تارة شمس وطوراً قمر
لا نعرف مَن هو العبقريّ، لكنّ أنفاسه تلفحنا.
العبقريّ عظيم وقد لا نحبّه، والموهوب يسحرنا فوراً وإلى الأبد مهما كان ثانياً أو سريع العَطَب.
العبقريّة صاعقةُ ليلةٍ ظلماء، الموهبة حمامةٌ بيضاء.
العبقريّة... الموهبة...
مَن يرسم الحدود بينهما؟
مَن يعرف الفرق بين عطيّة وعطيّة؟
كفى بنا استنطاقاً.
لا نكن مستجوبين بل رُعاة.
بل رعايا.
ولنَهِمْ قليلاً في هذا البحر.
الموهوب حرّ التصرّف ضدّ موهبته قدر ما الإنسان العادي حُرّ التصرّف بحياته.
عندما يفضّل الحصان المجنَّح أن يكون حصاناً أرضيّاً فهذه صورة الفنّان الموهوب الذي يقصقص موهبته. عندما تقرّر الحسناء أن تتبشّع.
عندما يهجر المطرب ألحان مؤّلف يلألئ له صوته ليغنّي من ألحانه هو، وهو أفشل الملحّنين.
عندما يُخيَّر حاكم بين المشير الحكيم والانتهازي المرائي فيفضّل الثاني لأنّه يريحه على الأوّل لأنّه يَشْجر بينه وبين نفسه.
الانتحار الوحيد المسموح للموهبة هو الاجتهاد حتّى التفاني والتفاني فوق ما يحمل البشر.
وعي الوديعة المقدَّسة بلاوعي المُطْلَق لا بوعي الذكاء الضحل.
للعبقريّة أن تنهل من طفولتها، وعلى الموهبة الرشاد.
لا العبقريّة تُقَلَّد ولا الموهبة.
الفرق أنّ موهبةً بعينها، كالعزف أو التمثيل، تتوزّع على كُثُر وطبعاً كلّ نموذج بخصائصه، بينما العباقرة، ميكل آنج، شكسبير، باخ، موزار، بيتهوفن، بودلير، كلّ منهم ظاهرة لا «زميل» لها في «المهنة».
كان عبّود عبد العال نجماً في عزف الكمان، وفريد الأطرش في العود، ووليد عقل ووليد حوراني في البيانو، ولكنْ سَبَقَهُم مَن جلّى أكثر منهم وجايلهم مَن زاملهم ونافسهم ونافسوه وسيعقبهم مَن قد يتخطّاهم.
مهما تكن الموهبة باهرة وفريدة تظلّ بنت الطبيعة، ممزوجة بأشعّة الآلهة.
أمّا العبقريّة فهي قوّة على الطبيعة ولو كانت قوّة منها.
يتّفق للعبقريّة أن تقترن بالموهبة، فيكون ذلك هو الشكل الأمثل لهما معاً، والبعض، مثل فكتور هوغو، يُلاعب النبوغَين فيتواهبان، وقد يُغبّش أحدهما على الآخر، كأن يغالي هوغو في التراقص الوزني مبتدعاً، مستعرضاً تَمَكُّنه. ومهما تماهَرَ الموهوب والخلّاق تتشفّع لهما نعمتهما فلا يُعيَّران بالبهلوانيّة ولا بالشكلانيّة، ولكن قد تبدو على البعض منهما أمارات ثَريّ الحرب.
«يزيدها»، كما في التكرارات الآرابيسكيّة عند قدامى المطربين.
وليس أبأس ممَّن يَستوهب، فالموهبة خِلْقةً ولا تُغْتصب.
العبقريّة أيضاً، لكنّها مفرطة خيراً أو شرّاً، لا تعرف هوادة ولا اعتدالاً.
إنّها ذات جنونَين: الجنون «الطبيعي»، والآخر الذي يتجاوز الحدود.
صحيح أنّ الموهبة أداء، لكنّ الموهبة الخارقة أداءٌ خارق، وقد تعيد خلق المؤدّى لا بل قد تعطيه الحياة من أصلها وتُجنّحه فتكون أمّه إنْ كان الخالق أباه، وأحياناً تبدو أمّه وأباه.
وكم من الإبداعات، في الغناء والتمثيل خصوصاً، ما كانت لتصمد لولا مؤدّوها ومؤدّياتها.
بدون صوت فيروز تتهاوى عشرات الأغاني الرحبانيّة وتبهت جميع الشخصيّات المسرحيّة التي تقمّصَتْها، وبدون صوت أسمهان ما كانت قصيدة الأخطل الصغير «اسقنيها بأبي أنتَ وأمّي» تخلد على الدهر.
في الكتاب الذي صدر أخيراً لخالدة سعيد بعنوان «يوتوبيا المدينة المثقّفة» تتحدّث المؤلّفة، في فصل رائع خاص بفيروز، عمّا تسمّيه «عبقريّة صوت فيروز».
ويقع الفصل تحت عنوان «فيروز: الإبداع في الفنّ والمعنى والموقف».
هنا تغيب الحدود بين العبقريّة والموهبة ولا يعود ذا جدوى الاحتماء وراء التعريف القائل إن العبقريّة تُبدع والموهبة تؤدّي، فالموهبة يمكن أن تكتفي بالأداء وبالأداء الأمين السليم فتظلّ في حدود المعطى الذي لا كبيرَ فضلٍ له غير ما وُهِب إيّاه وَهْباً ولم يزد عليه غير الصقل والبراعة، كما يمكن، وفي حالات نادرة، أن تؤدّي الجميل بأجمل منه والجديد بألمع منه فتغدو عبقريّة بإزاء عبقريّة.
يصحّ هذا تماماً على الأخوين رحباني وفيروز.
هنا أوتيتِ التجاربُ بَوْتَقَتَها المثلى، فالريادة بوركت بالأصالة، والجسارة بالعذوبة، وشَبَقُ الخَلْق بخفّة الملائكة. لم يعد الصوت أداة، بل أصبح غاية.
المبدع صار مُلْهَماً بمؤدّيته فتحوّل الصوت إلى مطر لأرض الزرع. تلك ظاهرة ربّما لم يحصل مثلها في التاريخ.
نتوقّف لحظة أخرى عند كتاب خالدة سعيد لنبدي تقديرنا لتذكّرها العادل والمؤثّر لشخصيّة لم تنل حقّها من التقدير هي سعاد نجّار، البطلة الخَفيّة لنهضة المسرح اللبناني الحديث. وهنا أيضاً، كعادتها، تجد خالدة سعيد الكلمة الفصل حين تكتب مقالتها تحت عنوان
«سعاد نجّار: عبقريّة التعاون والرعاية».
نعم. هناك للخفاء ظهورات تاريخية وللصمت عبقريّات، أعظمها عبقريّات الحضانة الباطنة.
... وهل العبقريّة محدودة كي نَتبيّنها؟
وهل الموهبة إلّا عبقريّة خالصة في مهارةٍ خالصة؟
ما يبدو متناقضاً في هذا الكلام هو وحي التخوم الضبابيّة بين الموهبتين، بين النبوغين. كأنهما كلتاهما تارة شمس وطوراً قمر.
قانون المفارقة.
جَدَليّة الذَّكَر والأنثى.
الكلام على عبقريّة لدى المرأة يناقض عبارة لسيمون دو بوفوار في «الجنس الثاني»
تقول: «ثمّة نساء ذوات موهبة، إنّما ولا امرأة منهنّ تمتلك ذلك الجنون في الموهبة الذي يسمّونه العبقريّة». لنفترض.
يبقى من حقّنا التحفّظ حيال أمرٍ واحد على الأقلّ:
إن «ذلك الجنون في الموهبة»
قد ينوجد أيضاً في مواهب الموهوبات عندما تتوافر للواحدة منهنّ شروط هورمونيّة معيّنة تزيد العيار على المألوف وتخلط الأوراق، وهو ما صحّ على كاتبة كجورج صاند وعلى شاعرات كالخنساء ومي ونازك الملائكة. أمّا الفنّانات فالعديد منهنّ فائضات الموهبة، وهذه فيروز التي، مهما نَعَّمتْ ورقَّقت وخَشَعَتْ، تسطع سطعاتها الكبرى حين تُشبع صوتها الإشباع المالئ المرتاح، فيبدو مكتمل الأجناس، مُطلاً من فوق بكل أبعاده، بكل أرواحه، موهراً آسراً، ذَكَراً وأنثى، نبويّاً وطفلاً، ناشراً دفء الأمومة ومستدفئاً كرضيع.
وهذه أمّ كلثوم، أليست فرعوناً وفرعونة؟
أليست أوركسترا نساء ورجال؟
وتلك منشدات الأوبّرا، ألسنَ أجناساً خلاسيّة؟
الأنوثة ليست قَدَراً ولا الذكورة.
القَدَر أذكى من أن يُتَصيَّد بقوالب محنّطة.
والصدْفة، هذه اليد الخفيّة التي توزّع العطاء، أكرم من تَوقّعاتنا.
لصّ النار كان عبقريّاً.
الآلهة التي سرق الشعلة منها كانت هو.
هو المجسّد لهم رغماً عنهم، رسولاً لهم رغماً عنهم.
المتّحد بهم المنفصل عنهم، فادي البشر.
العبقريّ ما زال يسرق النار، حيث تُرى وحيث لا تُرى.
والنار، منذ ذلك الحين في ليالي الأزمنة، النار تعدَّدت: نارٌ ماءٌ، نارٌ هواءٌ، نارٌ خَدَر، نارٌ حَجَر.
نارٌ دمارٌ ونارٌ مُصالحة.
رأيتُ، إفراديّاً أو جماعيّاً، عظماء يتصرّفون كالأولاد، وعباقرة عديمي الثقة بأنفسهم، وموهوبين مكرَّسين يتأرّقون الليالي قبل حفلتهم.
لا وجود لعبقريّ واثق أنّه عبقريّ.
هو دائماً إلى جانب شيء من نفسه لا على بَيّنةٍ من نفسه.
لا وجود لموهوبٍ مسترخٍ في نعيم القمّة.
الموهوب، الموهوب الممسوس بهاجس الكمال، بفكرة مثاليّة، جالسٌ دوماً على أعصاب كيانه، في انتظار امتحانه القادم، في انتظار جحيمه.
جمهوره يظنّه في قمّة النعيم، على العرش المتلألئ، لكنّ جمهوره لو شاهده في داخل روحه لانفطر قلبه عليه.
هذا القلق المدمِّر هو الاسم الأوّل والأخير للعبقريّ والموهوب.
للمختار.
هو ما يُميّز المُشْرِق من الـمُشْرَق عليه.
واحرَّ قلباه!
جرْحُ العبقريّ ولادتُنا الجديدة، وجلجلة الموهوب سعادتُنا.
لا نعرف مَن هو العبقريّ، لكنّ أنفاسه تلفحنا.
العبقريّ عظيم وقد لا نحبّه، والموهوب يسحرنا فوراً وإلى الأبد مهما كان ثانياً أو سريع العَطَب.
العبقريّة صاعقةُ ليلةٍ ظلماء، الموهبة حمامةٌ بيضاء.
العبقريّة... الموهبة...
مَن يرسم الحدود بينهما؟
مَن يعرف الفرق بين عطيّة وعطيّة؟
كفى بنا استنطاقاً.
لا نكن مستجوبين بل رُعاة.
بل رعايا.
ولنَهِمْ قليلاً في هذا البحر.
الموهوب حرّ التصرّف ضدّ موهبته قدر ما الإنسان العادي حُرّ التصرّف بحياته.
عندما يفضّل الحصان المجنَّح أن يكون حصاناً أرضيّاً فهذه صورة الفنّان الموهوب الذي يقصقص موهبته. عندما تقرّر الحسناء أن تتبشّع.
عندما يهجر المطرب ألحان مؤّلف يلألئ له صوته ليغنّي من ألحانه هو، وهو أفشل الملحّنين.
عندما يُخيَّر حاكم بين المشير الحكيم والانتهازي المرائي فيفضّل الثاني لأنّه يريحه على الأوّل لأنّه يَشْجر بينه وبين نفسه.
الانتحار الوحيد المسموح للموهبة هو الاجتهاد حتّى التفاني والتفاني فوق ما يحمل البشر.
وعي الوديعة المقدَّسة بلاوعي المُطْلَق لا بوعي الذكاء الضحل.
للعبقريّة أن تنهل من طفولتها، وعلى الموهبة الرشاد.
لا العبقريّة تُقَلَّد ولا الموهبة.
الفرق أنّ موهبةً بعينها، كالعزف أو التمثيل، تتوزّع على كُثُر وطبعاً كلّ نموذج بخصائصه، بينما العباقرة، ميكل آنج، شكسبير، باخ، موزار، بيتهوفن، بودلير، كلّ منهم ظاهرة لا «زميل» لها في «المهنة».
كان عبّود عبد العال نجماً في عزف الكمان، وفريد الأطرش في العود، ووليد عقل ووليد حوراني في البيانو، ولكنْ سَبَقَهُم مَن جلّى أكثر منهم وجايلهم مَن زاملهم ونافسهم ونافسوه وسيعقبهم مَن قد يتخطّاهم.
مهما تكن الموهبة باهرة وفريدة تظلّ بنت الطبيعة، ممزوجة بأشعّة الآلهة.
أمّا العبقريّة فهي قوّة على الطبيعة ولو كانت قوّة منها.
يتّفق للعبقريّة أن تقترن بالموهبة، فيكون ذلك هو الشكل الأمثل لهما معاً، والبعض، مثل فكتور هوغو، يُلاعب النبوغَين فيتواهبان، وقد يُغبّش أحدهما على الآخر، كأن يغالي هوغو في التراقص الوزني مبتدعاً، مستعرضاً تَمَكُّنه. ومهما تماهَرَ الموهوب والخلّاق تتشفّع لهما نعمتهما فلا يُعيَّران بالبهلوانيّة ولا بالشكلانيّة، ولكن قد تبدو على البعض منهما أمارات ثَريّ الحرب.
«يزيدها»، كما في التكرارات الآرابيسكيّة عند قدامى المطربين.
وليس أبأس ممَّن يَستوهب، فالموهبة خِلْقةً ولا تُغْتصب.
العبقريّة أيضاً، لكنّها مفرطة خيراً أو شرّاً، لا تعرف هوادة ولا اعتدالاً.
إنّها ذات جنونَين: الجنون «الطبيعي»، والآخر الذي يتجاوز الحدود.
صحيح أنّ الموهبة أداء، لكنّ الموهبة الخارقة أداءٌ خارق، وقد تعيد خلق المؤدّى لا بل قد تعطيه الحياة من أصلها وتُجنّحه فتكون أمّه إنْ كان الخالق أباه، وأحياناً تبدو أمّه وأباه.
وكم من الإبداعات، في الغناء والتمثيل خصوصاً، ما كانت لتصمد لولا مؤدّوها ومؤدّياتها.
بدون صوت فيروز تتهاوى عشرات الأغاني الرحبانيّة وتبهت جميع الشخصيّات المسرحيّة التي تقمّصَتْها، وبدون صوت أسمهان ما كانت قصيدة الأخطل الصغير «اسقنيها بأبي أنتَ وأمّي» تخلد على الدهر.
في الكتاب الذي صدر أخيراً لخالدة سعيد بعنوان «يوتوبيا المدينة المثقّفة» تتحدّث المؤلّفة، في فصل رائع خاص بفيروز، عمّا تسمّيه «عبقريّة صوت فيروز».
ويقع الفصل تحت عنوان «فيروز: الإبداع في الفنّ والمعنى والموقف».
هنا تغيب الحدود بين العبقريّة والموهبة ولا يعود ذا جدوى الاحتماء وراء التعريف القائل إن العبقريّة تُبدع والموهبة تؤدّي، فالموهبة يمكن أن تكتفي بالأداء وبالأداء الأمين السليم فتظلّ في حدود المعطى الذي لا كبيرَ فضلٍ له غير ما وُهِب إيّاه وَهْباً ولم يزد عليه غير الصقل والبراعة، كما يمكن، وفي حالات نادرة، أن تؤدّي الجميل بأجمل منه والجديد بألمع منه فتغدو عبقريّة بإزاء عبقريّة.
يصحّ هذا تماماً على الأخوين رحباني وفيروز.
هنا أوتيتِ التجاربُ بَوْتَقَتَها المثلى، فالريادة بوركت بالأصالة، والجسارة بالعذوبة، وشَبَقُ الخَلْق بخفّة الملائكة. لم يعد الصوت أداة، بل أصبح غاية.
المبدع صار مُلْهَماً بمؤدّيته فتحوّل الصوت إلى مطر لأرض الزرع. تلك ظاهرة ربّما لم يحصل مثلها في التاريخ.
نتوقّف لحظة أخرى عند كتاب خالدة سعيد لنبدي تقديرنا لتذكّرها العادل والمؤثّر لشخصيّة لم تنل حقّها من التقدير هي سعاد نجّار، البطلة الخَفيّة لنهضة المسرح اللبناني الحديث. وهنا أيضاً، كعادتها، تجد خالدة سعيد الكلمة الفصل حين تكتب مقالتها تحت عنوان
«سعاد نجّار: عبقريّة التعاون والرعاية».
نعم. هناك للخفاء ظهورات تاريخية وللصمت عبقريّات، أعظمها عبقريّات الحضانة الباطنة.
... وهل العبقريّة محدودة كي نَتبيّنها؟
وهل الموهبة إلّا عبقريّة خالصة في مهارةٍ خالصة؟
ما يبدو متناقضاً في هذا الكلام هو وحي التخوم الضبابيّة بين الموهبتين، بين النبوغين. كأنهما كلتاهما تارة شمس وطوراً قمر.
قانون المفارقة.
جَدَليّة الذَّكَر والأنثى.
الكلام على عبقريّة لدى المرأة يناقض عبارة لسيمون دو بوفوار في «الجنس الثاني»
تقول: «ثمّة نساء ذوات موهبة، إنّما ولا امرأة منهنّ تمتلك ذلك الجنون في الموهبة الذي يسمّونه العبقريّة». لنفترض.
يبقى من حقّنا التحفّظ حيال أمرٍ واحد على الأقلّ:
إن «ذلك الجنون في الموهبة»
قد ينوجد أيضاً في مواهب الموهوبات عندما تتوافر للواحدة منهنّ شروط هورمونيّة معيّنة تزيد العيار على المألوف وتخلط الأوراق، وهو ما صحّ على كاتبة كجورج صاند وعلى شاعرات كالخنساء ومي ونازك الملائكة. أمّا الفنّانات فالعديد منهنّ فائضات الموهبة، وهذه فيروز التي، مهما نَعَّمتْ ورقَّقت وخَشَعَتْ، تسطع سطعاتها الكبرى حين تُشبع صوتها الإشباع المالئ المرتاح، فيبدو مكتمل الأجناس، مُطلاً من فوق بكل أبعاده، بكل أرواحه، موهراً آسراً، ذَكَراً وأنثى، نبويّاً وطفلاً، ناشراً دفء الأمومة ومستدفئاً كرضيع.
وهذه أمّ كلثوم، أليست فرعوناً وفرعونة؟
أليست أوركسترا نساء ورجال؟
وتلك منشدات الأوبّرا، ألسنَ أجناساً خلاسيّة؟
الأنوثة ليست قَدَراً ولا الذكورة.
القَدَر أذكى من أن يُتَصيَّد بقوالب محنّطة.
والصدْفة، هذه اليد الخفيّة التي توزّع العطاء، أكرم من تَوقّعاتنا.
لصّ النار كان عبقريّاً.
الآلهة التي سرق الشعلة منها كانت هو.
هو المجسّد لهم رغماً عنهم، رسولاً لهم رغماً عنهم.
المتّحد بهم المنفصل عنهم، فادي البشر.
العبقريّ ما زال يسرق النار، حيث تُرى وحيث لا تُرى.
والنار، منذ ذلك الحين في ليالي الأزمنة، النار تعدَّدت: نارٌ ماءٌ، نارٌ هواءٌ، نارٌ خَدَر، نارٌ حَجَر.
نارٌ دمارٌ ونارٌ مُصالحة.
رأيتُ، إفراديّاً أو جماعيّاً، عظماء يتصرّفون كالأولاد، وعباقرة عديمي الثقة بأنفسهم، وموهوبين مكرَّسين يتأرّقون الليالي قبل حفلتهم.
لا وجود لعبقريّ واثق أنّه عبقريّ.
هو دائماً إلى جانب شيء من نفسه لا على بَيّنةٍ من نفسه.
لا وجود لموهوبٍ مسترخٍ في نعيم القمّة.
الموهوب، الموهوب الممسوس بهاجس الكمال، بفكرة مثاليّة، جالسٌ دوماً على أعصاب كيانه، في انتظار امتحانه القادم، في انتظار جحيمه.
جمهوره يظنّه في قمّة النعيم، على العرش المتلألئ، لكنّ جمهوره لو شاهده في داخل روحه لانفطر قلبه عليه.
هذا القلق المدمِّر هو الاسم الأوّل والأخير للعبقريّ والموهوب.
للمختار.
هو ما يُميّز المُشْرِق من الـمُشْرَق عليه.
واحرَّ قلباه!
جرْحُ العبقريّ ولادتُنا الجديدة، وجلجلة الموهوب سعادتُنا.
Comment