته الخفية، وأعلن معصيته أمام جميع الناس، وطلب من الله أن يغفر له زلّته، واستشفع القديس لينقذه بصلواته، من قيود الخطيئة. وقد عاين كثيرون المعجزة، ولمسوا العصفور بالقرب من عنقه فإذا هو عظم وحجر.
19- نبؤات سمعان
لم أشاهد معجزاته فقط بعيني، بل سمعت أيضًا انه انبأ، قبل سنتين، عن الجفاف وقلة الغلات والجوع والطاعون، فقال أنه كان قد رأى قضيبًا يهدّد البشر، وينذرهمبما سينزله بهم من ضربات. ومرة ثانية تنبّأ بهجوم الجراد، وبأنه لن يسبب ضررًا كبيرًا، لأن المحبة الإلهية تعادل القصاص. وما انقضى ثلاثون يومًا حتى طلع جيش زاحف من الجراد، كاد يحجب نور الشمس، ويغرق البلاد في الظلام. وهذا ما عايناه جميعنا. لكن الهجوم لم يؤذِ إلا علف الحيوانات، ولم يلحق أي أذى بمأكولات البشر. وأنا، وقد كنت عرضة لعداء أحدهم، فقد أبلغني سمعان أن عدوي سيختفي قبل مرور خمسة عشر يومًا. وأثبتت لي التجربة صحة نبوءته. وغير مرة، أعطي أن يرى قضيبين ينقضّان من السماء على الأرض: إلى الشرق والى الغرب. وقد عبّر الرجل الإلهي هذه الرؤيا، بأنها ثورة الأمم الفارسية والشيتية، على الأمبراطورية الرومانية. وعرض الأمر على الحاضرين، وبدموعه الغزيرة، وتوسلاته المتواصلة، أوقف الضربات التي كانت تهدّد الأمبراطورية. ومن المؤكد، أن الأمة الفارسية، المتجردة للجيش، والمستعدّة للهجوم على الرومانيين، صدّت فجأة في الاجتياح المقصود، وانصرفت إلى ما كانت تواجهه من أخطار داخلية.
20- شهرته في فارس
ومع أنني أعرف غير حوادث من هذا النوع، فسأهملها تجنبًا للإسهاب. وما ذكرناه كافٍ ليظهر بعد نظره الروحي.
ان شهرته الواسعة انتهت إلى ملك الفرس. فقد روى السفراء المعتمدون لديه، انه كان يجدُّ في الاستعلام عن نمط حياة هذا الرجل، وعن طبيعة معجزاته. ويقال ان زوجته طلبت زيتًا حاصلاً على بركة سمعان، وانها اقتبلته هدية فاخرة. وقد أُخذت بشهرته كل حاشية الملك، بالرغم من قبوله افتراء المجوس عليه. وكانت تحاول الاستعلام عنه بدقة. وبعد تأكدها، كانت تدعوه الرجل الإلهي. أما بقية الجماعة، فكانت تذهب إلى المكاريين والخدم والجنود، وتعرض عليهم مالاً، وترجوهم أن يستحصلوا لها على البركة المعلّقة على الزيت.
21- ملكة الاسماعيليين
كانت ملكة الاسماعيليين عاقرًا، تتمنّى أن ترزق أولادًا، فأرسلت أولاً، بعضًا من أرفع الموظفين لديها، تلتمس منه (سمعان) أن تصبح أمًا.وعندما استجيب طلبها، وأنجبت بحسب مشتهاها، حملت الملك الذي ولد لها، وأسرعت به إلى الشيخ الإلهي. ولما كان الدخول اليه محظّرًا على النساء، أرسلت بالمولود الجديد مع هذا الدعاء، لتنال بركته، قالت:" هذه الحزمة هي لك، فأنا قد حملت، بالدموع، ما كانت صلاتي تطلبه من زرع، أما أنت، فقد جعلت من هذا الزرع حزمة، وأنت استدرَرت، بتوسلاتك، غيث النعمة الإلهية".
ولكن حتامَ أحاول أن أقيس عمق المحيط الأطلسي؟ فكما أن هذا العمق يُعجز الانسان أن يقيس غوره، فكذلك، أن ما يتم بواسطة سمعان، يوميًا، يفوق كل حديث.
22- صلاة سمعان
أما أنا فتدهشني رباطة جأشه، أكثر من سائر معجزاته. فهو يلبث واقفًا، ليلاً نهارًا، على مرأى من الجميع. فقد انتزع الأبواب، وهدم قسمًا كبيرًا من حائط السور، وراح يظهر للجميع، مشهدًا جديدًا وغريبًا، أحيانًا واقفًا، لوقت طويل، وأحيانًا منحنيًا عدة انحناءات، مقدّمًا لله عبادته. وكثيرون، لعمري، من بين القائمين هناك، يعُدُّون سجداته. ان أحد رفاقي، ذات مرّة، بعد أن أحصى الفًا ومئتين وأربعين انحناءة، عدل عن تنبّهه، وكفّ عن العدّ. وانه لينحني، يقارب جبينه دائمًا أصابع رجليه. فمعدته التي لا تأخذ من الطعام إلى القليل، مرّة في الأسبوع، توفّر لظهره سهولة الانحناء.
23- تجلّده
ويقال أنه بسبب الوقوف الدائم، أصيب بقرح "شيرون"، في رجله اليسرى، فكانت تسيلُ منه بلا انقطاع كمية كبيرة من القيح. ومع ذلك، فان التجارب جميعها، لم تؤثر في مجرى حكمته: يتحمل، بكرم أخلاقه، آلامه الاختيارية وغير الاختيارية، ويسيطر على كلتيهما بنشاطه الروحي. وقد اضطرَّ يومًا أن يكشف قرحه لأحدهم، واليكم سبب ذلك.
جاء واحد كم "ربعان" وهو رجل فاضل، في رتبة شماس للمسيح. وبعدما انتهى إلى الجبل الشهير، سأله:"ألا قل لي، باسم المسيح الحق الذي ردَّ اليه الجنس البشري، هل أنت انسان أم كائن روحاني؟". فصدم الحاضرون لهذا السؤال. فرجاهم سمعان أن يلزموا الصمت، وسأل الشماس:"لماذا، ويحك، طرحت علي هذا السوال؟". فأجاب:"لأنني أسمع الجميع يرددون انك لا تأكل ولا تنام. وهذه من مستلزمات الانسان. فالانسان لا يمكنه أن يقضي حياته دون طعام ونوم". فأمر جلد، وأن يتطلع، ليس إلى رجليه فقط، بل والى قرحه البشع لخباثته. وبعد أن عاين الرجل، مدهوشًا، فظاعة القرح، وعلم من سمعان انه يتناول طعامًا، قفل راجعًا، وأتى يطلعني على كل شيء.
24- وفي الاحتفالات الشعبية الكبرى، يجعل سمعان لنا من نفسه قدوة في الصبر، وهو انه من بعد غياب الشمس، إلى أن تعود تشرق على الأفق، يبقى الليل كله واقفًا، ويداه مبسوطتان إلى السماء، لايدع النعاس يستهويه، ولا التعب يقهره.
25- عظاته للشعب
وعلى هذه المشقات الكبرى، ومجموع مآثره ووفرة عجائبه، ما زال متضعًا، كأدنى الناس منزلة. وأنه، على تواضعه، ليّن الجتنب، وديع، لطيف، يجيب كل سائل، سواء أكان عاملاً أم متسوِّلاً أم قرويًا. على كل حال، فانه قد اقتبل من الرب، المحسن الأكبر، موهبة التعليم. انه، وهو يلقي عظاته مرتين في اليوم، ليسكب في آذان السامعين دفقًا من الكلام الجزيل والرائع، ويقدم لهم علم الروح الالهي، فيوصيهم أن يرفعوا الراس نحو السماء، ويحلقوا، وأن ينقطعوا عن الأرض، ويتمثّلوا الجنة التي اليها يصبون، وأن يرهبوا التهديد بجهنم، وأن يحتقروا الأشياء الأرضية، وأن ينتظروا الخيور الآتية.
26- سمعان يحكم بالعدل
وانك لتراه أيضًا يحكم بالعدل، ويصدر أحكامًا مستقيمة وعادلة. كان يتفرّغ لهذا النوع من النشاطات، وما يشبهها، بعد الساعة التاسعة. لأنه يصلّي بدون توقّف، طول الليل، وفي النهار، حتى الساعة التاسعة. بعد التاسعة يباشر تعليم الحاضرين، التعاليم الالهية، ثم يستمع إلى طلبة كل واحد، ويجترح بعض الأشفية، ويسوي الخصومات بين الفرقاء المتنازعين. وعند مغيب الشمس، يدخل في الحديث مع الله.
27- يتدخل في حياة الكنائس
وبينا هو يعيش على هذا النحو، ويقوم بنشاطاته، فانه لا يهمل اله\عناية بالكنائس المقدسة. فيقاوم تارة كفر اليونانيين، وتارة ينسخ عناد اليهود، ومرة أخرى يبدّد عصابات الهراطقة. فيكتب مرة للامبراطور في هذا الموضوع، ومرة يحثّ كبار الموظفين على الاهتمام البالغ بمصالح الله، وغير مرة يوصي رعاة الكنائس بأن يزدادوا اعتناءً بقطعانهم.
28- قصة غير مكتملة
في سردي لهذه القصة، حاولت، انطلاقًا من نقطة ماء، أن أنذر بالمطر. وبطرف اصبعي، جعلت قراء هذه القصة، يتذوقون حلاوة العسل. فالوقائع المشهورة بين الناس، هي ألف مرة أكثر عددًا من التي رويتها.فاني لم أطمح في تدوينها جميعًا، بل في تبيان نمط الحياة عند كلّ قديس، ببعض الأمثلة. وهناك أناس غيري سيتوسعون بسرد القصص، واذا طال عمره، سيزيدون ولا شك معجزات أعظم.
من جهتي، أتوسل إلى الله، متمنّيًا أن يثابر سمعان، بفضل صلواته، على أعماله الرائعة، فهي بهاء التقوى، وفخرها. واني أرجو أن تكون حياتي منظّمة وموجّهة وفق طريقة الحياة الانجيلية.
وفاة العامودي:
بعج أن قضى حياة طويلة، وهو يقوم بعجائب عديدة، وأعمال باهرة، وبعد أن لبث وحده في بني البشر، لا تقهره حرارة الشمس، ولا صقيع الشتاء، ولا اقتحام الرياح العنيفة، ولا ضعف الطبيعة البشرية، وعندما قضي عليه أن يلتحق بالمسيح، ويقتبل منه اكليل جهاده الرائع، أكّد بموته، للذين لم يصدقوا، أنه بشر حقًا. ولكنه، بعد وفاته، لبث لا يتزحزح: نفسه ولا شك صعدت إلى السماء. أما جسده، فأنه أبى أن يهوي، بل مكث واقفًا، منتصبًا، في مكان جهاده، كأنه بطل لا يغلب، ويأبى أن يلامس الأرض بأي من أعضائه. وهكذا فان النصر يبقى مرافقًا أبطال المسيح، حتى بعد الموت. والأكيد، هو أن أشفية من أمراض مختلفة، وعجائب، وعظمة تجلي الله، تتم اليوم بعد، كما على حياته. ليس فقط بالقرب من نعشه، الذي فيه رفاته المقدسة، بل وبالقرب من النصب الشاهد على بطولته السامية أيضًا، وعلى جهاده الدائم، عنيت العامود العالي والشهير، عامود سمعان البار، والطيب الذكر. فبشفاعته المقدسة، نطلب نحن أيضًا أن نخلص، وأن نعتمد على الايمان المستقيم، وأن تسلم كل مدينة، وكل بلاد يدعى عليها اسم سيدنا يسوع المسيح، من كل أنواع الشر والأذىـ أتأتى من السماء، أم من الأعداء. المجد لله إلى دهر الدهور."
يقع دير القديس سمعان وقلعة سمعان وفيها العمود الذي تعبد وتنسك فوقه القديس سمعان في منطقة جبل سمعان شمالي حلب في سورية وبلغ طول العمود حوالي 15 متراً. وصفه تيودوريطس أسقف قورش في كتاب يتحدث فيه عن نساك سوريا، ونسب إليه الكثير من المعجزات، منها أنه كان يقضي الصوم الأربعيني منتصباً على قمة العمود ليلاً ونهاراً دون طعام أو شراب، ويقال أنه توفي بهذه الهيئة.
بعد وفاة القديس سمعان بنى الإمبراطور الروماني في نفس المكان كنيسة فخمة حول العمود لا تزال قائمة اليوم ما عدا السقف ضمن آثار دير كبير. أصر بطريرك أنطاكية على نقل جثمان سمعان إلى أنطاكية بأمر من الإمبراطور ليون، ولكن الأهالي رفضوا، فأرسل الإمبراطور 600 جندي للقضاء على مقاومتهم، واستطاع نقل الجثمان إلى كنيسة القديس قسطنطين في أنطاكية. نقل الرفات لاحقاً إلى القسطنطينية ودفن في كنيسة آياصوفيا.
أصبحت الكنيسة في جبل سمعان في سوريا مقصداً للحجاج المسيحيين من أوروبا والشرق فكان الناس تحج اليها طوال العام، حررها صلاح الدين من الصليبيين وحولها إلى قلعة عسكرية، لا زالت تعرف باسم "قلعة سمعان" ودير سمعان وهي من الأماكن الأثرية المسيحية الهامة في سوريا.
" سمعان (العامودي
1- نداء إلى ايمان القارىء
جميع رعايا الامبراطورية الرومانية، يعرفون سمعان الشهير، عجب عجاب المسكونة. وهو مشهور بعد عند الفرس والماديين والأحباش، وقد بلغت شهرته البدو في "شيتيا" ليعلّمهم تعشّقه للتوبة وللحكمة. أما أنا، وقد شهد لي جميع الناس على جهاده الذي يفوق الوصف، فاني أخشى الحديث عنه، خوفًا من أن يظهر للناس في المستقبل، وكأنه أسطورة عارية عن الصحة. فهناك ما يفوق الطبيعة البشرية. ان الناس يحكمون عادة على ما يروى لهم من وقائع، حكمًا يعتمد على الطبيعة. فإذا روينا رواية تجاوز حدود الطبيعة، اعتبرها تلفيقًا كلُّ الذين لم يتدربوا في الأمور الإلهية. وبما أن الأرض والبحار تعجُّ بالمؤمنين المدرّبين بالأمور الإلهية، والعارفين نعمة الروح القدس، وهم لن يشكّوا بكلامي، بل يمحضونه ثقتهم، فاني سأروي قصتي عن طيبة خاطر ورباطة جأش. واستهلّ حديثي انطلاقًا ممّا خصّ الله به سمعان من دعاءٍ علوي.
2- أصل سمعان ودعوته
ولد سمعان في بلدة سيزا، التي تقع على حدود بلادنا، وحدود بلاد القيليقيين. تعلّم من أهله، أولا، ان يرعى القطعان، فتشبّه بالرجال العظام: يعقوب البطريرك، ويوسف العفيف، وموسى المشترع، وداود الملك النبي، وميخا النبي،والرجال الملهمين، الذين اقتدوا بهم. ففي ذات يوم، ثلجت السماء ثلجًا كثيرًا، فاضطرّت النعاج إلى البقاء في الحظيرة. فأفاد سمعان من وقت الراحة هذا، فانقلب مع أهله إلى المعبد الإلهي. لقد سمعت فمه الطاهر يروي هذه القصّة، فيقول أنه سمع كلة الانجيل التي تعلن ان طوبى للباكين والحزانى، وويل للضاحكين. وان النقية قلوبهم هم محسدة (متى 5:5). ثم سأل أحد الحاضرين، ماذا عليه أن يفعل، للحصول على هذه التطويبات، فأوحى له بحياة النسك. وجعله يتبيّن سموّ الحكمة.
3- حلم نبوي
أخبرني انه بعد ان اقتبل بذور الكلمة الإلهية، وطمرها في أثلام نفسه العميقة، أسرع إلى مزار الشهداء القديسين، في الجوار. هناك، جثا على ركبتيه، وجبينه إلى الأرض، وطلب إلى الذي يشاء أن يخلّص جميع البشر، أن يهديه سواء السبيل إلى التقوى. ولما كان قد قضى وقتًا طوبلاً على هذه الحال، استغرق في نوم عذب، ورأى في الحلم رؤيا. قال:"بدا لي اني أحفر اساسات، فسمعت شخصًا واقفًا هنا، يقول لي: أن عمِّق الحفرة بعد. فحفرت، على أمره، ثم عدت وحاولت التوقف، لكنه، هذه المرة أيضًا، أمرني أن أحفر ألا أتراخى في عملي. وبعد أن جدّد لي الأمر هذا، ثلاثًا وأربعًان انتهى إلى القول: ان العمق أصبح كافيًا. وأمرني بأن أبني من الآن وصاعدًا، بلا عناء. لأنه، وقد زال كل تعب، يتم البناء بدون جهد". ان الوقائع تثبت صحة هذه النبؤة، لأن هناك أمورًا تفوق الطبيعة.
4- من المنسك إلى دير "تالادا"
نهض من هناك، وقصد خلوة للرهبان في الجوار. وبعد أن قضى سنتين برفقتهم، وهام بمزيد من الفضيلة، عاد إلى بلدة "تالادا" المذكورة آنفًا، وبالقرب منها أقام الرجلان الإلاهيان العظيمان، أميانوس وحوشب، مقرًا نسكيًا لهما، ولكن سمعان الملهم، لم يأت إلى هذا المكان، بل إلى مكان آخر، هو فرع منه حيث ابتنى ايزبوناس وابيبيون، دير الحكمة هذا، بعد أن نفعهما نفعًا جزيلاً، تعليم حوشب العظيم. ولأنهما تحليا، مدى الحياة، بالمشاعر والسجايا ذاتها، ولأنهما، وهما في جسدين، لم يظهرا إلا روحًا واحدة، اكتسبا أصدقاءً كُثُرًا، هاموا بنمط حياتهماز ولما غادرا هذه الحياة بالمجد، كلّف هيليودور العجيب، ارشاد رفاقه. كان هذا قد عاش خمسًا وستين سنة، قضى منها اثنتين وستين سنة حبيسًا في صومعة. لأنه بعد أن عاله والداه ثلاث سنوات، انضمَّ إلى هذا القطيع، ولمّا يرَمّما في العالم شيءًا. وكان يصرح أنه لا يعرف شكل الخنازير والديوك وغيرها من الحيوانات. وقد أسعدني الحظ أن أراه مرارًا، فأعجبتني بساطة طبعه، وأدهشتني، كل الدهش، طهارة نفسه.
5- مآثر سمعان وابعاده عن "تالادا"
عندما وصل إلى هيليودور، قضى، بطل التقوى هذا سمعان، عشر سنوات في الجهاد. وكان معه في نضاله ثمانون رفيقًا، وهو يفوقهم جميعًا. وبينما جميعهم يتناولون طعامهم مرة كل ثلاثة أيام، كان هو يمكث طوال الأسبوع دون طعام. وكان الرؤساء يرون أن هذا التصرف لا يطاق، ولم يكفوا عن اعلان الحرب عليه، معتبرين تصرفاته فوضوية. فما أقنعوه بحججهم وما تمكّنوا من أن يخفّفوا من حماسه. وقد سمعت الرئيس الحالي لهذا القطيع يروي، ان سمعان أخذ، ذات يوم، حبلاً من ألياف النخيل – وهي خشنة اللمس – فزنّر غيه خصره، لا على ثيابه، بل على بدنه، وشدّه بقوّة، فرضّ ما لامسه من الجسم. ولما كان قد مضى عليه أكثر من عشرة ايام في هذا الوضع، وصار الجرح الخطير يقطر دمًا، انتبه للأمر أحدهم، فسأله لماذا ينزف؟ فأجاب بأنه ليس هناك ما يشغل البال. غبر أن رفيقه في الجهاد، أدخل يده تحت ثوب سمعان، وتبيّن سبب النزف وكشفه لرئيسه. فأسرع هذا، من فوره، وفك الحزام بكل جهد، وهو يوبّخه، وينصحه، ويندّد بما في التصرف من قساوة. ولكنه، على هذا، لم يتمكن من اقناعه بمعالجة الجرح، ببعض الدواء. ولما رأوه يمارس أعمالاً باهرة أخرى، توسلوا اليه أن يغادر هذا المقر، خوفًا من أن يصبح سبب هلاك للذين يحاولون، وهم أضعف بنية، أن يتنافسوا معه.
6- سمعان غي حوض ماء
فارتحل لسبيله، وبلغ الجبل المقفر، فوجد حوضًا جافًا، وقليل العمق، فنول فيه.. وكان يقدّم إلى للرب نشيد التسابيح. وبعد انقضاء خمسة ايام، عاد رؤساء المقر إلى نفوسهم، وأرسلوا أخوين، وأمروهما بأن يبحثا عنه، ويردّاه إلى حيث كان. فبعد أن جابا الجبل، ولم يجداه، سألا رعاة يرعون قطعانهم: هل رأيتم أحدًا لون بشرته كذا، وثوبه كذا. وبعدما دلهما الرعاة على الحوض، أخذا يصرخان بأعلى صوتهما، ثم أحضرا حبلاً وأصعداه، بعد عناء كبير. فالصعود من الحوض ليس سهلاً مثل النزول اليه.
7- محبسة في "تيلانيسوس"
بعد أن قضى بعض الوقت عند هؤلاء الرهبان، اتجه إلى بلدة "تيلانيسوس"، الواقعة في سفح القمة، حيث يقيم حاليًّا. فوجد هناك بيتًا صغيرًا، فاحتبس فيه ثلاث سنوات. ولما كان لا ينفك يطمح إلى ازدياد كنز فضيلتهن خطر بباله ان يمكث أربعين يومًان دون طعام، مثل موسى وايليا، ذينك الرجلين الالهيين (خر: 18:24). حاول في ذلك الوقت، أن يقنع "باسوس" العجيب. وهو يتجول في القرى، يزور كهنتها، أن لا يُبقي عنده على شيءن وأن يسد بابه بالطين. ولما كان "باسوس" يبيّن له ما في الأمر من مشقة، وينصحه بأن لا يعتبر الانتحار فضيلة، لأنه أعظم الجرائم وأولها، قال له سمعان:"حسنًا يا أبتِ، ضع لي جانبًا عشرة أرغفة وابريق ماء، استعملها اذا تبيّنت في جسمي حاجة إلى طعام". فكان له ما أراد. وضع له الطعام، وسد الباب بالطين. وفي نهاية الأربعين يومًا، وصل رجل الله العجيب "باسوس". وعندما نزع الطين ودخل الباب، عدّ الخبزات فإذا هي عشر، وهزّ الابريق فإذا هو ملآن بعد. وسمعان منهار، لا نفس ولا صوت ولا حركة. فاستحضر "باسوس" اسفنجة ليبلل فمه ويغسله. وناوله رموز الأسرار الالهية. فتشدّد ونهض وحده، وتناول بعض الطعام، خسًا برّيًا وهندباء وبعض الخضارز كان يمضغها لقمًا صغيرة، ويمرّرها إلى معدته.
8- ابتعاد عن الموضوع: دير "باسوس"
رجع "باسوس" العظيم إلى قطيعه، وقد بلغ من الدهشة ذروتها، فروى لهم هذه المعجزة الكبرى. كان يهتم بمئتي أخٍ، لا يأذن لهم بأن يقتنوا لا دوابًا ولا رحىً، ولا أن يقتلبوا ذهبًا، إذا قدِّمَ لهم، ولا أن يتعدّوا الباب، سواء لشراء الحاجات الضرورية، أو للذهاب لرؤية أحد من معارفهم. لكنه كان يأمرهم أن يمكثوا في الداخل، وأن ينتظروا ما ترسله اليهم النعمة الإلهية من طعام. هذا هو النظام الذي يعتمده الأخوة، حتى اليوم. ورغم أنه قد كثر عددهم، فانهم لم يخالفوا ما أمروا به.
9- سمعان يصوم الصوم الكبير
يجب أن أعود إلى سمعان العظيم.
فمنذ ذلك الحين، حتى اليوم – وقد انقضى ثمان وعشرون سنة – ما زال يمكث دون طعام، في الأربعين يومًا: فالزمن، والتمرين، قد خفّفا عليه من العناء قسطًا كبيرًا. فقد تعوّد أن يلبث واقفًا، في الأيام الأولى، وأن يرنّم تسابيح الله. وعندما لم يعد في جسده من القوة ما يخوّله أن يستمر واقفًا، بسبب تقشّفه، أصبح يتمّ الطقس الإلهي، وهو جالس. وفي الأيام الأخيرة من صومه، كان يتمدّد. ولأن قواه قد خارت، وانطفأت رويدًا رويدًا، اضطر أن يبقى نائمًا، نصف ميّت. ولكنه عندما أقام على العامود، وراح يرفض النزول عنه، استنبط طريقة أخرى، ليظلّ واقفًا، فربط جسرًا بالعامود، وربط نفسه بحبال بالجسر، وقضى أربعين يومًا على هذه الحال. ثم أنه، فيما بعد،وقد خصّه العلي بنعمة أوفر، لم تعد به حاجة إلى هذه المساعدة، بل ظلّ واقفًا طوال الأربعين يومًا، دون طعام، مستمدًا قوته من شجاعته، ومن النعمة الإلهية.
10- مهب الريح، على الجبل المقدّس
بعد أن قضى ثلاث سنوات في البيت الصغير، كما ذكرت سابقًا، أتى ليشغل هذه القمة الشهيرة، وابتنى له فيها حائطًا لتصوينة مستديرة. وبعد أن استحصل على سلسلة من الحديد، طولها عشرون ذراعًا، وثبَّت أحد طرفيها في حجر كبير جدًا، والطرف الثاني في رجله اليمنى، بحيث يتعذر عليه تجاوز هذه الحدود، حتى لو رغب في ذلك. قضى كل وقته في الداخل، لا يبرح يتمثل السماء، ويجهد في تأمل روعة السماوي. فسلاسل الحديد لا تمنع تحليق الفكر. ولكن، عندما كلّف، في ذلك الوقت، ميلاس العجيب، زيارة ناحية انطاكية، وهو رجل متزن، حاد الذكاء، فطن، وأعلن أن لا ضرورة لسلاسل الحديد، فالضمير وحده قادرعلى أن يقيّد الجسد برباط روحي، خضع سمعان وامتثل النصيحة، واستحضر حدادًا، وأمره بأن يفك السلسلة. ولكن، بما أنه كان قد وضع جلدًا على جنبه، ليمنع الحديد من أن يجرح الجسم، وكان لا بدّ من تمزيقه، لأنه كان قد خاط طرفيه، شوهدت، على ما يقال، حوالي عشرين بقة كبيرة، مختبئة في هذا الجلد. وهذا أيضًا ما أكّد ميلاس العجيب انه رآه بذاته. أما أنا فقد ذكرت هذا لأبرهن، من خلاله أيضًا، على شديد التجلّد عند هذا الرجل. ومع انه كان بإمكانه أن يقرص الجلد، فيقتل جميع البق، فلم يفعل. بل كان يتحمّل بشجاعة وخزها المؤلم، مفتشًا، من خلال الأعمال الوضيعة، على التمرس بأعمال الجهاد الرفيعة.
11- شهرة سمعان
ذاعت شهرته في كل مكان، فتوافد عليه الجميع. لا أهل الجوار فحسب، بل والبعيدون مسافة ايام ايضًا: بعضهم يجيئه بالأشلاء، وبعضهم يطلب الصحة للمرضى، وغيرهم يستنصرون به ليرزقوا ولدًا. وكل ما لا تمكنهم الطبيعة من الحصول عليه بشفاعته، ومتى حصلوا على طلبهم، واستجيبت صلواتهم، كانوا يعودون من عنده فرحين. وبينا هم يعلنون ما حصلوا عليه من نعم، كان يتدفق عليه الناس في الطلب ذاته، فيفدون عليه من كل مكان، فيصبح كل طريق وكأنه نهر يمشي، فيتكون حوله بحر من الناس، تصب فيه الأنهر الجارية من كل الجهات. والمتدفقون ليسوا من سكان امبراطوريتنا فقط، بل هناك أيضًا: الاسماعيليون، والفرس، والأرمن الخاضعون لهم، والايبريون، والحميريون، وسائر الشعوب الذين في الداخل. ويأتي كثيرون من سكان الغرب الأقصى: من أسبان، وبريتونيين، وغاليين يقيمون في ما بين الاثنين. أما الايطاليون، فمن الفضول أن نتحدث عنهم، لأن سمعان أصبح له من الشهرة في روما الكبرى، ما حمل السكان على اقامة تماثيل له على مداخل الحوانيت، ليضمنوا لهم نوعًا من السلام والحماية.
12- سمعان العامودي
كان الزوار اذًا، يتدفقون بأعداد لا تحصى، ويحاول كل منهم أن يلمسه، ويجني بركة ما من لمس معاطفه الشهيرة، التي من جلد. في أول الأمر، رأى أن هذه المبالغة في تكريمه، هي في غير محلّها، وان الأمر يسبّب له ارهاقًا لا يحتمل، ففكّر في الاقامة واقفًا على عامود، أمر بنحته عاليًا عشرة أذرع أولاً، ثم اثني عشر ذراعًا، وبعد ذلك اثنين وعشرين، والآن اثنين وثلاثين. لأنه يصبو إلى التحليق في السماء، ومغادرة المسكن الأرضي.
من جهتي، لا أعتقد أن هذا الوضع حصل من دون تدبير خاص من الله. هذا ما حداني على أن أدعو الناقدين إلى أن يلجموا لسانهم، فلا يدعونه ينطلق بدون رقابة، وان يعتبروا، ان الربّ ابتكر مثل هذه الأعمال، لخير الناس المستهترين. فقد أوحى لأشعيا، مثلاً، بأن يمشي عريانًا حافيًا. ولأرميا، بأن يشدّ حقويه، ويعلن النبوءة للجاحدين. وأمره مرة أخرى، أن يضع، حول عنقه، طوقًا من خشب، ثم من حديد. ولهوشع، أن يتخذ امرأة زنىً، وان يحب امرأة محبوبة لخليل، وهي فاسقة. ولحزقيال، أن يضطجع أربعين يومًا على جنبه الأيمن، وماية وخمسين يومًا على جنبه الأيسر، ثم ان ينقب الحائط ويخرج منه هاربًا، وان يتظاهر بمظهر سجين. وأمر، مرة أخرى، أن يأخذ سيفًا ماضيًا، ويحلق به شعر رأسه، ثم يقسم شعره إلى أربعة أقسام، وأن يعطي البعض إلى هذا، والبعض الآخر إلى ذاك، ولا أعدد كل شيء. فسيّد الكون، لعمري، كان يرسم هذه الحركات، ليجمع، بما في الأمر من مظهر مستغرب، أولئك الذين لا يؤمنون بالكلمة، ويرفضون الاصغاء إلى النبوءة، ويهيئهم لسماع كلمة الله. فَمَن، ترى، لا ينذهل، اذا ما شاهد رجلاً فاضلاً يتنزّه عاريًا؟ ومن لا يودّ أن يعرف سبب هذه الظاهرة؟ ومن لا يسأل، كيف يرضى النبي أن يساكن عاهرة؟ وهكذا، كما أن إله الكون، كان يرسم كل حركة من هذه الحركات، متوخيًا مساعدة اولئك الذين يعيشون في اللامبالاة، هكذا أوجد هذا المشهد الجديد والمستغرب، ليجذب، بغرابته، جميع الناس، فيأتون اليه، ويقبلون ما يوجهه اليهم من ارشاد. ولأن في طرافة المشهد ضمانة كافية للعقيدة، فالذي يحضر ليرى المشهد، يعود وقد تثقف بالأمور الإلهية. وكما أن الذين قيّض لهم أن يحكموا الناس، يبدلون، بطريقة دورية، الرسوم المنقوشة على عملاتهم، فيحفرون تارة رسوم أسود، وطورًا رسوم كواكب وانتصارات، ومرات أخرى، يحاولون تعديل قيمة القطعة الذهبية، بغرابة الشكل المحفور، هكذا، فإن ملك الكون السامي، وهو يُلبس التقوى، ضروبًا من العيش جديدة، ومن الإلهامات المتنوعة، وكأنها بعض النقوش، فإنه يحثّ على المديح، ليس فقط لسان الرضع في الايمان، بل وألسنة مرضى الكفر.
13- حج وارتدادات
ان ما يشهد على أن الأمور تنحو هذا المنحى، ليس من باب التأويل، بل هي وقائع صارخة. فعشرات الألوف من الاسماعيليين، مثلاً، وقد استعبدتهم ظلمات الإلحاد، هداهم إلى النور الوقوفُ على العامود.
والحال، ان هذا السراج المضيء، وهو كأنه على المنارة، نشر في كل الجهات نوره مثل الشمسز ويرى هناك، كما قلت، ايبيريون، وأرمن، وفرس، يفدون إلى المكان، ويقتبلون العماد المقدس. أما الاسماعيليون الوافدون زرافات، مائتين أو ثلاثمائة، وألفًا أحيانًا، فانهم يكفرون بأعلى أصواتهم بضلال أجدادهم، ويحطّمون، أمام هذه المنارة العظيمة، أوثانًا كان آباؤهم يعبدونها، ويقلعون عن "دعارة" افروديت – لأنهم منذ أمد طويل، كانوا قد تعبّدوا لهذا الشيطان – ويشتركون في الأسرار الإلهية، ويقتبلون سالشرائع من هذا الفم المقدّس، ويودعون إلى الأبد عادات آبائهم، ويمتنعون عن أكل لحم الحمار الوحشي والجمل.
14- خصومات حول العامود
هؤلاء الناس، رأيتهم بأم العين، وسمعتهم يقلعون عن كفر توارثوه عن أجدادهم، ويقتنعون تعليم الانجيل. وقد تعرضت مرة لخطر كبير. فسمعان ذاته، كان قد أمرهم بأن يدنوا مني، ويطلبوا البركة الكهنوتية. وهو يقول لهم، بأنهم سيحصلون منها على فائدة جُلّى. فانقضّوا علي انقضاضًا بربريًا، وشدّوني، بعضهم من أمام، وبعضهم من وراء، وبعضهم من الجانبين. بينما الأباعد كانوا يريدون أن يمرّوا قبل الآخرين، فراحوا يمدّون أيديهم، هؤلاء يشدون لحيتي، واولئك يمسكون بثيابي. فكدت أختنق تحت وطأة هجومهم العنيف، لو لم يرتفع صراخ سمعان ليشتتهم جميعًا. هذا هو الخير فجّره هذا العامود، سخرة الساخرين، وهذا هو شعاع المعرفة الالهية، الذي أنزله على عقول البرابرة.
15- اني أعرف قصة تشبه هذه، حدثت مع هؤلاء البرابرة
مرة أخرى، كانت قد طلبت قبيلة، إلى الرجل الإلهي، أن يقدم صلاة وبركة لزعيمها. ال أن قبيلة أخرى، كانت هناك أخرى، كانت هناك، اعترضت قائلة: انه يجب توجيه البركة لا إلى هذا الزعيم، بل إلى زعيمها. لأن زعيمها بريء، بينما الآخر ظالم جائر. فإذا بينهم مماحكة، ثم خصومة. ومن شأن البرابرة أن يفعلوا هذا. وفي نهاية الأمر، هاجم بعضهم بعضًا. فطلبت أنا اليهم، بكثير من التوسّل، أن يهدأوا، لأن لدى رجل الله من البركة ما يكفي كلاً من الزعيمين. الا أن بعضهم ظل يردد: انه يجب الا يحصل الثاني على البركة. والآخرون أيضًا، حاولوا أن يحرموا الأول منها، فهدّدهم من أعلى عاموده وتمكّن بصعوبة كبرى من ايقاف شجارهم. وقد رويت هذه الحادثة لأبرهن عن روح الايمان عندهم. لأنهم لولا اعتقادهم بأن لبركة الرجل الملهم قدرة عظيمة، لما تعاملوا تعامل مجانين.
16- معجزات: شفاء النعمان
اني شهدت في غير مناسبة، معجزة خارقة. فقد دخل النعمان بن امرؤ القيس، وتوسل إلى الوجه المقدّس، أن يسعف رجلاً أصابه الشلل وهو في الطريق، قال: انتابه هذا الألم وهو في كلينيكوس (قرب مدينة الرقة السورية)، وهي قلعة بالغة الأهمية. وعندما أحضروه، أمام جميع الناس، أمره سمعان بأن ينكر كفر آبائه، فوافق عن طيبة خاطر، وخضع خضوعًا تامًا للأمر. فسأله القديس، هل يؤمن بالآب والابن والروح القدس، فاعترف هذا بأنه يؤمن، فقال له سمعان: "بما أنك تؤمن بهذه الأسماء الإلهية، فانهض". ولما وقف، أمره بأن يحمل، على كتفيه، زعيم القبيلة، حتى خيمته. وكان هذا الزعيم طويل القامة، فحمله، من فوره، وانصرف. بينما الحاضرون كانوا يلهجون بالتسبيح لله, وهذه المعجزة تروى بطرق أخرى.
17- يسوع يعمل بواسطة سمعان
أعطى سمعان هذا الأمر، مقتديًا بالمعلّم، الذي أمر المخلع بأن يحمل سريره (متى6:9). ولا يقولنّ أحد أن هذا الاقتداء هو اغتصاب للسلطة.لأن المعلّم قال:"من آمن بي يعمل هو أيضًاالأعمال التي أعملها، بل يعمل أعظم منها" (يو 12:14). والحال اننا قد رأينا نحن انجاز هذا الوعد، لأن ظلّ المسيح لم يحدث معجزات، أما ظلّ بطرس فكسر شوكة الموت، وطرد الأمراض، وهرّب الشياطين (أعمال 15:5). ولكن هذه المعجزات، انما كان السيد يصنعها بواسطة خدامه، واليوم أيضًا، على استدعاء اسمه، يفعل سمعان عجائبه التي لا تحصى.
18- العصفور المتحجّر
ويفعله أيضًا، حصلت أعجوبة، لا تقلّ أهمية عن الأعجوبة السابقة. فبين الذين آمنوا باسم المسيح المخلّص ربّنا، اسماعيليّ شريف، صلّى إلى الله، ونذر نذرًا، والشاهد عليه سمعان. والنذر امتناعه عن كل طعام حيواني، من الآن وصاعدًا، حتى نهاية حياته. ولا أعرف كيف نقض هذا الوعد ذات يوم. فقد اصطاد عصفورًا، وحاول أن يأكله. ولأن الله أخزاه، ليرجعه إلى التوبة، ويكرم خادمه الشاهد عل العهد النقيض. تحوّل لحم العصفور إلى حجر، حتى أعجزه أكله، ولو تمنى ذلك. فكيف يتسنى له أكله، وقد صار حجرًا ما كان قد اشتهاه له طعامًا؟ هذا المشهد غير المنتظر، أذهل البربري، فأسرع إلى القديس، وكشف عن خطيئته الخفية، وأعلن معصيته أمام جميع الناس، وطلب من الله أن يغفر له زلّته، واستشفع القديس لينقذه بصلواته، من قيود الخطيئة. وقد عاين كثيرون المعجزة، ولمسوا العصفور بالقرب من عنقه فإذا هو عظم وحجر.
19- نبؤات سمعان
لم أشاهد معجزاته فقط بعيني، بل سمعت أيضًا انه انبأ، قبل سنتين، عن الجفاف وقلة الغلات والجوع والطاعون، فقال أنه كان قد رأى قضيبًا يهدّد البشر، وينذرهمبما سينزله بهم من ضربات. ومرة ثانية تنبّأ بهجوم الجراد، وبأنه لن يسبب ضررًا كبيرًا، لأن المحبة الإلهية تعادل القصاص. وما انقضى ثلاثون يومًا حتى طلع جيش زاحف من الجراد، كاد يحجب نور الشمس، ويغرق البلاد في الظلام. وهذا ما عايناه جميعنا. لكن الهجوم لم يؤذِ إلا علف الحيوانات، ولم يلحق أي أذى بمأكولات البشر. وأنا، وقد كنت عرضة لعداء أحدهم، فقد أبلغني سمعان أن عدوي سيختفي قبل مرور خمسة عشر يومًا. وأثبتت لي التجربة صحة نبوءته. وغير مرة، أعطي أن يرى قضيبين ينقضّان من السماء على الأرض: إلى الشرق والى الغرب. وقد عبّر الرجل الإلهي هذه الرؤيا، بأنها ثورة الأمم الفارسية والشيتية، على الأمبراطورية الرومانية. وعرض الأمر على الحاضرين، وبدموعه الغزيرة، وتوسلاته المتواصلة، أوقف الضربات التي كانت تهدّد الأمبراطورية. ومن المؤكد، أن الأمة الفارسية، المتجردة للجيش، والمستعدّة للهجوم على الرومانيين، صدّت فجأة في الاجتياح المقصود، وانصرفت إلى ما كانت تواجهه من أخطار داخلية.
20- شهرته في فارس
ومع أنني أعرف غير حوادث من هذا النوع، فسأهملها تجنبًا للإسهاب. وما ذكرناه كافٍ ليظهر بعد نظره الروحي.
ان شهرته الواسعة انتهت إلى ملك الفرس. فقد روى السفراء المعتمدون لديه، انه كان يجدُّ في الاستعلام عن نمط حياة هذا الرجل، وعن طبيعة معجزاته. ويقال ان زوجته طلبت زيتًا حاصلاً على بركة سمعان، وانها اقتبلته هدية فاخرة. وقد أُخذت بشهرته كل حاشية الملك، بالرغم من قبوله افتراء المجوس عليه. وكانت تحاول الاستعلام عنه بدقة. وبعد تأكدها، كانت تدعوه الرجل الإلهي. أما بقية الجماعة، فكانت تذهب إلى المكاريين والخدم والجنود، وتعرض عليهم مالاً، وترجوهم أن يستحصلوا لها على البركة المعلّقة على الزيت.
21- ملكة الاسماعيليين
كانت ملكة الاسماعيليين عاقرًا، تتمنّى أن ترزق أولادًا، فأرسلت أولاً، بعضًا من أرفع الموظفين لديها، تلتمس منه (سمعان) أن تصبح أمًا.وعندما استجيب طلبها، وأنجبت بحسب مشتهاها، حملت الملك الذي ولد لها، وأسرعت به إلى الشيخ الإلهي. ولما كان الدخول اليه محظّرًا على النساء، أرسلت بالمولود الجديد مع هذا الدعاء، لتنال بركته، قالت:" هذه الحزمة هي لك، فأنا قد حملت، بالدموع، ما كانت صلاتي تطلبه من زرع، أما أنت، فقد جعلت من هذا الزرع حزمة، وأنت استدرَرت، بتوسلاتك، غيث النعمة الإلهية".
ولكن حتامَ أحاول أن أقيس عمق المحيط الأطلسي؟ فكما أن هذا العمق يُعجز الانسان أن يقيس غوره، فكذلك، أن ما يتم بواسطة سمعان، يوميًا، يفوق كل حديث.
22- صلاة سمعان
أما أنا فتدهشني رباطة جأشه، أكثر من سائر معجزاته. فهو يلبث واقفًا، ليلاً نهارًا، على مرأى من الجميع. فقد انتزع الأبواب، وهدم قسمًا كبيرًا من حائط السور، وراح يظهر للجميع، مشهدًا جديدًا وغريبًا، أحيانًا واقفًا، لوقت طويل، وأحيانًا منحنيًا عدة انحناءات، مقدّمًا لله عبادته. وكثيرون، لعمري، من بين القائمين هناك، يعُدُّون سجداته. ان أحد رفاقي، ذات مرّة، بعد أن أحصى الفًا ومئتين وأربعين انحناءة، عدل عن تنبّهه، وكفّ عن العدّ. وانه لينحني، يقارب جبينه دائمًا أصابع رجليه. فمعدته التي لا تأخذ من الطعام إلى القليل، مرّة في الأسبوع، توفّر لظهره سهولة الانحناء.
23- تجلّده
ويقال أنه بسبب الوقوف الدائم، أصيب بقرح "شيرون"، في رجله اليسرى، فكانت تسيلُ منه بلا انقطاع كمية كبيرة من القيح. ومع ذلك، فان التجارب جميعها، لم تؤثر في مجرى حكمته: يتحمل، بكرم أخلاقه، آلامه الاختيارية وغير الاختيارية، ويسيطر على كلتيهما بنشاطه الروحي. وقد اضطرَّ يومًا أن يكشف قرحه لأحدهم، واليكم سبب ذلك.
جاء واحد كم "ربعان" وهو رجل فاضل، في رتبة شماس للمسيح. وبعدما انتهى إلى الجبل الشهير، سأله:"ألا قل لي، باسم المسيح الحق الذي ردَّ اليه الجنس البشري، هل أنت انسان أم كائن روحاني؟". فصدم الحاضرون لهذا السؤال. فرجاهم سمعان أن يلزموا الصمت، وسأل الشماس:"لماذا، ويحك، طرحت علي هذا السوال؟". فأجاب:"لأنني أسمع الجميع يرددون انك لا تأكل ولا تنام. وهذه من مستلزمات الانسان. فالانسان لا يمكنه أن يقضي حياته دون طعام ونوم". فأمر جلد، وأن يتطلع، ليس إلى رجليه فقط، بل والى قرحه البشع لخباثته. وبعد أن عاين الرجل، مدهوشًا، فظاعة القرح، وعلم من سمعان انه يتناول طعامًا، قفل راجعًا، وأتى يطلعني على كل شيء.
24- وفي الاحتفالات الشعبية الكبرى، يجعل سمعان لنا من نفسه قدوة في الصبر، وهو انه من بعد غياب الشمس، إلى أن تعود تشرق على الأفق، يبقى الليل كله واقفًا، ويداه مبسوطتان إلى السماء، لايدع النعاس يستهويه، ولا التعب يقهره.
25- عظاته للشعب
وعلى هذه المشقات الكبرى، ومجموع مآثره ووفرة عجائبه، ما زال متضعًا، كأدنى الناس منزلة. وأنه، على تواضعه، ليّن الجتنب، وديع، لطيف، يجيب كل سائل، سواء أكان عاملاً أم متسوِّلاً أم قرويًا. على كل حال، فانه قد اقتبل من الرب، المحسن الأكبر، موهبة التعليم. انه، وهو يلقي عظاته مرتين في اليوم، ليسكب في آذان السامعين دفقًا من الكلام الجزيل والرائع، ويقدم لهم علم الروح الالهي، فيوصيهم أن يرفعوا الراس نحو السماء، ويحلقوا، وأن ينقطعوا عن الأرض، ويتمثّلوا الجنة التي اليها يصبون، وأن يرهبوا التهديد بجهنم، وأن يحتقروا الأشياء الأرضية، وأن ينتظروا الخيور الآتية.
26- سمعان يحكم بالعدل
وانك لتراه أيضًا يحكم بالعدل، ويصدر أحكامًا مستقيمة وعادلة. كان يتفرّغ لهذا النوع من النشاطات، وما يشبهها، بعد الساعة التاسعة. لأنه يصلّي بدون توقّف، طول الليل، وفي النهار، حتى الساعة التاسعة. بعد التاسعة يباشر تعليم الحاضرين، التعاليم الالهية، ثم يستمع إلى طلبة كل واحد، ويجترح بعض الأشفية، ويسوي الخصومات بين الفرقاء المتنازعين. وعند مغيب الشمس، يدخل في الحديث مع الله.
27- يتدخل في حياة الكنائس
وبينا هو يعيش على هذا النحو، ويقوم بنشاطاته، فانه لا يهمل اله\عناية بالكنائس المقدسة. فيقاوم تارة كفر اليونانيين، وتارة ينسخ عناد اليهود، ومرة أخرى يبدّد عصابات الهراطقة. فيكتب مرة للامبراطور في هذا الموضوع، ومرة يحثّ كبار الموظفين على الاهتمام البالغ بمصالح الله، وغير مرة يوصي رعاة الكنائس بأن يزدادوا اعتناءً بقطعانهم.
28- قصة غير مكتملة
في سردي لهذه القصة، حاولت، انطلاقًا من نقطة ماء، أن أنذر بالمطر. وبطرف اصبعي، جعلت قراء هذه القصة، يتذوقون حلاوة العسل. فالوقائع المشهورة بين الناس، هي ألف مرة أكثر عددًا من التي رويتها.فاني لم أطمح في تدوينها جميعًا، بل في تبيان نمط الحياة عند كلّ قديس، ببعض الأمثلة. وهناك أناس غيري سيتوسعون بسرد القصص، واذا طال عمره، سيزيدون ولا شك معجزات أعظم.
من جهتي، أتوسل إلى الله، متمنّيًا أن يثابر سمعان، بفضل صلواته، على أعماله الرائعة، فهي بهاء التقوى، وفخرها. واني أرجو أن تكون حياتي منظّمة وموجّهة وفق طريقة الحياة الانجيلية.
وفاة العامودي:
بعج أن قضى حياة طويلة، وهو يقوم بعجائب عديدة، وأعمال باهرة، وبعد أن لبث وحده في بني البشر، لا تقهره حرارة الشمس، ولا صقيع الشتاء، ولا اقتحام الرياح العنيفة، ولا ضعف الطبيعة البشرية، وعندما قضي عليه أن يلتحق بالمسيح، ويقتبل منه اكليل جهاده الرائع، أكّد بموته، للذين لم يصدقوا، أنه بشر حقًا. ولكنه، بعد وفاته، لبث لا يتزحزح: نفسه ولا شك صعدت إلى السماء. أما جسده، فأنه أبى أن يهوي، بل مكث واقفًا، منتصبًا، في مكان جهاده، كأنه بطل لا يغلب، ويأبى أن يلامس الأرض بأي من أعضائه. وهكذا فان النصر يبقى مرافقًا أبطال المسيح، حتى بعد الموت. والأكيد، هو أن أشفية من أمراض مختلفة، وعجائب، وعظمة تجلي الله، تتم اليوم بعد، كما على حياته. ليس فقط بالقرب من نعشه، الذي فيه رفاته المقدسة، بل وبالقرب من النصب الشاهد على بطولته السامية أيضًا، وعلى جهاده الدائم، عنيت العامود العالي والشهير، عامود سمعان البار، والطيب الذكر. فبشفاعته المقدسة، نطلب نحن أيضًا أن نخلص، وأن نعتمد على الايمان المستقيم، وأن تسلم كل مدينة، وكل بلاد يدعى عليها اسم سيدنا يسوع المسيح، من كل أنواع الشر والأذىـ أتأتى من السماء، أم من الأعداء. المجد لله إلى دهر الدهور."