في مجتمع يمجّد القوّة الذكوريّة، ليس سهلًا أن تكوني امرأة، فكيف إذا كنتِ معوّقة.
***
يتعامل الناس مع الإعاقة بطرق مختلفة:
هناك الذين يتجاهلون وجود المعوّق لا الإعاقة، فيتصرّفون أمامه كأنّه غير موجود ويتحدّثون عنه كأنّه ليس حاضرًا.
وهناك الذين يتجاهلون الإعاقة بحجّة رفع معنويّات المعوّق، فيعاملونه كأنّ الإعاقة غير موجودة ولم تترك آثارًا سلبيّة يجب معالجتها لا التعامي عنها.
وهناك الذي لا يرون إلّا الإعاقة، فيبرمجون إيقاع حياتهم على شروطها ومتطلّبات حاملها، لدرجة أنّهم ينسون الجانب السليم منه.
وهؤلاء كلّهم متطرّفون في أفكارهم ومشاعرهم وتصرّفاتهم، الفئة الأولى منهم يخاف أصحابها من مواجهة تشوّهات الجسد البشريّ وعيوبه وعاهاته وآلامه ويرفضون رؤوية الواقع، وأصحاب الفئة الثانية يدّعون أنّهم ينظرون بإيجابيّة إلى الأمر ويؤكّدون أنّهم يرون نصف الكوب الملآن، أمّا الفئة الثالثة فتترك للشفقة أن تسيّر أسلوب التعايش مع ما فرضته الحياة على واحد منهم صار معوّقًا أو معاقًا أو من أصحاب الحاجات الخاصّة.
***
الأمر دقيق وحسّاس، ويتطلّب عاطفة صادقة إلى جانب الذكاء، فأنواع الإعاقات تتطلّب أنواعًا من المعالجات، ونفسيّات المعوّقين ليست كحبّات المطر، وبالتالي لا يمكن مهما كانت الأعذار التعامل مع كلّ إنسان مصاب بعاهة أو إعاقة بالطريقة نفسها. فالتعميم في كلّ ما يتعلّق بالشأن الإنسانيّ عمل غير إنسانيّ.
في ذاكرة جسدي (بالإذن من الروائيّة أحلام مستغانمي) مشاهد وتجارب تفضح خفايا النفس البشريّة، تختلط فيها المشاعر النبيلة بالدنايا، وتعلّمت طفلةً كيف أميّز في وجوه الناس: الشفقة والإعجاب، التعاطف عند الألم والغيرة من اهتمام الآخرين بي، الدعم المعنويّ والتهرّب من صحبتي. وهكذا دخلت عالم المراهقة امرأة حكيمة تجيد أكثر ما تجيد أن تدير ظهرها وتمشي...
***
أعرف جيّدًا حيثيّات هذه المسألة كون رجلي اليمنى مصابة بشلل الأطفال، ولأنّ الناس، أكثرهم، يتعاملون معي حذرين غير واثقين من أنّهم يعرفون كيف يتصرّفون، ويخشون أن تشي نظراتهم بـ"شفقتهم" أو تؤذي كلماتهم "هشاشتي". ولذلك بُهت عدد كبير من أصدقائي وآثروا عدم التعليق عندما نشرت في صحيفة "النهار" نصًّا بعنوان "عرجاء ولكنْ"، من وحي عنوان الفيلم المصريّ "عذراء ولكن". أمّا القرّاء الذين لا يعرفونني شخصيًّا فظنّوا – وهذا طبيعيّ – أنّني أتحدّث عن امرأة أخرى.
***
أؤمن، ككثيرين غيري، بأنّ الطفولة هي المرحلة التي نمضي حياتنا كلّها في "محاولة" معالجتها، فكيف إذا كانت هذه الطفولة مرتبطة ذكراها بالشلل والعمليّات الجراحيّة والمعالجات الفيزيائيّة والجولات على الكنائس في انتظار شفاعة قدّيس أو قدّيسة؟ هذا أمر يطول شرحه وتحليله وليس الآن مجاله. ولكن من كان منّكم بلا عقد طفولة فليبحث عنها، لأنّها الكأس المقدّسة التي من دونها لا خلاص. وهي حتمًا موجودة. لذلك كتبت في مجموعتي "لأنّك أحيانًا لا تكون": "كلّ ذي عاهة جبّار"/ والذين ليسوا جبابرة/ لم يكتشفوا عاهاتهم بعد" (ص 55).
أنا مَدينة لشلل الأطفال بأمور كثيرة: المطالعة والكتابة والموسيقى واكتشاف الأغبياء. ولأكن صادقة مع نفسي ومعكم، أعترف بأنّني في مواقف كثيرة شكرت رجلي النحيلة المدروزة ندوبًا لأنّها ساهمت في جعلي ما أنا عليه ولأنّها أنقذتني في وقت اتّهمتها بتخريب حياتي. في المقابل لا أنفي أنّني لست من عشّاق الألم ولم أطلبه ولا أعرف كيف احتملته، وكنت أفضّل ومن دون تردّد أن أتركه للقدّيسين والقدّيسات الذين يطلبون السماء عبر الجلجلة.
***
المشكلة بحسب خبرتي ليست الإعاقة في حدّ ذاتها، بل الآخرون. فحين أمارس رياضة المشي على دروب البلدة أراقب ظلّي على الأرض، والشمس هي التي تقرّر إلى أيّ حدّ أنا عرجاء: فخيال مِشيتي على الأرض يختلف بحسب موقعها. هكذا حالي مع الناس. غير أنّني لم أهرب من الشمس ولم أحمل مظلّة أو عكّازًا. جسدي يعرج، رأسي يعرّج على عوالم لا تخطر على فكر سواي. الأمر ليس سيّئًا في النهاية. أكاد أقول: يستحقّ!
ماري القصيفي
***
يتعامل الناس مع الإعاقة بطرق مختلفة:
هناك الذين يتجاهلون وجود المعوّق لا الإعاقة، فيتصرّفون أمامه كأنّه غير موجود ويتحدّثون عنه كأنّه ليس حاضرًا.
وهناك الذين يتجاهلون الإعاقة بحجّة رفع معنويّات المعوّق، فيعاملونه كأنّ الإعاقة غير موجودة ولم تترك آثارًا سلبيّة يجب معالجتها لا التعامي عنها.
وهناك الذي لا يرون إلّا الإعاقة، فيبرمجون إيقاع حياتهم على شروطها ومتطلّبات حاملها، لدرجة أنّهم ينسون الجانب السليم منه.
وهؤلاء كلّهم متطرّفون في أفكارهم ومشاعرهم وتصرّفاتهم، الفئة الأولى منهم يخاف أصحابها من مواجهة تشوّهات الجسد البشريّ وعيوبه وعاهاته وآلامه ويرفضون رؤوية الواقع، وأصحاب الفئة الثانية يدّعون أنّهم ينظرون بإيجابيّة إلى الأمر ويؤكّدون أنّهم يرون نصف الكوب الملآن، أمّا الفئة الثالثة فتترك للشفقة أن تسيّر أسلوب التعايش مع ما فرضته الحياة على واحد منهم صار معوّقًا أو معاقًا أو من أصحاب الحاجات الخاصّة.
***
الأمر دقيق وحسّاس، ويتطلّب عاطفة صادقة إلى جانب الذكاء، فأنواع الإعاقات تتطلّب أنواعًا من المعالجات، ونفسيّات المعوّقين ليست كحبّات المطر، وبالتالي لا يمكن مهما كانت الأعذار التعامل مع كلّ إنسان مصاب بعاهة أو إعاقة بالطريقة نفسها. فالتعميم في كلّ ما يتعلّق بالشأن الإنسانيّ عمل غير إنسانيّ.
في ذاكرة جسدي (بالإذن من الروائيّة أحلام مستغانمي) مشاهد وتجارب تفضح خفايا النفس البشريّة، تختلط فيها المشاعر النبيلة بالدنايا، وتعلّمت طفلةً كيف أميّز في وجوه الناس: الشفقة والإعجاب، التعاطف عند الألم والغيرة من اهتمام الآخرين بي، الدعم المعنويّ والتهرّب من صحبتي. وهكذا دخلت عالم المراهقة امرأة حكيمة تجيد أكثر ما تجيد أن تدير ظهرها وتمشي...
***
أعرف جيّدًا حيثيّات هذه المسألة كون رجلي اليمنى مصابة بشلل الأطفال، ولأنّ الناس، أكثرهم، يتعاملون معي حذرين غير واثقين من أنّهم يعرفون كيف يتصرّفون، ويخشون أن تشي نظراتهم بـ"شفقتهم" أو تؤذي كلماتهم "هشاشتي". ولذلك بُهت عدد كبير من أصدقائي وآثروا عدم التعليق عندما نشرت في صحيفة "النهار" نصًّا بعنوان "عرجاء ولكنْ"، من وحي عنوان الفيلم المصريّ "عذراء ولكن". أمّا القرّاء الذين لا يعرفونني شخصيًّا فظنّوا – وهذا طبيعيّ – أنّني أتحدّث عن امرأة أخرى.
***
أؤمن، ككثيرين غيري، بأنّ الطفولة هي المرحلة التي نمضي حياتنا كلّها في "محاولة" معالجتها، فكيف إذا كانت هذه الطفولة مرتبطة ذكراها بالشلل والعمليّات الجراحيّة والمعالجات الفيزيائيّة والجولات على الكنائس في انتظار شفاعة قدّيس أو قدّيسة؟ هذا أمر يطول شرحه وتحليله وليس الآن مجاله. ولكن من كان منّكم بلا عقد طفولة فليبحث عنها، لأنّها الكأس المقدّسة التي من دونها لا خلاص. وهي حتمًا موجودة. لذلك كتبت في مجموعتي "لأنّك أحيانًا لا تكون": "كلّ ذي عاهة جبّار"/ والذين ليسوا جبابرة/ لم يكتشفوا عاهاتهم بعد" (ص 55).
أنا مَدينة لشلل الأطفال بأمور كثيرة: المطالعة والكتابة والموسيقى واكتشاف الأغبياء. ولأكن صادقة مع نفسي ومعكم، أعترف بأنّني في مواقف كثيرة شكرت رجلي النحيلة المدروزة ندوبًا لأنّها ساهمت في جعلي ما أنا عليه ولأنّها أنقذتني في وقت اتّهمتها بتخريب حياتي. في المقابل لا أنفي أنّني لست من عشّاق الألم ولم أطلبه ولا أعرف كيف احتملته، وكنت أفضّل ومن دون تردّد أن أتركه للقدّيسين والقدّيسات الذين يطلبون السماء عبر الجلجلة.
***
المشكلة بحسب خبرتي ليست الإعاقة في حدّ ذاتها، بل الآخرون. فحين أمارس رياضة المشي على دروب البلدة أراقب ظلّي على الأرض، والشمس هي التي تقرّر إلى أيّ حدّ أنا عرجاء: فخيال مِشيتي على الأرض يختلف بحسب موقعها. هكذا حالي مع الناس. غير أنّني لم أهرب من الشمس ولم أحمل مظلّة أو عكّازًا. جسدي يعرج، رأسي يعرّج على عوالم لا تخطر على فكر سواي. الأمر ليس سيّئًا في النهاية. أكاد أقول: يستحقّ!
ماري القصيفي
Comment