ولد ولم يمت حتى تاريخه
بقلم: ضياء قصبجي
ولد بتاريخ...... ولأنه لم يمت حتى تاريخه.
فقد حكم عليه بالحياة... حياة قاسية مليئة بالمشقة, واللهاث, والمشاحنات.
نعم لأنه ولد ولم يمت بعد, فلا يزال محكوم عليه بالحياة. هذه الحياة الضنكة الجلفة... الفارغة من الحب والحبور, والجمال.
ولأنه لم يقتل ولم يمرض, ولم يسجن كذلك, فقد حكم عليه بالحرية... تلك التي يستمدها من تنفسه الهواء الطلق, ومشاهدته السماء زرقاء أو سوداء, وما فيها من غيوم ونجوم, يستمدها من مشاهدته السينما أو التلفاز, أو من انطلاقه في الحدائق الغنّاء وشرائه اللوز والبندق, واحتسائه "الفروت جوس" وهو يجوب أرصفة شوارع المدينة الحافلة بالحركة والأضواء والصخب.
لكنه على الرغم مما هو فيه من سعادة يغبطها عليه الغير... فأنه يغبط المساجين لأنهم مستقرون في أمكنتهم, ولا يلهثون وراء لقمة العيش, أو العثور على حواء أو حياة مستحيلة التحقيق, لكنها ضرورية مثل الماء والهواء... يحسد المساجين لأنهم يزاولون هواياتهم بين أربع جدران, لديهم متسع من الوقت للمطالعة, وغرس الخرز الملون في ثقب الإبرة, وترتيبه على أشكال مختلفة.
وجرى حوار مثل هذا, فقال الطليق للسجين:
- ثق إنك في مأمن... لا يطولك طائل
- لا تحاول خداعي... أنا حبيس جدران, لا زخرفة ولا زهور.
- لكنك مستقر... لا يخيفك شيء.
- لا يزورني زائر... ولا أتذوق طهي امرأة.
- لكنك تزاول هواياتك.
- لكني مستهجن لا أحد يرفع من شأني, أو يقدسني.
- لا تهتم للزخارف والأطر... أنك بحد ذاتك تحترم نفسك أو تستهجنها.
- آه لو نتبادل... أنا مشتاق لعربدتك... وأنت مشتاق لصمودي.
- في سجنك تتفتح أريحيتك... ويتحرك تفكيرك الخامد.
- قل تموت أريحيتي... وعها تفكيري.
- في سجنك تحيا حياة فيلسوف... يعيش في صومعة.
- وحين يفرج عني... أعود إلى نقطة البدء.
- قد تموت في سجنك فترتاح أكثر.
- لا أريد الموت.
- الموت أمر سهل, كالنوم تماماً.
- تعذبني الأحلام فأستيقظ... وفي الموت أين أهرب من العذاب؟
- لا أعرف بالتحديد... مهما يكن, إذا مت في سجنك فذلك أفضل من أن تخرج منه وتبدأ من نقطة الصفر.
- فلم لا تنتحر أنت إذن...؟
- أنا لست مجنوناً... ولا يحق لي أن أنهي حياتي, لأنني لست خالقها.
- لكنك تستطيع.
- لا أستطيع, أنت مخطئ... يستطيع الإنسان أن ينهي حياة الآخرين, أما حياته فمستحيل.
- وحوادث الانتحار؟
- خدعة اخترعها القتلة ليزعموا أن قتيلهم قتل نفسه بنفسه.
- بل هناك (مقاطعاً)
- هل رأيت مرة شجرة تقتل نفسها فتمتنع عن شرب الماء, وتنفس الهواء.
- لا لم أر.
- هل رأيت مرة هرةً, تعلق عنقها في حبل يتدلى من سقف غرفة؟
- لا لم أر.
- إذن فكيف يكون الإنسان أشد غباءً من الحيوان... وأقل عقلاً من الشجرة.؟
- هذا صحيح.
- فأذن.؟
- حوادث الانتحار بدعة اخترعها القتلة, ليزعموا أن قتيلهم قتل نفسه بنفسه.
- جيد لقد حفظت درسك... والسجن؟
- يجعلني في مأمن, لا يطولني طائل.
- والموت؟
- آمل أن ينقذني من حياة صعبة, ابتدئ فيها من نقطة الصفر.
- وأنا؟
- لإنسان يعاني السجن خارج نطاق السجن والجدران.
- وأنت؟
- إنسان مرفه أمارس هواياتي.
- والحرية؟
- تعب ولهاث خلف لقمة العيش.
- حسناً لقد حفظت درسك.
مضت فترة تشبع كل منهما بأفكار الآخر... وأعتقد أنه يتقمصها, حتى انبرى السجين يقول للطليق:
- ما رأيك أن نذهب إلى مدير السجن فتطلب المبادلة بيني وبينك؟
- موافق.
ولما ذهبا إلى مدير السجن... ومثلا أمامه... واطلع على فلسفة الطليق, هز رأسه بخبث وقال وهو يضع الحديد حول يديه:
- تعال... لدي غرفة فارغة... سأدعك فيها حتى الموت.
- الموت!؟
تدخل السجين فقال:
- الموت أمر سهل كالنوم تماماً.
- لن أموت في السجن.
- في سجنك تحيا حياة فيلسوف... يعيش في صومعة.
واستبدت بالطليق قوة رهيبة نتجت عن خوف شديد, فقطع الحديد, وانطلق يعدو بسرعة جنونية.
وبقي السجين متسمراً مكانه... ينظر إليه بحسد... ويقول:
- إنه يركض... منذ سنين لم أركض.
فركض بسرعة, لكن جداراً صدمه في جبينه بقسوة وأوقعه أرضاً.
فقد حكم عليه بالحياة... حياة قاسية مليئة بالمشقة, واللهاث, والمشاحنات.
نعم لأنه ولد ولم يمت بعد, فلا يزال محكوم عليه بالحياة. هذه الحياة الضنكة الجلفة... الفارغة من الحب والحبور, والجمال.
ولأنه لم يقتل ولم يمرض, ولم يسجن كذلك, فقد حكم عليه بالحرية... تلك التي يستمدها من تنفسه الهواء الطلق, ومشاهدته السماء زرقاء أو سوداء, وما فيها من غيوم ونجوم, يستمدها من مشاهدته السينما أو التلفاز, أو من انطلاقه في الحدائق الغنّاء وشرائه اللوز والبندق, واحتسائه "الفروت جوس" وهو يجوب أرصفة شوارع المدينة الحافلة بالحركة والأضواء والصخب.
لكنه على الرغم مما هو فيه من سعادة يغبطها عليه الغير... فأنه يغبط المساجين لأنهم مستقرون في أمكنتهم, ولا يلهثون وراء لقمة العيش, أو العثور على حواء أو حياة مستحيلة التحقيق, لكنها ضرورية مثل الماء والهواء... يحسد المساجين لأنهم يزاولون هواياتهم بين أربع جدران, لديهم متسع من الوقت للمطالعة, وغرس الخرز الملون في ثقب الإبرة, وترتيبه على أشكال مختلفة.
وجرى حوار مثل هذا, فقال الطليق للسجين:
- ثق إنك في مأمن... لا يطولك طائل
- لا تحاول خداعي... أنا حبيس جدران, لا زخرفة ولا زهور.
- لكنك مستقر... لا يخيفك شيء.
- لا يزورني زائر... ولا أتذوق طهي امرأة.
- لكنك تزاول هواياتك.
- لكني مستهجن لا أحد يرفع من شأني, أو يقدسني.
- لا تهتم للزخارف والأطر... أنك بحد ذاتك تحترم نفسك أو تستهجنها.
- آه لو نتبادل... أنا مشتاق لعربدتك... وأنت مشتاق لصمودي.
- في سجنك تتفتح أريحيتك... ويتحرك تفكيرك الخامد.
- قل تموت أريحيتي... وعها تفكيري.
- في سجنك تحيا حياة فيلسوف... يعيش في صومعة.
- وحين يفرج عني... أعود إلى نقطة البدء.
- قد تموت في سجنك فترتاح أكثر.
- لا أريد الموت.
- الموت أمر سهل, كالنوم تماماً.
- تعذبني الأحلام فأستيقظ... وفي الموت أين أهرب من العذاب؟
- لا أعرف بالتحديد... مهما يكن, إذا مت في سجنك فذلك أفضل من أن تخرج منه وتبدأ من نقطة الصفر.
- فلم لا تنتحر أنت إذن...؟
- أنا لست مجنوناً... ولا يحق لي أن أنهي حياتي, لأنني لست خالقها.
- لكنك تستطيع.
- لا أستطيع, أنت مخطئ... يستطيع الإنسان أن ينهي حياة الآخرين, أما حياته فمستحيل.
- وحوادث الانتحار؟
- خدعة اخترعها القتلة ليزعموا أن قتيلهم قتل نفسه بنفسه.
- بل هناك (مقاطعاً)
- هل رأيت مرة شجرة تقتل نفسها فتمتنع عن شرب الماء, وتنفس الهواء.
- لا لم أر.
- هل رأيت مرة هرةً, تعلق عنقها في حبل يتدلى من سقف غرفة؟
- لا لم أر.
- إذن فكيف يكون الإنسان أشد غباءً من الحيوان... وأقل عقلاً من الشجرة.؟
- هذا صحيح.
- فأذن.؟
- حوادث الانتحار بدعة اخترعها القتلة, ليزعموا أن قتيلهم قتل نفسه بنفسه.
- جيد لقد حفظت درسك... والسجن؟
- يجعلني في مأمن, لا يطولني طائل.
- والموت؟
- آمل أن ينقذني من حياة صعبة, ابتدئ فيها من نقطة الصفر.
- وأنا؟
- لإنسان يعاني السجن خارج نطاق السجن والجدران.
- وأنت؟
- إنسان مرفه أمارس هواياتي.
- والحرية؟
- تعب ولهاث خلف لقمة العيش.
- حسناً لقد حفظت درسك.
مضت فترة تشبع كل منهما بأفكار الآخر... وأعتقد أنه يتقمصها, حتى انبرى السجين يقول للطليق:
- ما رأيك أن نذهب إلى مدير السجن فتطلب المبادلة بيني وبينك؟
- موافق.
ولما ذهبا إلى مدير السجن... ومثلا أمامه... واطلع على فلسفة الطليق, هز رأسه بخبث وقال وهو يضع الحديد حول يديه:
- تعال... لدي غرفة فارغة... سأدعك فيها حتى الموت.
- الموت!؟
تدخل السجين فقال:
- الموت أمر سهل كالنوم تماماً.
- لن أموت في السجن.
- في سجنك تحيا حياة فيلسوف... يعيش في صومعة.
واستبدت بالطليق قوة رهيبة نتجت عن خوف شديد, فقطع الحديد, وانطلق يعدو بسرعة جنونية.
وبقي السجين متسمراً مكانه... ينظر إليه بحسد... ويقول:
- إنه يركض... منذ سنين لم أركض.
فركض بسرعة, لكن جداراً صدمه في جبينه بقسوة وأوقعه أرضاً.
Comment