نص مجهول لجبران
عندما دشّن جبران خليل جبران (1883 - 1931) نتاجه الأدبي بكتيّب «الموسيقى» في العام 1905،لم يُفاجأ أقرباؤه وأصدقاء عائلته الصغيرة في بشري وبوسطن، فوالده خليل كان يحب «الكيف».
وشقيقه بطرس كان يعزف على العود.
وأمه كاملة كانت تنشد المواويل الفولكلورية بصوتها الرخيم.
ولكن المفاجأة كانت حين أصبح الرسم لا العزف محور اهتمام جبران الفني، والأدب لا البحث الموسيقي، المحور الرئيسي الآخر لديه.
طبعاً، لم يغب موضوع الموسيقى والغناء تماماً عن نتاج جبران المعروف والمنشور في مجموعتيه العربية والمعرّبة، ذلك أن بطل مسرحية «الصلبان» المنشورة في كتابه «العواصف» هو الموسيقي والمغني الشهير بولس الصلبان.
كذلك، يقوم عازف العود المرافق لبولس، سليم معوض، بأحد الأدوار الرئيسية في المسرحية القصيرة.
ولكن الصلبان يتميز عن معظم الفنانين برفضه الغناء في الحفلات الخاصة التي تقام في منازل الأغنياء، بمناسبة الأعراس.
من هنا سرّ عزوفه عن الغناء في قصر خليل بك تامر بمناسبة عرس ابنه، وتوجهه الى منزل صديقه حبيب سعادة المجاور للقصر، برفقة العواد سليم معوض.
لحظة فتح صاحب المنزل الباب بادره الصلبان قائلاً:
«جئنا لنحتفل بعرس ابن جلال باشا في منزلك»!
فأجاب حبيب: «هل ضاقت عليكم دار جلال باشا فجئتم الى هذا المنزل الحقير»؟
فقال الصلبان: «ليس لجدران بيت الباشا آذان تسمع رنات العود والأناشيد».
ثم ناول العود لمرافقه وقال آمراً:
«اضرب النهاوند، واضرب طويلاً، واضرب جميلاً»، ولما فعل ذلك،
«حوّل الصلبان وجهه نحو منزل جلال باشا وأغمض عينيه وأنشد:
كل يوم أشكو من غرام قلبي/ وكلما أشكو يزيد الغرام
ويؤكد جبران، عبر عازف العود، ان الصلبان «ظل متلاعباً بمقاطعه مثلما يتلاعب الهواء بأوراق الخريف، فقلت في نفسي: لا، ما عرفت في الماضي من روح بولس إلا القشور، أما الآن فقد بلغت اللباب، لم أسمع في الماضي غير لسان بولس منشداً.
أما الآن، فإني أسمع قلبه وروحه».
يضيف:
«ظل بولس يلاحق الدور بالدور، ويتدرج من نشيد الى نشيد، وقد صعد ليلة أمس على سلّم الفن حتى بلغ الكواكب، ومن العجائب انه لم يهبط على الأرض حتى الفجر».
بعد ثلاث سنين من صدور «الموسيقى» عن «دار المهاجر»، وقبل ظهور «الصلبان» في «السائح»، زار بوسطن عازف العود الشهير اللبناني المتمصّر سليم البستاني أو «أحد نوابغ الموسيقيين في العالم العربي» على حد تأكيد جبران.
وفي أحد المنازل الشبيهة ببساطتها بمنزل حبيب سعاده،
«ضم - سليل البساتنة - عوده الى صدره مثلما تعانق الأم وحيدها... ثم ضرب بريشته على الأوتار، فتناثرت نغمة النهاوند من بين أصابعه».
ويؤكد جبران، الذي حضر الاحتفال المنزلي، ان البستاني بقي
«يلاحق النغم بالنغم حتى شاخ الليل وابتسم الصباح».
ولما كان البستاني نداً لكبار فناني العرب والغرب أمثال
«بيتهوفن وفاردي وموزارت وشاكر الحلبي وعبده الحمولي»
فقد شذّ جبران عن نهجه الصحافي، ونشر وقائع الاحتفال في جريدة «المهاجر» بتاريخ 28 آذار (مارس) 1908 تحت عنوان «ضارب العود».
وبالمقارنة بين «ضارب العود» سليم البستاني وبطل مسرحية «الصلبان» بولس الصلبان، وبخاصة رفضهما احياء الحفلات في منازل الأغنياء، وبين ما ورد عن النهاوند في «ضارب العود» وكتيب «الموسيقى» ومسرحية «الصلبان»، يتبيّن ان القطع الثلاث حلقات مترابطة في سلسلة قصيرة خصوصاً بمفهوم جبران للموسيقى والغناء.
ولما كان مقال «ضارب العود» المهم مفقوداً من السلسلة الثلاثية، وضرورياً لمن يبحث في المفهوم الجبراني للغناء والموسيقى...
فقد رأيت اعادة نشره بمناسبة مرور 125 سنة على ولادة جبران، ومرور مئة عام على ظهور المقال.
ضارب العود
أيتها الموسيقى. يا ابنة النفس والمحبة. يا اناء مرارة الغرام وحلاوته.
يا خيالات القلب البشري.
يا ثمرة الحزن وزهرة الفرح.
يا رائحة متصاعدة من طاقة زهور السرائر المضمومة.
يا لسان المحبين ومذيعة خفايا العاشقين.
يا صائغة الدموع من العواطف المكنونة.
يا موحية الشعر للشعراء ومنظمة عقود الأوزان.
يا موحدة الأفكار من نتف الكلام، ومؤلفة الشواعر من مؤثرات الجمال.
يا خمرة القلوب الرافعة شاربيها الى أعالي عالم الخيالات.
يا مشجعة الجنود ومطهرة نفوس المتعبدين.
يا أيتها التموجات الأثيرية الحاملة أشباح النفس.
ويا بحر الرقة واللطف.
الى أمواجك نسلّم أرواحنا.
وفي أعماقك نستودع قلوبنا.
فاحمليها الى ما وراء الشفق، الى ما وراء الغيوم والنجوم، الى ما وراء المادة، الى عوالم الغيب، الى دائرة النور الأعلى، الى أحضان الله.
جمعتني ليلة أمس بسليم أفندي كرم البستاني، وهو أحد نوابغ الموسيقيين في العالم العربي، وفرد من تلك الأسرة التي أنزلت الآلهة محبة الفنون الجميلة على نفوس بنيها، فملأوا فضاء الشرق بأشباح الجمال وأنغام الفنون.
فكانوا، وهم الآن من النهضة العربية الحاضرة، بمنزلة القلب من الجسد.
سليم البستاني رجل قد تحولت قوى نفسه الى استفسار دقائق معاني الأنغام العربية والفارسية والتركية.
فهو يضرب العود بقوة سحرية، ويولد من أوتاره أنغاماً تتراوح بين همس الزهور عند قدوم الفجر وهول العاصفة في ظلمة الليل. هو شاعر قد اتخذ دوائر الأنغام بدلاً من الأوزان، والأوتار بدلاً من الأقلام، وآذان سامعيه بدلاً من الطروس.
فهو، مثل كل موسيقي حقيقي، يتلو عليك حكايات الأيام والليالي، ولكن بغير الألفاظ، ويوقف أمام نفسك رسوم الأجيال الغابرة، ولكن بغير الخطوط والألوان.
لأن من له من رنات أوتاره شيئاً أرق من الألفاظ وأدق من الخطوط وألطف من الألوان، وهو الصوت - النغم - الهمس - الرنة، وكل ما وراء هذه الكلمات من المعاني المتطايرة بين أعماق الوادي وقمة الجبل، السائرة بين شواطئ البحر وقلب الصحراء، السائلة بين الحقول والطلول المتموجة بين القلب البشري وأعماق اللانهاية.
وسليم البستاني رجل يضن بأنغام عوده، فهو لا يلقي بذورها الحية إلا في التربة الجيدة.
وقد يحسبه البعض بخيلاً بما جادت به السماء عليه.
غير ان الموسيقي الذي صرف أيام شبيبته بمعاشرة أديب اسحق ونجيب الحداد وخليل اليازجي وسليم سركيس ومحمد عثمان وعبده الحمولي، وكان ملازماً لهم وساكناً في لياليهم وشعاع أيامهم، لا يلام إذا ما جمدت يده فوق أوتار عوده وهــجعت نفــسه أمــام ذوي الصدور المتحجرة والأفهام الترابية...
أما ليلة أمس، فهي من تلك الليالي التي تهبط فيها الأرواح العلوية وتوحي الى الشعراء نظم القصائد والى المصورين خطوط الرسوم والى الموسيقيين ابتداع الأنغام، هي من تلك الليالي التي تجمع بأكفها الخفية أشباح الأمس بمآتي الغد، وتتكلم بشفا صامتة عن أحلام الملوك وغيبوبة الأنبياء.
أخذ البستاني عوده وكان قد انتصف الليل، وهمدت الحركة في الشوارع، وأوقف السكون أنفاس النيام، فكأن الحياة في هذه البلاد قد أصغت لتسمع نغمة قلب الشرق متمايلة في كبد الليل.
وضمّ البستاني عوده الى صدره مثلما تعانق الأم وحيدها.
وأسند رأسه اليه كأنه يريد أن يبث في جوفه الخشبي سراً خفياً.
ثم ضرب بريشته على الأوتار، فتناثرت نغمة (النهاوند) من بين أصابعه وتصاعدت سابحة في فضاء تلك الغرفة كأنها تأوهات اله أضاع حبيبته. ولما امتلك النغم آذاننا لاحقه الموقع بإنشاده:
كل يوم أشكو من جراح قلبي/ وكلما أشكو يزيد الغرامُ
فكانت معاني هذا الموشح القديم ورنات الأوتار تتعانق وتتآلف ثم تتفرق وتضمحل ثم تعود وتنمو وتتعاظم. فكأنها أرواح عرائس الجن تتطاير مترنمة صارخة متأوهة بين الأودية السحرية.
النهاوند نغم يمثل تفريق المحبين ووداع الوطن، ويصف آخر نظرة من راحل عزيز.
يمثل شكوى آلام مبرحة بين ضلوع أصحابها لظى الشوق.
النهاوند صوت من عمق أعماق النفس الحزينة.
هو نغم ينسكب من عواطف مهجور يسأل عطفاً على رمقه قبل أن يضنيه البعاد.
هو زفرات يائس أنشأتها المرارة، وتنهيدات قانط بثتها اللوعة.
النهاوند يمثل الخريف وتساقط أوراق الأشجار المصفرة بهدوء وسكينة وتلاعب الريح بها وتفريق شملها. النهاوند صلاة والدة نأى ابنها الى أرض بعيدة، فباتت بعده تغالب النوى، فيهاجمها اليأس وتصده بالصبر والأمل.
وفي النهاوند أسرار ومعان يفهمها القلب وتفقهها النفس.
أسرار خفية يحاول أن يبثها اللسان ويكشفها القلم، فيجف هذا وتتقطع أوصال ذاك.
وبعد هنيهة أخذ البستاني عوده ثانية وأحنى رأسه اليه وكأنه علم بأن النهاوند قد ألبس أرواحنا نقاباً من الحزن والكآبة فضرب الأوتار مبتدعاً من ارتجاجاته نغمة (الصبا) المفرحة، فاستفاقت منا قلوب حجبتها لحف الغم واستيقظت راقصة بين ضلوعنا، فكأني بهذا النغم جدول بلوري ينساب في المنحدرات بين الزهور والأعشاب فيظهر للعين تارة ويختفي طوراً وينسلّ برهة ويهبط أخرى.
(الصبا) نغمة فرح تنسي المرء أتراحه فيطلب الراح ويشربها بلذة غريبة، ويستزيد منها كأنه يشعر بأن خمرة السرور تسابقها لتتحكم بالنفس.
الصبا حديث محب مغبوط صارع الدهر ورغم أنف البين وأسعدته الليالي بخلوة فحظي بلقاء حبيبته الجميلة في حقل بعيد فأولاه اللقاء فرحاً وابتهاجاً.
الصبا كنسمات الصبا تمرّ فتهتز لها أزهار الأودية تيهاً واعجاباً.
وكأن البستاني قد شعر إذ ذاك بأن في الأنغام المحزنة شيئاً أشد تأثيراً في قلب الشبيبة الواقفة بين شاطئ الذكرى وبحر الأحلام والأماني فاستبدل الصبا بالأصفهان مرجعاً الى أرواحنا نغمة تلك المأساة الجامعة بين مرارة الغصّات وحلاوة الدموع. ثم تابع النغم وأنشد لابن زريق:
لا تعذليه فإن العذل يؤلمه/ قد قلتِ حقاً ولكن ليس يسمعه
فارتعشت أكبادنا وتصاعدت تنهيداتنا واغرورقت أجفاننا بالدموع، وانفصلت نفوسنا عن سجونها وسبحت في فضاء لا حدّ له ولا مدى، ثم هبطت وحامت حول ذلك المكان حيث جلس ابن زريق في ظلال الموت مودعاً حبيبته والحياة بقصيدة هي من أجمل وأعــذب مــا نظم في اللغة العربية.
والأصفهان نغم نسمعه فنشاهد بعيون أرواحنا آخر فصل من حكاية عاشق دنف ماتت حبيبته فتقطعت عرى آماله وتواصلت زفراته، فهو ينوح بآخر ما في جسده من الحياة ويرثي بقايا ما في حياته من الرمق.
الأصفهان يحاكي آخر نَفَس من منازع واقف في مركب الموت بين شاطئ هذا العالم وبحر الأبدية.
الأصفهان هو رثاء الذات بغصّات متقطعة متواصلة وتنهدات عميقة هو نغمة صداها سكينة تمازجها مرارة الحنين والأسى وحلاوة الحب والوفاء.
وظل البستاني يلاحق النغم بالنغم، واصلاً النشيد بالنشيد، رابطاً أواخر (الرصد) بأوائل (الحجاز)، باعثاً (البيات) اثر (السيكاء).
وهو في جميعها يتلاعب بعواطفنا مثلما يداعب الهواء أطراف الأغصان، ويتنقل بأرواحنا من نشوة التذكار الى يقظة التهيب الى أوج السرور الى ظلمة الكآبة الى مرسح الأمل الى مسرح القنوط الى هيكل الحب الى خرائب (كلمة غير مفهومة) الى أعماق الهاوية الى أهالي السماء السابعة» حتى شاخ الليل وابتسم الصباح من وراء بلور المنافذ، فتركنا تلك القاعة ورنّات عود البستاني تتبع نفوسنا وتحيط بقلوبنا، وذهب كلٌ الى مضجعه وعلى شفتيه هذه الكلمات: تكاثري يا عواطف النفوس، وتعاظمي يا شواعر القلوب، وارفعي أيدي ذوي الأيدي لبناء الهياكل لربة الموسيقى العظيمة.
وانزل يا ملاك الوحي على أرواح الشعراء، واسكب في خلايا قريحتهم مدحاً وتسبيحاً لهذه الإلاهة المقدسة، واكبري يا مخيلة الرسامين والنقاشين وابتدعي لها صوراً وأشباحاً.
كرموا يا سكان الأرض كهنتها وكاهناتها وعيدوا لذكر خدامها وشيدوا التماثيل لأنبيائها.
صلّي أيتها الأمم وسلّمي على أورفيوس وداود والموصلي، وعظّمي ذكر بيتهوفن وفاردي وموزارت،
وردّدي يا سوريا اسم شاكر الحلبي ويا مــصر اســم عبده الحمولي.
كبّر أيها الكون العاقل الذين بثوا في سمائك أسرار أنفسهم، وملأوا الهواء أرواحاً لطيفة،
وعلّموا الإنــسان أن يرى بــسمعه ويــسمع بقلــبه. آمين.
Comment