مقابلة اجريت مع غبطة البطريرك غريغوريوس الثالث لحام بطريرك أنطاكية وسائر المشرق والإسكندرية وأورشليم للروم الكاثوليك
مثير جدا شأن الشرق الأوسط، الجدران العنصرية تنهار حول العالم. جدار برلين بعد عقود من العزل والإبعاد والإقصاء سقط، وفي الشرق الأوسط تقام جدران عنصرية بين إسرائيل والضفة وبين القطاع ومصر وبين إسرائيل ومصر، هذه الجدران على حقيقتها خارجية لكنها نتيجة حتمية لجدران عنصرية تنتصب داخل النفوس، أضحى هناك مركب عدم ثقة بنى جدران نفسية داخلية من الكراهية ورفض الأخر، والأكثر إثارة في عالمنا المعاصر أن العولمة فيما أسقطت الجدران الخارجية بين البشر أقامت جدرانا داخلية من الخوف عبر انتهاك خصوصية الأخر ما أدى الى تنامي أشكال جديدة من العداء بين البشر، والعرب والإسرائيليون في مقدمتهم.
زيارة البابا بندكتس السادس عشر الأخيرة لإسرائيل والاراضي الفلسطينية والأردن، هل أفرزت أي ثمار أو نتائج تصالحية أم أنها كانت زيارة بروتوكولية أو حج روحي فقط؟
الزيارة عبرت عن اهتمام البابا بالشرق الأوسط، وهي نتيجة اهتمام سابق من الدوائر الفاتيكانية بأحوال الشر ق الأوسط وبقضاياه. مشاهد الزيارة كانت سلسلة من المودات الإنسانية، جلالة الملك عبد الله بن الحسين يستقبل قداسته بحب وترحاب، البابا يقف في مسجد مستمعا لأدعية إسلامية، تأسيس جامعة كاثوليكية في الأردن، هذه كلها ثمار حدثت وقت اللقاء، الزيارة إذن نقطة وصول وهي كذلك نقطة انطلاق جديدة في مسار التلاقي الإسلامي المسحي في الشرق الأوسط، والبابا رجل دولة معنوي وحضوره بهذه المودة في العالمين العربي والإسلامي وجد تغطية إعلامية ايجابية عريضة حول العالم.
ما يجري في العراق للمسيحيين من تهجير طوعي أو قسري يلقي بظلال من الخوف .. كيف تقيمون هذه الإشكالية؟
الفوضى القائمة في العراق هي سبب الهجرة. نعم كانت هناك هجرات للأشوريين وبعض الكلدانيين والسريان من قبل، لكن بعد الاحتلال والفوضى والتعديات الحالية تأثر واقع المسيحيين في العراق بدرجة كبيرة وبشكل بالغ ولهذا يصعب أن تقول لعراقي لا تهاجر في ظل هذه الظروف.
والمؤسف أن مسلسل الهجرة أو التهجير بدأ في لبنان وسوريا ومصر والأردن وفي كافة الربوع العربية حيث يوجد مسيحيون ورغم أن الظاهرة ليست قصرا على المسيحيين فقط إلا أن هجرة هؤلاء تقود الى خوف كبير لجهة تفريغ الشرق من المسيحيين العرب، مع العلم أن المسيحية ولدت مشرقية وانتشرت حول العالم من قبل الحواريين العرب في فلسطين.
ماذا لو خلا الشرق الأوسط والعالم العربي من مسيحييه دفعة واحدة .. كيف سيبدو المشهد؟
هذا السؤال يجيبنا عليه إخواننا المسلمون ذاتهم، وكم صدرت من مقالات وكتابات من كبار المفكرين والمثقفين المسلمين يحذرون وينذرون من مثل هذا التفريغ السلبي لمكون شارك في صنع الحضارة العربية عبر نحو 1500 عام، وعليه فإن قضية هجرة المسيحيين العرب أو تفريغ الشرق الأوسط منهم ليست قضية مسيحية بل قضية إنسانية شرقية، قضية تراثية حضارية. نحن لا نخاف على الوجود المسيحي للمسيحيين إنما نحن نخشى على فقدان مكون يعد جذور في الداخل وجسور الى الخارج، مواطنون عرب اقحاح لهم تاريخ عربي وأصالة عربية، إنتاج وانتماء وحضور .. كيف يمكن أن تخسر الأوطان قيم مضافة يمثلها هولاء؟ هذه هي الخسارة الحقيقية والمستفيد الوحيد من ذلك هو إسرائيل ذلك لأنه عندها لن تضحى الدولة العنصرية الدينية الوحيدة في الشرق.
هناك حضور مسيحي عربي في كافة دول الخليج العربي وفي مقدمتها الكويت يلقى احتراما لحرية العبادة .. ما الذي يمثله لكم هذا الحضور؟
بلا شك هذه تجربة حضارية عربية، بل تقييم حقيقي لدور المسيحيين العرب في خدمة أوطانهم وإخوانهم، وقد قال البابا يوحنا بولس الثاني عام 2005 في أخر رسالة راعوية له "إن جوهر الإنسان هو أن يكون مع ولأجل"، والمسيحي العربي يعيش في تلك الأوطان مع أخيه المسلم كشريك فاعل في البناء، ويعيش من أجله مستعدا للخدمة بالمحبة وحاضرا للتضحية من اجل الآخر في نسق حضاري إنساني إيماني، لا داخل "غيتو" منعزل كما فعل اليهود في أوروبا في القرون الوسطى، ولذلك نحن ندافع عن كافة القضايا التي تحرر الإنسان العربي من حقوق إنسان الى حرية المرأة مرورا بحرية العقيدة والعبادة، وصولا الى النمو والتطور والبناء الديمقراطي، ندافع عن هذه كلها من منطلق أنساني وليس من منطلق ديني.
الجريمة الأخيرة ضد أقباط مصر عشية العيد .. هل هي جرس إنذار بطائفية بغيضة أم أنها حادث فردي؟
بداية نحن نأسف ونترحم على أرواح الشباب الذين قضوا ليلة عيد الميلاد في نجع حمادي بصعيد مصر. المأساة أنهم ليسوا لهم علاقة بالمبرر الذي قيل انه السبب أي الشاب المسيحي الذي اعتدى على فتاة مسلمة، نحن نعرف ونستوعب مدى خطورة ومشاكل جرائم الشرف في بلادنا العربية لكن الكارثة هنا أن القتل حدث بشكل عشوائي وعلى الهوية الدينية وهذا مؤشر مخيف جدا. لم يبد الأمر نتقاماً من شخص تعدى على فتاة، وإنما نرى قتل يبعث رسالة مفادها انك مستهدف بسبب مذهبك أو دينك، ومؤكد انه يدل على أن الذي أقدم على ارتكاب هذه المذبحة شخص غريب ومريض وغير سوي نفسيا.
هل يعكس هذا الحادث اضطهادا طائفيا أم خللا اجتماعياً ينسحب على المسلمين والمسيحيين في مصر بشكل أوسع وربما اخطر؟
الدولة المصرية ووسائل الإعلام تريد أن توضح الحادث على انه ليس بطائفي. يمكن أن يكون ذلك. غير إنني افهم من خلال وجودي وجولاتي في مصر أن هناك خللا في تركيبة الخدمات بين المدينة والريف تؤثر على سير مثل هذه المصادمات. فعلى سبيل المثال لا تحدث جرائم من هذا النوع في القاهرة أو الإسكندرية إلا فيما ندر بينما تلك الحوادث تتكرر وبكثرة في الآونة الأخيرة في صعيد مصر على نحو خاص ما يعني أن هناك مستوى معيشي مجتمعي مسيحي إسلامي يجب تغييره، كما يجب أن تترجم الآيات القرآنية والإنجيلية الجميلة التي تحث على الحوار والجوار والتعايش المشترك. واعتقد أن هناك أهمية كبيرة لتطوير المجتمع المصري وهذا ليس بالأمر اليسر لأن مصر مجتمع كبير جدا وفيه نسبة أمية عالية تؤثر سلبا في كثير من هذه القضايا.
يندر أن نجد صدامات طائفية في سوريا على هذا النحو والمثال .. لماذا ؟
عندنا في سورية دولة علمانية قوية، تعطي حقوق متوازية للمسيحيين والمسلمين، ولا يخلو مجتمع في الحقيقة من مشاكل فلسنا في المدينة الفاضلة لكن علامة الاستفهام الكبرى يجب أن تتركز حول الأسباب الحقيقية التي تقود الى تنامي الأصولية وازدياد حدة الصراع وتكرار المشاحنات المذهبية.
ما الذي ينمي الأصولية في تقديركم في العالم العربي والإسلامي على نحو خاص؟
في يقيني المطلق أن الصراع الفلسطيني الإسرائيلي هو ركيزة ومنطلق أساسي لتنامي هذه الأصولية عبر النصف قرن المنصرم، هذا الصراع يمثل أفضل جذور وبذور للأصولية، ومع الأسف فإن الغرب وأمريكا يدفعان الى تنامي هذه الأصولية وتسألني كيف؟
أقول لك انظر الى المشهد العام الماضي عندما فكرت إدارة اوباما في شان عقوبات على إسرائيل فقط "مجرد التفكير" هاجت الدنيا وماجت بالرفض، في حين فرضت تلك العقوبات على العراق لسنوات طوال وكل يوم نحن إزاء التهديد بفرض عقوبات على سورية أو مصر أو الأردن أو السعودية أو أي قطر عربي أخر ولا احد يعترض ما يخلق ازدواجية أخلاقية قاتلة ... هل إسرائيل محمية عالمية لا يجب الاقتراب منها بالنقد أو العقوبات أو الإدانة؟
الإشكالية هنا هي أن المعادلة باتت تفهم في الشارع الإسلامي والعربي على النحو التالي: أوروبا وأمريكا المسيحيتين تدعمان الوجود العنصري اليهودي في إسرائيل، هذا الوجود يرى في الإسلام عدوه، وبالتالي تعتبر الأصولية أن أوروبا المسيحية ضد الإسلام وتدعم اليهودية العنصرية.
ولهذا أقول انه إذا لم تحل القضية الفلسطينية بشكل عادل ستبقى هذه المنطقة من العالم مشتعلة دينيا وأصوليا ما يهدد "الأخضر واليابس" معا.
الحوار الإسلامي المسيحي الى أين يمضي على هامش هذه الأصوليات والصدامات في العالم العربي؟
هذا الحوار هو مسيرة طويلة تهدف الى التلاقي والتفاهم، وتتطلع الى التعاون والتراحم، لكن من الأسف هناك عناصر تهدم ما قد يقوم به المتحاورون والساعون لإيجاد أرضية فكرية إنسانية مشتركة للتعايش على الجانبين الإسلامي والمسيحي، ومع ذلك أقول يجب أن لا نيأس في أن نتابع الحوار، وان ينطلق دائما وأبدا من احترام متبادل دون أفضلية أو تعالي أو إقصاء أو عزل من طرف لأخر، لابد أن نتحرر من ذهنية التفكير الأحادي الذي يقصي الأخر، ونقيم عوضا عنها مذهبية تعزيز الثقة في الأخر وإكرامه كأخ وشريك في المواطنة دون النظر الى عقيدته وهذا أمر ركز عليه المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني في أوائل الستينيات القرن المنصرم عندما أشار الى وجود خيور عديدة في الإسلام لا بد وان نكتشفها ونتبادل الاستفادة منها.
ظاهرة الاسلاموفوبيا في الغرب باتت حقا مزعجة وتنذر بمزيد من انشقاق بين الشرق والغرب .. ما هي برأيكم الأسباب الحقيقية لهذه الظاهرة البغيضة ؟
اعترف معك بان هناك بالفعل اسلاموفوبيا منتشرة في أوروبا وأمريكا، ولكي نفهم أبعادها يجب أن ندرك أن العالم الأوربي وصل الى تصور حياتي ديمقراطي حر مغرق في الحرية، حرية في المعتقد، في الرأي، في التصرف... هنا يأتي المسلم من الشرق الى عالم فيه غياب للقيم الروحية مجتمع حر مفتوح يملؤه الفراغ الإيماني.. يحاول المسلم المهاجر أن يملأه فينظر إليه الآخرون على انه متعدي أصولي وعلى أفعاله كأنها عدائية ولهذا أقول انه حتى يتوافر الاحترام للإسلام يجب أن يكون هناك إيمان في العالم الأوروبي ولهذا عندما يلتقي المؤمن الأوروبي مع المؤمن المسلم يتفقا. الصراع دائما ما ينشا بين دولة علمانية نوعا ما ملحدة فيها مجتمع متحرر مع إنسان مؤمن لا يجد له مكاناً إيمانياً روحانياً، والمواجهة بين الحداثي والأصولي هي منشأ الاسلاموفوبيا.
الفاتيكان يدعو الى سينودس في أكتوبر المقبل، من اجل الكنائس في الشرق الأوسط، لمناقشة حضورها وأحوالها في الشرق العربي .. ماذا عن هذا السينودس وأهميته وأجندته؟
هذا السينودس كان مطلبا منذ زمن بعيد، كنت أنا من طالب بأن يلتقي بطاركة وأساقفة الشرق مع البابا من اجل مناقشة أحوال المسيحيين في الشرق الأوسط، الصعوبات التي تواجه حضورهم، القضايا التي تتقاطع مع وجودهم في مجتمعاتهم مثل السلم والحرب والعدالة والظلم والفقر والأصولية.
هذا السينودس يعد فرصة لتدارس تلك القضايا سيما بعد أن أصبح الشرق الآن غير قاصر على المسيحيين والمسلمين فقط فقد بات هناك اليهود في إسرائيل والفرس في إيران والأتراك على الحدود وينشط دورهم في المنطقة مؤخرا، أي أن هناك وجود لمتغيرات عرقية أثنية متباينة، هذا المؤتمر باختصار هو محاولة على الطريق لفهم الحاضر واستشراف المستقبل للحضور المسيحي العربي الكاثوليكي مشرقيا.
أليس في مثل هذا السينودس ضرب من ضروب الخلط الديني بالسياسي في عالم يفصل بين الدين والدولة؟
بصفتي مطرانا للروم الملكيين سابقا وقبل أن أصير بطريركا خدمت في القدس 26 سنة كنت فيها ادعى الى حضور اجتماعات لقيادات فلسطينية عندها جاءني مسؤولون إسرائيليون قائلين: ما شأنك وهذه الاجتماعات، أنت رجل دين؟ كنت أجيبهم بالقول: أنا ادعى الى هذه الاجتماعات بوصفي رجل دين ودعوتي ورسالتي هي أن لا أكون سياسيا الى جانب سياسيين ومناضلين بل أن أكون مواطنا مؤمنا انسانا القي ضوءا روحيا على قضايا سياسية حتى تكتسب هذه السياسة بعدا إيمانيا جديدا.
البابا عندما يتكلم عن السياسة لا يتكلم كسياسي إنما كمؤمن يحاول أن ينير سبيل السياسة والسياسيين، وهذا من اجل خدمة الإنسان والإنسانية. هذه هي رسالة البابا ورسالة كل رجل دين عليه أن يخوض المعترك السياسي بهذا المعنى وإلا أضحى خائنا لرسالته الروحية، والمسيح عندما قال "أعط ما لقيصر لقيصر وما لله لله" كان ينطلق من طرح سياسي يسعى للحفاظ على الحقوق المدنية بروح إيمانية لا سياسية جافة أو عنصرية عدائية.
مثير جدا شأن الشرق الأوسط، الجدران العنصرية تنهار حول العالم. جدار برلين بعد عقود من العزل والإبعاد والإقصاء سقط، وفي الشرق الأوسط تقام جدران عنصرية بين إسرائيل والضفة وبين القطاع ومصر وبين إسرائيل ومصر، هذه الجدران على حقيقتها خارجية لكنها نتيجة حتمية لجدران عنصرية تنتصب داخل النفوس، أضحى هناك مركب عدم ثقة بنى جدران نفسية داخلية من الكراهية ورفض الأخر، والأكثر إثارة في عالمنا المعاصر أن العولمة فيما أسقطت الجدران الخارجية بين البشر أقامت جدرانا داخلية من الخوف عبر انتهاك خصوصية الأخر ما أدى الى تنامي أشكال جديدة من العداء بين البشر، والعرب والإسرائيليون في مقدمتهم.
زيارة البابا بندكتس السادس عشر الأخيرة لإسرائيل والاراضي الفلسطينية والأردن، هل أفرزت أي ثمار أو نتائج تصالحية أم أنها كانت زيارة بروتوكولية أو حج روحي فقط؟
الزيارة عبرت عن اهتمام البابا بالشرق الأوسط، وهي نتيجة اهتمام سابق من الدوائر الفاتيكانية بأحوال الشر ق الأوسط وبقضاياه. مشاهد الزيارة كانت سلسلة من المودات الإنسانية، جلالة الملك عبد الله بن الحسين يستقبل قداسته بحب وترحاب، البابا يقف في مسجد مستمعا لأدعية إسلامية، تأسيس جامعة كاثوليكية في الأردن، هذه كلها ثمار حدثت وقت اللقاء، الزيارة إذن نقطة وصول وهي كذلك نقطة انطلاق جديدة في مسار التلاقي الإسلامي المسحي في الشرق الأوسط، والبابا رجل دولة معنوي وحضوره بهذه المودة في العالمين العربي والإسلامي وجد تغطية إعلامية ايجابية عريضة حول العالم.
ما يجري في العراق للمسيحيين من تهجير طوعي أو قسري يلقي بظلال من الخوف .. كيف تقيمون هذه الإشكالية؟
الفوضى القائمة في العراق هي سبب الهجرة. نعم كانت هناك هجرات للأشوريين وبعض الكلدانيين والسريان من قبل، لكن بعد الاحتلال والفوضى والتعديات الحالية تأثر واقع المسيحيين في العراق بدرجة كبيرة وبشكل بالغ ولهذا يصعب أن تقول لعراقي لا تهاجر في ظل هذه الظروف.
والمؤسف أن مسلسل الهجرة أو التهجير بدأ في لبنان وسوريا ومصر والأردن وفي كافة الربوع العربية حيث يوجد مسيحيون ورغم أن الظاهرة ليست قصرا على المسيحيين فقط إلا أن هجرة هؤلاء تقود الى خوف كبير لجهة تفريغ الشرق من المسيحيين العرب، مع العلم أن المسيحية ولدت مشرقية وانتشرت حول العالم من قبل الحواريين العرب في فلسطين.
ماذا لو خلا الشرق الأوسط والعالم العربي من مسيحييه دفعة واحدة .. كيف سيبدو المشهد؟
هذا السؤال يجيبنا عليه إخواننا المسلمون ذاتهم، وكم صدرت من مقالات وكتابات من كبار المفكرين والمثقفين المسلمين يحذرون وينذرون من مثل هذا التفريغ السلبي لمكون شارك في صنع الحضارة العربية عبر نحو 1500 عام، وعليه فإن قضية هجرة المسيحيين العرب أو تفريغ الشرق الأوسط منهم ليست قضية مسيحية بل قضية إنسانية شرقية، قضية تراثية حضارية. نحن لا نخاف على الوجود المسيحي للمسيحيين إنما نحن نخشى على فقدان مكون يعد جذور في الداخل وجسور الى الخارج، مواطنون عرب اقحاح لهم تاريخ عربي وأصالة عربية، إنتاج وانتماء وحضور .. كيف يمكن أن تخسر الأوطان قيم مضافة يمثلها هولاء؟ هذه هي الخسارة الحقيقية والمستفيد الوحيد من ذلك هو إسرائيل ذلك لأنه عندها لن تضحى الدولة العنصرية الدينية الوحيدة في الشرق.
هناك حضور مسيحي عربي في كافة دول الخليج العربي وفي مقدمتها الكويت يلقى احتراما لحرية العبادة .. ما الذي يمثله لكم هذا الحضور؟
بلا شك هذه تجربة حضارية عربية، بل تقييم حقيقي لدور المسيحيين العرب في خدمة أوطانهم وإخوانهم، وقد قال البابا يوحنا بولس الثاني عام 2005 في أخر رسالة راعوية له "إن جوهر الإنسان هو أن يكون مع ولأجل"، والمسيحي العربي يعيش في تلك الأوطان مع أخيه المسلم كشريك فاعل في البناء، ويعيش من أجله مستعدا للخدمة بالمحبة وحاضرا للتضحية من اجل الآخر في نسق حضاري إنساني إيماني، لا داخل "غيتو" منعزل كما فعل اليهود في أوروبا في القرون الوسطى، ولذلك نحن ندافع عن كافة القضايا التي تحرر الإنسان العربي من حقوق إنسان الى حرية المرأة مرورا بحرية العقيدة والعبادة، وصولا الى النمو والتطور والبناء الديمقراطي، ندافع عن هذه كلها من منطلق أنساني وليس من منطلق ديني.
الجريمة الأخيرة ضد أقباط مصر عشية العيد .. هل هي جرس إنذار بطائفية بغيضة أم أنها حادث فردي؟
بداية نحن نأسف ونترحم على أرواح الشباب الذين قضوا ليلة عيد الميلاد في نجع حمادي بصعيد مصر. المأساة أنهم ليسوا لهم علاقة بالمبرر الذي قيل انه السبب أي الشاب المسيحي الذي اعتدى على فتاة مسلمة، نحن نعرف ونستوعب مدى خطورة ومشاكل جرائم الشرف في بلادنا العربية لكن الكارثة هنا أن القتل حدث بشكل عشوائي وعلى الهوية الدينية وهذا مؤشر مخيف جدا. لم يبد الأمر نتقاماً من شخص تعدى على فتاة، وإنما نرى قتل يبعث رسالة مفادها انك مستهدف بسبب مذهبك أو دينك، ومؤكد انه يدل على أن الذي أقدم على ارتكاب هذه المذبحة شخص غريب ومريض وغير سوي نفسيا.
هل يعكس هذا الحادث اضطهادا طائفيا أم خللا اجتماعياً ينسحب على المسلمين والمسيحيين في مصر بشكل أوسع وربما اخطر؟
الدولة المصرية ووسائل الإعلام تريد أن توضح الحادث على انه ليس بطائفي. يمكن أن يكون ذلك. غير إنني افهم من خلال وجودي وجولاتي في مصر أن هناك خللا في تركيبة الخدمات بين المدينة والريف تؤثر على سير مثل هذه المصادمات. فعلى سبيل المثال لا تحدث جرائم من هذا النوع في القاهرة أو الإسكندرية إلا فيما ندر بينما تلك الحوادث تتكرر وبكثرة في الآونة الأخيرة في صعيد مصر على نحو خاص ما يعني أن هناك مستوى معيشي مجتمعي مسيحي إسلامي يجب تغييره، كما يجب أن تترجم الآيات القرآنية والإنجيلية الجميلة التي تحث على الحوار والجوار والتعايش المشترك. واعتقد أن هناك أهمية كبيرة لتطوير المجتمع المصري وهذا ليس بالأمر اليسر لأن مصر مجتمع كبير جدا وفيه نسبة أمية عالية تؤثر سلبا في كثير من هذه القضايا.
يندر أن نجد صدامات طائفية في سوريا على هذا النحو والمثال .. لماذا ؟
عندنا في سورية دولة علمانية قوية، تعطي حقوق متوازية للمسيحيين والمسلمين، ولا يخلو مجتمع في الحقيقة من مشاكل فلسنا في المدينة الفاضلة لكن علامة الاستفهام الكبرى يجب أن تتركز حول الأسباب الحقيقية التي تقود الى تنامي الأصولية وازدياد حدة الصراع وتكرار المشاحنات المذهبية.
ما الذي ينمي الأصولية في تقديركم في العالم العربي والإسلامي على نحو خاص؟
في يقيني المطلق أن الصراع الفلسطيني الإسرائيلي هو ركيزة ومنطلق أساسي لتنامي هذه الأصولية عبر النصف قرن المنصرم، هذا الصراع يمثل أفضل جذور وبذور للأصولية، ومع الأسف فإن الغرب وأمريكا يدفعان الى تنامي هذه الأصولية وتسألني كيف؟
أقول لك انظر الى المشهد العام الماضي عندما فكرت إدارة اوباما في شان عقوبات على إسرائيل فقط "مجرد التفكير" هاجت الدنيا وماجت بالرفض، في حين فرضت تلك العقوبات على العراق لسنوات طوال وكل يوم نحن إزاء التهديد بفرض عقوبات على سورية أو مصر أو الأردن أو السعودية أو أي قطر عربي أخر ولا احد يعترض ما يخلق ازدواجية أخلاقية قاتلة ... هل إسرائيل محمية عالمية لا يجب الاقتراب منها بالنقد أو العقوبات أو الإدانة؟
الإشكالية هنا هي أن المعادلة باتت تفهم في الشارع الإسلامي والعربي على النحو التالي: أوروبا وأمريكا المسيحيتين تدعمان الوجود العنصري اليهودي في إسرائيل، هذا الوجود يرى في الإسلام عدوه، وبالتالي تعتبر الأصولية أن أوروبا المسيحية ضد الإسلام وتدعم اليهودية العنصرية.
ولهذا أقول انه إذا لم تحل القضية الفلسطينية بشكل عادل ستبقى هذه المنطقة من العالم مشتعلة دينيا وأصوليا ما يهدد "الأخضر واليابس" معا.
الحوار الإسلامي المسيحي الى أين يمضي على هامش هذه الأصوليات والصدامات في العالم العربي؟
هذا الحوار هو مسيرة طويلة تهدف الى التلاقي والتفاهم، وتتطلع الى التعاون والتراحم، لكن من الأسف هناك عناصر تهدم ما قد يقوم به المتحاورون والساعون لإيجاد أرضية فكرية إنسانية مشتركة للتعايش على الجانبين الإسلامي والمسيحي، ومع ذلك أقول يجب أن لا نيأس في أن نتابع الحوار، وان ينطلق دائما وأبدا من احترام متبادل دون أفضلية أو تعالي أو إقصاء أو عزل من طرف لأخر، لابد أن نتحرر من ذهنية التفكير الأحادي الذي يقصي الأخر، ونقيم عوضا عنها مذهبية تعزيز الثقة في الأخر وإكرامه كأخ وشريك في المواطنة دون النظر الى عقيدته وهذا أمر ركز عليه المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني في أوائل الستينيات القرن المنصرم عندما أشار الى وجود خيور عديدة في الإسلام لا بد وان نكتشفها ونتبادل الاستفادة منها.
ظاهرة الاسلاموفوبيا في الغرب باتت حقا مزعجة وتنذر بمزيد من انشقاق بين الشرق والغرب .. ما هي برأيكم الأسباب الحقيقية لهذه الظاهرة البغيضة ؟
اعترف معك بان هناك بالفعل اسلاموفوبيا منتشرة في أوروبا وأمريكا، ولكي نفهم أبعادها يجب أن ندرك أن العالم الأوربي وصل الى تصور حياتي ديمقراطي حر مغرق في الحرية، حرية في المعتقد، في الرأي، في التصرف... هنا يأتي المسلم من الشرق الى عالم فيه غياب للقيم الروحية مجتمع حر مفتوح يملؤه الفراغ الإيماني.. يحاول المسلم المهاجر أن يملأه فينظر إليه الآخرون على انه متعدي أصولي وعلى أفعاله كأنها عدائية ولهذا أقول انه حتى يتوافر الاحترام للإسلام يجب أن يكون هناك إيمان في العالم الأوروبي ولهذا عندما يلتقي المؤمن الأوروبي مع المؤمن المسلم يتفقا. الصراع دائما ما ينشا بين دولة علمانية نوعا ما ملحدة فيها مجتمع متحرر مع إنسان مؤمن لا يجد له مكاناً إيمانياً روحانياً، والمواجهة بين الحداثي والأصولي هي منشأ الاسلاموفوبيا.
الفاتيكان يدعو الى سينودس في أكتوبر المقبل، من اجل الكنائس في الشرق الأوسط، لمناقشة حضورها وأحوالها في الشرق العربي .. ماذا عن هذا السينودس وأهميته وأجندته؟
هذا السينودس كان مطلبا منذ زمن بعيد، كنت أنا من طالب بأن يلتقي بطاركة وأساقفة الشرق مع البابا من اجل مناقشة أحوال المسيحيين في الشرق الأوسط، الصعوبات التي تواجه حضورهم، القضايا التي تتقاطع مع وجودهم في مجتمعاتهم مثل السلم والحرب والعدالة والظلم والفقر والأصولية.
هذا السينودس يعد فرصة لتدارس تلك القضايا سيما بعد أن أصبح الشرق الآن غير قاصر على المسيحيين والمسلمين فقط فقد بات هناك اليهود في إسرائيل والفرس في إيران والأتراك على الحدود وينشط دورهم في المنطقة مؤخرا، أي أن هناك وجود لمتغيرات عرقية أثنية متباينة، هذا المؤتمر باختصار هو محاولة على الطريق لفهم الحاضر واستشراف المستقبل للحضور المسيحي العربي الكاثوليكي مشرقيا.
أليس في مثل هذا السينودس ضرب من ضروب الخلط الديني بالسياسي في عالم يفصل بين الدين والدولة؟
بصفتي مطرانا للروم الملكيين سابقا وقبل أن أصير بطريركا خدمت في القدس 26 سنة كنت فيها ادعى الى حضور اجتماعات لقيادات فلسطينية عندها جاءني مسؤولون إسرائيليون قائلين: ما شأنك وهذه الاجتماعات، أنت رجل دين؟ كنت أجيبهم بالقول: أنا ادعى الى هذه الاجتماعات بوصفي رجل دين ودعوتي ورسالتي هي أن لا أكون سياسيا الى جانب سياسيين ومناضلين بل أن أكون مواطنا مؤمنا انسانا القي ضوءا روحيا على قضايا سياسية حتى تكتسب هذه السياسة بعدا إيمانيا جديدا.
البابا عندما يتكلم عن السياسة لا يتكلم كسياسي إنما كمؤمن يحاول أن ينير سبيل السياسة والسياسيين، وهذا من اجل خدمة الإنسان والإنسانية. هذه هي رسالة البابا ورسالة كل رجل دين عليه أن يخوض المعترك السياسي بهذا المعنى وإلا أضحى خائنا لرسالته الروحية، والمسيح عندما قال "أعط ما لقيصر لقيصر وما لله لله" كان ينطلق من طرح سياسي يسعى للحفاظ على الحقوق المدنية بروح إيمانية لا سياسية جافة أو عنصرية عدائية.
</SPAN>
Comment