باسم الثالوث القدوس
أود في بداية دراستنا هنا الالتزام بروح الإيمان المسيحي «وخاصة من خلال الكرازة المرقسية في مصر = الكنيسة القبطية الأرثوذكسية وما يساوي هذا الإيمان القبطي من الكنائس الأخري » التي تتطلع إلي الكتاب المقدس لا ككتاب علمي أو فلسفي وإنما كسرّ حياة مع الله يتمتع بها الإنسان ويعيشها،إن كان هذا السفر يقدم لنا فصلًا مختصرًا للغاية عن عمل الله في بدء الخليقة، وتحدث عن الأباء في شئ من الإجمال فإن الله الذي كان يعمل ليقدم لنا العالم لخدمتنا يبقي عاملًا خلاقًا في حياتنا بلا انقطاع. ما سبق ففعله لا يتوقف، إذ يبقي الله نفسه يعمل في حياة الإنسان ليجعل من أعماقه سماءً جديدة وأرضًا جديدة يسكنها البر. وفي هذا يقول السيد المسيح: "أبي يعمل حتى الآن وأنا أعمل" (يو ٥: ١٧). لهذا ففي تفسيرنا هذا نود أن نتلمس عمل الله المستمر في حياتنا الداخلية ليخلق فينا بلا انقطاع مجددًا أعماقنا. وإنني أرجو في المسيح يسوع ربنا أن أقدم التفسير الروحي جنبًا إلي جنب مع التفسير التاريخي أو الحرفي. ولهذا ما سوف نكتبه سوف يكون لمجد اسم الله المبارك ولرفع اسمه بين العالم المسيحي ولكي نفسر كلمته من خلال أباءنا وعلماءنا الذين تعبوا من أجل كلمة الله القدوس فله المجد من خلال أفواه مُحبي اسمه الآن وكل آوان وإلي الأبد أمين.(#)
* الجزء الأول : مواليد الخلق من تك 1 إلي تك 4:
1/ تك 1:1-2 مقدمة مُـختصرة شاملة لكل عمل الخليقة الإسبوعي :
١ فِي الْبَدْءِ خَلَقَ اللهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ. ٢ وَكَانَتِ الأَرْضُ خَرِبَةً وَخَالِيَةً، وَعَلَى وَجْهِ الْغَمْرِ ظُلْمَةٌ، وَرُوحُ اللهِ يَرِفُّ عَلَى وَجْهِ الْمِيَاهِ. (التكوين ١: ١، ٢)
” في البدء تكلم الله بواسطة الأنبياء ثم بذاته تكلم عندما أتي متجسداً؛ وأخيراً بواسطة الرسل عندما حملوا كلامهُ إلي كل البشر بعد صعودهُ إلي السماء؛ وعلى قدر ما ارآه كافياً أقام الله الكتاب المقدس بشكل قانوني وقلدهُ الله سلطة عالية فآمنا بكل ما لا يجوز أن نجهله ونعجز عن فهمه بأنفسنا؛ لأننا إن كنا قادرين على فهم ما وصل إلينا بواسطة حواسنا الداخلية والخارجية، استناداً إلى شهادتنا ؛ فمن الثابت أن شهادتنا لا تستطيع أن تعرفنا بما هو بعيد عن حواسنا؛ لهذا يجب أن نستعين بشهود آخرين وأن نصدق أقوال الذين يعتمدون على تأثيرات حواسهم المباشرة. وبالتالي، كما أننا نصدق،بالنسبة إلى ما لم نر من الأشياء المنظورة، شهادة من يعتمدون على حواسهم، هكذا هي الحال بالنسبة إلى الأشياء المتعلقة بكل حاسة من حواس الجسد؛ وهذه هي الحال لكل ما يقع تحت حس العقل والفكر. أما الحقائق اللامرئية البعيدة عن حسنا الداخلي فيجب علينا أن نقبلها لدى جميع الذين رأوها أو تأملوها، ثابتة ومنظمة، في ذلك النور غير المادي بمعني عن طريق الوحي الإلهي . فالوحي الإلهي ينبئ بقدرة الله على خلق أعظم الكائنات المنظورة، وهو الكون؛ وأعظم الكائنات غير المنظورة، الله. فنرى الكون فنؤمن بالله . وعلي هذا الأساس فالله خالقاً للكون فما من سلطة تضمن لنا الإيمان سوى سلطة الله .“1
” لأن الإسلوب الذي يفتتح به الروح القدس هذا السفر البديع أسلوب فريد حقًا لأنه يقودنا مباشرة إلى الله بملء وجوده وتفرد صفاته وكمالاته: فأسلوبه يوقفنا أمام الله جلّ شأنه. وكأننا نسمعه يقاطع سكون الأزل باعثًا نوره في عملية إنشاء عالم يتجلى فيه بلاهوته وقوّته السرمدية. وهنا مجال لإشباع الدهشة العقيمة. ولا ميدان تركض فيه مُخيّلة الفكر الإنساني الضعيف، بل هو الحق الإلهي الصريح السامي بكل قوّته الأدبية التي تفعل في القلب وتؤثر على المدارك والوجدان. ذلك لأن روح الله لا يُغذي الدهشة البشرية العقيمة بعرض المستغربات في شكل نظريات كما يفعل العلماء الذين يفحصون طبقات الأرض ويحاولون أن يستنتجوا من أبحاثهم معلومات يظنون أنهم يكملون بها التاريخ الإلهي الموحي به أو يناقضونه أحيانًا، أو يدرسون الحفريات ليصوغوا منها ما شاءوا من نظريات.أما إنسان الله فيتمسك بأهداب الوحي ويبتهج به.“ 2
فيبدأ الوحي بكلام الله ” وما مِنْ كلام له أكثر وضوحاً مما جاء على لسانه في الكتاب المقدس، حيث يقول نبيه : «١ فِي الْبَدْءِ خَلَقَ اللهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ. ٢ وَكَانَتِ الأَرْضُ خَرِبَةً وَخَالِيَةً، وَعَلَى وَجْهِ الْغَمْرِ ظُلْمَةٌ، وَرُوحُ اللهِ يَرِفُّ عَلَى وَجْهِ الْمِيَاهِ. (تك1:1-2) » وماذا يعني هذا القول؟ هل كان النبي حاضرا عندما خلق الله السماوات والأرض؟ كلا؛ لكن حكمة الله التي خلق بها كل شيء تنازلت إلى النفوس القديسة، وجعلتها صديقة الله والأنبياء وأخبرتها، في الصميم، عن أعماله، بهدوء، كما سمعت كلمة الـمـلائـكـة الـذيـن يـشـاهـدون دوما وجه الآب (متی ۱۰ / ۱۸ ) ويبشرون بمشيئته حيثما يجب وكل ما يلزم. ومنهم هذا النبي الذي كتب وقال: «في البدء خلق الله السماوات والأرض» إنه لشاهد محترم وصادق، يجب علينا أن نؤمن بكلامه، كما بالله ، إذ إن روح الله يوحي إليه بتلك الحقائق، ويطلب إليه أن ينبئ بإيماننا ، عدة أجيال، قبل أن نكون . “1
” وليس الأسلوب وحده هو الذي يقودنا إلى الخشوع والسجود بل الحق كذلك، الحق الذي يفتتح به الكتاب المقدس كله: وهو حق لم يكن في مقدور أحد من البشر، ولن يكون، أن يكتشف بدون ”الله“ الخالق العظيم والمُعلن الوحيد بروحه القدوس. لانه ولو أن انساناً هو مصدر ”الوحي“، لو أن إنسانًا هو صاحب ”الأقوال“ يصوغها أو ينتقيها ”بحكمته الإنسانية“، إذن لوجدنا أنفسنا أمام أبواق مدوّية، ومصطلحات معقدة ليحدثنا من خلالها عمن هو ”الله“، وعما صنعه، في محاولة عقيمة ليتخيّل من مستودع ”ذهنه المرفوض“ صورة ”الله“ ”غير المنظور“ لكي يبرر بها ما هو عتيد أن يعرضه من ”عظائم الله“ في الخلق، فيما ”عمل“ ”وصنع“ ”وجَبَل“ فأتقن.لكن طوبى لنا فإن المتكلم ”من السماء“. وأسلوب السماء هو الأرفع قدرًا، هو الأقدس غاية، وهو الأوّفق سبيلاً.
بدأ الكلام في الكتاب المقدس كان ذِكر الكلام الحسن وهو عن الله الخالق فالله تبارك أسمه يُعلن علي لسان نبيه موسي بأنه خالق السماوات والأرض بكل ما فيها وما عليها و هو هنا يُعلن بأنه ليس هناك ألهةً في الأصل بل إله واحد خالق لكل السماء و كل المجرات وليس هنا أو هناك شئ مخلوق إلاَّ بأمرهُ فقط .
و الكتاب المقدس كله من خلال الكُتب الموحي بها من الروح القدس والتي عددها 73 كتاباً و الإصحاح الأول من سفر التكوين خاصةً يعلن بأن الله تبارك أسمه موجود بذاته ومُتكلم من خلال كلمتهُ وحي من خلال روحهُ الأزلي فهذا موجود من أول الكتاب وإلي آخر جزء منه وهو كتاب رؤيا يوحنا و الحق الذي يفتتح به الكتاب المقدس كله: وهو حق لم يكن في مقدور أحد من البشر، ولن يكون، أن يكتشف بدون ”الله“ الخالق العظيم والمُعلن الوحيد بروحه القدوس من خلال أنبياءه وعندما أتي كلمة الله الأزلي أعلن لنا هذه العقيدة بكل وضوح وشرحها أباء الكنيسة في كتبهم بأكثر توضيحاً
ففي العهد القديم يختلف أسلوب أعلان الوحي لهذه العقيدة عن الأعلان الواضح في العهد الجديد «لماذا»؟
فنجد في سفر التكوين من بدايته يُعلن هذه العقيدة الإلهية عن الله ففي عبارة موجزة من كلمات سبع ”وفق النص العبري“ يعطينا الروح القدس الإعلان لحقائق خطيرة. يعلنها ـ أول ما يعلنها ـ لشعب كان قد عرف آباؤه ”الله“ قبل صدور هذا الإعلان المكتوب، عرفوه بتناقل من الآباء للابناء: عرفوه كمن هو تعالى إله آبائهم ـ إله إبراهيم وإله اسحق وإله يعقوب ـ عرفوه تعالى باسمه ”أهيه“ وذلك قبل أن ”كتب موسى“ ـ عرفوه ”كايلوهيم“ كما يقول أبوهم إبراهيم «لما أتاهني ”إيلوهيم“ من بيت إبي» (تكوين 13:20). ولاشك أنهم عرفوه ”كالقدير“ طبقًا لإعلانه تعالى لإبراهيم ويعقوب (تكوين 1:17، 11:35،خروج 3:6).إذن فما الجديد الذي يحويه هذا الإعلان «في البدء خلق الله السماوات والأرض؟» الجديد أن يعرفوا أن ”إيلوهيم“ ”القدير“ إله آبائهم هو ”الخالق“ وتلك حقيقة رأي الله لزومًا أن يعلنها لشعبه، وأن يعلنها بقلم موسى الذي تهذب بكل حكمة المصريين، الذين كانت لهم آلهة كثيرة هي التي وقعت عليها أحكام الرب (خروج 12:12، عدد 4:33)
ففي الأزل وقبل بدء الخلق كان ” إيلوهيم“ وهنا الحقيقة التي تستحق منا كل سجود وخشوع ـ فقد وقفنا علي حقيقة الخلق، ثم وقفنا علي ”بدء“ الكون مخلوقًا وها نحن نقف أمام الحقيقة الإلهية ”إيلوهيم“ ـ وما أعجب كلمة إلهنا! وما أسعدنا إذ وضع الله بين أيدينا ما يؤهلنا أن نكون «مستعدين لمجاوبة كل من يسألنا» عن حقيقة الثالوث الأقدس! فهي من الأوليات التي سجلها الروح القدس: ”إيلوهيم“ لفظ جمع، مفردة في العبرية ”إيلوه“ وقد جاءت صيغة المفرد 57 مرة، وهي صيغة توحي بفكرة القوة كما نقرأ مثلاً في (تثنية 32) «فرفض ”أي الشعب“ أيلوه الذي عمله … ذبحوا لأوثان ليست أيلوه» (أعمال 15ـ17) وكما نقرأ أيضًا في (نحميا 16:9ـ19) «وأنت أيلوه غفور … وقالوا هذا أيلوهيم الذي أخرجك من مصر». وقد جاءت صيغة الجمع 2700 مرة ـ نعم فالإله الذي نعبده له (1) قوة خارقة، ثم (2) غدرة غالبة، ثم (3) ذات تتبايّن مع كل ما يُدعى إلهًا.وفي نور العهد الجديد نعرف أن ”ايلوهيم“ هم أقانيم اللاهوت الثلاثة: الآب والإبن والروح القدس. نعم فالآب خالق، والإبن خالق، والروح القدس خالق ـ للآب دور في الخليقة «منه جميع الأشياء» وللإبن دوره «به جميع الأشياء» (كورنثوس الأولى 6:8) ـ «به عمل العالمين» «الكل به وله قد خُلق»، وللروح القدس دوره «بنفخته السماوات مسفرة» أو «بروحه زيَّن السماوات» (أيوب 13:26). إذن ”ففي البدء خلق ايلوهيم السماوات والأرض“ أي أنه تعالى خلق السماوات بشموسها وأقمارها ونجومها بكل تلك الأجرام التي لا حصر ولا استقصاء لها ولأبعادها ولأحجامها. كما خلق الأرض بحسب فكره الإلهي سوية لا ينقصها شيء، لم يخلقها باطلاً ”خربة“ للسكن صورها (إشعياء 18:45).تلك ـ إذن ـ هي صورة الكون صادرة من قدرة الله، كاملة متقنة ـ ترنمت لمرآها كواكب الصبح معًا وهتف بني الله، ونقرؤها نحن المؤمنين في أول أسفار الكتاب فنهتف مع المرنم «مَا أَعْظَمَ أَعْمَالَكَ يَا رَبُّ! كُلَّهَا بِحِكْمَةٍ صَنَعْتَ. مَلآنةٌ الأَرْضُ مِنْ غِنَاكَ. (المزامير ١٠٤: ٢٤)»2
ونجد هذا التأثير الإلهي النبوي في المُفسرين مثلاً نجد المفسر ديڤيد أتكنسون يقول عن هذا الجمال العجيب في النفس: « يشكل الأصحاح الاستهلالي لكتابنا المقدس قصيدة من الجمال والجلال، تعد بحق ترنيمة تسبيح وتمجيد لعظمة وجلال الله الخالق، ولا يعني قولنا هذا أنها كتبت بالضرورة كترنيمة عبـادة، بل بالأحرى أن عددا لا يحصى من المؤمنين ـ على مر الأجيال ـ وجدوا أن هذا الأصحاح يحفز على التسبيح. ومـن خـلال تناغمـات تراكيبـه الرائعة، نجـد قـلـوبنـا، وقـد تـألفت وارتفعت أذهاننـا لتتأمل في الله، باعتباره مصدر الوجـود وحافظه. فهذا الأصحـاح يدعونـا إلى أن ننحني بإتضاع، خضوعا أمام كلمته الخالقة. ثم أنه يعرفنـا موقعنا في المشهد الشامل لمقاصد الله، مع موسيقى السماء، بالنسبة لخليقته كلها.
فبهذه السمفونية يفتتح الوحي كلماته وإعلانه للإنسان بآية ليس لها مثيل في بساطتها وشمولها وعمق معناها: فقال الوحي الإلهي: «في البدء خلق الله السماوات والأرض » فإن كان يجب علينا أن نقول شيئاً عن هذه الأسرار العميقة، إلا أننا لا نتجـرأ أن نحسـم فيهـا بجسارة. لأن الحسم في هذه الأمور بدون تحفظ يستلزم إما فقـدان الحس، أو أن يكـون المـرء من أولئك المختارين الذين يستطيعون أن يتلقنوا المعرفة من الرب يسوع نفسـه (مثـل بـولس الرسول)، أو بالحري من أولئك الذين دخلوا وسط السحاب حيث يسكن الله، وهناك تقبلـوا من السماء الكلمات الإلهية (مثل موسى النبي). فإذا كان موسى نفسه قد استطاع بالكـاد أن يخترق هذه الأعماق ويتفحصها ويعبر عنها! إلاَّ أنه من جهتنا نحن، فإنه على قدر القليل الذي لنا نؤمن بالرب يسوع المسيح، ونفتخر بأنـنا مـن تلاميذه، ولكننـا لا نتجاسر أن نقـول إننـا تقبلنا منه إدراك الكتب المقدسة وجهاً لوجه (مثل موسى)، ولا نجرأ أن نتكلم بسلطان مثـل الرسل. ولكن، بينما آخرون يؤكدون بتعال وبدون سند اختلاقات عقولهم فإنـنا مـن جهتنـا نعترف بقصورنا عن معرفة ما يفوق إدراكنا. فإننا بالحقيقة مقبلون على دراسة أسرار عميقة تفوق إدراكنا، لذلك يلزم لنا أن نقترب إليها بكل خشوع ورهبة مستعينين بنعمـة الله لإنارة بصيرتنا، قائلين مع المرتـل: «اكشـف عـن عـيـني فـأرى عجائب من شريعتك.» (مز ۱۱۹: ۱۸) فمن هذه الأسرار التي أعلنها لنا الله عن نفسه هو ما أعلنه كلمته في تجسدهُ من وحدة الجوهر الإلهي وتعدد أقانيمه وأن هذا العالم مخلوق بيدهُ وإن كان العالم المرئي مدروس من خلال المتخصصين كالفيزياء بإن الكتاب يعلن بأن هناك عالم روحي غير مادي حيث الله وملائكته وأرواح البشر المُنتقلة إلي السماء
(#) أسف إذا كنت لم أذكر كل المراجع أو الكتب التي سوف أقتبس منها للتفسير لكني لم أشر إلي أنها بأسمي فكل ما سوف أفعلهُ هو النقل والترتيب والرد علي ما هو مخالف فيها من خلال ما أراه ضد الإيمان المسيحي مع التدليل علي ما أقول من خلال أباءنا الكنسيين و علماءنا الذين تعبوا من أجل الحفاظ علي هذا الإيمان .. إذاً فكل ما سوف أفعله في هذا التفسير البسيط هو الترتيب والنقل والرد
Comment