موت المسافة بين فكرتين
بقلم: ضياء قصبجي
يضايقني ما فيه الكفاية هذا الكلب, كلب صغير هو... لكنه يتبعني من مكان إلى مكان, وكلما أظهرت له سخطي واستيائي... ازداد تعلقاً بي وتبعية لي. حتى جعلني أفقد أعصابي فأشده إلى الأعلى من أذنيه وأقذفه إلى الأرض قائلة له:
- إني أكرهك, أيها الكلب, أكرهك ألا تفهم؟
لكنه كان يغمض جفنيه لحظات, وكأنه يشعر بالمتعة ثم يفتحها ناظراً لي ومذكراً بالأوقات التي كان يسليني خلالها في وحدتي... لم أكرهه من قبل, لكن أمي ومن عادتها التدخل في شؤوني, والتأثير علي تأثيراً غير مباشر. قالت لي مرة:
- لا أحبذ تربيتك لهذا الكلب... أفضل أن تقتني طيراً يغرد في قفصه فيطربك... أو سمكاً ينساب في حوض ماء, فيهدئ أعصابك... أو حتى قطة أليفة تطارد لك الحشرات.
وحين زارتني أمي مرة أخرى, قهقهت وهي تشاهد بيتي يحتوي على الطير والسمك, والقطة... خجلت من ضحكها, وحين قال لي:
- كل هذه الحيوانات في بيتك؟
تمتمت بخجل:
- كل هذه الحيوانات في بيتي.
تابعت الضحك والفرح وقالت:
- وبالإضافة إلى الكلب؟. قلت:
- بالإضافة إلى الكلب.
- فلم لا تحصلي على ذئب, وثعلب, وسنجاب؟.
حين لاحظت أنها تسخر مني, استأت, وفتحت باب القفص للطير, وهممت أن أخرج السمك من الماء, فحزنت من أجلي وقالت وهي تمسك بي:
- رجاء لا تفعلي, إنني أداعبك لا أكثر.
أحسست إنني في حاجة إلى بكاء حاد ومرير... أعرف تماماً إنني لا أجيد التصرف قلت:
- ماذا تريدين يا أمي؟ أنا لا أعرف ماذا تريدين؟.
- خففي عنك... واعذريني يا ابنتي لقد أغلظت في معاملتك.
همّت بالخروج, استوقفتها.
- فلتأخذي الكلب... لم أعد أطيقه.
- الكلب الذي نصحتك باستبداله!
- عفواً نسيت أنك لا تحبين الكلب... إذن فلتأخذي الطير ليطربك صباحاً.
- ولكنك تحبين الطير.
- هل تأخذين حوض السمك إذن؟
- ولماذا آخذه؟
- فلا شك أنك تريدين القطة.
صرخت:
- ولكنك من قال لكي أنني أريد أن أعيش مع حيوان...؟ إنني مع أبيك لا أستطيع العيش.
ولم يكن لي مخرج من هذا الارتباك سوى هذا الجواب:
- هدئي من روعك أنني أداعبك.
حين كنت جالسة في الشرفة, جلس الكلب قربي راقداً على الأرض, مستريح النفس فحملته وقذفته بكّل ما أملك من قوة, ثم عدت إلى مكاني... "هكذا علينا أن نتخلص مما يزعجنا بأية وسيلة وبسرعة"... قلت هذا في نفسي وتابعت الجلوس والتحديق في السماء والشجيرات, وأضواء -لنيون- المزروعة حديثاً في شارعي.
لكن هذا التصرف دعاني للتساؤل, لم يسافر زوجي ويتركني وحيدة, أبحث عن شيء أتسلى به؟ وجوده أفضل من غيابه, على الرغم من أننا دائماً نقع في شراك نقاش عقيم... هو يدافع عن فكرة تناقض فكرتي... فنتجادل لنميت المسافة بي الفكرتين... وإذا بالجدال يزيد الهوة بينهما... فيسافر على أثر ذلك... وأكرهه من جراء تركه لي.
إن أمي تفرض علي ما لا يفرضه عليّ زوجي... وما لا أفرضه على نفسي... لكنني أحبها كثيراً, ولا أرتاح إلا حين أسمع صوتها أو أراها... ربما لأنها جميلة, وأنيقة, وذات شخصية جذابة.
كنت أرمي ببصري إلى الأسفل , وإذا بي أشاهد شاباً يحمل كلبي من الأرض ويعطف عليه كأنه مريض... فأحزنني هذا, وأحسست بتأنيب ضمير... لماذا اقتنيته ثم أحببته فترة... ثم كرهته؟... وقفت منادية ملوحة بيدي:
- أيها الشاب... أيها الشاب.
وحين تقدم من بيتي, رفع رأسه ناظراً لي فقلت له:
- من فضلك, هذا كلبي أعطني أياه.
فسألني عن مدخل البيت, وما هي إلا لحظات حتى وجدت أمامي شاباً جميلاً رائعاً, دفع لي بالكلب, فأخذته منه بهدوء, وأنا أسترق نظرات صريحة إلى وجهه, وبشكل خاص إلى عينيه المذهلتين, لكنه لم يبال, قال:
- خذيه... أحمد الله على عطفك عليه... كان عبئاً علي لا أعرف كيف أتخلص منه.
قلت له كلمات في غير موضعها:
- لكن شاباً مثلك, يجب ألا يصعب عليه أمر, كهذا.
- ماذا قلت؟
- أقول... كان بإمكانك أن تحتفظ به... ليسليك أوقات الفراغ.
- أعرف يا سيدة كيف أملأ أوقات فراغي, بشيء مجد ونافع أكثر من هذا.
أحسست بالخجل, لأنني لا أعرف كيف أملأ أوقات فراغي وسألته:
- رسام؟
- لقد انتهت مهمتي... فاسمحي لي بالانصراف.
- نعم... لكن إذا شئت يوماً أن تأتي إلي لتأخذ الكلب فلا مانع عندي.
قال بثورة:
- وما علاقتي بك وبكلبك؟.
همّ بالانصراف... فتضايقت, ثم أغلقت الباب وأودعت الكلب مكاناً ما... وأسعدني أنه لم يعد يستطيع الحراك... واللحاق بي من مكان إلى مكان, جلست إلى حوض السمك, أتابع انسياب كل سمكة على حدة... إنها تصعد... تهبط... تفتح فمها, تغلقه, تصدر فقاعات الهواء الصغيرة... وكنت لا أكف عن التفكير في الشاب... أتخيله وأذكر كلامه عن املاء أوقات الفراغ وأذكر عينيه المذهلتين... ليته كان يعلمني كيف أملأ أوقات فراغي... ليتني أخذت عنوانه, أو أسمه, أو رقم هاتفه.
غادرت حوض السمك إلى الهاتف وتحدثت مع أمي:
- ماما... الكلب عاد... وأنا وحدي, ليس معي سوى الطير والسمك والقطة.
- سآتي أليك المساء.
- بل الآن, إنني في حاجة أليك.
- فهل أجلب لك شيئاً معي؟
- نعم يا أمي, شيء ما لا أعرف ماذا يكون.
- إني أكرهك, أيها الكلب, أكرهك ألا تفهم؟
لكنه كان يغمض جفنيه لحظات, وكأنه يشعر بالمتعة ثم يفتحها ناظراً لي ومذكراً بالأوقات التي كان يسليني خلالها في وحدتي... لم أكرهه من قبل, لكن أمي ومن عادتها التدخل في شؤوني, والتأثير علي تأثيراً غير مباشر. قالت لي مرة:
- لا أحبذ تربيتك لهذا الكلب... أفضل أن تقتني طيراً يغرد في قفصه فيطربك... أو سمكاً ينساب في حوض ماء, فيهدئ أعصابك... أو حتى قطة أليفة تطارد لك الحشرات.
وحين زارتني أمي مرة أخرى, قهقهت وهي تشاهد بيتي يحتوي على الطير والسمك, والقطة... خجلت من ضحكها, وحين قال لي:
- كل هذه الحيوانات في بيتك؟
تمتمت بخجل:
- كل هذه الحيوانات في بيتي.
تابعت الضحك والفرح وقالت:
- وبالإضافة إلى الكلب؟. قلت:
- بالإضافة إلى الكلب.
- فلم لا تحصلي على ذئب, وثعلب, وسنجاب؟.
حين لاحظت أنها تسخر مني, استأت, وفتحت باب القفص للطير, وهممت أن أخرج السمك من الماء, فحزنت من أجلي وقالت وهي تمسك بي:
- رجاء لا تفعلي, إنني أداعبك لا أكثر.
أحسست إنني في حاجة إلى بكاء حاد ومرير... أعرف تماماً إنني لا أجيد التصرف قلت:
- ماذا تريدين يا أمي؟ أنا لا أعرف ماذا تريدين؟.
- خففي عنك... واعذريني يا ابنتي لقد أغلظت في معاملتك.
همّت بالخروج, استوقفتها.
- فلتأخذي الكلب... لم أعد أطيقه.
- الكلب الذي نصحتك باستبداله!
- عفواً نسيت أنك لا تحبين الكلب... إذن فلتأخذي الطير ليطربك صباحاً.
- ولكنك تحبين الطير.
- هل تأخذين حوض السمك إذن؟
- ولماذا آخذه؟
- فلا شك أنك تريدين القطة.
صرخت:
- ولكنك من قال لكي أنني أريد أن أعيش مع حيوان...؟ إنني مع أبيك لا أستطيع العيش.
ولم يكن لي مخرج من هذا الارتباك سوى هذا الجواب:
- هدئي من روعك أنني أداعبك.
حين كنت جالسة في الشرفة, جلس الكلب قربي راقداً على الأرض, مستريح النفس فحملته وقذفته بكّل ما أملك من قوة, ثم عدت إلى مكاني... "هكذا علينا أن نتخلص مما يزعجنا بأية وسيلة وبسرعة"... قلت هذا في نفسي وتابعت الجلوس والتحديق في السماء والشجيرات, وأضواء -لنيون- المزروعة حديثاً في شارعي.
لكن هذا التصرف دعاني للتساؤل, لم يسافر زوجي ويتركني وحيدة, أبحث عن شيء أتسلى به؟ وجوده أفضل من غيابه, على الرغم من أننا دائماً نقع في شراك نقاش عقيم... هو يدافع عن فكرة تناقض فكرتي... فنتجادل لنميت المسافة بي الفكرتين... وإذا بالجدال يزيد الهوة بينهما... فيسافر على أثر ذلك... وأكرهه من جراء تركه لي.
إن أمي تفرض علي ما لا يفرضه عليّ زوجي... وما لا أفرضه على نفسي... لكنني أحبها كثيراً, ولا أرتاح إلا حين أسمع صوتها أو أراها... ربما لأنها جميلة, وأنيقة, وذات شخصية جذابة.
كنت أرمي ببصري إلى الأسفل , وإذا بي أشاهد شاباً يحمل كلبي من الأرض ويعطف عليه كأنه مريض... فأحزنني هذا, وأحسست بتأنيب ضمير... لماذا اقتنيته ثم أحببته فترة... ثم كرهته؟... وقفت منادية ملوحة بيدي:
- أيها الشاب... أيها الشاب.
وحين تقدم من بيتي, رفع رأسه ناظراً لي فقلت له:
- من فضلك, هذا كلبي أعطني أياه.
فسألني عن مدخل البيت, وما هي إلا لحظات حتى وجدت أمامي شاباً جميلاً رائعاً, دفع لي بالكلب, فأخذته منه بهدوء, وأنا أسترق نظرات صريحة إلى وجهه, وبشكل خاص إلى عينيه المذهلتين, لكنه لم يبال, قال:
- خذيه... أحمد الله على عطفك عليه... كان عبئاً علي لا أعرف كيف أتخلص منه.
قلت له كلمات في غير موضعها:
- لكن شاباً مثلك, يجب ألا يصعب عليه أمر, كهذا.
- ماذا قلت؟
- أقول... كان بإمكانك أن تحتفظ به... ليسليك أوقات الفراغ.
- أعرف يا سيدة كيف أملأ أوقات فراغي, بشيء مجد ونافع أكثر من هذا.
أحسست بالخجل, لأنني لا أعرف كيف أملأ أوقات فراغي وسألته:
- رسام؟
- لقد انتهت مهمتي... فاسمحي لي بالانصراف.
- نعم... لكن إذا شئت يوماً أن تأتي إلي لتأخذ الكلب فلا مانع عندي.
قال بثورة:
- وما علاقتي بك وبكلبك؟.
همّ بالانصراف... فتضايقت, ثم أغلقت الباب وأودعت الكلب مكاناً ما... وأسعدني أنه لم يعد يستطيع الحراك... واللحاق بي من مكان إلى مكان, جلست إلى حوض السمك, أتابع انسياب كل سمكة على حدة... إنها تصعد... تهبط... تفتح فمها, تغلقه, تصدر فقاعات الهواء الصغيرة... وكنت لا أكف عن التفكير في الشاب... أتخيله وأذكر كلامه عن املاء أوقات الفراغ وأذكر عينيه المذهلتين... ليته كان يعلمني كيف أملأ أوقات فراغي... ليتني أخذت عنوانه, أو أسمه, أو رقم هاتفه.
غادرت حوض السمك إلى الهاتف وتحدثت مع أمي:
- ماما... الكلب عاد... وأنا وحدي, ليس معي سوى الطير والسمك والقطة.
- سآتي أليك المساء.
- بل الآن, إنني في حاجة أليك.
- فهل أجلب لك شيئاً معي؟
- نعم يا أمي, شيء ما لا أعرف ماذا يكون.
Comment