بقلم آرا أشجيان*، العراق
من تلاميذ المسيح الإثني عشر وصل إلى أرمينيا القديسان الرسولان تداوس وبرثلماوس حسب تقليد الكنيسة الأرمنية التي تؤيدها تقاليد كنائس أخرى والمصادر التاريخية الموثوقة، وكرزا بالإنجيل بين شعب أرمينيا حسب وصيًة المعلم السماوي (مت 28/18-19). وقد استمرت بشارة القديس تداوس ثماني سنوات (37-45م) والقديس برثلماوس 16 سنة (44-60م). وقد بشًرا بالدين الجديد أيضاً بين أبناء جلدتهم من اليهود الذين كانت لهم جاليات في مدن عديدة من أرمينيا، حيث جُلب الآلاف منهم كأسرى أو صنًاع أو حرفيين، بعد أن وصل ملك أرمينيا ديكران الثاني، الملقب بالعظيم (95-55 ق.م) بفتوحاته إلى فلسطين.
إن انتشار المسيحية في أرمينيا ووجود كنيسة منظًمة لها أساقفتها وخدًامها منذ القرن الأول الميلادي تدعمها براهين عديدة، منها وجود مخطوطات بأسماء أساقفة أرمن في منطقة (آرداز) الذي سمًي كرسيها (كرسي القديس تداوس)، وفي منطقة (سونيك) خلال القرون الثلاثة الأولى، فضلاً عن وجود شهداء مسيحيين أرمن من القرن الأول ما تزال الكنيسة الأرمنية تحتفل بذكرى استشهادهم مثل القديسة سانتوخد ابنة الملك (سانادروك)، والألف شهيد الذين استشهدوا مع القديس الرسول برثلماوس، واضعين بدمائهم الطاهرة أساس الكنيسة الأرمنية الرسولية المقدسة.
لقد كرًست الكنيسة الأرمنية القديسين تداوس وبرثلماوس باسم (المنوران الأولان). وتحول ضريح كل من القديس تداوس في آرداز (ماكَو) والقديس برثلماوس في آغباك (فاسبوراكان) إلى مزار يقصده المؤمنون للحج من كل حدب وصوب.
ويرتبط أيضاً، مع بداية تاريخ الكنيسة الأرمنية، ما جلبه القديسان معهما إلى أرمينيا من مقدسات. فقد جلب القديس تداوس إلى أرمينيا، حسب التقليد المقدس، الحربة المقدسة التي طعن بها الجندي الروماني جنب المسيح عندما كان على الصليب، للتأكد من موته (يوحنا 19/31-37)، والمنديل المقدًس الذي عليه طبعت صورة وجه المسيح عن طريق اورفة (الرها). أما القديس برثلماوس، فقد جلب، حسب تقليد الكنيسة الأرمنية أيضاً، صورة العذراء القديسة والدة الرب مرسومة على الخشب. وهذه المقدسات تُقبل بالخشوع والاحترام من قبل الشعب الأرمني.
لقد كرز بالإنجيل، وأكمل عمل الرسولين تداوس وبرثلماوس تلامذتهما والأساقفة، وانتشرت المسيحية في أرمينيا –بشكل سرّي- خلال القرون الثلاثة الأولى، ولم تُجد نفعاً كل أنواع الاضطهادات للحد من انتشارها، بل على العكس من ذلك، كانت تلك الاضطهادات دافعاً لانتشار المسيحية في كل مدن ومقاطعات أرمينيا.
ويذكر المؤرخ الكنسي اوسابيوس القيصري اسم الأسقف الأرمني ميهروجان، الذي كان من الوجوه البارزة والمعروفة في الإسكندرية في النصف الثاني من القرن الثالث الميلادي، وقد بعث أسقف الإسكندرية ديونيسيوس عام 254 م برسالة إلى الأسقف ميهروجان، تتناول موضوع التوبة.
ومن جهة أخرى، كان لتثبيت حكم الأسرة الساسانية في بلاد فارس عام 226م، على أنقاض حكم البرتويين فيها، أثره الكبير في أرمينيا، إذ بدأت العداوة والحروب فيها حيث ظلً يحكم ملوك برتويون، مما أثر في مجريات الأحداث اللاحقة، لا سيًما في اعتناق أرمينيا الديانة المسيحية بشكل رسمي عام 301م.
إن وجود المسيحية في أرمينيا خلال القرون الميلادية الثلاثة الأولى كان الأساس لحركة أقوى تمثًلت في اعتناق الدولة الأرمنية الديانة المسيحية واعتبارها دين الدولة والشعب علي يد كريكور المنوًر والملك درتاد الثالث عام 301م.
تعطي المصادر الأرمنية معلومات وافية عن كيفية اغتيال ملك أرمينيا خوسروف الثاني والد الملك درتاد الثالث من قبل الأمير آناك والد القديس كريكور المنوًر والمرسل (أي الأمير آناك) من قبل البلاط الفارسي إلى أرمينيا لغرض الاغتيال، بعد أن أقنع الملك أنه فرً إلى أرمينيا من ملاحقة الحكم الساساني. وتتوالى الأحداث، ويتخلًص كل من درتاد (نجل الملك القتيل) وكريكور (نجل القاتل) من الموت الذي أصاب عائلتيهما. وقد تربى درتاد، نجل الملك في روما، ملكاً لأرمينيا في المستقبل، في حين تربى كريكور في قيصرية كبدوكية واعتنق الدين المسيحي، ثم عاد إلى أرمينيا، وعمل في خدمة الملك درتاد الثالث بعد أن تولى الحكم على عرش أبيه بمعاونة روما. واحتفاءً بهذه المناسبة، أمر درتاد بتقديم القرابين إلى الإلهة آناهيد، بيد أن كريكور رفض الامتثال لأمر الملك الذي علم من ذلك أنه مسيحي، فأمر باعتقاله وتعذيبه بقسوة، إلا أنه فشل في أن يقهر إرادة كريكور الذي رفض أن ينكر إيمانه المسيحي، وبعد أن علم أن كريكور هو نجل قاتل أبيه، أمر بإلقائه في حفرة عميقة، في الزنزانة المسماة (خور فيراب) في مدينة أرداشاد العاصمة القديمة لأرمينيا.
في تلك الفترة، فرًت من اضطهاد الإمبراطور الروماني دقلديانوس، والتجأت إلى أرمينيا، مجموعة من العذارى المسيحيات برئاسة القديسة كَايانيه. وكانت هذه المجموعة تضم سليلة العائلة النبيلة الحسناء هريبسيميه. وقد بُهر الملك درتاد الوثني بجمالها وأراد أن يتخذها زوجة له. إلا أن القديسة هريبسيميه رفضت عرض الملك، مما أثار غضبه، فأصدر أمره باستشهادها. كما استشهدت القديسة كَايانيه وبقية العذارى القديسات اللواتي تحيي الكنيسة الأرمنية ذكراهن كل عام بكل إجلال وتقدير.
بعد استشهاد القديسات، أُصيب الملك درتاد الثالث بمرض عصبي شديد لم يستطع أحد معالجته، فظهر الملاك للأميرة (خوسروفيدوخت) شقيقة الملك في حلمها، موحيا بأن الوحيد الذي يستطيع معالجة الملك هو كريكور الملقى في الزنزانة. فأمرت الأميرة بإخراجه منها بعد أن بقي على قيد الحياة فيها مدة 13 عاماً بفضل المعونة الإلهية ورعاية أرملة تقيّة. وقام كريكور على الفور بجمع عظام القديسات الشهيدات وشفى الملك من مرضه، فاعتنق المسيحية. وبذلك أصبحت الديانة المسيحية دين الدولة عام 301م. وبهذه الخطوة تكون أرمينيا أول دولة اعتنقت المسيحية في العالم، وهي سبقت بذلك إصدار مرسوم ميلانو عام 313م الذي أعطى حرية العبادة للمسيحية إلى جانب الديانات الأخرى في الإمبراطورية الرومانية، ولم تُعلن المسيحية ديناً رسمياً فيها، إلا في العام 380 في عهد الإمبراطور ثيودوسيوس الأول.
ثم قام القديس كريكور ببناء ثلاث كنائس على أضرحة القدّيسات الشهيدات، وتدمير المعابد الوثنية بأمر الملك. ثم سافر إلى قيصرية كبدوكية، حيث تمّت رسامته أسقفا لأرمينيا، عاد بعدها إلى وطنه بمرافقة أسقف من قيصرية لإجراء مراسيم تنصيبه، وإكمال أعماله التبشيرية فيها، حيث قام بتعميذ الملك وأفراد أسرته وحاشية البلاط والمؤمنين.
وفي فاغارشاباد، عاصمة أرمينيا آنذاك، شرع كريكور المنوَّر في بناء أول كاتدرائية مسيحية في العالم هي كاتدرائية (اجميادزين) في الموضع الذي ظهر فيه ابن الله يسوع المسيح في رؤية لكريكور، وبيده مطرقة نارية، مشيراً إلى الموضع الذي سيبني فيه كنيسته. لذلك سُمِّيت هذه الكاتدرائية (اجميادزين) التي تعني في اللغة الأرمنية (موضع نزول الابن الوحيد). وهكذا أصبحت (اجميادزين) مقراً للكنيسة الأرمنية، وأصبح القديس كريكور الكاثوليكوس (الجاثليق) الأول لأرمينيا على كرسي القديس تداوس.
ونظراً للدور الأساس الذي قام به كريكور في تنوير الأرمن بنور الإيمان المسيحي، منحته الكنيسة الأرمنية لقب (لوسافوريج) أي المنوِّر، خلف القديس كريكور، في إدارة شؤون الكنيسة، نجله القديس اريستاكيس الذي مثَّل الكنيسة الأرمنية في مجمع نيقية المسكوني عام 325.
من أشهر آباء الكنيسة الأرمنية في القرن الرابع: الكاثوليكوس القديس نرسيس الكبير (353-373) الذي عقد في عام 354، أي بعد سنة من تولّيه رئاسة الكنيسة الأرمنية، اجتماعها الأول في مدينة (آشديشاد) والذي بُحثت فيه أمور بناء دور لرعاية الفقراء والأيتام والمسنين والمستشفيات ودور الضيافة والمؤسسات الخيرية الأخرى، كما أصدر الاجتماع قراراً يقضي بمنع زواج الأقرباء، وأوصى بالابتعاد عن السُكر والزنا والقتل، والتعامل مع الخدم برفق وعدم إثقال كاهل الشعب بالضرائب. وقرّر أيضاً بناء الأديار والمدارس. وسنَّ قوانين لتنظيم الزواج على وفق المفهوم المسيحي، فضلاً عن منع العادات الوثنية السائدة آنذاك، لا سيّما مراسيم دفن الموتى. وقد تمكن الكاثوليكوس نرسيس من تنفيذ مقررات اجتماع (آشديشاد) بنجاح كبير، استحق على إثرها لقب (الكبير).
في عام 387 قُسمت أرمينيا، لأول مرة، بين الرومان والفرس الذين سيطروا على نحو أربعة أخماس مساحتها، واسقطوا فيها المملكة الأرمنية عام 428، في حين حوَّل الرومان الجزء الغربي من أرمينيا، التابع لهم، إلى ولاية رومانية عام 391 بعد وفاة آخر الملوك فيها. وأدى هذا التقسيم إلى الإضرار بأرمينيا، وبوحدة واستقلال الأرمن.
برغم إعلان المسيحية ديناً رسمياً في أرمينيا عام 301، فإن طقوس وتراتيل الكنيسة الأرمنية لم تكن تكتب باللغة الأم بسبب عدم وجود الأبجدية والكتابة الخاصة. فقد بقي الإيمان المسيحي ومضمون الكتاب المقدس بعيداً وغريباً عن شرائح واسعة من الشعب الأرمني، لأنه، وبسبب عدم وجود الأبجدية الأرمنية، كان الكتاب المقدس يُقرأ باللغتين السريانية واليونانية. لذلك ارتأى آباء الكنيسة الأرمنية أن يتم وضع أبجدية خاصة ليتسنى ترجمة الكتاب المقدس إلى اللغة الأرمنية، والحفاظ على الهوية الأرمنية، لا سيّما بعد تقسيم أرمينيا في عام 387 في ظل محاولات الفرس والرومان الرامية إلى صهر هذه الهويّة.
في تلك الأيام، اجتمع الثلاثي فرامشابوه والكاثوليكوس ساهاك بارتيف والراهب المبدع ميسروب ماشدوتس، وتكللت جهودهم بنجاح الأخير في اختراع الأبجدية الأرمنية في عام 406، تلاه امتلاك الأدب الخاص الذي بدأ بترجمة الكتاب المقدس إلى الأرمنية على يد الكاثوليكوس ساهاك وماشدوتس وتلامذتهما. كما تمّت ترجمة العديد من المؤلفات في المجالات كافة من السريانية واليونانية إلى الأرمنية، حتى أن بعض أصولها قد فُقد ولم تصلنا غير ترجماتها الأرمنية، ومنها، على سبيل المثال، كتاب "إيضاح الكرازة الرسولية" للقديس إيريناوس (نحو 130-202) والذي كان أسقف (ليون) في فرنسا ومن أشهر آباء ولاهوتيي الكنيسة.
وتجدر الإشارة إلى أن النسخة الأرمنية المترجمة للكتاب المقدس عُرفت من قبل كتّاب أجانب بتسمية (ملكة الترجمات) لجمالها اللغوي ودقّتها في ترجمة التعابير وإعطاء المعاني الأصلية لها.
في عام 451، خاض الأرمن، بقيادة قائد الجيش القديس فارتان ماميكونيان، معركة (آفاراير) ضد الفرس الذين حاولوا مراراً القضاء على الاستقلال الداخلي للأرمن، وتحويلهم عن المسيحية وفرض الوثنية عليهم، وصهر القومية والثقافة الأرمنيتين اللتين برزتا إلى الوجود باختراع الأبجدية الأرمنية. واستمرت مقاومة الأرمن حتى اضطر ملك الفرس عام 484 إلى الإعلان عن حرية الدين المسيحي في أرمينيا.
وإبّان الفترة التي كانت فيها أرمينيا منشغلة بصراعها المرير مع الفرس، عقد رؤساء وأساقفة الكنائس اجتماع خلقدونية عام 451، ولم تتمكن الكنيسة الأرمنية من المشاركة في هذا الاجتماع، بسبب انشغال أرمينيا، كما أسلفنا، بالصراع مع الفرس. بيد أن الكنيسة الأرمنية رفضت مقررات هذا الاجتماع عند الاطلاع عليها لاحقاً. وكان أول رفض رسمي لها في اجتماع دفين الأول الذي عقدته في عام 506، وجرى التأكيد على هذا الرفض مرة أخرى عام 554 في اجتماع دفين الثاني، بسبب عدم توافقها، حسب قناعة الكنيسة الأرمنية، مع نص ومضمون مقررات المجامع المسكونية الثلاثة الأولى.
وتقبل الكنيسة الأرمنية بطبيعة واحدة في المسيح، على وفق الصيغة التي نادى بها كيرلس الإسكندري في مجمع افسس المسكوني عام 431: "طبيعة واحدة للكلمة المتجسدة" على أساس ما جاء في مقدمة الإنجيل بحسب يوحنا البشير. وتدين الكنيسة الأرمنية ما جاء به اوطيخا بوجود طبيعة واحدة فقط في المسيح هي الإلهية، وهو الشيء الذي أدين أيضاً في اجتماع خلقدونية، إلا أن الكنيسة الأرمنية لا تقبل بمبدأ الطبيعتين الذي اُقِرَّ في هذا الاجتماع.
وبذلك تقبل الكنيسة الأرمنية، مع الكنائس السريانية والحبشية والقبطية الأرثوذكسية وكنيسة الملبار في الهند، مقررات المجامع المسكونية الثلاثة الأولى فقط، وهي: مجمع نيقية عام 325، ومجمع القسطنطينية عام 381، ومجمع افسس عام 431.
انتقل مقر الكنيسة الأرمنية من أجميادزين إلى (دفين) المركز السياسي والعسكري لأرمينيا في عام 485، وظل هناك لمدة أربعة قرون. وأخذ مقر الكنيسة ينتقل من موقع لآخر بسبب عدم استقرار الوضع السياسي لأرمينيا.
وفي عام 1293 استقر مقر الكنيسة في مدينة (سيس) عاصمة مملكة كيليكيا الأرمنية، وظل فيها قرابة 65 عاماً بعد سقوط المملكة في عام 1375، والذي أثّر بشكل كبير في وضع الكنيسة الأرمنية، كذلك هجرة عشرات الألوف من الأرمن من كيليكيا منذ بداية القرن الخامس عشر، وضغوط ومحاولات الكنائس الأخرى المستمرة لفرض آرائها وتعاليمها على الكنيسة الأرمنية في كيليكيا. كل هذه الظروف دفعت رجال الدين الأرمن إلى التفكير جدّياً في ترك مدينة (سيس) والرجوع بمقر الكنيسة الأرمنية إلى اجميادزين المقدسة. ولكن الكاثوليكوس كريكور التاسع موسابيكيان، وبسبب كبر سنه، كان غير قادر على الانتقال إلى أجميادزين، فقدَّم استقالته.
واستناداً إلى هذه الظروف، انعقد مجمع كنسي أرمني في أجميادزين في عام 1441 ضمَّ اكثر من 300 أسقف وراهب وكاهن، إضافة إلى العلمانيين. وبعد مناقشات، تم انتخاب كيراكوس الأول فيرابيتسي كاثوليكوساً جديداً للأرمن في أجميادزين. وبذلك رجع مقر الكنيسة الأرمنية إلى موقعه الأصلي في أجميادزين المقدسة.
في عام 1915، وفي ظل المجازر التي تعرّض لها الأرمن من مواطني الدولة العثمانية، والتي راح ضحيتها مليون ونصف المليون أرمني وعشرات الآلاف من أبناء الطوائف الأخرى، استشهد نحو 4000 رجل دين يمثِّلون اكثر من 90% من رجال الكنيسة الأرمنية وأساقفتها المثقفين، وأحرقت ودُمرت 3000 كنيسة ودير.
وقُتل خلال تلك المذابح أيضاً الآثوريون والكلدان والسريان وأُحرقت ودُنست كنائسهم.
لقد عرف الشعب الأرمني دائما كيف يتوّج حياة الآلام والصليب التي عايشها بإيمان القيامة والانبعاث. فقد قام على غرار قيامة المسيح بإرادة صلبة، وحوَّل ساحات الموت إلى ساحات خضراء للحياة الدائمة "... فدخل فيهم الروح فَحَيُوا وقاموا على أرجلهم جيشاً عظيماً جدّا جدّا" (حز 37/10).
أصبحت أرمينيا جمهورية سوفييتية في 2 كانون الأول 1920. وقد تعرّض رجال الدين الأرمن إلى الاضطهاد والتعذيب عندما قام الحكم السوفييتي، لا سيّما في الفترة 1932-1945، بغلق الأديار والكنائس وتحويلها إلى متاحف، وإلقاء القبض على رجال الدين ونفيهم وقتلهم، إذ تم قتل 183 رجل دين أرمني خلال الفترة 1930-1938. إلا أنه، وبمرور الزمن، خفّت هذه الموجة وأصبحت الكنيسة الأرمنية تعيش في ظروف مستقرّة، وتتمتع ببعض الحرّيات المحدودة.
هيكلية الكنيسة الأرمنية الأرثوذكسية
لهذه الكنيسة 44 أبرشية موزّعة في أنحاء العالم كافة، وترتبط بكاثوليكوسيتين وبطريركيتين:
1. كاثوليكوسية عموم الأرمن في أجميادزين: ويرأسها قداسة كاريكين الثاني نرسيسيان كاثوليكوس عموم الأرمن، وهو الكاثوليكوس الـ (132) للكنيسة الأرمنية على هذا الكرسي.
2. كاثوليكوسية دار كيليكيا الكبير في أنطلياس بلبنان: ويرأسها قداسة آرام الأول كشيشيان.
3. بطريركية القدس: ويرأسها حالياً رئيس الأساقفة توركوم مانوكيان، وتتبع كنسياً كرسي أجميادزين.
4. بطريركية القسطنطينية: ويرأسها حالياً رئيس الأساقفة ميسروب موتافيان، وتتبع كنسياً كرسي أجميادزين.
في عام 1742 أُعيد تجديد البطريركية الأرمنية الكاثوليكية. ولم يستطع البطريرك المنتخب أبراهام اردزيفيان العودة إلى كيليكيا بسبب عدم اعتراف الحكومة العثمانية به، فلجأ إلى دير (الكريم) للأنطونيين الأرمن في جبل كسروان في لبنان.
وفي عام 1830 مُنح الأرمن الكاثوليك في الدولة العثمانية الاستقلال الديني على إثر الحرب الروسية-التركية، وتوسّط الدول الأوربية.ويرأس الكنيسة الأرمنية الكاثوليكية حالياً غبطة البطريرك بطرس نرسيس التاسع عشر تارموني، ومقرّها دير سيدة بزمّار-لبنان.
يضّم كنائس سوريا ولبنان، وترتبط به كنائس مصر وتركيا وإيران واليونان، ومقرّه بيروت. وفي فرنسا يهتم بالرعايا المنتشرين في أوربا. أما في أميركا الشمالية، فمقرّه لوس أنجلوس حيث يجتمع العدد الأكبر من الأرمن الإنجيليين.
بعد استقلال أرمينيا، وهي أصغر جمهوريات الاتحاد السوفييتي السابق، عام 1991 أخذت الكنيسة الأرمنية تبذل نشاطاً ملحوظاً في مجال التوعية الدينية وإعداد جيل من رجال الدين المثقفين لتلبية الحاجات الروحية المتزايدة لأفراد الشعب، فضلاً عن إعداد مدرسي التعليم المسيحي للمدارس، وفتح المدارس الأحدية.
كما تم افتتاح كلية اللاهوت في جامعة يريفان عاصمة جمهورية أرمينيا في عام 1995، وأُعيد فتح الكنائس والأديار التي أُغلقت إبّان الحكم السوفييتي، وبنيت كنائس جديدة، ورُمّمت القديمة، وتم إعداد برامج دينية في الإذاعة والتلفاز مع طبع الكتاب المقدس، إلى جانب إصدار المطبوعات الدينية المتنوعة.
http://www.azad-hye.org/article.php?op=details&id=192
من تلاميذ المسيح الإثني عشر وصل إلى أرمينيا القديسان الرسولان تداوس وبرثلماوس حسب تقليد الكنيسة الأرمنية التي تؤيدها تقاليد كنائس أخرى والمصادر التاريخية الموثوقة، وكرزا بالإنجيل بين شعب أرمينيا حسب وصيًة المعلم السماوي (مت 28/18-19). وقد استمرت بشارة القديس تداوس ثماني سنوات (37-45م) والقديس برثلماوس 16 سنة (44-60م). وقد بشًرا بالدين الجديد أيضاً بين أبناء جلدتهم من اليهود الذين كانت لهم جاليات في مدن عديدة من أرمينيا، حيث جُلب الآلاف منهم كأسرى أو صنًاع أو حرفيين، بعد أن وصل ملك أرمينيا ديكران الثاني، الملقب بالعظيم (95-55 ق.م) بفتوحاته إلى فلسطين.
إن انتشار المسيحية في أرمينيا ووجود كنيسة منظًمة لها أساقفتها وخدًامها منذ القرن الأول الميلادي تدعمها براهين عديدة، منها وجود مخطوطات بأسماء أساقفة أرمن في منطقة (آرداز) الذي سمًي كرسيها (كرسي القديس تداوس)، وفي منطقة (سونيك) خلال القرون الثلاثة الأولى، فضلاً عن وجود شهداء مسيحيين أرمن من القرن الأول ما تزال الكنيسة الأرمنية تحتفل بذكرى استشهادهم مثل القديسة سانتوخد ابنة الملك (سانادروك)، والألف شهيد الذين استشهدوا مع القديس الرسول برثلماوس، واضعين بدمائهم الطاهرة أساس الكنيسة الأرمنية الرسولية المقدسة.
لقد كرًست الكنيسة الأرمنية القديسين تداوس وبرثلماوس باسم (المنوران الأولان). وتحول ضريح كل من القديس تداوس في آرداز (ماكَو) والقديس برثلماوس في آغباك (فاسبوراكان) إلى مزار يقصده المؤمنون للحج من كل حدب وصوب.
ويرتبط أيضاً، مع بداية تاريخ الكنيسة الأرمنية، ما جلبه القديسان معهما إلى أرمينيا من مقدسات. فقد جلب القديس تداوس إلى أرمينيا، حسب التقليد المقدس، الحربة المقدسة التي طعن بها الجندي الروماني جنب المسيح عندما كان على الصليب، للتأكد من موته (يوحنا 19/31-37)، والمنديل المقدًس الذي عليه طبعت صورة وجه المسيح عن طريق اورفة (الرها). أما القديس برثلماوس، فقد جلب، حسب تقليد الكنيسة الأرمنية أيضاً، صورة العذراء القديسة والدة الرب مرسومة على الخشب. وهذه المقدسات تُقبل بالخشوع والاحترام من قبل الشعب الأرمني.
لقد كرز بالإنجيل، وأكمل عمل الرسولين تداوس وبرثلماوس تلامذتهما والأساقفة، وانتشرت المسيحية في أرمينيا –بشكل سرّي- خلال القرون الثلاثة الأولى، ولم تُجد نفعاً كل أنواع الاضطهادات للحد من انتشارها، بل على العكس من ذلك، كانت تلك الاضطهادات دافعاً لانتشار المسيحية في كل مدن ومقاطعات أرمينيا.
ويذكر المؤرخ الكنسي اوسابيوس القيصري اسم الأسقف الأرمني ميهروجان، الذي كان من الوجوه البارزة والمعروفة في الإسكندرية في النصف الثاني من القرن الثالث الميلادي، وقد بعث أسقف الإسكندرية ديونيسيوس عام 254 م برسالة إلى الأسقف ميهروجان، تتناول موضوع التوبة.
ومن جهة أخرى، كان لتثبيت حكم الأسرة الساسانية في بلاد فارس عام 226م، على أنقاض حكم البرتويين فيها، أثره الكبير في أرمينيا، إذ بدأت العداوة والحروب فيها حيث ظلً يحكم ملوك برتويون، مما أثر في مجريات الأحداث اللاحقة، لا سيًما في اعتناق أرمينيا الديانة المسيحية بشكل رسمي عام 301م.
إن وجود المسيحية في أرمينيا خلال القرون الميلادية الثلاثة الأولى كان الأساس لحركة أقوى تمثًلت في اعتناق الدولة الأرمنية الديانة المسيحية واعتبارها دين الدولة والشعب علي يد كريكور المنوًر والملك درتاد الثالث عام 301م.
تعطي المصادر الأرمنية معلومات وافية عن كيفية اغتيال ملك أرمينيا خوسروف الثاني والد الملك درتاد الثالث من قبل الأمير آناك والد القديس كريكور المنوًر والمرسل (أي الأمير آناك) من قبل البلاط الفارسي إلى أرمينيا لغرض الاغتيال، بعد أن أقنع الملك أنه فرً إلى أرمينيا من ملاحقة الحكم الساساني. وتتوالى الأحداث، ويتخلًص كل من درتاد (نجل الملك القتيل) وكريكور (نجل القاتل) من الموت الذي أصاب عائلتيهما. وقد تربى درتاد، نجل الملك في روما، ملكاً لأرمينيا في المستقبل، في حين تربى كريكور في قيصرية كبدوكية واعتنق الدين المسيحي، ثم عاد إلى أرمينيا، وعمل في خدمة الملك درتاد الثالث بعد أن تولى الحكم على عرش أبيه بمعاونة روما. واحتفاءً بهذه المناسبة، أمر درتاد بتقديم القرابين إلى الإلهة آناهيد، بيد أن كريكور رفض الامتثال لأمر الملك الذي علم من ذلك أنه مسيحي، فأمر باعتقاله وتعذيبه بقسوة، إلا أنه فشل في أن يقهر إرادة كريكور الذي رفض أن ينكر إيمانه المسيحي، وبعد أن علم أن كريكور هو نجل قاتل أبيه، أمر بإلقائه في حفرة عميقة، في الزنزانة المسماة (خور فيراب) في مدينة أرداشاد العاصمة القديمة لأرمينيا.
في تلك الفترة، فرًت من اضطهاد الإمبراطور الروماني دقلديانوس، والتجأت إلى أرمينيا، مجموعة من العذارى المسيحيات برئاسة القديسة كَايانيه. وكانت هذه المجموعة تضم سليلة العائلة النبيلة الحسناء هريبسيميه. وقد بُهر الملك درتاد الوثني بجمالها وأراد أن يتخذها زوجة له. إلا أن القديسة هريبسيميه رفضت عرض الملك، مما أثار غضبه، فأصدر أمره باستشهادها. كما استشهدت القديسة كَايانيه وبقية العذارى القديسات اللواتي تحيي الكنيسة الأرمنية ذكراهن كل عام بكل إجلال وتقدير.
بعد استشهاد القديسات، أُصيب الملك درتاد الثالث بمرض عصبي شديد لم يستطع أحد معالجته، فظهر الملاك للأميرة (خوسروفيدوخت) شقيقة الملك في حلمها، موحيا بأن الوحيد الذي يستطيع معالجة الملك هو كريكور الملقى في الزنزانة. فأمرت الأميرة بإخراجه منها بعد أن بقي على قيد الحياة فيها مدة 13 عاماً بفضل المعونة الإلهية ورعاية أرملة تقيّة. وقام كريكور على الفور بجمع عظام القديسات الشهيدات وشفى الملك من مرضه، فاعتنق المسيحية. وبذلك أصبحت الديانة المسيحية دين الدولة عام 301م. وبهذه الخطوة تكون أرمينيا أول دولة اعتنقت المسيحية في العالم، وهي سبقت بذلك إصدار مرسوم ميلانو عام 313م الذي أعطى حرية العبادة للمسيحية إلى جانب الديانات الأخرى في الإمبراطورية الرومانية، ولم تُعلن المسيحية ديناً رسمياً فيها، إلا في العام 380 في عهد الإمبراطور ثيودوسيوس الأول.
ثم قام القديس كريكور ببناء ثلاث كنائس على أضرحة القدّيسات الشهيدات، وتدمير المعابد الوثنية بأمر الملك. ثم سافر إلى قيصرية كبدوكية، حيث تمّت رسامته أسقفا لأرمينيا، عاد بعدها إلى وطنه بمرافقة أسقف من قيصرية لإجراء مراسيم تنصيبه، وإكمال أعماله التبشيرية فيها، حيث قام بتعميذ الملك وأفراد أسرته وحاشية البلاط والمؤمنين.
وفي فاغارشاباد، عاصمة أرمينيا آنذاك، شرع كريكور المنوَّر في بناء أول كاتدرائية مسيحية في العالم هي كاتدرائية (اجميادزين) في الموضع الذي ظهر فيه ابن الله يسوع المسيح في رؤية لكريكور، وبيده مطرقة نارية، مشيراً إلى الموضع الذي سيبني فيه كنيسته. لذلك سُمِّيت هذه الكاتدرائية (اجميادزين) التي تعني في اللغة الأرمنية (موضع نزول الابن الوحيد). وهكذا أصبحت (اجميادزين) مقراً للكنيسة الأرمنية، وأصبح القديس كريكور الكاثوليكوس (الجاثليق) الأول لأرمينيا على كرسي القديس تداوس.
ونظراً للدور الأساس الذي قام به كريكور في تنوير الأرمن بنور الإيمان المسيحي، منحته الكنيسة الأرمنية لقب (لوسافوريج) أي المنوِّر، خلف القديس كريكور، في إدارة شؤون الكنيسة، نجله القديس اريستاكيس الذي مثَّل الكنيسة الأرمنية في مجمع نيقية المسكوني عام 325.
من أشهر آباء الكنيسة الأرمنية في القرن الرابع: الكاثوليكوس القديس نرسيس الكبير (353-373) الذي عقد في عام 354، أي بعد سنة من تولّيه رئاسة الكنيسة الأرمنية، اجتماعها الأول في مدينة (آشديشاد) والذي بُحثت فيه أمور بناء دور لرعاية الفقراء والأيتام والمسنين والمستشفيات ودور الضيافة والمؤسسات الخيرية الأخرى، كما أصدر الاجتماع قراراً يقضي بمنع زواج الأقرباء، وأوصى بالابتعاد عن السُكر والزنا والقتل، والتعامل مع الخدم برفق وعدم إثقال كاهل الشعب بالضرائب. وقرّر أيضاً بناء الأديار والمدارس. وسنَّ قوانين لتنظيم الزواج على وفق المفهوم المسيحي، فضلاً عن منع العادات الوثنية السائدة آنذاك، لا سيّما مراسيم دفن الموتى. وقد تمكن الكاثوليكوس نرسيس من تنفيذ مقررات اجتماع (آشديشاد) بنجاح كبير، استحق على إثرها لقب (الكبير).
في عام 387 قُسمت أرمينيا، لأول مرة، بين الرومان والفرس الذين سيطروا على نحو أربعة أخماس مساحتها، واسقطوا فيها المملكة الأرمنية عام 428، في حين حوَّل الرومان الجزء الغربي من أرمينيا، التابع لهم، إلى ولاية رومانية عام 391 بعد وفاة آخر الملوك فيها. وأدى هذا التقسيم إلى الإضرار بأرمينيا، وبوحدة واستقلال الأرمن.
برغم إعلان المسيحية ديناً رسمياً في أرمينيا عام 301، فإن طقوس وتراتيل الكنيسة الأرمنية لم تكن تكتب باللغة الأم بسبب عدم وجود الأبجدية والكتابة الخاصة. فقد بقي الإيمان المسيحي ومضمون الكتاب المقدس بعيداً وغريباً عن شرائح واسعة من الشعب الأرمني، لأنه، وبسبب عدم وجود الأبجدية الأرمنية، كان الكتاب المقدس يُقرأ باللغتين السريانية واليونانية. لذلك ارتأى آباء الكنيسة الأرمنية أن يتم وضع أبجدية خاصة ليتسنى ترجمة الكتاب المقدس إلى اللغة الأرمنية، والحفاظ على الهوية الأرمنية، لا سيّما بعد تقسيم أرمينيا في عام 387 في ظل محاولات الفرس والرومان الرامية إلى صهر هذه الهويّة.
في تلك الأيام، اجتمع الثلاثي فرامشابوه والكاثوليكوس ساهاك بارتيف والراهب المبدع ميسروب ماشدوتس، وتكللت جهودهم بنجاح الأخير في اختراع الأبجدية الأرمنية في عام 406، تلاه امتلاك الأدب الخاص الذي بدأ بترجمة الكتاب المقدس إلى الأرمنية على يد الكاثوليكوس ساهاك وماشدوتس وتلامذتهما. كما تمّت ترجمة العديد من المؤلفات في المجالات كافة من السريانية واليونانية إلى الأرمنية، حتى أن بعض أصولها قد فُقد ولم تصلنا غير ترجماتها الأرمنية، ومنها، على سبيل المثال، كتاب "إيضاح الكرازة الرسولية" للقديس إيريناوس (نحو 130-202) والذي كان أسقف (ليون) في فرنسا ومن أشهر آباء ولاهوتيي الكنيسة.
وتجدر الإشارة إلى أن النسخة الأرمنية المترجمة للكتاب المقدس عُرفت من قبل كتّاب أجانب بتسمية (ملكة الترجمات) لجمالها اللغوي ودقّتها في ترجمة التعابير وإعطاء المعاني الأصلية لها.
في عام 451، خاض الأرمن، بقيادة قائد الجيش القديس فارتان ماميكونيان، معركة (آفاراير) ضد الفرس الذين حاولوا مراراً القضاء على الاستقلال الداخلي للأرمن، وتحويلهم عن المسيحية وفرض الوثنية عليهم، وصهر القومية والثقافة الأرمنيتين اللتين برزتا إلى الوجود باختراع الأبجدية الأرمنية. واستمرت مقاومة الأرمن حتى اضطر ملك الفرس عام 484 إلى الإعلان عن حرية الدين المسيحي في أرمينيا.
وإبّان الفترة التي كانت فيها أرمينيا منشغلة بصراعها المرير مع الفرس، عقد رؤساء وأساقفة الكنائس اجتماع خلقدونية عام 451، ولم تتمكن الكنيسة الأرمنية من المشاركة في هذا الاجتماع، بسبب انشغال أرمينيا، كما أسلفنا، بالصراع مع الفرس. بيد أن الكنيسة الأرمنية رفضت مقررات هذا الاجتماع عند الاطلاع عليها لاحقاً. وكان أول رفض رسمي لها في اجتماع دفين الأول الذي عقدته في عام 506، وجرى التأكيد على هذا الرفض مرة أخرى عام 554 في اجتماع دفين الثاني، بسبب عدم توافقها، حسب قناعة الكنيسة الأرمنية، مع نص ومضمون مقررات المجامع المسكونية الثلاثة الأولى.
وتقبل الكنيسة الأرمنية بطبيعة واحدة في المسيح، على وفق الصيغة التي نادى بها كيرلس الإسكندري في مجمع افسس المسكوني عام 431: "طبيعة واحدة للكلمة المتجسدة" على أساس ما جاء في مقدمة الإنجيل بحسب يوحنا البشير. وتدين الكنيسة الأرمنية ما جاء به اوطيخا بوجود طبيعة واحدة فقط في المسيح هي الإلهية، وهو الشيء الذي أدين أيضاً في اجتماع خلقدونية، إلا أن الكنيسة الأرمنية لا تقبل بمبدأ الطبيعتين الذي اُقِرَّ في هذا الاجتماع.
وبذلك تقبل الكنيسة الأرمنية، مع الكنائس السريانية والحبشية والقبطية الأرثوذكسية وكنيسة الملبار في الهند، مقررات المجامع المسكونية الثلاثة الأولى فقط، وهي: مجمع نيقية عام 325، ومجمع القسطنطينية عام 381، ومجمع افسس عام 431.
انتقل مقر الكنيسة الأرمنية من أجميادزين إلى (دفين) المركز السياسي والعسكري لأرمينيا في عام 485، وظل هناك لمدة أربعة قرون. وأخذ مقر الكنيسة ينتقل من موقع لآخر بسبب عدم استقرار الوضع السياسي لأرمينيا.
وفي عام 1293 استقر مقر الكنيسة في مدينة (سيس) عاصمة مملكة كيليكيا الأرمنية، وظل فيها قرابة 65 عاماً بعد سقوط المملكة في عام 1375، والذي أثّر بشكل كبير في وضع الكنيسة الأرمنية، كذلك هجرة عشرات الألوف من الأرمن من كيليكيا منذ بداية القرن الخامس عشر، وضغوط ومحاولات الكنائس الأخرى المستمرة لفرض آرائها وتعاليمها على الكنيسة الأرمنية في كيليكيا. كل هذه الظروف دفعت رجال الدين الأرمن إلى التفكير جدّياً في ترك مدينة (سيس) والرجوع بمقر الكنيسة الأرمنية إلى اجميادزين المقدسة. ولكن الكاثوليكوس كريكور التاسع موسابيكيان، وبسبب كبر سنه، كان غير قادر على الانتقال إلى أجميادزين، فقدَّم استقالته.
واستناداً إلى هذه الظروف، انعقد مجمع كنسي أرمني في أجميادزين في عام 1441 ضمَّ اكثر من 300 أسقف وراهب وكاهن، إضافة إلى العلمانيين. وبعد مناقشات، تم انتخاب كيراكوس الأول فيرابيتسي كاثوليكوساً جديداً للأرمن في أجميادزين. وبذلك رجع مقر الكنيسة الأرمنية إلى موقعه الأصلي في أجميادزين المقدسة.
في عام 1915، وفي ظل المجازر التي تعرّض لها الأرمن من مواطني الدولة العثمانية، والتي راح ضحيتها مليون ونصف المليون أرمني وعشرات الآلاف من أبناء الطوائف الأخرى، استشهد نحو 4000 رجل دين يمثِّلون اكثر من 90% من رجال الكنيسة الأرمنية وأساقفتها المثقفين، وأحرقت ودُمرت 3000 كنيسة ودير.
وقُتل خلال تلك المذابح أيضاً الآثوريون والكلدان والسريان وأُحرقت ودُنست كنائسهم.
لقد عرف الشعب الأرمني دائما كيف يتوّج حياة الآلام والصليب التي عايشها بإيمان القيامة والانبعاث. فقد قام على غرار قيامة المسيح بإرادة صلبة، وحوَّل ساحات الموت إلى ساحات خضراء للحياة الدائمة "... فدخل فيهم الروح فَحَيُوا وقاموا على أرجلهم جيشاً عظيماً جدّا جدّا" (حز 37/10).
أصبحت أرمينيا جمهورية سوفييتية في 2 كانون الأول 1920. وقد تعرّض رجال الدين الأرمن إلى الاضطهاد والتعذيب عندما قام الحكم السوفييتي، لا سيّما في الفترة 1932-1945، بغلق الأديار والكنائس وتحويلها إلى متاحف، وإلقاء القبض على رجال الدين ونفيهم وقتلهم، إذ تم قتل 183 رجل دين أرمني خلال الفترة 1930-1938. إلا أنه، وبمرور الزمن، خفّت هذه الموجة وأصبحت الكنيسة الأرمنية تعيش في ظروف مستقرّة، وتتمتع ببعض الحرّيات المحدودة.
هيكلية الكنيسة الأرمنية الأرثوذكسية
لهذه الكنيسة 44 أبرشية موزّعة في أنحاء العالم كافة، وترتبط بكاثوليكوسيتين وبطريركيتين:
1. كاثوليكوسية عموم الأرمن في أجميادزين: ويرأسها قداسة كاريكين الثاني نرسيسيان كاثوليكوس عموم الأرمن، وهو الكاثوليكوس الـ (132) للكنيسة الأرمنية على هذا الكرسي.
2. كاثوليكوسية دار كيليكيا الكبير في أنطلياس بلبنان: ويرأسها قداسة آرام الأول كشيشيان.
3. بطريركية القدس: ويرأسها حالياً رئيس الأساقفة توركوم مانوكيان، وتتبع كنسياً كرسي أجميادزين.
4. بطريركية القسطنطينية: ويرأسها حالياً رئيس الأساقفة ميسروب موتافيان، وتتبع كنسياً كرسي أجميادزين.
في عام 1742 أُعيد تجديد البطريركية الأرمنية الكاثوليكية. ولم يستطع البطريرك المنتخب أبراهام اردزيفيان العودة إلى كيليكيا بسبب عدم اعتراف الحكومة العثمانية به، فلجأ إلى دير (الكريم) للأنطونيين الأرمن في جبل كسروان في لبنان.
وفي عام 1830 مُنح الأرمن الكاثوليك في الدولة العثمانية الاستقلال الديني على إثر الحرب الروسية-التركية، وتوسّط الدول الأوربية.ويرأس الكنيسة الأرمنية الكاثوليكية حالياً غبطة البطريرك بطرس نرسيس التاسع عشر تارموني، ومقرّها دير سيدة بزمّار-لبنان.
يضّم كنائس سوريا ولبنان، وترتبط به كنائس مصر وتركيا وإيران واليونان، ومقرّه بيروت. وفي فرنسا يهتم بالرعايا المنتشرين في أوربا. أما في أميركا الشمالية، فمقرّه لوس أنجلوس حيث يجتمع العدد الأكبر من الأرمن الإنجيليين.
بعد استقلال أرمينيا، وهي أصغر جمهوريات الاتحاد السوفييتي السابق، عام 1991 أخذت الكنيسة الأرمنية تبذل نشاطاً ملحوظاً في مجال التوعية الدينية وإعداد جيل من رجال الدين المثقفين لتلبية الحاجات الروحية المتزايدة لأفراد الشعب، فضلاً عن إعداد مدرسي التعليم المسيحي للمدارس، وفتح المدارس الأحدية.
كما تم افتتاح كلية اللاهوت في جامعة يريفان عاصمة جمهورية أرمينيا في عام 1995، وأُعيد فتح الكنائس والأديار التي أُغلقت إبّان الحكم السوفييتي، وبنيت كنائس جديدة، ورُمّمت القديمة، وتم إعداد برامج دينية في الإذاعة والتلفاز مع طبع الكتاب المقدس، إلى جانب إصدار المطبوعات الدينية المتنوعة.
http://www.azad-hye.org/article.php?op=details&id=192
Comment