من أجمل ما قرأت لزياد الرحباني
{صديقي الله}
الديوان الوحيد وغير المعروف لزياد الرحباني
والذي كتبه في سنّ الحادية عشرة
1
أنا صغير
ولسادس مرّة أطفئ الشموع
ما أحلى الحياة عند إطفاءة شموع سادسة
ما أعرف؟
لا أعرف شيئاً
لا أعرف إلا أنّ لي بيتاً بجدران
سريراً وصورتَين
خبزاً وماء لا غير
وأصبحت دنياي بيتاً بجدران
سريراً وصورتين
خبزاً وماء لا غير.
2
وقالوا يوماً: إن الله صديقي
ورحت أفتّش عن صديقي
في الأحراج، بين الزهور
في الأشجار المورقة، وراء الصخور
وخافت منّي العصافير وهربت
تُرى صديقي كالعصافير خاف مني وهرب؟
وسألتهم: صديقي هل يخاف؟
قالوا: يخاف ألا تحبّه.
وقلت: أين هو؟
وقالوا: في كل مكان.
3
إذا جئت يا صديقي
فنذهب إلى الأحراج
نذهب إليها نسرقها
نقول إنها لنا
لي ولك، لا أحد يسمعنا
إذا أردت أن تأتي فتعال قبل الشتاء
في الشتاء طُرُق المجيء مسكّرة
وطرق السفر يقف عليها أُناس كثيرون،
لا يبكون، لا يضحكون
إنهم مسافرون
وعصافير تنتظر موكب الريح
هل يصل صوتي إليك عبر كل هذه الأوراق المتساقطة؟
4
وكان المساء فسألتهم:
كيف تُظلم الدنيا
وصديقي ما زال يلعب في الأحراج
ولم يرجع إلى بيته؟
فقالوا: ليس له بيت
كل البيوت بيوته ولا يسكنها
كل الأعشاش أعشاشه ولا يسكنها
وسألت: أين يسكن
فقالوا: يسكن النفس
وعرفت أن صديقي -
وردة لا تطال
أعلى الورود وأجملها.
5
أفقت هذا الصباح على صوت آخر البلابل
فالشتاء أتى اليوم
يوم علمت أنه لا يطال
لماذا أخبرتموني أنه بعيد!
ليتكم كذبتم عليّ
أنظر من شبّاكي فأَرى الأرض تدفن الألقاب الحلوة -
فما بعد موعدنا وما بعد حبيبي
أنظر من شباكي
فالأشجار تودّ كل واحدة لو تنام على الأخرى
وتناديها يا أمّي
أتى فصل التشرّد والبعد.
6
أخرج من غرفتي وأختي ما تزال نائمة
هي مرتاحة البال
أصدقاؤها كلّهم هنا في الحي
يلعبون كلّ يوم، كلّ ساعة
يعمّرون الوقت كالبيوت الرملية
ومتى هدموه، غابت الشمس فوق البحر
سأعود إليهم
نلعب في الزواريب
بين البيوت.
7
أسأل أمّي:
إلى أين يأخذكِ هذا الشال الأبيض؟
وتقول أمّي: إلى الكروم
وأعود أسألها:
أمّي هل أذهب معكِ؟
وتقول لي:
سنذهب معاً، خذ السلّة
وأنا لا فرحة لي أكبر من أن أحمل السلّة
وأخذت السلّة ومشينا
السماء سكرتْ من لونها الأزرق،
ولبست لوناً رمادياً
وسألت أمّي: أين الكروم
قالت: هناك
وكلّ ما ليس هنا، يكون هناك
ونقط المطر تغنّي فوق الحجارة
وحملتني أُمّي وأنا أحمل السلّة
صرنا كسفينة ذاهبة إلى الكروم
ووصلنا وكنّا آخر الآخرين
ونزلنا إلى الجلالي علّنا نجد عنباً
ووجدنا عنقوداً واحداً والريح تُسقط حبوبه،
واحدة بعد واحدة
فقلت لأمّي: نأخذه قبل أن ينتهي
وقالت: لم يعد هناك غيره
نتركه فلا تستوحش الكروم بدون عناقيد
وظللنا نمشي
لا أعرف لماذا
لكننا لم نضجر.
8
متى عدت إلى بيتي
فأمطري يا سماء
لن يتبلّل ثوبي الأحمر
متى عدت إلى بيتي
فاغضبي يا رعود
متى سكّرت الباب
وقفلته مرّتين
فصرّخي يا ريح أمام الأبواب
لن تفتح
متى أوقدت النار في الموقد
فَسَلْ يا ثلج عن ولد
كان هنا مكانك يلعب
متى غفوت في السرير
لا عندما أكذب على أمّي
بل عندما أغفو حقاً
فانزلي حقاً يا صواعق
أنا في الداخل
والباب موصد
والنار مشتعلة
فيا شتاء أقبل.
9
قلت لهم:
ألا تسكّرون الأبواب
العاصفة هنا عند المفرق
وقالوا:
على مرّ الأيام تعوّدت الأبواب
وسوف تتسكّر وحدها عندما ترى العاصفة
قلت: ألا تسكّرونها أنتم بأيديكم القوية
قالوا: مللنا الحياة
امتلأت الأرض بالشتائم والحقد
زرعوا خناجر في قلب الكلام
صاروا يعدّون ذكياً من يكفر أحسنهم بالله
ذكياً الذي كلامه أكثر الكلام سفالة
آه لو كان الكلام كالخبز يُشرى
فلا يستطيع أحد أن يتكلّم
إلا إذا اشترى كلاماً
وقلت لهم
ألا تسكّرون الأبواب
فقالوا:
ليت كلّ همومنا أبواب للتسكير.
10
جلست أمّي أمام الموقد تخبرني قصّة
قالت: كان رجل يعمّر بيتاً
كان فقيراً وجمّع الأحجار حجراً حجراً
أتى بها من الأحراج والغابات
وأتعبه العمل لكنه أكمل قائلاً في نفسه:
أعمّر بيتاً أسكنه لباقي العمر.
وظلّ يعمّر طول عمره
وعندما انتهى البيت، انتهى صاحب البيت
وقلت لأمّي:
هل انتهت القصة؟
فقالت أمّي:
نعم.
11
يأتي يوم العيد
والأجراس تصلّي
تصرخ إلى الله من كلّ مكان
والناس يلبسون ثياب الأحلام
ويدخلون الكنائس
والعصافير على سطح الكنيسة
تصلّي إلى الله
فالله الناسِ والعصافيرِ واحد
والراهب الأسود يرتّل ما حفظه من سنين
منذ كان طير أبيض يمرّ بالكنائس
ويضع في كلّ واحدة منها ريشة من جناحه.
12
عندما أرسلوني يوماً إلى المدرسة
وكنت أنتظر ساعة الرجوع
علّموني هناك أن أحكي مع الله، صديقي،
علموني أن أُصلّي.
ما كانت تقوله لي أمّي
قبل أن أغفو في السرير
والريح في الخارج تخرّب العالم
ما كانت تقوله كان أحلى.
13
أحببتك أكثر مما علموني في الصلاة
أنا ألف مرّة يخطر ببالي
أن أناديك بصوت بسيط:
أين أنت يا ربّي؟
أنا لم أعرفك تحمل صلباناً، وتموت من أجلي
أنا عرفتك ولداً لا يقدر أن يحمل الصليب
أنا عرفتك ولداً يطير كالفراش فوق الزهر في الصباح
فسكنتْه العصافير
أنا لم أعرفك تتعذّب
أنا عرفتك ولداً، لو تركوه يلعب
ونسوا أن يقولوا له:
"مضت أيام وأنت تلعب"
لظلّ يلعب طول حياته ولا يضجر.
14
لا أريد أن أصلّي إلا ما أفهمه
لا أريد أن أصلّي
دعوني أصرخ
فوق الجبال الصخرية
في الوديان الساكتة
فتصرخ معي
أين أنت؟
دعوني أخبر الشجر
قصة صديقي
هذه هي صلاتي.
15
يومٌ أذهبه إلى المدرسة
أحسّه سفراً يا أمّي
أحسّه بُعداً عنك وعن أبي
وعن شبّاكنا المكسور
أذهب إلى المدرسة وأغمض عيني
أقول أتى المساء
ثم أفتحهما
وأرى أن الوقت لم يرحل بعد
ألف مرّة أغمض عيني
وأقول أتى المساء
إلى أن يأتي
ويقرع الجرس، فأهرب من المدرسة
وأركض على الدرب والشمس تغيب
أسبق نسيم المساء إلى بيتنا
ويلوح لي بيتنا من بعيد
وأرى أهلي يقفون أمام الباب
على السطوح
يلوّحون بالمناديل كي لا أضيع عن البيت
وأنظر خلفي أرى هل المدرسة لحقتني؟
وأصل إلى أهلي
أرتمي بين أيديهم
أغرق في أيديهم وعلى صدورهم كأنها بحار
وندخل بيتنا
نسمعه يغني فرحاً لعودتي من سفري
وأسأل أمّي:
أمّي لماذا أرحل إلى المدرسة؟
أتحبّين هذا؟
وتقول:
أشتاق إليك في نهاري.
وأقول لأمّي:
ما دمت أنا لا أحب أن أرحل
وأنت لا تحبّين
فلماذا أرحل؟
وتقول:
لست أدري!
16
أرسم صوراً على ورق
وعندما أريد أن أمزّقها
تركض أمّي تأخذها
وتحفظها في خزانة قديمة
على الورق الكثير
رسمتُ بيوتاً وورداً
رسمت أبي
ولا أحد غيري يعرف أن الصور
بيوتٌ وورودٌ وأبي.
17
أنا الآن في السرير
وسوف أغفو فيغفو السرير
وعندما نغفو تنزل النجوم
وتنام عندنا
القمر يترك العالم في الظلام
يحبّ أن ينام عند الأولاد الصغار
تمرّ بسريرنا السواقي الحالمة
تأخذنا معها
فيسري السرير في السواقي،
كالزورق السكران
يوقف سيرَنا حجرٌ صغير
لكننا نمشي
نقطع الوديان ونصل إلى البحر
فترمينا السواقي
ويرسو سريري فننزل إلى الشاطئ
نرى فتاة
تخبرنا قصة
نركب في القصة
أنا والسرير والنجوم والقمر
ونطير
وتوصلنا القصة إلى باب بيتنا.
18
أفقت اليوم وأهلي نائمون
واتكأت على الشبّاك المبلل بالمطر
العمر يفرّ من ساعة على طاولة في بيتنا
الأولاد يلعبون في الزواريب
بين البيوت
تحت المطر
ورحت أتخيّل
إذا يوماً خطر ببال الطريق أن يسافر
أن يحمل الأشجار ويسافر
كيف بعد يسافر المسافر
* * *
وتخيّلت شيئاً آخر:
أليس في كلّ ثانية من الحياة،
إنسان يضحك؟
إذن في الأرض ضحك متواصل
أنا أجمع عن الوجوه الضحكات
عن وجوه الفلاحين
عن وجوه الرهبان الطاعنين في السنّ
عن أفواه الأولاد
عن وجوه المنتصرين
ومهما اشتدّت الحروب
ألا تبدر ضحكة عن وجه
من حشودٍ تجمّعتْ رسمياً؟
أليس في كل ثانية من الحياة
إنسان يضحك؟
إذن في الأرض ضحك متواصل!
وفجأةً
انفجر البعيد
ارتجّ بيتنا
خاف المطر وسقط عن الشبابيك
استيقظ أبي
قال: ماذا؟
قلت: ماذا؟
نظرتُ إلى الزواريب
الأولاد كالعصافير رفرفوا وطاروا
وارتج بيتنا
سقطت صورة عن الحائط
أفاقت أمّي خائفة
وقالت: ماذا؟
ركض أبي إلى الشبّاك ينظر
ركضت إلى الصورة المكسورة
وعيناي تقولان: ماذا؟
وسمعت كلمة: الحرب!
وسألت ما الحرب؟
وعلا صراخ في الخارج
لمحتُ دمعتين
ركض أبي إلى الخزانة
وأخذ منها بندقيته،
التي كان يصطاد بها العصافير
وعلا بكاء أخوتي
وقيل لا تخافوا
والقائل يرتجف
وكيف لا نخاف؟
والزوايا اختبأتْ في الزوايا
ونار الموقد اختبأتْ تحت الحطبات
والشبابيك التي كانت تنتظر الصباح لتفتح قلبها
تسكّرت وتجمّعت أمامها وجوه كثيرة،
تحكي وتصرخ وتبكي بصمت
وهربت الشمس فوق الجبال بين الأغصان الفارغة
كالفتاة المذنبة الهاربة
وشعرها يتطاير وراءها
ركضتْ أمّي وضمتني إليها
ورأينا المهاجمين
كالصخور تسري في الليالي الهوج
يجرحون الأرض بالسلاح
ورأينا البيوت في البعيد
تبكي وهي تتهدّم
وصراخ أصحابها أعلى من صراخها
والرمل ينتحر في الفضاء
وأحسستُ كأنني كنتُ أعرف ما الحرب
وأنني تذكرتُ فجأةً أنني أعرف
وغَمَرَ دخانُ الأغصان المشتعلة الساحات
ونمتُ في السرير
وغرقتُ تحت اللحاف
كي لا أسمع ولا أرى
* * *
وعندما هدأ كلُّ شيء
ما هدأ؟
لم تهدأ سوى الأشياء
أما الأرواح
فالآن ثارتْ وغضبتْ
وأحست بحبّ الانتقام
ورأيت الباب مفتوحاً
نهضتُ ووقفتُ أمامه
الصقيعُ هنا
لا شيء تغيَّر
رأيت أبي وأمّي
وكلَّ أهل ضَيْعتنا
يقفون في الضباب
وينظرون إلى ما تهدَّم، هناك
وصارت الأحاديث بين العيون
* * *
مشينا في الوحل والضباب
نحو ساحات المعارك
وعاد المطرُ يهطل
ووصلْنا
الأشجارُ العارية السوداء
تقفُ كالراهبات السُّود
دَيْرُها الضبابُ والشبابيكُ المكسورة
ورأيت أُناساً يأتون من بيوتهم المتهدّمة
يأتون من وراء الضباب وقد التفُّوا بالأغطية
على صدورهم صلبانٌ من خشب
يتحرّكون كالصخور التي لا تتحرّك
وبينهم أولادٌ مثلهم
سُرِقَ من عمرهم ألفُ ربيع
والغيومُ في هديرِ سَفَرها الغامر
توقّفتْ هنا
وراحت ترتّلُ فوق البيوت المتهدّمة
وركض أهلُنا إلى الناس والأولاد
وساعَدوهم
وعُدْنا بازدحام
وأحسستُ بينهم بالقوّة
بوَحْدةِ التجمُّع
عدِنا إلى ضيعِتنا الصغيرة
دخلْنا بيوتَنا الصغيرة
وجلسْنا في الزوايا نصلّي
نحنُ والمشرّدين
* * *
أَتيتُ الأولادَ المشرّدين بالأوراق
وسألتُهم أن يرسموا أشجاراً
فرسموا أغصاناً طويلة فارغة
نائمة على الأرض
وعليها مدفعٌ وعسكر
فقلتُ: لا، إلاّ هذا
ارسموا زهراً وبيتاً
فرسموا زهوراً ملقاةً في مياه المطر
والعسكرُ يدوسُها
وقلتُ: لا، إلا هذا
ارسموا عصفوراً يغنّي
كما كنتم ترسمون مِن قَبل
فرسموا عصفوراً يبكي
والمطرُ يهطل
فسكتُّ وأخذتُ الأوراق
وذهبت.
19
كانت أحاديث السهرة تدور
فقلتُ:
حدِّثونا عن غير الموت
قالوا: نحكي عن الحرب
قلت: عن غير الحرب
قالوا: نحكي عن دموع المشرَّدين
قلت: عن غير دموعهم
قالوا: عن المنتظِرين
قلت: عن غير المنتظرين
قالوا: لا نعرف غير هذا فَعَمَّ نحكي؟
قلت: اسهروا كما تسهر الحيطان
لا تتكلّموا عن شيء
وانظروا بعضكم إلى بعض
علَّ وجوهَكم تتحادث.
20
في ليلة.
والقمرُ ساهرٌ على الساقية السكرى
والأحجار تحكي الحكاياتِ الصغيرة
والأصوات نائمة بين الزهور
وغطيطُ عصفور يلوّن الليلَ.
في ليليّة.
والصمتُ يسهر فوق
على الجبل الأَسود
والدروب ضجرانة
والكروم تركض نحو القمر
في ليلة
أَلاَ جئتَ نسهر يا الله؟
ألا جئتَ فتلعب مع أبي بالورق؟
ومع السُّكارى الآتين من بيوتهم السكرانة مِن فَقْر
يحكون لك حقائقَهم وحالتَهم
وترى كم هم طيّبون
وأمّي تعمل لكم القهوة،
نُخبرك النكات
ومعاً نضحك
نَعُدُّ لك مَن تَزَوَّج في ضيعتنا
ومَن سافر
ألا جئتَ نخبرك كيف تصير الأعياد
ألا جئت نُريك في سطح بيتنا
من أين ينزل المطر
وأين يعتق الخبز
نُعرّفك بخبّاز خبزِنا اليومي
ألا جئتَ يا الله؟
تأتي في الليل
وتذهب قبل الصباح
ألا جئت نسهر؟
21
لو عددتُ درجات بيتي
وكم من مرّة صعدْتُها
لَكَانَ هذا درجاً طويلاً
يخترق السحب
ولو عددتُ ضحكات أمّي لي
لرافقتْني طوال صعودي
ووقعتْ مِن بَعدي الضحكاتُ على الدرج
وأزهرتْ زهراً.
22
تعبتُ فجلستُ
ومرّت بي فتاة وقالت:
ما بك تجلس على الوقت!
23
لا نريد أحداً بعدَ اليوم
اطردوا الحرّاسَ والنواطير
نحن أصحابُ الكروم
ونحن السارقون
نملأ السلال
نضعها على الطريق
ثم نتسلّل من بين الكروم
ونصل إلى الطريق
ونسرق السلال.
أصحابُ الكروم
يسرقون كرومهم.
24
اخترت اسمي مغيَّراًً عن كلّ الأسماء
حتى إذا ندهتَني
صرختُ وحدي: نعم
وما ظننتُ النداءَ لغيري
لأقول نعم
من بين صراخ الأولاد
وأرجُلِ المحاربين.
اخترتُه اسمي مغيَّراًً
حتى إذا كنتُ نائماً
أفقتُ وقلت:
مَن يناديني؟
إن كنت أختبئ عن عيون الأولاد
ونحن نلعب
تناديني
أقول: نعم!
ويعرف مكاني الأولاد
* * *
اخترتُ يا ربّي اسماً مغيَّراً
حتى إذا ندهتَني
صرختُ وحدي: نعم
وما ظننتُ النداء لغيري.
25
في الأرض ليس مِن كُتَّاب
كُلُّنا كُتَّاب
نكتب حياتَنا على الأيام
وكلٌّ يخاف على حِبره
ولا يعطي منه الآخرَ
ومتى انتهى دمعُ الكتابة
انتهى كاتبٌ مِن الكتّاب
نبكي عليه وننساه
ونتشجّع لإكمال الكتابة
وينتهي آخر
ونتجمّع في الزوايا
نشدّ بعضنا لبعض علّّنا نبقى
والريح من وراء الأبواب
تنفخُ على الحبر لينشف
متى ضاع كاتبٌ من الكتّاب
نروح نخاف من فَراغ الشوارع
ومقاعدِ الكنيسة
مِن هدير البحر نخاف
مِن الرعد
مِن النار الخافتة نخاف
نخاف من عيون الخائفين
مِن الفرح
مِن تجمُّع العصافير
مِن دَقّة الباب نخاف
ونهوى السكوت والظلام لكي نسمع الآتي
ولو أنه لا يُسمع!
26
زوايا بيتنا مليئة بالأشياء
خزانات بيتنا مليئة بالأشياء
وتحت كلّ سرير أشياء عتيقة
نحن نحبّ الأشياء وإنْ قلّ استعمالها
أو صارت لا فائدة منها
لا نعطيها أحداً ولا نرميها
نُحسّ أن للأشياء أرواحاً
تَحزن إذا أبعدوها عن أصحابها
وغداً يمتلئ بيتُنا
ولا يعود لنا مكان
27
صرت أخاف
أنْ أُطيل النوم
كي لا يذهب الجميع
وأبقى وحدي
28
هل ربُّنا في الكنيسة؟
ألم يهرب منذ أيام الحروب؟
وإلى مَن نذهب وتذهبون؟
إنما نحن نذهب إلى الصلاة معاً
لا لأن الربّ هناك
لأنه ليس هناك
هذا المذبح لا يتّسع لله
مذابحُنا صغيرة
يجب أن نستقبله في ملاعبنا الوسيعة
29
تلبس أمّي فستاناً جديداً
وتسألني:
هل جميلٌ فستاني؟
وأقولُ لها:
إنه جميلٌ جداً.
وكثيراً ما
تسألني عن غيرهِ وأُجيبها
إنه جميل جداً.
ومرّةً قالت أمّي:
تُجيبني دائماً
حلوةٌ الفساتين فهل خجلاً؟
قلتُ:
في دنيانا يا أمّي
لا يوجد فستانٌ بشع
ما دام لكلّ فستان
واحدةٌ تُحب أن ترتديه.
30
لأنك ضحكتَ
نحن في الوجود
ضحكتَ يوماً
فتفجّرتْ من ضحكتك
الناسُ والأطفال.
31
أليس مركبُهُ وسيعاً ليحملَنا؟
وكلَّنا؟
أليستْ أمواجه قوية؟
لتدفع مراكبه إلينا؟
فما الرحيلُ همّنا
بل الوداع.
اكتبوا على الأوراق
على أوراق الدفاتر
على أوراق الأشجار الصفر
اكتبوا على شبابيك الزواريب الطويلة
على أصغر الأحجار
احفروا في جذوع الأشجار
على أبواب البيوت المتهدّمة
اكتبوا كلَّ ما يخطر ببالكم
فإننا راحلون!
اكتبوا
أنّ في يومٍ من سنةِ كذا
في جيلِ كذا
ضحكَ ولدٌ قبل أن ينام
اكتبوا
ما دام الرحيل يكتبه هو
فالوداع لنا
نجعله أحلى وداع.
32
إن لم أكن فَرِحاً
لا أستطيع أن أصلّي
ما مِن مرّةٍ صلّيتُ
إلا وفي قلبي
عصفورٌ يلعب
وغصنٌ يلوّح.
33
يا مشغولاً بمأساة
ألا عَرَّجتَ في الطريق
على طفلٍ
تُخبره قصّتَك فيبكي لك
أمّا نحن فلا تُنادِنا
كلُّنا صرنا صخورَ مصائبِنا
لا أحدٌ يبكي
كلُّنا صخور
لكننا اخترْنا الأطفالَ والفصولَ
للاستماع إلى قِصصنا
وللبكاء.
34
هل تعرفين؟
الصغيرُ أمام الكبيرِ،
أمامَ سيّدهِ
كلامُه أحلى من كلام سيِّده!
35
الطفلُ متى عرف أنه من أسراب الطفولة البريئة
لم يعدْ منها.
الطفلُ متى صار يعرف
كيف يرسم المهندسُ البيتَ
هربتْ من صُوَره
خطوطُ الحبّ
والجمالِ الصغير.
البسيط متى عرف أنه بسيط
لم يعدْ بسيطاً
الإنسانُ متى عرف الحقائق
سقط عن سرير الأحلام.
36
أَشكُركَ
جعلتَ في الناس
ما يجعلهم لا يضجرونَ من اعتذاري
كلُّ مُعرّفي العالم يعرفونني
صاحَبتْنا الخطايا.
آتيكَ كلَّ مساءٍ أعتذر
إنْ ضجرتَ مني،
سآتي غداً بالناي وبالأوتار
سآتي كلَّ يوم بآلة
وأُغنّيك خطاياي.
37
أتحدّاك بالخطيئة
تتحدّاني بالحب
وأسكت
لأننا
أنت الحب
وأنا لست الخطيئة.
38
كيف أُفْهِمك
يا عصفورَ قَفَصِنا
إنني أنا غيرُ أهلي
لا أُحبُّ أن أقتني
لا أقفاصاً ولا عصافير.
39
أَشرعةُ كلامنا
إليكَ سائرة
وأنتَ حيثُ اللقاءُ
فلا تحزنْ
كلّما ساقتِ الرياحُ
أَشرعتَنا إلى غيرك.
40
آملُ أن يكون الوداعُ ساعةَ لا أكون
آملُ أَن تُقتلَ العصافير، يومَ أكونُ بعيداً
آملُ أن يموت الأحبّاء، يوم أكون في سَفَر
آملُ كثيراً
لأنّ العين الدامعة تُبكيني
وكم من شيء
أريدُ منه أن أتدارى
لكنْ
لا مفرّ من الدموع.
41
كلُّهم يعرفون أن دقيقة العمر
مرّةً تأتي
ويعرفون أن الفرح فيها
أحلى من الحزن
لكنّهم لا يصدقون أنفسَهم.
42
أُحبُّكَ قدرَ ما تُحبّني
بل خفْ أنْ يصير حبّي لك
أكبر من حبّك لي.
43
ليتَهما يعرفان أن العِتابَ كالدخانِ يفنى
ليتهما يعرفان أن الفرح أقوى من الحزن
ليتَهما يعرفان أن الفرح أقوى من الحزن
ليتَهما يعرفان أنّ لحظة العمر الأخيرةَ
قد تنزل علينا تأخذنا
ونحن نتخاصم
ليتني لا أعرف ما أعرف!
44
أشياء ما حُلَّتْ
ولن تُحَلّ
هيَ أنّ الطفل
يَوَدُّ لو يأكل مرّتين مِن الحلوى
ويمنعونَه
هي أن الطفل
يودُّ لو يلعب على مدى الأيام
ويمنعونَه.
45
حائرٌ أنا
بين أن يبدأ الفرح
وألاّ يبدأ
مخافةَ ينتهي.
46
لا أحسدُكَ
على معرفتك
مصيرَ كلٍّ منّا
لأنك قد تبكي على مصيرٍ حزين
بينما صاحبُهُ سهران يضحك
وتعرفُ الفرحَ قبلَ وقوعِه
فلا ترى مثلَنا
لذّة المفاجأة.
47
لا يعود شيءٌ يخيف
إنْ صرناه.
48
طوالَ عيدِ العمر
واحتفالاتِ الضجر
وفي أزمنةِ الحروب
أخافُ أنْ تهرب ثانيةً يا الله
لأنك إذا غبتَ
وعُدْتَ
ترى الأسلحةَ مُعدَّة
وموجَّهة إليك.
49
الأيام أبواب
على كلٍّ منها حارس
وقد كُتب علينا
أنْ نَخلقَ كلَّ يوم
وعلى كلِّ باب
قصةٍ جديدة
نُلهي بها الحارسَ
ليفتحَ لنا الباب
إلى بابٍ آخر .
{صديقي الله}
الديوان الوحيد وغير المعروف لزياد الرحباني
والذي كتبه في سنّ الحادية عشرة
1
أنا صغير
ولسادس مرّة أطفئ الشموع
ما أحلى الحياة عند إطفاءة شموع سادسة
ما أعرف؟
لا أعرف شيئاً
لا أعرف إلا أنّ لي بيتاً بجدران
سريراً وصورتَين
خبزاً وماء لا غير
وأصبحت دنياي بيتاً بجدران
سريراً وصورتين
خبزاً وماء لا غير.
2
وقالوا يوماً: إن الله صديقي
ورحت أفتّش عن صديقي
في الأحراج، بين الزهور
في الأشجار المورقة، وراء الصخور
وخافت منّي العصافير وهربت
تُرى صديقي كالعصافير خاف مني وهرب؟
وسألتهم: صديقي هل يخاف؟
قالوا: يخاف ألا تحبّه.
وقلت: أين هو؟
وقالوا: في كل مكان.
3
إذا جئت يا صديقي
فنذهب إلى الأحراج
نذهب إليها نسرقها
نقول إنها لنا
لي ولك، لا أحد يسمعنا
إذا أردت أن تأتي فتعال قبل الشتاء
في الشتاء طُرُق المجيء مسكّرة
وطرق السفر يقف عليها أُناس كثيرون،
لا يبكون، لا يضحكون
إنهم مسافرون
وعصافير تنتظر موكب الريح
هل يصل صوتي إليك عبر كل هذه الأوراق المتساقطة؟
4
وكان المساء فسألتهم:
كيف تُظلم الدنيا
وصديقي ما زال يلعب في الأحراج
ولم يرجع إلى بيته؟
فقالوا: ليس له بيت
كل البيوت بيوته ولا يسكنها
كل الأعشاش أعشاشه ولا يسكنها
وسألت: أين يسكن
فقالوا: يسكن النفس
وعرفت أن صديقي -
وردة لا تطال
أعلى الورود وأجملها.
5
أفقت هذا الصباح على صوت آخر البلابل
فالشتاء أتى اليوم
يوم علمت أنه لا يطال
لماذا أخبرتموني أنه بعيد!
ليتكم كذبتم عليّ
أنظر من شبّاكي فأَرى الأرض تدفن الألقاب الحلوة -
فما بعد موعدنا وما بعد حبيبي
أنظر من شباكي
فالأشجار تودّ كل واحدة لو تنام على الأخرى
وتناديها يا أمّي
أتى فصل التشرّد والبعد.
6
أخرج من غرفتي وأختي ما تزال نائمة
هي مرتاحة البال
أصدقاؤها كلّهم هنا في الحي
يلعبون كلّ يوم، كلّ ساعة
يعمّرون الوقت كالبيوت الرملية
ومتى هدموه، غابت الشمس فوق البحر
سأعود إليهم
نلعب في الزواريب
بين البيوت.
7
أسأل أمّي:
إلى أين يأخذكِ هذا الشال الأبيض؟
وتقول أمّي: إلى الكروم
وأعود أسألها:
أمّي هل أذهب معكِ؟
وتقول لي:
سنذهب معاً، خذ السلّة
وأنا لا فرحة لي أكبر من أن أحمل السلّة
وأخذت السلّة ومشينا
السماء سكرتْ من لونها الأزرق،
ولبست لوناً رمادياً
وسألت أمّي: أين الكروم
قالت: هناك
وكلّ ما ليس هنا، يكون هناك
ونقط المطر تغنّي فوق الحجارة
وحملتني أُمّي وأنا أحمل السلّة
صرنا كسفينة ذاهبة إلى الكروم
ووصلنا وكنّا آخر الآخرين
ونزلنا إلى الجلالي علّنا نجد عنباً
ووجدنا عنقوداً واحداً والريح تُسقط حبوبه،
واحدة بعد واحدة
فقلت لأمّي: نأخذه قبل أن ينتهي
وقالت: لم يعد هناك غيره
نتركه فلا تستوحش الكروم بدون عناقيد
وظللنا نمشي
لا أعرف لماذا
لكننا لم نضجر.
8
متى عدت إلى بيتي
فأمطري يا سماء
لن يتبلّل ثوبي الأحمر
متى عدت إلى بيتي
فاغضبي يا رعود
متى سكّرت الباب
وقفلته مرّتين
فصرّخي يا ريح أمام الأبواب
لن تفتح
متى أوقدت النار في الموقد
فَسَلْ يا ثلج عن ولد
كان هنا مكانك يلعب
متى غفوت في السرير
لا عندما أكذب على أمّي
بل عندما أغفو حقاً
فانزلي حقاً يا صواعق
أنا في الداخل
والباب موصد
والنار مشتعلة
فيا شتاء أقبل.
9
قلت لهم:
ألا تسكّرون الأبواب
العاصفة هنا عند المفرق
وقالوا:
على مرّ الأيام تعوّدت الأبواب
وسوف تتسكّر وحدها عندما ترى العاصفة
قلت: ألا تسكّرونها أنتم بأيديكم القوية
قالوا: مللنا الحياة
امتلأت الأرض بالشتائم والحقد
زرعوا خناجر في قلب الكلام
صاروا يعدّون ذكياً من يكفر أحسنهم بالله
ذكياً الذي كلامه أكثر الكلام سفالة
آه لو كان الكلام كالخبز يُشرى
فلا يستطيع أحد أن يتكلّم
إلا إذا اشترى كلاماً
وقلت لهم
ألا تسكّرون الأبواب
فقالوا:
ليت كلّ همومنا أبواب للتسكير.
10
جلست أمّي أمام الموقد تخبرني قصّة
قالت: كان رجل يعمّر بيتاً
كان فقيراً وجمّع الأحجار حجراً حجراً
أتى بها من الأحراج والغابات
وأتعبه العمل لكنه أكمل قائلاً في نفسه:
أعمّر بيتاً أسكنه لباقي العمر.
وظلّ يعمّر طول عمره
وعندما انتهى البيت، انتهى صاحب البيت
وقلت لأمّي:
هل انتهت القصة؟
فقالت أمّي:
نعم.
11
يأتي يوم العيد
والأجراس تصلّي
تصرخ إلى الله من كلّ مكان
والناس يلبسون ثياب الأحلام
ويدخلون الكنائس
والعصافير على سطح الكنيسة
تصلّي إلى الله
فالله الناسِ والعصافيرِ واحد
والراهب الأسود يرتّل ما حفظه من سنين
منذ كان طير أبيض يمرّ بالكنائس
ويضع في كلّ واحدة منها ريشة من جناحه.
12
عندما أرسلوني يوماً إلى المدرسة
وكنت أنتظر ساعة الرجوع
علّموني هناك أن أحكي مع الله، صديقي،
علموني أن أُصلّي.
ما كانت تقوله لي أمّي
قبل أن أغفو في السرير
والريح في الخارج تخرّب العالم
ما كانت تقوله كان أحلى.
13
أحببتك أكثر مما علموني في الصلاة
أنا ألف مرّة يخطر ببالي
أن أناديك بصوت بسيط:
أين أنت يا ربّي؟
أنا لم أعرفك تحمل صلباناً، وتموت من أجلي
أنا عرفتك ولداً لا يقدر أن يحمل الصليب
أنا عرفتك ولداً يطير كالفراش فوق الزهر في الصباح
فسكنتْه العصافير
أنا لم أعرفك تتعذّب
أنا عرفتك ولداً، لو تركوه يلعب
ونسوا أن يقولوا له:
"مضت أيام وأنت تلعب"
لظلّ يلعب طول حياته ولا يضجر.
14
لا أريد أن أصلّي إلا ما أفهمه
لا أريد أن أصلّي
دعوني أصرخ
فوق الجبال الصخرية
في الوديان الساكتة
فتصرخ معي
أين أنت؟
دعوني أخبر الشجر
قصة صديقي
هذه هي صلاتي.
15
يومٌ أذهبه إلى المدرسة
أحسّه سفراً يا أمّي
أحسّه بُعداً عنك وعن أبي
وعن شبّاكنا المكسور
أذهب إلى المدرسة وأغمض عيني
أقول أتى المساء
ثم أفتحهما
وأرى أن الوقت لم يرحل بعد
ألف مرّة أغمض عيني
وأقول أتى المساء
إلى أن يأتي
ويقرع الجرس، فأهرب من المدرسة
وأركض على الدرب والشمس تغيب
أسبق نسيم المساء إلى بيتنا
ويلوح لي بيتنا من بعيد
وأرى أهلي يقفون أمام الباب
على السطوح
يلوّحون بالمناديل كي لا أضيع عن البيت
وأنظر خلفي أرى هل المدرسة لحقتني؟
وأصل إلى أهلي
أرتمي بين أيديهم
أغرق في أيديهم وعلى صدورهم كأنها بحار
وندخل بيتنا
نسمعه يغني فرحاً لعودتي من سفري
وأسأل أمّي:
أمّي لماذا أرحل إلى المدرسة؟
أتحبّين هذا؟
وتقول:
أشتاق إليك في نهاري.
وأقول لأمّي:
ما دمت أنا لا أحب أن أرحل
وأنت لا تحبّين
فلماذا أرحل؟
وتقول:
لست أدري!
16
أرسم صوراً على ورق
وعندما أريد أن أمزّقها
تركض أمّي تأخذها
وتحفظها في خزانة قديمة
على الورق الكثير
رسمتُ بيوتاً وورداً
رسمت أبي
ولا أحد غيري يعرف أن الصور
بيوتٌ وورودٌ وأبي.
17
أنا الآن في السرير
وسوف أغفو فيغفو السرير
وعندما نغفو تنزل النجوم
وتنام عندنا
القمر يترك العالم في الظلام
يحبّ أن ينام عند الأولاد الصغار
تمرّ بسريرنا السواقي الحالمة
تأخذنا معها
فيسري السرير في السواقي،
كالزورق السكران
يوقف سيرَنا حجرٌ صغير
لكننا نمشي
نقطع الوديان ونصل إلى البحر
فترمينا السواقي
ويرسو سريري فننزل إلى الشاطئ
نرى فتاة
تخبرنا قصة
نركب في القصة
أنا والسرير والنجوم والقمر
ونطير
وتوصلنا القصة إلى باب بيتنا.
18
أفقت اليوم وأهلي نائمون
واتكأت على الشبّاك المبلل بالمطر
العمر يفرّ من ساعة على طاولة في بيتنا
الأولاد يلعبون في الزواريب
بين البيوت
تحت المطر
ورحت أتخيّل
إذا يوماً خطر ببال الطريق أن يسافر
أن يحمل الأشجار ويسافر
كيف بعد يسافر المسافر
* * *
وتخيّلت شيئاً آخر:
أليس في كلّ ثانية من الحياة،
إنسان يضحك؟
إذن في الأرض ضحك متواصل
أنا أجمع عن الوجوه الضحكات
عن وجوه الفلاحين
عن وجوه الرهبان الطاعنين في السنّ
عن أفواه الأولاد
عن وجوه المنتصرين
ومهما اشتدّت الحروب
ألا تبدر ضحكة عن وجه
من حشودٍ تجمّعتْ رسمياً؟
أليس في كل ثانية من الحياة
إنسان يضحك؟
إذن في الأرض ضحك متواصل!
وفجأةً
انفجر البعيد
ارتجّ بيتنا
خاف المطر وسقط عن الشبابيك
استيقظ أبي
قال: ماذا؟
قلت: ماذا؟
نظرتُ إلى الزواريب
الأولاد كالعصافير رفرفوا وطاروا
وارتج بيتنا
سقطت صورة عن الحائط
أفاقت أمّي خائفة
وقالت: ماذا؟
ركض أبي إلى الشبّاك ينظر
ركضت إلى الصورة المكسورة
وعيناي تقولان: ماذا؟
وسمعت كلمة: الحرب!
وسألت ما الحرب؟
وعلا صراخ في الخارج
لمحتُ دمعتين
ركض أبي إلى الخزانة
وأخذ منها بندقيته،
التي كان يصطاد بها العصافير
وعلا بكاء أخوتي
وقيل لا تخافوا
والقائل يرتجف
وكيف لا نخاف؟
والزوايا اختبأتْ في الزوايا
ونار الموقد اختبأتْ تحت الحطبات
والشبابيك التي كانت تنتظر الصباح لتفتح قلبها
تسكّرت وتجمّعت أمامها وجوه كثيرة،
تحكي وتصرخ وتبكي بصمت
وهربت الشمس فوق الجبال بين الأغصان الفارغة
كالفتاة المذنبة الهاربة
وشعرها يتطاير وراءها
ركضتْ أمّي وضمتني إليها
ورأينا المهاجمين
كالصخور تسري في الليالي الهوج
يجرحون الأرض بالسلاح
ورأينا البيوت في البعيد
تبكي وهي تتهدّم
وصراخ أصحابها أعلى من صراخها
والرمل ينتحر في الفضاء
وأحسستُ كأنني كنتُ أعرف ما الحرب
وأنني تذكرتُ فجأةً أنني أعرف
وغَمَرَ دخانُ الأغصان المشتعلة الساحات
ونمتُ في السرير
وغرقتُ تحت اللحاف
كي لا أسمع ولا أرى
* * *
وعندما هدأ كلُّ شيء
ما هدأ؟
لم تهدأ سوى الأشياء
أما الأرواح
فالآن ثارتْ وغضبتْ
وأحست بحبّ الانتقام
ورأيت الباب مفتوحاً
نهضتُ ووقفتُ أمامه
الصقيعُ هنا
لا شيء تغيَّر
رأيت أبي وأمّي
وكلَّ أهل ضَيْعتنا
يقفون في الضباب
وينظرون إلى ما تهدَّم، هناك
وصارت الأحاديث بين العيون
* * *
مشينا في الوحل والضباب
نحو ساحات المعارك
وعاد المطرُ يهطل
ووصلْنا
الأشجارُ العارية السوداء
تقفُ كالراهبات السُّود
دَيْرُها الضبابُ والشبابيكُ المكسورة
ورأيت أُناساً يأتون من بيوتهم المتهدّمة
يأتون من وراء الضباب وقد التفُّوا بالأغطية
على صدورهم صلبانٌ من خشب
يتحرّكون كالصخور التي لا تتحرّك
وبينهم أولادٌ مثلهم
سُرِقَ من عمرهم ألفُ ربيع
والغيومُ في هديرِ سَفَرها الغامر
توقّفتْ هنا
وراحت ترتّلُ فوق البيوت المتهدّمة
وركض أهلُنا إلى الناس والأولاد
وساعَدوهم
وعُدْنا بازدحام
وأحسستُ بينهم بالقوّة
بوَحْدةِ التجمُّع
عدِنا إلى ضيعِتنا الصغيرة
دخلْنا بيوتَنا الصغيرة
وجلسْنا في الزوايا نصلّي
نحنُ والمشرّدين
* * *
أَتيتُ الأولادَ المشرّدين بالأوراق
وسألتُهم أن يرسموا أشجاراً
فرسموا أغصاناً طويلة فارغة
نائمة على الأرض
وعليها مدفعٌ وعسكر
فقلتُ: لا، إلاّ هذا
ارسموا زهراً وبيتاً
فرسموا زهوراً ملقاةً في مياه المطر
والعسكرُ يدوسُها
وقلتُ: لا، إلا هذا
ارسموا عصفوراً يغنّي
كما كنتم ترسمون مِن قَبل
فرسموا عصفوراً يبكي
والمطرُ يهطل
فسكتُّ وأخذتُ الأوراق
وذهبت.
19
كانت أحاديث السهرة تدور
فقلتُ:
حدِّثونا عن غير الموت
قالوا: نحكي عن الحرب
قلت: عن غير الحرب
قالوا: نحكي عن دموع المشرَّدين
قلت: عن غير دموعهم
قالوا: عن المنتظِرين
قلت: عن غير المنتظرين
قالوا: لا نعرف غير هذا فَعَمَّ نحكي؟
قلت: اسهروا كما تسهر الحيطان
لا تتكلّموا عن شيء
وانظروا بعضكم إلى بعض
علَّ وجوهَكم تتحادث.
20
في ليلة.
والقمرُ ساهرٌ على الساقية السكرى
والأحجار تحكي الحكاياتِ الصغيرة
والأصوات نائمة بين الزهور
وغطيطُ عصفور يلوّن الليلَ.
في ليليّة.
والصمتُ يسهر فوق
على الجبل الأَسود
والدروب ضجرانة
والكروم تركض نحو القمر
في ليلة
أَلاَ جئتَ نسهر يا الله؟
ألا جئتَ فتلعب مع أبي بالورق؟
ومع السُّكارى الآتين من بيوتهم السكرانة مِن فَقْر
يحكون لك حقائقَهم وحالتَهم
وترى كم هم طيّبون
وأمّي تعمل لكم القهوة،
نُخبرك النكات
ومعاً نضحك
نَعُدُّ لك مَن تَزَوَّج في ضيعتنا
ومَن سافر
ألا جئتَ نخبرك كيف تصير الأعياد
ألا جئت نُريك في سطح بيتنا
من أين ينزل المطر
وأين يعتق الخبز
نُعرّفك بخبّاز خبزِنا اليومي
ألا جئتَ يا الله؟
تأتي في الليل
وتذهب قبل الصباح
ألا جئت نسهر؟
21
لو عددتُ درجات بيتي
وكم من مرّة صعدْتُها
لَكَانَ هذا درجاً طويلاً
يخترق السحب
ولو عددتُ ضحكات أمّي لي
لرافقتْني طوال صعودي
ووقعتْ مِن بَعدي الضحكاتُ على الدرج
وأزهرتْ زهراً.
22
تعبتُ فجلستُ
ومرّت بي فتاة وقالت:
ما بك تجلس على الوقت!
23
لا نريد أحداً بعدَ اليوم
اطردوا الحرّاسَ والنواطير
نحن أصحابُ الكروم
ونحن السارقون
نملأ السلال
نضعها على الطريق
ثم نتسلّل من بين الكروم
ونصل إلى الطريق
ونسرق السلال.
أصحابُ الكروم
يسرقون كرومهم.
24
اخترت اسمي مغيَّراًً عن كلّ الأسماء
حتى إذا ندهتَني
صرختُ وحدي: نعم
وما ظننتُ النداءَ لغيري
لأقول نعم
من بين صراخ الأولاد
وأرجُلِ المحاربين.
اخترتُه اسمي مغيَّراًً
حتى إذا كنتُ نائماً
أفقتُ وقلت:
مَن يناديني؟
إن كنت أختبئ عن عيون الأولاد
ونحن نلعب
تناديني
أقول: نعم!
ويعرف مكاني الأولاد
* * *
اخترتُ يا ربّي اسماً مغيَّراً
حتى إذا ندهتَني
صرختُ وحدي: نعم
وما ظننتُ النداء لغيري.
25
في الأرض ليس مِن كُتَّاب
كُلُّنا كُتَّاب
نكتب حياتَنا على الأيام
وكلٌّ يخاف على حِبره
ولا يعطي منه الآخرَ
ومتى انتهى دمعُ الكتابة
انتهى كاتبٌ مِن الكتّاب
نبكي عليه وننساه
ونتشجّع لإكمال الكتابة
وينتهي آخر
ونتجمّع في الزوايا
نشدّ بعضنا لبعض علّّنا نبقى
والريح من وراء الأبواب
تنفخُ على الحبر لينشف
متى ضاع كاتبٌ من الكتّاب
نروح نخاف من فَراغ الشوارع
ومقاعدِ الكنيسة
مِن هدير البحر نخاف
مِن الرعد
مِن النار الخافتة نخاف
نخاف من عيون الخائفين
مِن الفرح
مِن تجمُّع العصافير
مِن دَقّة الباب نخاف
ونهوى السكوت والظلام لكي نسمع الآتي
ولو أنه لا يُسمع!
26
زوايا بيتنا مليئة بالأشياء
خزانات بيتنا مليئة بالأشياء
وتحت كلّ سرير أشياء عتيقة
نحن نحبّ الأشياء وإنْ قلّ استعمالها
أو صارت لا فائدة منها
لا نعطيها أحداً ولا نرميها
نُحسّ أن للأشياء أرواحاً
تَحزن إذا أبعدوها عن أصحابها
وغداً يمتلئ بيتُنا
ولا يعود لنا مكان
27
صرت أخاف
أنْ أُطيل النوم
كي لا يذهب الجميع
وأبقى وحدي
28
هل ربُّنا في الكنيسة؟
ألم يهرب منذ أيام الحروب؟
وإلى مَن نذهب وتذهبون؟
إنما نحن نذهب إلى الصلاة معاً
لا لأن الربّ هناك
لأنه ليس هناك
هذا المذبح لا يتّسع لله
مذابحُنا صغيرة
يجب أن نستقبله في ملاعبنا الوسيعة
29
تلبس أمّي فستاناً جديداً
وتسألني:
هل جميلٌ فستاني؟
وأقولُ لها:
إنه جميلٌ جداً.
وكثيراً ما
تسألني عن غيرهِ وأُجيبها
إنه جميل جداً.
ومرّةً قالت أمّي:
تُجيبني دائماً
حلوةٌ الفساتين فهل خجلاً؟
قلتُ:
في دنيانا يا أمّي
لا يوجد فستانٌ بشع
ما دام لكلّ فستان
واحدةٌ تُحب أن ترتديه.
30
لأنك ضحكتَ
نحن في الوجود
ضحكتَ يوماً
فتفجّرتْ من ضحكتك
الناسُ والأطفال.
31
أليس مركبُهُ وسيعاً ليحملَنا؟
وكلَّنا؟
أليستْ أمواجه قوية؟
لتدفع مراكبه إلينا؟
فما الرحيلُ همّنا
بل الوداع.
اكتبوا على الأوراق
على أوراق الدفاتر
على أوراق الأشجار الصفر
اكتبوا على شبابيك الزواريب الطويلة
على أصغر الأحجار
احفروا في جذوع الأشجار
على أبواب البيوت المتهدّمة
اكتبوا كلَّ ما يخطر ببالكم
فإننا راحلون!
اكتبوا
أنّ في يومٍ من سنةِ كذا
في جيلِ كذا
ضحكَ ولدٌ قبل أن ينام
اكتبوا
ما دام الرحيل يكتبه هو
فالوداع لنا
نجعله أحلى وداع.
32
إن لم أكن فَرِحاً
لا أستطيع أن أصلّي
ما مِن مرّةٍ صلّيتُ
إلا وفي قلبي
عصفورٌ يلعب
وغصنٌ يلوّح.
33
يا مشغولاً بمأساة
ألا عَرَّجتَ في الطريق
على طفلٍ
تُخبره قصّتَك فيبكي لك
أمّا نحن فلا تُنادِنا
كلُّنا صرنا صخورَ مصائبِنا
لا أحدٌ يبكي
كلُّنا صخور
لكننا اخترْنا الأطفالَ والفصولَ
للاستماع إلى قِصصنا
وللبكاء.
34
هل تعرفين؟
الصغيرُ أمام الكبيرِ،
أمامَ سيّدهِ
كلامُه أحلى من كلام سيِّده!
35
الطفلُ متى عرف أنه من أسراب الطفولة البريئة
لم يعدْ منها.
الطفلُ متى صار يعرف
كيف يرسم المهندسُ البيتَ
هربتْ من صُوَره
خطوطُ الحبّ
والجمالِ الصغير.
البسيط متى عرف أنه بسيط
لم يعدْ بسيطاً
الإنسانُ متى عرف الحقائق
سقط عن سرير الأحلام.
36
أَشكُركَ
جعلتَ في الناس
ما يجعلهم لا يضجرونَ من اعتذاري
كلُّ مُعرّفي العالم يعرفونني
صاحَبتْنا الخطايا.
آتيكَ كلَّ مساءٍ أعتذر
إنْ ضجرتَ مني،
سآتي غداً بالناي وبالأوتار
سآتي كلَّ يوم بآلة
وأُغنّيك خطاياي.
37
أتحدّاك بالخطيئة
تتحدّاني بالحب
وأسكت
لأننا
أنت الحب
وأنا لست الخطيئة.
38
كيف أُفْهِمك
يا عصفورَ قَفَصِنا
إنني أنا غيرُ أهلي
لا أُحبُّ أن أقتني
لا أقفاصاً ولا عصافير.
39
أَشرعةُ كلامنا
إليكَ سائرة
وأنتَ حيثُ اللقاءُ
فلا تحزنْ
كلّما ساقتِ الرياحُ
أَشرعتَنا إلى غيرك.
40
آملُ أن يكون الوداعُ ساعةَ لا أكون
آملُ أَن تُقتلَ العصافير، يومَ أكونُ بعيداً
آملُ أن يموت الأحبّاء، يوم أكون في سَفَر
آملُ كثيراً
لأنّ العين الدامعة تُبكيني
وكم من شيء
أريدُ منه أن أتدارى
لكنْ
لا مفرّ من الدموع.
41
كلُّهم يعرفون أن دقيقة العمر
مرّةً تأتي
ويعرفون أن الفرح فيها
أحلى من الحزن
لكنّهم لا يصدقون أنفسَهم.
42
أُحبُّكَ قدرَ ما تُحبّني
بل خفْ أنْ يصير حبّي لك
أكبر من حبّك لي.
43
ليتَهما يعرفان أن العِتابَ كالدخانِ يفنى
ليتهما يعرفان أن الفرح أقوى من الحزن
ليتَهما يعرفان أن الفرح أقوى من الحزن
ليتَهما يعرفان أنّ لحظة العمر الأخيرةَ
قد تنزل علينا تأخذنا
ونحن نتخاصم
ليتني لا أعرف ما أعرف!
44
أشياء ما حُلَّتْ
ولن تُحَلّ
هيَ أنّ الطفل
يَوَدُّ لو يأكل مرّتين مِن الحلوى
ويمنعونَه
هي أن الطفل
يودُّ لو يلعب على مدى الأيام
ويمنعونَه.
45
حائرٌ أنا
بين أن يبدأ الفرح
وألاّ يبدأ
مخافةَ ينتهي.
46
لا أحسدُكَ
على معرفتك
مصيرَ كلٍّ منّا
لأنك قد تبكي على مصيرٍ حزين
بينما صاحبُهُ سهران يضحك
وتعرفُ الفرحَ قبلَ وقوعِه
فلا ترى مثلَنا
لذّة المفاجأة.
47
لا يعود شيءٌ يخيف
إنْ صرناه.
48
طوالَ عيدِ العمر
واحتفالاتِ الضجر
وفي أزمنةِ الحروب
أخافُ أنْ تهرب ثانيةً يا الله
لأنك إذا غبتَ
وعُدْتَ
ترى الأسلحةَ مُعدَّة
وموجَّهة إليك.
49
الأيام أبواب
على كلٍّ منها حارس
وقد كُتب علينا
أنْ نَخلقَ كلَّ يوم
وعلى كلِّ باب
قصةٍ جديدة
نُلهي بها الحارسَ
ليفتحَ لنا الباب
إلى بابٍ آخر .
Comment