الفجر المشع
ولد القديس فرنسيس في أسيزي بإيطاليا، نحو أواخر سنة1181، وكان الده، بطرس برنردونة، تاجر أنسجة غنياً، ووالدته بيكا، امراءة تقيّة. فعمّد في كنيسة مريم الكبرى، ودعي يوحنا، على أن والده لدى رجوعه من فرنسا بدّل هذا الاسم فرنسيس.
وترعرع فرنسيس، فلقّنه كهنة القديس جرجس ما كان بحاجة إليه من العلم، وربّوه تربية مسيحية. وكان قد استمدّ سجاياه المحمودة من أمّه، المعروفة بالوداعة والقوة والإيمان، وبوقف حياتها علة خدمة أسرتها. فنشأ طافحاً بالحياة، لطيفاً رفيقاً، ساذج القلب. وكانت ظرافة عشرته تحجب ما اتّصف به من قوة وعزيمة ماضية، ومن خلق، إن لم يتغلب عليه، أدّى به إلى وخيم العاقبة.وقد مرّنه والده على أعمال التجارة، فمهر في البيع والربح، لكنه أثر على ذلك حياة اللهو والمسرة، ومجاملة الأصدقاء، وبسط الموائد الأنيقة لهم، والطرب معهم بالمزاح والغناء.
ومع هذا، لم يكن فرنسيس يتجاوز حدّ الاعتدال في كلامه، وكان متنزهاً عن المنكرات، لا يتخطى مراسم الضمير، ويصحب جميع أفعاله بالوداعة.
وإذا ما شكا الأب افراط ابنه في التبذير، أجابت الأم قائلة:"إنك سترى أن فرنسيس لن يهلك: فهو يحب الرب، وهو طيب النفس".
فقد كان الطّيب والحب من طبع فرنسيس، وقاعدة شخصيته، وهذا ماجذب إليه اعتبار الناس، حتى أن منهم من كان كلّما صادفه في طريقه، فرش رداءه على الأرض، وأوعز إليه بالمشي على الرداء، فيجيبه قائلاً: "سلاماً وخيراً".
الفارس العالي الهمة
قارب فرنسيس العشرين من العمر، وهو عامر بالأحلام والآمال، ولا يجد السرور والحماس إلا بالتهالك على ما يتعب ويرهق، فبات يضطرم شوقاً إلى أن يحيا ويحارب في سبيل الوطن.
وإذا بالحرب تنشب بين أسيزي وبروجيا، فكان ذلك مناسبة جديرة بميول فرنسيس، دفعته إلى أن يكون في عداد الفرسان المتسلحين، وهو يطفح اعتزازاً وجرأة وشباباً.
اشتدّت محاصرة المتحاربين، وتأججت المعركة، وأثخنت الخيول وراكبوها جراحاً، فوقع فرنسيس أسيراً بعد أن كان في طليعة القوم، وأكره على أن يمر تحت قوس أغسطس اذلالاّ. لكنه ظل قرير العين بشوشاً في أسره، بالرغم من ضيقه، يحاول أن يشدد عزيمة رفاقه. وإن اكفهر الجو، ازداد هو بأساً، وعكف على الغناء منشداً: "ينتظرني مستقبل باهر: فالعالم سوف يكرّمني عظيم التكريم". أما رفاقه فكانوا يجيبون: "حقاً ! إنك لمجنون!" كلا ! إنه لم يكن مجنوناً، وإنما كان الاطمئنان يسوده ويثير خياله.
ولما إن عاد من السجن، ابتلاه المرض، فكان ذلك أول آثار النعمة، التي جعلت تجرد قلبه مما ألفه من أفراح الدنيا.
صوت من السماء
ما كاد فرنسيس يتعافى، حتى عاد إلى ما كان عليه قبلاً من رغد العيش، وانطلق يحلم بأن يصبح فارساً متفوقاً. وقد حثّته هذه الحمّية على أن يقصد إلى بوليه البعيدة.
فأخذ في الطريق مع فرسان أشراف، جعلوا يستخفون به ويقولون: " من هذا؟ إنه ليس من الأشراف، إنما هو ابن تاجر، يحطّ من منزلتنا!".
أما فارسنا، فما برح أن أطلعهم على ما يعانيه من الألم، فاضطرّ إلى الاعراض عن مواصلة السير، وبات ليلة يتلوّى من الحمى. وحينذاك سمع صوت الرب يقول له: "لِمَ هذا التهالك على خدمة أناس، والرفق بقوم قلّما يجزيك؟ أليس الأجدر بك أن تخدم وتكّرم إلهاً وربّاً يجزيك جزاء لا حد له؟". فسأل فرنسيس: "وماذا ينبغي لي أن أصنع؟" فأجابه الرب: "ارجع إلى أسيزي، وهناك يقال لك ماذا ينبغي لك أن تصنع".
طلع الفجر، فقام فرنسيس، وقفل راجعاً إلى أسيزي، حيث عاد وسمع صوتاً يقول له في وسط صمت الليل: "يا فرنسيس، تعال اتبعني!".
فتلقّى فرنسيس هذه الدعوة الملّحة برضى لا رجوع عنه، وعزم على أن يتبع الرب، وأن يقف كل شيئ عليه، من غير شرط أو قيد.
فرنسيس يقّبل الأبرص
تغلب فرنسيس على الشغف بشؤون الدنيا، وراح يرّحب ترحيباً سخياً كاملاً بدعوة الله، فانتعشت حياته بروح جديدة، وجعل يعكف على الصلاة والتأمل، ويتردد إلى العزلة.
ولكن، هل كان هذا نوع الحياة الذي وجب عليه أن يتخذه؟ ركب فرنسيس ذات يوم جوداً، وأخذ يتجّول في الحقول خارج أسيزي. فرأى أبرص مسكيناً شنيع المنظر مقبلاً عليه. فسوّلت له نفسه أن يهرب من معركة الخوف هذه، التي كانت من أعظم معارك حياته. لكنه تمهّل، ونطر إلى الشخص الموحي بالاشمئزاز، ونزل عن الجواد، ولم يأنف من معانقة الأبرص وتقبيله.
أجل، لقد تمّ النصر لفرنسيس، فشعر بأنه أمسى شخاً جديداً، وبأنّ نوراً جديداً سطع في باطنه، وعاطفة جديدة شرعت تطفح من قلبه. ثم أدرك أنَّ المسيح المتألم هو الذي تراءى له بصورة الأبرص المشوّهة. فعمد من ساعته إلى خدمة البرص، وصار يتردد إلى المستشفيات، ويزور السجناء، ويدافع عن المضطهدين، ويعزّي الحزانى، وهو يرى ويخدم فيهم المسيح المصلوب.
وقد ترك فرنسيس في وصيته ما يلي: "عندما كنت أتخّبط في الخطايا، كان يشقّ عليّ أن أشاهد البرص، لكنّ الرب اقتادني إليهم، قانقلب الأمر عذباً على قلبي وجسمي حتى هجرت العالم".
إن نعمة الله تجعل المستحيل ممكناً.
المصلوب يخاطب فرنسيس
انقطع فرنسيس إلى خلوة كنيسة القديس داميانس القديمة، فسمع هناك صوت يسوع، يبعثه على صعود جبل الكمال، وسلوك سبيل الزهد في الذات:
"إن رغبت، يا فرنسيس، في أن تعمل بمشيئتي، فينبغي لك أن تزهد في ذاتك زهداً كاملاً، وأنتمقت ما أحببت حتى الآن. فعندئذ تشغف باذلال البشر لك، وباحتقارك لذاتك، وبالفقر، ولن تعود تطيق ما استعذبته حتى الآن. وما كنت تعدّه جبناً وغروراً، سيوليك قوة وفرحاً لا يفي وصف بهما".
كان لهذه الكلمات وقع شديد في نفس فرنسيس، حتى إنها إذاقته فرحة الخضوع للمشيئة الربانية، وجعلته يتغلب على ما كان الروح الخبيث يحاول أن يغريه به، بمختلف الوسائل، من التمثيل بالشباب الطائشين، والأغنياء والأشراف.
أجل، ها هو فرنسيس يعزم على أن يذعن إلى نداء يسوع، ويعمد، رابط الجأش، إلى صعود سلم الكمال درجة درجة.
وإذا بصوت المصلوب يقول له ثانياً: "قم، يا فرنسيس، رمّم بيتي المتداعي".
لم يظن فرنسيس أن هناك معنى آخر لقول المصلوب، فراح يرمّم بيديه الكنائس والمعابد المتصدّعة.إلا أن العناية الربانية ما لبثت أن أقامت من فرنسيس صياداً للنفوس، بل باعثاً لرسل يجودون بذواتهم، بغية أن يحملوا إلى كل مكان من الأرض رسالة المسيح الرب.
الاقتران بالسيدة الفقر
" قم، يا فرنسيس، ورمم بيتي المتداعي". هذا ما سمعه فرنسيس، وإذا بفرنسيس يدرك، في تواضعه، أن الله لا يدعوه إلى بناء كنائس من حجارة فحسب، بل إلى بناء كنيسة النفوس أيضاً، وقد توصّل إلى ذلك بفضل نعمة الله، التي كثيراً ما تستخدم لسان الحوادث. وكان أول تلك الحوادث هجر فرنسيس لوالده.
فقد اشمأزّ هذا من رؤية ابنه يعرض عن النيا، ويبيع المنسوجات، فخفّ إلى كنيسة القديس داميانس، وانهال على رئيسها بالتوبيخ الشديد، لقبوله عنده الشاب "مجنون الله". ثم أمر ابنه أمراً قاطعاً بالعودة إلى البيت الوالدي والعناية به.
لكن تصميم فرنسيس كان غير ذلك، وقد فهم ما يقصده الرب من القول، بوجوب ترك كل شيئ، حتى الأُسرة، والالتحاق به.
والآن، فها هو والده يرجعه إلى البيت، ويسجنه في حجرة، وبالرغم من هذا، بادرت أمه وأطلقت له الحرية، فعاد يرمّم الكنائس. وإذ رأى الوالد أن لا فائدة من التهديد والانذار، رفع الأمر إلى القاضي المدني، لكن فرنسيس احتجّ بأن أمره منوط بالمحكمة الكنسية.
وعندئذ جرى هذا المشهد بمرأى من المدينة كلها: فقد مثل فرنسيس بين يدي أسقف أسيزي، ولساعته خلع ثيابه بطيبة نفس، وردّها إلى والده قائلاً: "إلى الآن دعوتك أبي على الأرض، أما فيما بعد فأقول في صواب: "أبانا الذي في السموات!".
هذا الفعل الغزير المعنى، لأشبه ما يكون بطقس ديني: إنه يدّل على اقتران الأخ فرنسيس بالسيدة الفقر.
فعل يوجه حياة بكمالها
لبعض أفعال الناس آثار باقية خالدة، فهذا كان شأن تعري فرنسيس من كل شيئ، في حضرة مواطنيه، وإعلانه أن ليس له من أب سوى الذي في السموات.
فقد خيّل إليه أن كلمة المعلّم تدوّي في أعماق نفسه: "اذهب، فبع كلّ شيئ تملكه، وتعال فاتبعني".
فتقديس النفس، والتجرد من كل شيئ، نزولاً عند وصية يسوع للشاب الغني، الذي ورد ذكره في الانجيل، هما سبيل الإنسان الواحد إلى أن يصبح تلميذاً، لذلك الذي كانت عيشته على الأرض عيشة أفقر الناس.
أجل، لقد أدرك فرنسيس، أن غرض حياته هو أن يكون فقيراً مع من كان أكبر الفقراء. فلن يكفّ، طول أيام حياته، عن الرفض المطلق لامتلاك أقل شؤون الدنيا، التي من طبعها أن تمتلكنا.
كان الأمر صعباً، لكنه لم يكن من غنى عنه، وسط مجتمع كنسي هدّدته هموم العالم بالدمار. وها هو فرنسيس ينادي بالخلاص القائم على أشد الأقوال الانجيلية: "اطلبوا الملكوت وبرّه قبل كل شيئ، تزادوا هذا كله". فالفقر، والزهد في الذات، والتخلي عن كل شيئ، اصبحوا، في عرف فرنسيس، سبل كل قداسة، وجوعاً إلى الملكوت الله ونعمته.
فيا لها من مدرسة سامية، افتتحها فرنسيس لجميع الناس، المعرّضين لعبودية الجوع إلى الذهب. إنها مدرسة ثقة بالعناية الربانية،التي تعمل على أن "نزاد كل شيئ". إنها مدرسة اطمئنان وسلام للبشرية، المجرّبة بالطمع والبخل!.
حلم ورؤية
في ليلة من صيف سنة1210، رأى البابا انوشنسيوس الثالث حلماً مرعباً، تمثّل له فيه أن كنيسة القديس يوحن اللاتراني، المدعوّة الكنيسة الأُم، أخذت تتداعى وتنذر بالخراب.
استولى الخوف والحزن على البابا، وهو يشهد هذا المنظر في فراشه، عاجزاً لا يتحرك. ثم هبّ يصيح: "انقذوا الكنيسة!". لكنه لم يكن هناك من يسمع صراخه، أو يلقي إلى ندائه بالاً.
وإذا بشخص يتراءى له على حين غرّة، في الردهة المجاورة، فقيراً، قصير القامة، خشن الثوب، حافياً، مئتزراً بحبل، يرافقه اثنا عشر رجلاً ارتدوا زيّه.
ولكن هل لدى ذلك الشخص من حيلة، وما عساه يفعل الآن؟ ها هو يعانق الكنيسة، ويسندها، ويتوّصل بجرأة غريبة إلى توطيدها وتثبيتها.
أما رؤيا الخلاص هذه، ترجع إلى البابا نفسه. فيبادر ويرفع إلى الله هذا الدعاء: "ربّ، ليت هذا يتحقّق!".
كان فرنسيس المسكين الشخص الذي تراءى للبابا في الحلم، وقد اختاره المولى لاحياء كنيسته المقدسة.
راوية الله – شاعر المخلوقات
اورثت فرنسيس أمّه ميلاً كبيراً إلى الشعر والغناء. ففي السنوات الاولى من شبابه، كان دأبه دأب الرواة القادمين من فرنسا، ينشدون فرح الحب وجمال الكون.
أما الآن، فقد تفوّق عليهم جميعاً، إذ صار على جانب كبير من الإبداع في بسط رؤية وافية لله والمخلوقات. فكانت نفسه تحنّ بخالص الحب إلى ما في الطبيعة من صفاء وسمّو، وإيمانه الحي كان يبرز الأشياء في بهاء، تسطع منه قدرة الله وصلاحه.
وفي هذا الضوؤ، لم يكن" قانون إيمانه" ليقتصر، شأن غيره، على عرض جاف للعقائد والوصايا، بل كان يخفق فرحاً، وينبعث حمداً روحياً.
لقد كانت الطبيعة تتجلى لبصر فرنسيس بكل ما أوتيت من عظمة وجمال، ومن نقاوة عذبة، وخير علوّي. فأصبح، هو شاعر الطبيعة، وملك المخلوقات، يتغّنى بتسابيح الخالق، باسم ما صنعت يداه.
وهذا ما جعل، من الريح والنار والقمر والأرض والموت، أخوة له وأخوات. وهذا ما جعل الطير تذعن إلى أوامره، والذئاب المفترسة تقيه وجماعته شرّها واذاها.
فبفضل فرنسيس، "قدوة تابعي المسيح"، أخذ يتّسرب في الموسيقى المسيحية نشيد جديد، نقي صاف، لا يفي وصف به.
الدعوة الثانية
كان لحياة فرنسيس الجديدة، حياة الخلوة والتأمل، مقام جزيل في عيني المولى، لكنه كان ينقصها شيئ، على جانب من الأهمية: وهو أن تكون قدوة، "نوراً يراه الناس، فيمجدون الآب الذي في السموات". ففي تلك الأيام، لم تكن الكنيسة بحاجة إلى معتزلين للعالم ونسّاك فحسب، بل إلى من يسيرون في خطى الرسل، ويكرزون بالانجيل في كل مكان أيضاً.
وعليه، ففي اليوم الرابع والعشرين من شهر شباط سنة 1208، كان فرنسيس في كنيسة مريم سيدة الملائكة. فسمع، في قراءة القدّاس الانجيلية، آية أثرت فيه تأثيراً بالغاً: "اذهبوا واعلنوا البشارة، وقولوا: قد اقترب ملكوت السماوات".
اذهبوا وأعلنوا البشارة!
بدت هذه الوصية الإلهية لفرنسيس، في صورة تتجاوز العزلة، التي جاء إليها يبحث عن الله، وسط طمأنينة الحقول، وتغاريد العصافير. وإلى ذلك، فإنها بانت له السبيل الواجب عليه سلوكه، سبيل الحياة الرسولية، وبعثته على أن يطوف بالأرض هاتفاً بكلمة المعلم، من غير توان أو فتور.
وإذا بفرنسيس يغّير ثوبه بآخر أخشن منه، ويحلّ زنّاره، ويبدله بحبل، ويعرض عن الطريق المؤدية إلى أسيزي، ويشرع يخاطب الجماهير في الساحة العمومية.
وهكذا أصبح الفقير واعظاً.
فرنسيس يمر بالجموع
مرّ فرنسيس ذات يوم بإحدى المدن، فخرجت الجموع لملاقاته، وأغصان الزيتون بأيدي بعضهم، وجعلوا يهتفون: "هوذا القديس! ها هو القديس!". ومن شدّة احترامهم له، وشوقهم إلى رؤيته، لم يخشوا أن يزاحموه.
كان ذلك شبه تمثيل لما جاء في الانجيل المقدس، فعلى آثار يسوع،كان فرنسيس يمرّ بالقرى والمدن، يعمل الخير، ويعظ بحب الله والإخوة، والتقوى والتواضع، والزهد في المال، وبذله تكفيراً للخطايا.
أما أهل ذلك الزمان، فلم تكن طباعهم أفضل من طباعنا، إنما كانوا يمتازون بشيئ من الفطرية. فكان فرنسيس يجتذبهم بانشاد نشيد حمد وتسبيح، ثم يخطب فيهم. فمنهم من كانوا يهتزون لكلامه، ويبادرون إلى الالتحاق به.
وكان ذلك العهد عهداً، حاول فيه الشعر الريفي أن يجمع، في شبه ديمقراطية مثالية، بين الفقير والغني، وبين التابع والسيّد. فقام فرنسيس، وتناول الأمر بطريقة مسيحية. وأنشأ أسرة رهبانية هي "أسرة أخوّة"، يتساوى فيها الفقراء والأغنياء، والفرسان وأبناء الشعب، والمتعلمون والجهّال، وفيها يكون الرئيس خادماً للناس أجمعين.
وإذا بالجموع تنطلق من ضجيج الأسلحة ودخان الحرائق، وتتطلع إلى الفجر الجديد الذي أخذ يلوح في الآفاق"، تقتادهم جاذبية غريبة، ويقصدون إلى فرنسيس، وكلهم رغبة في التحدث إليه واسترشاده وسماعه.
التلاميذ الأولون
تخّلى فرنسيس عن الشؤون، التي من طبعها أن تستهوي الناس. وجعل يزداد قرباً من الله يوماً فيوماً، بالصلاة والعمل في العزلة الروحية. على أنّ حبّه لربّه عاد به إلى الناس، وإلى سلوك طرق العالم المستوحلة.
أجل، إنه كان أفقر الفقراء، ومع هذا كان يبدو أنيس الطلعة سعيداً، والفقراء والأغنياء كانوا يأتون إليه، علّهم يجدون به غنى مجهولاً لا يفنى، لا يملكه أحد سواه: غنى الإيمان والحب.
وإذا بطائفة من الناس يحتشدون حوله ويلازمونه: منهم الأغنياء والفلاحون، والفارس والفنان، والصانع وشاعران. وكانت السعادة حليفتهم في عوزهم، لا يكنزون شيئاً، وإنما وَكَلوا إلى ربّهم قلوبهم وأحلامهم، وأشواقهم وآمالهم.
وكانوا يقومون، في النهار، بكل عمل يسألونه، يخصّون بنشاطهم الفلاحين في الحقول، والمرضى في المستشفيات. وإلى ذلك، كانوا يتنقلون من بيت إلى بيت، يلقون في القلوب حب المحبة والإيمان والسلام، ويعلّمون الناس أن يحبّوا الحياة وأن يباركوها.
وفي الليل الصامت، كانوا يقبلون على تأمل الانجيل المقدس، يستمدون منه نوراً جديداً وقوة جديدة. فهكذا أعدّ فرنسيس فرسانه للجهاد من أجل المسيح، هكذا أقام أسس رهبانية الأصاغر، الإيمان عمدته، والنعمة هديه.
ربيع الكنيسة يزهر
قامت إذاً الرهبانية الجديدة على الفقر، والتواضع، والمحبة، والصلاة، والعمل.
ولقد أراد فرسان المسيح المنتمون إليها، أن يفتتحوا العالم من غير غنى أو سلاح. فقصدوا إلى روما، وأطلعوا البابا انوشنسيوس الثالث على ما كان يهزّهم من الحماس والغيرة. وإذا أقرّ البابا الرهبانية شفاهيّاً، قفلوا راجعين، تصحبهم بركة النائب عن المسيح، إلى أمبريا وطنهم، وقد أصبح "جليل" ايطاليا الجديد.
هناك جعلوا يسيرون في المدن اثنين اثنين، يحفّ بهم. جوّ عجيب من اخوّة، حدت الكثيرين على الانضمام إليهم، وكنيسة سيّدة الملائكة "مهد" لهم.
أجل، من هذه الكنيسة، المدعوة "الجزء الصغير"، انطلق أولئك الرجال الجدد، يجمعهم الفقر، وينيرهم الإيمان، وتضرمهم المحبة. وإذا بالجماهير تتقاطر لسماع كلامهم الانجيلي الملتهب، الطافح من أعماق قلوبهم، فيسترسل أجفّْهم قلوباً في البكاء، والمتخاصمون يعودون إلى الوئام.
كلارا الأسيزية وحياة النبل الجديد
من أعجب من جاؤوا إلى فرنسيس، فتاة من أسيزي تدعى "كلارا" كان يبدو وكأنها تسطع نوراً. كانت غنيّة جميلة، من أسرة شريفة. وكان في وسعها أن تحظى بمنزلة عالية في الحياة. ولكنها ما إن سمعت ذات يوم عظات فرنسيس في الله، والحب الذي يلزمنا أن نخصَّ به الله، حتى استقرّ رأيها على أن تتبع فارس المسيح البطل.
وإن إقبال كلارا على الحياة الجديدة، مكّنها من تذليل جميع العقبات، التي أخذت تعترضها، من جرّاء مقاومة والدها. فوكلت أمرها إلى فرنسيس، وكان قد أدرك ما امتازت به من الفضائل، والدعوة التي أنعم الله بها عليها. فساعدها على تحقيق حلمها، بمحبة وفطنة وبأس.
ففي الليلة الواقعة بين27و28 آذار سنة1211، بادرت أغنى فتيات أسيزي وأشرفهّن وأسماهنّ فضيلة، وهجرت العالم، في سبيل معانقة الصليب، وسلوك سبيل الفقر والتواضع والعمل، ووقف حياتها على خدمة الله. وهكذا صارت كلارا من وراء نشوة "الرهبانية الثانية" التي لقَّبها فرنسيس برهبانية "السيدات الفقيرات"، ومهدها كنيسة القديس داميانس.
أجل، كنّ فقيرات. لكنهنّ كنّ سيدان شريفات عنيّات، إذ كنّ عرائس المسيح، سيد كل شيئ وربّه، بل سيادت جديرات بكل إكرام وسط الناس والعالم.
وبهذا رفع فرنسيس شأن المرأة عالياً، تحفّ بها هالة من الجمال والسحر، وأقام نوعاً من الارستقراطية الأدبية والروحية المستمدة من المسيح.
الغفران الكبير
لم يكن ليهدا بال فرنسيس، وهو يتمثّل العدد الوافر من الناس الذين لا يحبون الله، بل يهينونه.
ففي ذات ليلة من سنة 1216، إذا كان يضطرم حباً لله، في معبد سيدة الملائكة، تراءى له يسوع ومريم، يحفّ بهما عدد عديد من الملائكة. فأوعز إليه يسوع بأن يسأله ما يشاء لخير النفوس. فأجابه فرنسيس بدالّة بنوية: "إلهي القدوس، اسألك، أنا الخاطئ المسكين، غفراناً كاملاً لكل تائب، اعترف وتناول وزار هذه الكنيسة".
فقال يسوع: "طلبتك عظيمة جداً. لكنك أهل لأَّعظم منها. وإني لمجيبك إليها. فاذهب إلى نائبي على الأرض، واسأله باسمي هذا الغفران".
وفي فجر الغد، دعا فرنسيس أحد الرهبان وقال له: "لنذهب إلى البابا". فتوَّجها إلى بروجيا، حيث كان يومئذ البابا هونوريوس الثالث. فوقفا بين يديه، فأخذ البابا العجب من طلب فرنسيس، فسأله: "إلى كم سنة تريد هذا الغفران؟".
أجابه فرنسيس: "أيها الآب الأقدس، أنا لا اطلب السنين، وإنَّما اطلب النفوس". ثم ردّد فرنسيس قول الرب. فأجابه البابا: "لم يسبق أن منح مثل هذا الغفران".
أجاب فرنسيس: "أيها الآب الأقدس، لست أنا الذي اطلب هذا الغفران، إنما يسوع المسيح أوفدني إليك".
سمع البابا هذه الكلمات، فتأثر تأثراً بالغاً. ثم قال ثلاثاً: "باسم الله، امنحك هذا الغفران للأبد، فيمكن اكتسابه مرة في السنة، من العصر إلى غروب اليوم التالي. أما اليوم، فهو الثاني من شهر آب".
وقد مدّ الأحبار الأعظمون هذا الإنعام إلى جميع أيام السنة.
فرنسيس رسول في الشرق
انضمّ فرسان آخرون إلى الأولين. فشاء فرنسيس أن يسيروا وفق روح القانون المقدس، وأن يخدموا ربّهم بالفقر والتواضع والعفة. وإن نزع أحدهم إلى الفتور والتواني، استدعاه فرنسيس وقال له: "انطلق إلى بيتك، يا أخا الذئاب. فما أنت إلا زنبور يتناول عسل النحل".
وكان يوصي إخوته قائلاً: "على جميع الذين بعثهم الرب للعمل، أن يخلصوا في عملهم، متنصلين من البطالة، عدوة النفس، ومحافظين على روح الصلاة المقدسة، التي لها الصدارة في هذه الدنيا".
مرّت الأيام، والرهبانية تنضج شيئاً فشيئاً. فهّم فرنسيس بالأَخذ في السفر إلى الشرق، متعطشاً إلى النفوس وبذل الذات. فلم تثنه المشقّات الجمّة عن الحلول بمصر، حيث مثل بين يدي السلطان الملك الكامل.
ثم برح مصر إلى الأرض المقدسة، للصلاة والتأمل، في الأماكن التي باركها المسيح. فعاد متأثراً من منظر طفل بيت لحم، ومصلوب الجلجلة. وبعد أخذ قسط من الراحة في الوطن، رجع إلى حياته الرسولية، حتى وصل فرنسا واسبانيا، باذراً أينما حلّ كنوز كلامه وفضيلته.
أما زيارته لبلاد المسيح، فإنها لم تذهب عبثاً. فأبناؤه سيكونون حراساً لأماكنها المقدسة، وسيحافظون عليها بإيمان وبأس.
مجمع الحصر
ممّا ينطق بصلاح الرهبانية الفرنسيسية: المجمع المسمى بمجمع الحصر (بسبب الحصر التي أعدّها فرنسيس لسكنى الرهبان). وقد عقد في كنيسة سيدة الملائكة، في الثالث عشر من أيار سنة 1221، يوم عيد العنصرة. وبلغ عدد الذين استطاعوا الحضور نحواً من خمسة آلاف أخ، قدموا من ايطاليا وغيرها من ربوع الأرض. وكان من بين أولئك، القديس عبد الأحد، مؤسس الرهبانية الدومنيكية.
قام فرنسيس، في هذا المجمع. وخطب في الإخوة، قال: "لقد وعدنا الله بالعظائم، إلا أن ما وعدنا الله به أسمى منها. قصيرة هي لذة الدنيا! ابدّي العقاب الذي يليها! الألم وقتي، أما مجد الحياة الأخرى، فلا حدّ له".
"أوصيكم، باسم الطاعة المقدسة، بأن لا يكترث أحد لشؤون الجسد، بل أن تتفرّغوا للصلاة وخدمة الله، مُلْقين همَّ الجسد على الذي يعنى بأمركم".
وقد بعث على تأثر الحضورمعانقة فرنسيس للأخ انطون البادوي، أحد الذين جاؤوا إلى المجمع. كانت دوافع الرغبة في الاستشهاد حدت بهذا الأخ، إلى ترك رهبانية قانوّني القديس اغسطينوس، والالتحاقبرهبانية الإخوة الأصاغر. فجعله وُسْعُ ثقافته الدينية أهلاً لأن يلقَّب "بحامي الإيمان ومطرقة المبدعين". ثم أصبح أعلى مجد للرهبانية الفرنسيسية، وأشهر صانع للمعجزات عرفه العالم، ورفع إليه الدعاء.
لذلك أحصاه البابا بيوس الثاني عشر في عداد معلمي الكنيسة، واسماه "المعلم الانجيلي".
الرهبانية الثالثة
سنة1223، أقرّ البابا هونوريوس الثالث رسمياً الرهبانية الفرنسيسية، التي ما برح الناس يتواردون عليها من جميع النواحي، بغية خدمة الله، وإعلان اسمه إلى العالم.
وكان نحو سنة 1221، أن غصنا جديداً أخذ ينمو على الجذع الأصيل، إلى جانب الإخوة الأصاغر وراهبات كلارا، وهو الرهبانية الثالثة، ووضع لها قانوناً يرمي إلى تقديس حياة أولئك، من غير أن يتركوا العالم.بهذا تمّ شوق الكثيرين الشديد إلى حياة الزهد والكمال، في رهبانية دعيت أولاً "رهبانية إخوة التوبة"، ثم "الرهبانية الفرنسيسية الثالثة". فانضمّ إليها أقرب الناس إلى فرنسيس، ومن كل سنّ وطبقة ومقام، من كهنة وأساقفة وباباوات وأمراء وملوك.
حقّاً! أرادت العناية الربانية هذه الرهبانية، التي ادهشت العالم في نسيانه لانجيل الخلاص. فقد بعثت فيه حياة جديدة، واعلت شأن المساكين، وردّت أسلحة الانتقام، ونشرت الحب في القلوب والأفكار والأفعال.
إن الانتماء إلى الرهبانية الثالثة نور وهدى لحياتنا الروحية، في درب الكمال المسيحي.
مذود غريتشو
اقترب عيد الميلاد سنة1223، وأخذتالترانيم الرعوية تنعش الآفاق. فراودت فرنسيس، وهو الكثير الشغف بيسوع الطفل، قال: "الشوق يلحّ بي أن أحيا ليلة الميلاد السماوية، وأن أرى بعيني يسوع الطفل، كما ولد في بيت لحم، مضجعاً فقيراً مسكيناً في مغارة حباً لنا. فانطلق إلى الغابة، وابحث بين الصخور عن مغارة واسعة، وأقام فيها مذوداً، وأنثر على الأرض تبناً، وأحضر ثوراً وحماراً، فنحتفل إخوة وشعباً بحلول ابن الله في أرضنا".
هكذا ولد من قلب فرنسيس المولع بالمسيح ذلك المهد، الذي يحرّك عواطفنا كل سنة، إذ يحملنا على أن نحيا سرّ الحب المتجلي في الميلاد المقدس.
ولما أعدَّ كل ما يفتقر إليه الاحتفال بالليلة المقدسة، سارع الإخوة من المساكن المجاورة والبعيدة، وتوارد المسيحيون، رجالاً ونساء، من الضياع القريبة، وبأيديهم المشاعل، وألَّفوا شبه إكليل ضمن المغارة.
وعند منتصف الليل، اقيم القداس الإلهي، وخدم فيه فرنسيس كشماس انجيلي. وبعد إعلانه الانجيل، ألقى على الحاضرين خطبة في سرّ ميلاد المخلص العظيم.
ومنذ ذلك الحين، جرت العادة أن تقام مغاور الميلاد، وأن تدخلهذه السرور على قلوب الملايين من الصغار، وتبعث من الجمودمئات الملايين من القلوب.
فرنسيس يحرر اليمامات
كان فرنسيس ينجذب بحب وفرح إلى جميع المخلوقات، كان الإخوة تربطه بها، وتخصه على أن يرقّ لها.
وقد اتفّق ذات يوم ان سار في الحقول، فلقي صبياً معه قفص فيه عدة يمامات. فأخذته الشفقة، إذ خطر بباله أنهن سيبعن أو سيذبحن. فقال للصبي: "أسألك أن تهب لي هذه اليمامات الوديعة. فهي، في الكتاب المقدس، صورة للنفوس الطاهرة الأمينة، ولا يجوز أن يسلّم لأيدٍ قد تذبحها".
فنظر الصبي إلى فرنسيس، وقد أصابته الدهشة. لكن عذوبة كلماته حملته على إعطائه اليمامات من ساعته. أما فرنسيس، فطفح منه السرور، وبادر إلى تناول اليمامات، وأخذ في مخاطبتهن قائلاً "يا اخوتي اليمامات الساذجات البريئات، لماذا وقعتنّ في الفخاخ؟ مرادي أن انقذكنّ من الهلاك، وأن تعدن إلى أقفاصكنّ، وتكثرن وفق وصية الربّ".
ثم شكر الصبي، وأخذ اليمامات إلى كنيسة سيّدة الملائكة، ووضعهن في أقفاص الحرية.
وهناك حادث آخر جدير بالذكر. أهدى أحدهم فرنسيس حملاً لمناسبة عيد الفصح. فأحب فرنسيس الحمل، إذ بعثه على التفكير بالمسيح، حمل الله المضحى من أجل خلاصنا. وصار الحمل يتبعه ويطيعه كأنه كائن يدرك. وإلى ذلك، كان ينضم خاشعاً إلى فرنسيس وأخوته وهم يصلّون.
لنتعلّم أن نرى في المخلوقات شعاعاً وصورة لجمال الله وصلاحه.
فرنسيس يعظ العصافير
مرّ فرنسيس يوماً بإحدى الضياع، فرأى تلاّ تكدّست فيه العصافير المختلفة الأجناس والأشكال، كأنها تلاقت لموعد غريب. فسأل من معه أن يقفوا، ريثما يذهب إلى إخوته العصافير، ويرى ما تعمله. فأقام وسطها، وأوعز إليها بأن تصغي إلى كلام الله، قال:
"إخوتي العصافير، عليكم بتسبيح ربّنا ومحبته في كل حين، لأنه كساكم ثياباً بهية الألوان، وأطلق لكم أن تطيروا، ويجود عليكم بما إليه تحتاجون، ويوليكم أن تسكنوا حيثما شئتم. أنتم لا تزرعون ولا تحصدون، وهو يحفظكم ويعتني بأمركم، من غير أيّ عناء منكم".
عند هذه الكلمات، هّبت العصافير تعرب عن بهجتها. فمدّ فرنسيس يده، ولمسها بثوبه الخشن فرحاً، ثم باركها وصرفها بعلامة الصليب. فقامت ورفرفت على رأسه، وعادت إلى أعشاشها.
إن هذا الحدث ليحثّنا جميعاً على أن تسبّح في كل آن الإله، الذي هو مصدر كلّ هبة، وأن نلقي عليه الاتكال. فلا شيئ يعجز قدرته – جلّ جلاله.
نحو العلى
لا تزدهر حياة النفس ولا تسمو إلاّ بالصلاة والتأمل. وهذا ما كان يحدو فرنسيس على التردّد إلى العزلة لمناجاة الله.
كتب أحد الإخوة بهذا الشأن: "كثيراً ما كان يوم، ويخلد إلى أمكنة توفّر الطمأنينة والاختلاء، بغية أن يكون مع الله وحده، وأن ينفض عن نفسه ما قد يكون علق بها من غبار العالم". فهنالك كان، باسم يسوع المصلوب وأمه المجيدة، وبجناحي الروح، يحلّق في العلى، وينجذب شديد الانجذاب إلى رؤى الفردوس.
وكانت الأمكنة، التي ألِف فرنسيس الانقطاع إلى عزلتها، كانت توحي إليه بذكريات الأمكنة الانجيلية: بيت لحم، جبل صوم المسيح، الجلجلة. فأصبحت، على غرار هذه، واحات مناجاة لله، وكوّنت قداسة فرنسيس. وحضور فرنسيس فيها قدّسها بدوره، وجعلها حتى اليوم أمكنة يغتني فيها أبناؤه روحياً، كي يكونوا أكثر شبهاً بمعلمهم، ويشهدوا للرب ولأنفسهم وللآخرين، بأن حياتهم موقوفة لله، في ضوء مثالية القديس فرنسيس.
فرنسيس والافخارستيا
من أين كان يستمدّ فرنسيس غذاء المحبة؟
كان ذلك من الافخارستيا أولاً. فهي تمدّ النفس بما تفقتر إليه هذه، كي تتمكن من محبة الله والقريب محبة فائقة الطبيعة.
إن المحبة هي السبيل إلى الاتحاد بالله، والافخارستيا هي ما يجمعنا بالله: "من أكل جسدي وشرب دمي، أقام فيّ وأقمت فيه".
فالمحبة الكاملة تكون بالبقاء في الشخص المحبوب، بل بالتحول إليه. وقد قال القديس يوحنا: "من أقام في المحبة، أقام في الله، وأقام الله فيه". فإن كان الله في نفس ذاك الذي يتناوله، فهذا يقيم في المحبة، بل يقيم فيها بنوع يزداد كمالاً.
وعليه، ففي الافخارستيا، ألقى فرنسيس مركز كل نشاطه النابض. كان يقدم على التناول بأقدس عواطف الاستعداد، وينجذب أشد الانجذاب إلى ملاقاة عطيّة الربّ بالمحبة، وعرفان الجميل، ويجد الراحة بمَن هو الخير غير المحدود، مستطيراً فرحاً روحياً، ومعانقاً في قلبه جميع الذين فداهم المسيح.
وكان، في مناجاته الافخارستية، يصرخ إلى الرب: "يا رب، اجعلني أداة لسلامك! لنبشر بالحب حيث الحقد – ولنبن السلام حيث الخصومة – ولنوقظ الإيمان حيث الشك – ولنبعث العزم حيث الكآبة والحزن – ولنبذل الصفح حيث الإهانة – ولنعلن الحقيقة حيث الضلال – ولنحيَ الرجاء حيث اليأس – ولنشعّ النور حيث الظلمة".
أجل، كان فرنسيس يشعر بأن الافخارستيا جعلته واحداً مع المسيح. وهذا ما دفع البابا بندكتس الخامس عشر على أن يشهد بأن فرنسيس "أكمل صورة وجدت على الأرض للمسيح".
وسم المسيح
في شهر أيلول سنة1124، رحل فرنسيس إلى جبل "فرنا"، مستصحباً بعض الإخوة. فكانت صلاته تزداد اضطراماً هناك يوماً فيوماً. وارتفع دعاؤه عالياً بين الدموع والتنهدات:
"أيها الرب يسوع المسيح، أسألك أن تظفّني بنعمتين قبل مماتي: الأولى أن أشعر في نفسي وجسدي، ما أمكن، بما اضطرمت به من الحب العجيب، الذي حملك، أنت ابن الله، على أن تموت لأجلنا نحن الخطأة المساكين".
ثم صمت، ومكث مصلوب الذراعين، حتى بدأ وكأنه شبح، انهكه الصوم والألم. لكن وجهه ظَلَّ يشع نوراً، من جراء لهيب الحب الذي كان يلتهمه.
وبينما كان فرنسيس يلتفت إلى الشرق عديم الحركة، إذ رأى بغتة سروفياً هابطاً من السماء، وقد وقف تجاهه مرتفعاً في الجو، وله أجنحة منيرة ملتهبة، وهو يحمل صورة المصلوب مطبوعة في جسمه.
وعند ذاك، أحاط بجبل فرنا نور ساطع، أضاء ما حوله من الجبال والأدوية. أما فرنسيس، فقد شعر بأن جرحاً فادحاً ثخن جسمه، فيقي مغمياً عليه. ولما توارت الرؤيا، شهد، وهو مرتعش من الكآبة والمسرّة، مسامير صليب المسيح في يديه ورجليه، وأبصر جنبه الأيسر دامياً بجرح الشهيد المصلوب:
"لقد وسم بوسم المسيح الأخير فحمله في جسمه طيلة سنتين". (دانته، الفردوس11)
نشيد في الخلائق
اشتدّ سوء الحال بفرنسيس اشتداداً عظيماً، في أواخر عمره. فكانت الجراحات تؤلمه، والعينان لا تطيقان النور، والمعدة لا تطيق الطعام. فانطلق به الإخوة إلى دير القديس داميانس، حيث كلّمه المصلوب للمرة الأولى، بغية التفريج عنه.
وكان قد اقبل شتاء1224-1225. فاعتزم فرنسيس أن يؤلف"نشيداً في الخلائق".
قال أحد الآباء الفرنسيسيين: "إن نشيد الخلائق هو عهد القديس فرنسيس، هو أشادته بالحياة على عتبة الموت، ومعانقته البشر في ساعة الفراق والرحيل، والغناء وسط التلوي من الألم، والحب الذي يفوق الألم، وبدء فنّنا، وسرّ وسمنا المسيحي، ورمز خلودنا".
زهرة تحترق بأشعة الشمس
ها قد اقتربت ساعة دعوة الرب لفرنسيس إليه. "فاستقبل الموت منشداً"، على حدّ قول أحدهم، وكان بودّه أن يموت قريباً من كنيسة البورسيونكلا (الجزء الصغير).
وقبل ذلك، استغفر الجميع، وبارك أبناءه وبناته، وبارك أسيزي، مدينته العزيزة، وغاص في الصلاة: "أهلاً بأخي الموت ... ها إن الرب يدعوني ..."
وكان مساء اليوم الثالث عشر من شهر تشرين الأول سنة 1226. الآفاق صافية كأنها على أهبة لقبول أنفاس فرنسيس الأخيرة، ونور ضئيل يبدو في وجه القديس المشرف على التلف، تعلو محيّاه ابتسامة رقيقة. وفي وسط الصمت السائد، سراب من "إخوته القنابر" يبادر ويغّني. والحاضرون ينحنون على وجه من شمع، لعله يوحي برمق من الحياة. ولكن الفم أمسى جامداً لا يتحرك.
فقد مات فرنسيس من غير ضجّة أو عراك، كزهرة تحترق على جذعها بأشعة الشمس.
أجل، هكذا برحت نفس فرنسيس هذه الدنيا. فظل جثمانه على الأرض، يشع نوراً، وتفوح منه رائحة الزنابق، بين أعجاب الحاضرين من أمره. وتقبيل الإخوة له.
ثم حمل الجثمان ودفن في كنيسة القديس جرجس، حتى اليوم الذي شاد الأخ ايليا الكنيسة الكبرى، على اسم أبيه القديس. إلى هناك نقل جثمان فرنسيس. وهناك أصبح قبر القديس الساروفي محطّ حجّ للعالم كله. فما زال الملايين يقصدونه من كل دين وطبقة، ويجثون راكعين أمامه، ملتمسين منه نوراً وقوة وسنداً وسلاماً.
إن هذا القبر قد جعل من أسيزي أورشليم الغرب.
خاتمة
إن فقير أسيزي قد أنشد أصفى أفراح الأرض، ورفع شأن ما بها من آلام وتضحية وموت.
إنه قد بكى طغيان البشر وظلمهم، وعلَّمنا أن يحب بعضنا بعضاً، حب إخوة في المسيح.
زهد في نفسه زهد الأبطال، وقدّم ذاته وأعماله قرباناً على مذبح الرب.
أشاد بالصليب راية، وبالانجيل ناموساً، وبالمحبة أختاً.
ومن بين المدائح التي خصَّه الناس بها، مديح الكنيسة هذا:
"إن فرنسيس، الذي كان فقيراً وضيعاً حباً للمسيح، قد أصبح أهلاً لدخول السماء بين أناشيد الملائكة".
ولد القديس فرنسيس في أسيزي بإيطاليا، نحو أواخر سنة1181، وكان الده، بطرس برنردونة، تاجر أنسجة غنياً، ووالدته بيكا، امراءة تقيّة. فعمّد في كنيسة مريم الكبرى، ودعي يوحنا، على أن والده لدى رجوعه من فرنسا بدّل هذا الاسم فرنسيس.
وترعرع فرنسيس، فلقّنه كهنة القديس جرجس ما كان بحاجة إليه من العلم، وربّوه تربية مسيحية. وكان قد استمدّ سجاياه المحمودة من أمّه، المعروفة بالوداعة والقوة والإيمان، وبوقف حياتها علة خدمة أسرتها. فنشأ طافحاً بالحياة، لطيفاً رفيقاً، ساذج القلب. وكانت ظرافة عشرته تحجب ما اتّصف به من قوة وعزيمة ماضية، ومن خلق، إن لم يتغلب عليه، أدّى به إلى وخيم العاقبة.وقد مرّنه والده على أعمال التجارة، فمهر في البيع والربح، لكنه أثر على ذلك حياة اللهو والمسرة، ومجاملة الأصدقاء، وبسط الموائد الأنيقة لهم، والطرب معهم بالمزاح والغناء.
ومع هذا، لم يكن فرنسيس يتجاوز حدّ الاعتدال في كلامه، وكان متنزهاً عن المنكرات، لا يتخطى مراسم الضمير، ويصحب جميع أفعاله بالوداعة.
وإذا ما شكا الأب افراط ابنه في التبذير، أجابت الأم قائلة:"إنك سترى أن فرنسيس لن يهلك: فهو يحب الرب، وهو طيب النفس".
فقد كان الطّيب والحب من طبع فرنسيس، وقاعدة شخصيته، وهذا ماجذب إليه اعتبار الناس، حتى أن منهم من كان كلّما صادفه في طريقه، فرش رداءه على الأرض، وأوعز إليه بالمشي على الرداء، فيجيبه قائلاً: "سلاماً وخيراً".
الفارس العالي الهمة
قارب فرنسيس العشرين من العمر، وهو عامر بالأحلام والآمال، ولا يجد السرور والحماس إلا بالتهالك على ما يتعب ويرهق، فبات يضطرم شوقاً إلى أن يحيا ويحارب في سبيل الوطن.
وإذا بالحرب تنشب بين أسيزي وبروجيا، فكان ذلك مناسبة جديرة بميول فرنسيس، دفعته إلى أن يكون في عداد الفرسان المتسلحين، وهو يطفح اعتزازاً وجرأة وشباباً.
اشتدّت محاصرة المتحاربين، وتأججت المعركة، وأثخنت الخيول وراكبوها جراحاً، فوقع فرنسيس أسيراً بعد أن كان في طليعة القوم، وأكره على أن يمر تحت قوس أغسطس اذلالاّ. لكنه ظل قرير العين بشوشاً في أسره، بالرغم من ضيقه، يحاول أن يشدد عزيمة رفاقه. وإن اكفهر الجو، ازداد هو بأساً، وعكف على الغناء منشداً: "ينتظرني مستقبل باهر: فالعالم سوف يكرّمني عظيم التكريم". أما رفاقه فكانوا يجيبون: "حقاً ! إنك لمجنون!" كلا ! إنه لم يكن مجنوناً، وإنما كان الاطمئنان يسوده ويثير خياله.
ولما إن عاد من السجن، ابتلاه المرض، فكان ذلك أول آثار النعمة، التي جعلت تجرد قلبه مما ألفه من أفراح الدنيا.
صوت من السماء
ما كاد فرنسيس يتعافى، حتى عاد إلى ما كان عليه قبلاً من رغد العيش، وانطلق يحلم بأن يصبح فارساً متفوقاً. وقد حثّته هذه الحمّية على أن يقصد إلى بوليه البعيدة.
فأخذ في الطريق مع فرسان أشراف، جعلوا يستخفون به ويقولون: " من هذا؟ إنه ليس من الأشراف، إنما هو ابن تاجر، يحطّ من منزلتنا!".
أما فارسنا، فما برح أن أطلعهم على ما يعانيه من الألم، فاضطرّ إلى الاعراض عن مواصلة السير، وبات ليلة يتلوّى من الحمى. وحينذاك سمع صوت الرب يقول له: "لِمَ هذا التهالك على خدمة أناس، والرفق بقوم قلّما يجزيك؟ أليس الأجدر بك أن تخدم وتكّرم إلهاً وربّاً يجزيك جزاء لا حد له؟". فسأل فرنسيس: "وماذا ينبغي لي أن أصنع؟" فأجابه الرب: "ارجع إلى أسيزي، وهناك يقال لك ماذا ينبغي لك أن تصنع".
طلع الفجر، فقام فرنسيس، وقفل راجعاً إلى أسيزي، حيث عاد وسمع صوتاً يقول له في وسط صمت الليل: "يا فرنسيس، تعال اتبعني!".
فتلقّى فرنسيس هذه الدعوة الملّحة برضى لا رجوع عنه، وعزم على أن يتبع الرب، وأن يقف كل شيئ عليه، من غير شرط أو قيد.
فرنسيس يقّبل الأبرص
تغلب فرنسيس على الشغف بشؤون الدنيا، وراح يرّحب ترحيباً سخياً كاملاً بدعوة الله، فانتعشت حياته بروح جديدة، وجعل يعكف على الصلاة والتأمل، ويتردد إلى العزلة.
ولكن، هل كان هذا نوع الحياة الذي وجب عليه أن يتخذه؟ ركب فرنسيس ذات يوم جوداً، وأخذ يتجّول في الحقول خارج أسيزي. فرأى أبرص مسكيناً شنيع المنظر مقبلاً عليه. فسوّلت له نفسه أن يهرب من معركة الخوف هذه، التي كانت من أعظم معارك حياته. لكنه تمهّل، ونطر إلى الشخص الموحي بالاشمئزاز، ونزل عن الجواد، ولم يأنف من معانقة الأبرص وتقبيله.
أجل، لقد تمّ النصر لفرنسيس، فشعر بأنه أمسى شخاً جديداً، وبأنّ نوراً جديداً سطع في باطنه، وعاطفة جديدة شرعت تطفح من قلبه. ثم أدرك أنَّ المسيح المتألم هو الذي تراءى له بصورة الأبرص المشوّهة. فعمد من ساعته إلى خدمة البرص، وصار يتردد إلى المستشفيات، ويزور السجناء، ويدافع عن المضطهدين، ويعزّي الحزانى، وهو يرى ويخدم فيهم المسيح المصلوب.
وقد ترك فرنسيس في وصيته ما يلي: "عندما كنت أتخّبط في الخطايا، كان يشقّ عليّ أن أشاهد البرص، لكنّ الرب اقتادني إليهم، قانقلب الأمر عذباً على قلبي وجسمي حتى هجرت العالم".
إن نعمة الله تجعل المستحيل ممكناً.
المصلوب يخاطب فرنسيس
انقطع فرنسيس إلى خلوة كنيسة القديس داميانس القديمة، فسمع هناك صوت يسوع، يبعثه على صعود جبل الكمال، وسلوك سبيل الزهد في الذات:
"إن رغبت، يا فرنسيس، في أن تعمل بمشيئتي، فينبغي لك أن تزهد في ذاتك زهداً كاملاً، وأنتمقت ما أحببت حتى الآن. فعندئذ تشغف باذلال البشر لك، وباحتقارك لذاتك، وبالفقر، ولن تعود تطيق ما استعذبته حتى الآن. وما كنت تعدّه جبناً وغروراً، سيوليك قوة وفرحاً لا يفي وصف بهما".
كان لهذه الكلمات وقع شديد في نفس فرنسيس، حتى إنها إذاقته فرحة الخضوع للمشيئة الربانية، وجعلته يتغلب على ما كان الروح الخبيث يحاول أن يغريه به، بمختلف الوسائل، من التمثيل بالشباب الطائشين، والأغنياء والأشراف.
أجل، ها هو فرنسيس يعزم على أن يذعن إلى نداء يسوع، ويعمد، رابط الجأش، إلى صعود سلم الكمال درجة درجة.
وإذا بصوت المصلوب يقول له ثانياً: "قم، يا فرنسيس، رمّم بيتي المتداعي".
لم يظن فرنسيس أن هناك معنى آخر لقول المصلوب، فراح يرمّم بيديه الكنائس والمعابد المتصدّعة.إلا أن العناية الربانية ما لبثت أن أقامت من فرنسيس صياداً للنفوس، بل باعثاً لرسل يجودون بذواتهم، بغية أن يحملوا إلى كل مكان من الأرض رسالة المسيح الرب.
الاقتران بالسيدة الفقر
" قم، يا فرنسيس، ورمم بيتي المتداعي". هذا ما سمعه فرنسيس، وإذا بفرنسيس يدرك، في تواضعه، أن الله لا يدعوه إلى بناء كنائس من حجارة فحسب، بل إلى بناء كنيسة النفوس أيضاً، وقد توصّل إلى ذلك بفضل نعمة الله، التي كثيراً ما تستخدم لسان الحوادث. وكان أول تلك الحوادث هجر فرنسيس لوالده.
فقد اشمأزّ هذا من رؤية ابنه يعرض عن النيا، ويبيع المنسوجات، فخفّ إلى كنيسة القديس داميانس، وانهال على رئيسها بالتوبيخ الشديد، لقبوله عنده الشاب "مجنون الله". ثم أمر ابنه أمراً قاطعاً بالعودة إلى البيت الوالدي والعناية به.
لكن تصميم فرنسيس كان غير ذلك، وقد فهم ما يقصده الرب من القول، بوجوب ترك كل شيئ، حتى الأُسرة، والالتحاق به.
والآن، فها هو والده يرجعه إلى البيت، ويسجنه في حجرة، وبالرغم من هذا، بادرت أمه وأطلقت له الحرية، فعاد يرمّم الكنائس. وإذ رأى الوالد أن لا فائدة من التهديد والانذار، رفع الأمر إلى القاضي المدني، لكن فرنسيس احتجّ بأن أمره منوط بالمحكمة الكنسية.
وعندئذ جرى هذا المشهد بمرأى من المدينة كلها: فقد مثل فرنسيس بين يدي أسقف أسيزي، ولساعته خلع ثيابه بطيبة نفس، وردّها إلى والده قائلاً: "إلى الآن دعوتك أبي على الأرض، أما فيما بعد فأقول في صواب: "أبانا الذي في السموات!".
هذا الفعل الغزير المعنى، لأشبه ما يكون بطقس ديني: إنه يدّل على اقتران الأخ فرنسيس بالسيدة الفقر.
فعل يوجه حياة بكمالها
لبعض أفعال الناس آثار باقية خالدة، فهذا كان شأن تعري فرنسيس من كل شيئ، في حضرة مواطنيه، وإعلانه أن ليس له من أب سوى الذي في السموات.
فقد خيّل إليه أن كلمة المعلّم تدوّي في أعماق نفسه: "اذهب، فبع كلّ شيئ تملكه، وتعال فاتبعني".
فتقديس النفس، والتجرد من كل شيئ، نزولاً عند وصية يسوع للشاب الغني، الذي ورد ذكره في الانجيل، هما سبيل الإنسان الواحد إلى أن يصبح تلميذاً، لذلك الذي كانت عيشته على الأرض عيشة أفقر الناس.
أجل، لقد أدرك فرنسيس، أن غرض حياته هو أن يكون فقيراً مع من كان أكبر الفقراء. فلن يكفّ، طول أيام حياته، عن الرفض المطلق لامتلاك أقل شؤون الدنيا، التي من طبعها أن تمتلكنا.
كان الأمر صعباً، لكنه لم يكن من غنى عنه، وسط مجتمع كنسي هدّدته هموم العالم بالدمار. وها هو فرنسيس ينادي بالخلاص القائم على أشد الأقوال الانجيلية: "اطلبوا الملكوت وبرّه قبل كل شيئ، تزادوا هذا كله". فالفقر، والزهد في الذات، والتخلي عن كل شيئ، اصبحوا، في عرف فرنسيس، سبل كل قداسة، وجوعاً إلى الملكوت الله ونعمته.
فيا لها من مدرسة سامية، افتتحها فرنسيس لجميع الناس، المعرّضين لعبودية الجوع إلى الذهب. إنها مدرسة ثقة بالعناية الربانية،التي تعمل على أن "نزاد كل شيئ". إنها مدرسة اطمئنان وسلام للبشرية، المجرّبة بالطمع والبخل!.
حلم ورؤية
في ليلة من صيف سنة1210، رأى البابا انوشنسيوس الثالث حلماً مرعباً، تمثّل له فيه أن كنيسة القديس يوحن اللاتراني، المدعوّة الكنيسة الأُم، أخذت تتداعى وتنذر بالخراب.
استولى الخوف والحزن على البابا، وهو يشهد هذا المنظر في فراشه، عاجزاً لا يتحرك. ثم هبّ يصيح: "انقذوا الكنيسة!". لكنه لم يكن هناك من يسمع صراخه، أو يلقي إلى ندائه بالاً.
وإذا بشخص يتراءى له على حين غرّة، في الردهة المجاورة، فقيراً، قصير القامة، خشن الثوب، حافياً، مئتزراً بحبل، يرافقه اثنا عشر رجلاً ارتدوا زيّه.
ولكن هل لدى ذلك الشخص من حيلة، وما عساه يفعل الآن؟ ها هو يعانق الكنيسة، ويسندها، ويتوّصل بجرأة غريبة إلى توطيدها وتثبيتها.
أما رؤيا الخلاص هذه، ترجع إلى البابا نفسه. فيبادر ويرفع إلى الله هذا الدعاء: "ربّ، ليت هذا يتحقّق!".
كان فرنسيس المسكين الشخص الذي تراءى للبابا في الحلم، وقد اختاره المولى لاحياء كنيسته المقدسة.
راوية الله – شاعر المخلوقات
اورثت فرنسيس أمّه ميلاً كبيراً إلى الشعر والغناء. ففي السنوات الاولى من شبابه، كان دأبه دأب الرواة القادمين من فرنسا، ينشدون فرح الحب وجمال الكون.
أما الآن، فقد تفوّق عليهم جميعاً، إذ صار على جانب كبير من الإبداع في بسط رؤية وافية لله والمخلوقات. فكانت نفسه تحنّ بخالص الحب إلى ما في الطبيعة من صفاء وسمّو، وإيمانه الحي كان يبرز الأشياء في بهاء، تسطع منه قدرة الله وصلاحه.
وفي هذا الضوؤ، لم يكن" قانون إيمانه" ليقتصر، شأن غيره، على عرض جاف للعقائد والوصايا، بل كان يخفق فرحاً، وينبعث حمداً روحياً.
لقد كانت الطبيعة تتجلى لبصر فرنسيس بكل ما أوتيت من عظمة وجمال، ومن نقاوة عذبة، وخير علوّي. فأصبح، هو شاعر الطبيعة، وملك المخلوقات، يتغّنى بتسابيح الخالق، باسم ما صنعت يداه.
وهذا ما جعل، من الريح والنار والقمر والأرض والموت، أخوة له وأخوات. وهذا ما جعل الطير تذعن إلى أوامره، والذئاب المفترسة تقيه وجماعته شرّها واذاها.
فبفضل فرنسيس، "قدوة تابعي المسيح"، أخذ يتّسرب في الموسيقى المسيحية نشيد جديد، نقي صاف، لا يفي وصف به.
الدعوة الثانية
كان لحياة فرنسيس الجديدة، حياة الخلوة والتأمل، مقام جزيل في عيني المولى، لكنه كان ينقصها شيئ، على جانب من الأهمية: وهو أن تكون قدوة، "نوراً يراه الناس، فيمجدون الآب الذي في السموات". ففي تلك الأيام، لم تكن الكنيسة بحاجة إلى معتزلين للعالم ونسّاك فحسب، بل إلى من يسيرون في خطى الرسل، ويكرزون بالانجيل في كل مكان أيضاً.
وعليه، ففي اليوم الرابع والعشرين من شهر شباط سنة 1208، كان فرنسيس في كنيسة مريم سيدة الملائكة. فسمع، في قراءة القدّاس الانجيلية، آية أثرت فيه تأثيراً بالغاً: "اذهبوا واعلنوا البشارة، وقولوا: قد اقترب ملكوت السماوات".
اذهبوا وأعلنوا البشارة!
بدت هذه الوصية الإلهية لفرنسيس، في صورة تتجاوز العزلة، التي جاء إليها يبحث عن الله، وسط طمأنينة الحقول، وتغاريد العصافير. وإلى ذلك، فإنها بانت له السبيل الواجب عليه سلوكه، سبيل الحياة الرسولية، وبعثته على أن يطوف بالأرض هاتفاً بكلمة المعلم، من غير توان أو فتور.
وإذا بفرنسيس يغّير ثوبه بآخر أخشن منه، ويحلّ زنّاره، ويبدله بحبل، ويعرض عن الطريق المؤدية إلى أسيزي، ويشرع يخاطب الجماهير في الساحة العمومية.
وهكذا أصبح الفقير واعظاً.
فرنسيس يمر بالجموع
مرّ فرنسيس ذات يوم بإحدى المدن، فخرجت الجموع لملاقاته، وأغصان الزيتون بأيدي بعضهم، وجعلوا يهتفون: "هوذا القديس! ها هو القديس!". ومن شدّة احترامهم له، وشوقهم إلى رؤيته، لم يخشوا أن يزاحموه.
كان ذلك شبه تمثيل لما جاء في الانجيل المقدس، فعلى آثار يسوع،كان فرنسيس يمرّ بالقرى والمدن، يعمل الخير، ويعظ بحب الله والإخوة، والتقوى والتواضع، والزهد في المال، وبذله تكفيراً للخطايا.
أما أهل ذلك الزمان، فلم تكن طباعهم أفضل من طباعنا، إنما كانوا يمتازون بشيئ من الفطرية. فكان فرنسيس يجتذبهم بانشاد نشيد حمد وتسبيح، ثم يخطب فيهم. فمنهم من كانوا يهتزون لكلامه، ويبادرون إلى الالتحاق به.
وكان ذلك العهد عهداً، حاول فيه الشعر الريفي أن يجمع، في شبه ديمقراطية مثالية، بين الفقير والغني، وبين التابع والسيّد. فقام فرنسيس، وتناول الأمر بطريقة مسيحية. وأنشأ أسرة رهبانية هي "أسرة أخوّة"، يتساوى فيها الفقراء والأغنياء، والفرسان وأبناء الشعب، والمتعلمون والجهّال، وفيها يكون الرئيس خادماً للناس أجمعين.
وإذا بالجموع تنطلق من ضجيج الأسلحة ودخان الحرائق، وتتطلع إلى الفجر الجديد الذي أخذ يلوح في الآفاق"، تقتادهم جاذبية غريبة، ويقصدون إلى فرنسيس، وكلهم رغبة في التحدث إليه واسترشاده وسماعه.
التلاميذ الأولون
تخّلى فرنسيس عن الشؤون، التي من طبعها أن تستهوي الناس. وجعل يزداد قرباً من الله يوماً فيوماً، بالصلاة والعمل في العزلة الروحية. على أنّ حبّه لربّه عاد به إلى الناس، وإلى سلوك طرق العالم المستوحلة.
أجل، إنه كان أفقر الفقراء، ومع هذا كان يبدو أنيس الطلعة سعيداً، والفقراء والأغنياء كانوا يأتون إليه، علّهم يجدون به غنى مجهولاً لا يفنى، لا يملكه أحد سواه: غنى الإيمان والحب.
وإذا بطائفة من الناس يحتشدون حوله ويلازمونه: منهم الأغنياء والفلاحون، والفارس والفنان، والصانع وشاعران. وكانت السعادة حليفتهم في عوزهم، لا يكنزون شيئاً، وإنما وَكَلوا إلى ربّهم قلوبهم وأحلامهم، وأشواقهم وآمالهم.
وكانوا يقومون، في النهار، بكل عمل يسألونه، يخصّون بنشاطهم الفلاحين في الحقول، والمرضى في المستشفيات. وإلى ذلك، كانوا يتنقلون من بيت إلى بيت، يلقون في القلوب حب المحبة والإيمان والسلام، ويعلّمون الناس أن يحبّوا الحياة وأن يباركوها.
وفي الليل الصامت، كانوا يقبلون على تأمل الانجيل المقدس، يستمدون منه نوراً جديداً وقوة جديدة. فهكذا أعدّ فرنسيس فرسانه للجهاد من أجل المسيح، هكذا أقام أسس رهبانية الأصاغر، الإيمان عمدته، والنعمة هديه.
ربيع الكنيسة يزهر
قامت إذاً الرهبانية الجديدة على الفقر، والتواضع، والمحبة، والصلاة، والعمل.
ولقد أراد فرسان المسيح المنتمون إليها، أن يفتتحوا العالم من غير غنى أو سلاح. فقصدوا إلى روما، وأطلعوا البابا انوشنسيوس الثالث على ما كان يهزّهم من الحماس والغيرة. وإذا أقرّ البابا الرهبانية شفاهيّاً، قفلوا راجعين، تصحبهم بركة النائب عن المسيح، إلى أمبريا وطنهم، وقد أصبح "جليل" ايطاليا الجديد.
هناك جعلوا يسيرون في المدن اثنين اثنين، يحفّ بهم. جوّ عجيب من اخوّة، حدت الكثيرين على الانضمام إليهم، وكنيسة سيّدة الملائكة "مهد" لهم.
أجل، من هذه الكنيسة، المدعوة "الجزء الصغير"، انطلق أولئك الرجال الجدد، يجمعهم الفقر، وينيرهم الإيمان، وتضرمهم المحبة. وإذا بالجماهير تتقاطر لسماع كلامهم الانجيلي الملتهب، الطافح من أعماق قلوبهم، فيسترسل أجفّْهم قلوباً في البكاء، والمتخاصمون يعودون إلى الوئام.
كلارا الأسيزية وحياة النبل الجديد
من أعجب من جاؤوا إلى فرنسيس، فتاة من أسيزي تدعى "كلارا" كان يبدو وكأنها تسطع نوراً. كانت غنيّة جميلة، من أسرة شريفة. وكان في وسعها أن تحظى بمنزلة عالية في الحياة. ولكنها ما إن سمعت ذات يوم عظات فرنسيس في الله، والحب الذي يلزمنا أن نخصَّ به الله، حتى استقرّ رأيها على أن تتبع فارس المسيح البطل.
وإن إقبال كلارا على الحياة الجديدة، مكّنها من تذليل جميع العقبات، التي أخذت تعترضها، من جرّاء مقاومة والدها. فوكلت أمرها إلى فرنسيس، وكان قد أدرك ما امتازت به من الفضائل، والدعوة التي أنعم الله بها عليها. فساعدها على تحقيق حلمها، بمحبة وفطنة وبأس.
ففي الليلة الواقعة بين27و28 آذار سنة1211، بادرت أغنى فتيات أسيزي وأشرفهّن وأسماهنّ فضيلة، وهجرت العالم، في سبيل معانقة الصليب، وسلوك سبيل الفقر والتواضع والعمل، ووقف حياتها على خدمة الله. وهكذا صارت كلارا من وراء نشوة "الرهبانية الثانية" التي لقَّبها فرنسيس برهبانية "السيدات الفقيرات"، ومهدها كنيسة القديس داميانس.
أجل، كنّ فقيرات. لكنهنّ كنّ سيدان شريفات عنيّات، إذ كنّ عرائس المسيح، سيد كل شيئ وربّه، بل سيادت جديرات بكل إكرام وسط الناس والعالم.
وبهذا رفع فرنسيس شأن المرأة عالياً، تحفّ بها هالة من الجمال والسحر، وأقام نوعاً من الارستقراطية الأدبية والروحية المستمدة من المسيح.
الغفران الكبير
لم يكن ليهدا بال فرنسيس، وهو يتمثّل العدد الوافر من الناس الذين لا يحبون الله، بل يهينونه.
ففي ذات ليلة من سنة 1216، إذا كان يضطرم حباً لله، في معبد سيدة الملائكة، تراءى له يسوع ومريم، يحفّ بهما عدد عديد من الملائكة. فأوعز إليه يسوع بأن يسأله ما يشاء لخير النفوس. فأجابه فرنسيس بدالّة بنوية: "إلهي القدوس، اسألك، أنا الخاطئ المسكين، غفراناً كاملاً لكل تائب، اعترف وتناول وزار هذه الكنيسة".
فقال يسوع: "طلبتك عظيمة جداً. لكنك أهل لأَّعظم منها. وإني لمجيبك إليها. فاذهب إلى نائبي على الأرض، واسأله باسمي هذا الغفران".
وفي فجر الغد، دعا فرنسيس أحد الرهبان وقال له: "لنذهب إلى البابا". فتوَّجها إلى بروجيا، حيث كان يومئذ البابا هونوريوس الثالث. فوقفا بين يديه، فأخذ البابا العجب من طلب فرنسيس، فسأله: "إلى كم سنة تريد هذا الغفران؟".
أجابه فرنسيس: "أيها الآب الأقدس، أنا لا اطلب السنين، وإنَّما اطلب النفوس". ثم ردّد فرنسيس قول الرب. فأجابه البابا: "لم يسبق أن منح مثل هذا الغفران".
أجاب فرنسيس: "أيها الآب الأقدس، لست أنا الذي اطلب هذا الغفران، إنما يسوع المسيح أوفدني إليك".
سمع البابا هذه الكلمات، فتأثر تأثراً بالغاً. ثم قال ثلاثاً: "باسم الله، امنحك هذا الغفران للأبد، فيمكن اكتسابه مرة في السنة، من العصر إلى غروب اليوم التالي. أما اليوم، فهو الثاني من شهر آب".
وقد مدّ الأحبار الأعظمون هذا الإنعام إلى جميع أيام السنة.
فرنسيس رسول في الشرق
انضمّ فرسان آخرون إلى الأولين. فشاء فرنسيس أن يسيروا وفق روح القانون المقدس، وأن يخدموا ربّهم بالفقر والتواضع والعفة. وإن نزع أحدهم إلى الفتور والتواني، استدعاه فرنسيس وقال له: "انطلق إلى بيتك، يا أخا الذئاب. فما أنت إلا زنبور يتناول عسل النحل".
وكان يوصي إخوته قائلاً: "على جميع الذين بعثهم الرب للعمل، أن يخلصوا في عملهم، متنصلين من البطالة، عدوة النفس، ومحافظين على روح الصلاة المقدسة، التي لها الصدارة في هذه الدنيا".
مرّت الأيام، والرهبانية تنضج شيئاً فشيئاً. فهّم فرنسيس بالأَخذ في السفر إلى الشرق، متعطشاً إلى النفوس وبذل الذات. فلم تثنه المشقّات الجمّة عن الحلول بمصر، حيث مثل بين يدي السلطان الملك الكامل.
ثم برح مصر إلى الأرض المقدسة، للصلاة والتأمل، في الأماكن التي باركها المسيح. فعاد متأثراً من منظر طفل بيت لحم، ومصلوب الجلجلة. وبعد أخذ قسط من الراحة في الوطن، رجع إلى حياته الرسولية، حتى وصل فرنسا واسبانيا، باذراً أينما حلّ كنوز كلامه وفضيلته.
أما زيارته لبلاد المسيح، فإنها لم تذهب عبثاً. فأبناؤه سيكونون حراساً لأماكنها المقدسة، وسيحافظون عليها بإيمان وبأس.
مجمع الحصر
ممّا ينطق بصلاح الرهبانية الفرنسيسية: المجمع المسمى بمجمع الحصر (بسبب الحصر التي أعدّها فرنسيس لسكنى الرهبان). وقد عقد في كنيسة سيدة الملائكة، في الثالث عشر من أيار سنة 1221، يوم عيد العنصرة. وبلغ عدد الذين استطاعوا الحضور نحواً من خمسة آلاف أخ، قدموا من ايطاليا وغيرها من ربوع الأرض. وكان من بين أولئك، القديس عبد الأحد، مؤسس الرهبانية الدومنيكية.
قام فرنسيس، في هذا المجمع. وخطب في الإخوة، قال: "لقد وعدنا الله بالعظائم، إلا أن ما وعدنا الله به أسمى منها. قصيرة هي لذة الدنيا! ابدّي العقاب الذي يليها! الألم وقتي، أما مجد الحياة الأخرى، فلا حدّ له".
"أوصيكم، باسم الطاعة المقدسة، بأن لا يكترث أحد لشؤون الجسد، بل أن تتفرّغوا للصلاة وخدمة الله، مُلْقين همَّ الجسد على الذي يعنى بأمركم".
وقد بعث على تأثر الحضورمعانقة فرنسيس للأخ انطون البادوي، أحد الذين جاؤوا إلى المجمع. كانت دوافع الرغبة في الاستشهاد حدت بهذا الأخ، إلى ترك رهبانية قانوّني القديس اغسطينوس، والالتحاقبرهبانية الإخوة الأصاغر. فجعله وُسْعُ ثقافته الدينية أهلاً لأن يلقَّب "بحامي الإيمان ومطرقة المبدعين". ثم أصبح أعلى مجد للرهبانية الفرنسيسية، وأشهر صانع للمعجزات عرفه العالم، ورفع إليه الدعاء.
لذلك أحصاه البابا بيوس الثاني عشر في عداد معلمي الكنيسة، واسماه "المعلم الانجيلي".
الرهبانية الثالثة
سنة1223، أقرّ البابا هونوريوس الثالث رسمياً الرهبانية الفرنسيسية، التي ما برح الناس يتواردون عليها من جميع النواحي، بغية خدمة الله، وإعلان اسمه إلى العالم.
وكان نحو سنة 1221، أن غصنا جديداً أخذ ينمو على الجذع الأصيل، إلى جانب الإخوة الأصاغر وراهبات كلارا، وهو الرهبانية الثالثة، ووضع لها قانوناً يرمي إلى تقديس حياة أولئك، من غير أن يتركوا العالم.بهذا تمّ شوق الكثيرين الشديد إلى حياة الزهد والكمال، في رهبانية دعيت أولاً "رهبانية إخوة التوبة"، ثم "الرهبانية الفرنسيسية الثالثة". فانضمّ إليها أقرب الناس إلى فرنسيس، ومن كل سنّ وطبقة ومقام، من كهنة وأساقفة وباباوات وأمراء وملوك.
حقّاً! أرادت العناية الربانية هذه الرهبانية، التي ادهشت العالم في نسيانه لانجيل الخلاص. فقد بعثت فيه حياة جديدة، واعلت شأن المساكين، وردّت أسلحة الانتقام، ونشرت الحب في القلوب والأفكار والأفعال.
إن الانتماء إلى الرهبانية الثالثة نور وهدى لحياتنا الروحية، في درب الكمال المسيحي.
مذود غريتشو
اقترب عيد الميلاد سنة1223، وأخذتالترانيم الرعوية تنعش الآفاق. فراودت فرنسيس، وهو الكثير الشغف بيسوع الطفل، قال: "الشوق يلحّ بي أن أحيا ليلة الميلاد السماوية، وأن أرى بعيني يسوع الطفل، كما ولد في بيت لحم، مضجعاً فقيراً مسكيناً في مغارة حباً لنا. فانطلق إلى الغابة، وابحث بين الصخور عن مغارة واسعة، وأقام فيها مذوداً، وأنثر على الأرض تبناً، وأحضر ثوراً وحماراً، فنحتفل إخوة وشعباً بحلول ابن الله في أرضنا".
هكذا ولد من قلب فرنسيس المولع بالمسيح ذلك المهد، الذي يحرّك عواطفنا كل سنة، إذ يحملنا على أن نحيا سرّ الحب المتجلي في الميلاد المقدس.
ولما أعدَّ كل ما يفتقر إليه الاحتفال بالليلة المقدسة، سارع الإخوة من المساكن المجاورة والبعيدة، وتوارد المسيحيون، رجالاً ونساء، من الضياع القريبة، وبأيديهم المشاعل، وألَّفوا شبه إكليل ضمن المغارة.
وعند منتصف الليل، اقيم القداس الإلهي، وخدم فيه فرنسيس كشماس انجيلي. وبعد إعلانه الانجيل، ألقى على الحاضرين خطبة في سرّ ميلاد المخلص العظيم.
ومنذ ذلك الحين، جرت العادة أن تقام مغاور الميلاد، وأن تدخلهذه السرور على قلوب الملايين من الصغار، وتبعث من الجمودمئات الملايين من القلوب.
فرنسيس يحرر اليمامات
كان فرنسيس ينجذب بحب وفرح إلى جميع المخلوقات، كان الإخوة تربطه بها، وتخصه على أن يرقّ لها.
وقد اتفّق ذات يوم ان سار في الحقول، فلقي صبياً معه قفص فيه عدة يمامات. فأخذته الشفقة، إذ خطر بباله أنهن سيبعن أو سيذبحن. فقال للصبي: "أسألك أن تهب لي هذه اليمامات الوديعة. فهي، في الكتاب المقدس، صورة للنفوس الطاهرة الأمينة، ولا يجوز أن يسلّم لأيدٍ قد تذبحها".
فنظر الصبي إلى فرنسيس، وقد أصابته الدهشة. لكن عذوبة كلماته حملته على إعطائه اليمامات من ساعته. أما فرنسيس، فطفح منه السرور، وبادر إلى تناول اليمامات، وأخذ في مخاطبتهن قائلاً "يا اخوتي اليمامات الساذجات البريئات، لماذا وقعتنّ في الفخاخ؟ مرادي أن انقذكنّ من الهلاك، وأن تعدن إلى أقفاصكنّ، وتكثرن وفق وصية الربّ".
ثم شكر الصبي، وأخذ اليمامات إلى كنيسة سيّدة الملائكة، ووضعهن في أقفاص الحرية.
وهناك حادث آخر جدير بالذكر. أهدى أحدهم فرنسيس حملاً لمناسبة عيد الفصح. فأحب فرنسيس الحمل، إذ بعثه على التفكير بالمسيح، حمل الله المضحى من أجل خلاصنا. وصار الحمل يتبعه ويطيعه كأنه كائن يدرك. وإلى ذلك، كان ينضم خاشعاً إلى فرنسيس وأخوته وهم يصلّون.
لنتعلّم أن نرى في المخلوقات شعاعاً وصورة لجمال الله وصلاحه.
فرنسيس يعظ العصافير
مرّ فرنسيس يوماً بإحدى الضياع، فرأى تلاّ تكدّست فيه العصافير المختلفة الأجناس والأشكال، كأنها تلاقت لموعد غريب. فسأل من معه أن يقفوا، ريثما يذهب إلى إخوته العصافير، ويرى ما تعمله. فأقام وسطها، وأوعز إليها بأن تصغي إلى كلام الله، قال:
"إخوتي العصافير، عليكم بتسبيح ربّنا ومحبته في كل حين، لأنه كساكم ثياباً بهية الألوان، وأطلق لكم أن تطيروا، ويجود عليكم بما إليه تحتاجون، ويوليكم أن تسكنوا حيثما شئتم. أنتم لا تزرعون ولا تحصدون، وهو يحفظكم ويعتني بأمركم، من غير أيّ عناء منكم".
عند هذه الكلمات، هّبت العصافير تعرب عن بهجتها. فمدّ فرنسيس يده، ولمسها بثوبه الخشن فرحاً، ثم باركها وصرفها بعلامة الصليب. فقامت ورفرفت على رأسه، وعادت إلى أعشاشها.
إن هذا الحدث ليحثّنا جميعاً على أن تسبّح في كل آن الإله، الذي هو مصدر كلّ هبة، وأن نلقي عليه الاتكال. فلا شيئ يعجز قدرته – جلّ جلاله.
نحو العلى
لا تزدهر حياة النفس ولا تسمو إلاّ بالصلاة والتأمل. وهذا ما كان يحدو فرنسيس على التردّد إلى العزلة لمناجاة الله.
كتب أحد الإخوة بهذا الشأن: "كثيراً ما كان يوم، ويخلد إلى أمكنة توفّر الطمأنينة والاختلاء، بغية أن يكون مع الله وحده، وأن ينفض عن نفسه ما قد يكون علق بها من غبار العالم". فهنالك كان، باسم يسوع المصلوب وأمه المجيدة، وبجناحي الروح، يحلّق في العلى، وينجذب شديد الانجذاب إلى رؤى الفردوس.
وكانت الأمكنة، التي ألِف فرنسيس الانقطاع إلى عزلتها، كانت توحي إليه بذكريات الأمكنة الانجيلية: بيت لحم، جبل صوم المسيح، الجلجلة. فأصبحت، على غرار هذه، واحات مناجاة لله، وكوّنت قداسة فرنسيس. وحضور فرنسيس فيها قدّسها بدوره، وجعلها حتى اليوم أمكنة يغتني فيها أبناؤه روحياً، كي يكونوا أكثر شبهاً بمعلمهم، ويشهدوا للرب ولأنفسهم وللآخرين، بأن حياتهم موقوفة لله، في ضوء مثالية القديس فرنسيس.
فرنسيس والافخارستيا
من أين كان يستمدّ فرنسيس غذاء المحبة؟
كان ذلك من الافخارستيا أولاً. فهي تمدّ النفس بما تفقتر إليه هذه، كي تتمكن من محبة الله والقريب محبة فائقة الطبيعة.
إن المحبة هي السبيل إلى الاتحاد بالله، والافخارستيا هي ما يجمعنا بالله: "من أكل جسدي وشرب دمي، أقام فيّ وأقمت فيه".
فالمحبة الكاملة تكون بالبقاء في الشخص المحبوب، بل بالتحول إليه. وقد قال القديس يوحنا: "من أقام في المحبة، أقام في الله، وأقام الله فيه". فإن كان الله في نفس ذاك الذي يتناوله، فهذا يقيم في المحبة، بل يقيم فيها بنوع يزداد كمالاً.
وعليه، ففي الافخارستيا، ألقى فرنسيس مركز كل نشاطه النابض. كان يقدم على التناول بأقدس عواطف الاستعداد، وينجذب أشد الانجذاب إلى ملاقاة عطيّة الربّ بالمحبة، وعرفان الجميل، ويجد الراحة بمَن هو الخير غير المحدود، مستطيراً فرحاً روحياً، ومعانقاً في قلبه جميع الذين فداهم المسيح.
وكان، في مناجاته الافخارستية، يصرخ إلى الرب: "يا رب، اجعلني أداة لسلامك! لنبشر بالحب حيث الحقد – ولنبن السلام حيث الخصومة – ولنوقظ الإيمان حيث الشك – ولنبعث العزم حيث الكآبة والحزن – ولنبذل الصفح حيث الإهانة – ولنعلن الحقيقة حيث الضلال – ولنحيَ الرجاء حيث اليأس – ولنشعّ النور حيث الظلمة".
أجل، كان فرنسيس يشعر بأن الافخارستيا جعلته واحداً مع المسيح. وهذا ما دفع البابا بندكتس الخامس عشر على أن يشهد بأن فرنسيس "أكمل صورة وجدت على الأرض للمسيح".
وسم المسيح
في شهر أيلول سنة1124، رحل فرنسيس إلى جبل "فرنا"، مستصحباً بعض الإخوة. فكانت صلاته تزداد اضطراماً هناك يوماً فيوماً. وارتفع دعاؤه عالياً بين الدموع والتنهدات:
"أيها الرب يسوع المسيح، أسألك أن تظفّني بنعمتين قبل مماتي: الأولى أن أشعر في نفسي وجسدي، ما أمكن، بما اضطرمت به من الحب العجيب، الذي حملك، أنت ابن الله، على أن تموت لأجلنا نحن الخطأة المساكين".
ثم صمت، ومكث مصلوب الذراعين، حتى بدأ وكأنه شبح، انهكه الصوم والألم. لكن وجهه ظَلَّ يشع نوراً، من جراء لهيب الحب الذي كان يلتهمه.
وبينما كان فرنسيس يلتفت إلى الشرق عديم الحركة، إذ رأى بغتة سروفياً هابطاً من السماء، وقد وقف تجاهه مرتفعاً في الجو، وله أجنحة منيرة ملتهبة، وهو يحمل صورة المصلوب مطبوعة في جسمه.
وعند ذاك، أحاط بجبل فرنا نور ساطع، أضاء ما حوله من الجبال والأدوية. أما فرنسيس، فقد شعر بأن جرحاً فادحاً ثخن جسمه، فيقي مغمياً عليه. ولما توارت الرؤيا، شهد، وهو مرتعش من الكآبة والمسرّة، مسامير صليب المسيح في يديه ورجليه، وأبصر جنبه الأيسر دامياً بجرح الشهيد المصلوب:
"لقد وسم بوسم المسيح الأخير فحمله في جسمه طيلة سنتين". (دانته، الفردوس11)
نشيد في الخلائق
اشتدّ سوء الحال بفرنسيس اشتداداً عظيماً، في أواخر عمره. فكانت الجراحات تؤلمه، والعينان لا تطيقان النور، والمعدة لا تطيق الطعام. فانطلق به الإخوة إلى دير القديس داميانس، حيث كلّمه المصلوب للمرة الأولى، بغية التفريج عنه.
وكان قد اقبل شتاء1224-1225. فاعتزم فرنسيس أن يؤلف"نشيداً في الخلائق".
قال أحد الآباء الفرنسيسيين: "إن نشيد الخلائق هو عهد القديس فرنسيس، هو أشادته بالحياة على عتبة الموت، ومعانقته البشر في ساعة الفراق والرحيل، والغناء وسط التلوي من الألم، والحب الذي يفوق الألم، وبدء فنّنا، وسرّ وسمنا المسيحي، ورمز خلودنا".
زهرة تحترق بأشعة الشمس
ها قد اقتربت ساعة دعوة الرب لفرنسيس إليه. "فاستقبل الموت منشداً"، على حدّ قول أحدهم، وكان بودّه أن يموت قريباً من كنيسة البورسيونكلا (الجزء الصغير).
وقبل ذلك، استغفر الجميع، وبارك أبناءه وبناته، وبارك أسيزي، مدينته العزيزة، وغاص في الصلاة: "أهلاً بأخي الموت ... ها إن الرب يدعوني ..."
وكان مساء اليوم الثالث عشر من شهر تشرين الأول سنة 1226. الآفاق صافية كأنها على أهبة لقبول أنفاس فرنسيس الأخيرة، ونور ضئيل يبدو في وجه القديس المشرف على التلف، تعلو محيّاه ابتسامة رقيقة. وفي وسط الصمت السائد، سراب من "إخوته القنابر" يبادر ويغّني. والحاضرون ينحنون على وجه من شمع، لعله يوحي برمق من الحياة. ولكن الفم أمسى جامداً لا يتحرك.
فقد مات فرنسيس من غير ضجّة أو عراك، كزهرة تحترق على جذعها بأشعة الشمس.
أجل، هكذا برحت نفس فرنسيس هذه الدنيا. فظل جثمانه على الأرض، يشع نوراً، وتفوح منه رائحة الزنابق، بين أعجاب الحاضرين من أمره. وتقبيل الإخوة له.
ثم حمل الجثمان ودفن في كنيسة القديس جرجس، حتى اليوم الذي شاد الأخ ايليا الكنيسة الكبرى، على اسم أبيه القديس. إلى هناك نقل جثمان فرنسيس. وهناك أصبح قبر القديس الساروفي محطّ حجّ للعالم كله. فما زال الملايين يقصدونه من كل دين وطبقة، ويجثون راكعين أمامه، ملتمسين منه نوراً وقوة وسنداً وسلاماً.
إن هذا القبر قد جعل من أسيزي أورشليم الغرب.
خاتمة
إن فقير أسيزي قد أنشد أصفى أفراح الأرض، ورفع شأن ما بها من آلام وتضحية وموت.
إنه قد بكى طغيان البشر وظلمهم، وعلَّمنا أن يحب بعضنا بعضاً، حب إخوة في المسيح.
زهد في نفسه زهد الأبطال، وقدّم ذاته وأعماله قرباناً على مذبح الرب.
أشاد بالصليب راية، وبالانجيل ناموساً، وبالمحبة أختاً.
ومن بين المدائح التي خصَّه الناس بها، مديح الكنيسة هذا:
"إن فرنسيس، الذي كان فقيراً وضيعاً حباً للمسيح، قد أصبح أهلاً لدخول السماء بين أناشيد الملائكة".
Comment