البطل في الزنزانة
المدفع
لقد عرفه الجميع ...وكادوا انيعهدوا وجهه كجزء لا ينفصل عن القرية كلها: وجهه المربع يعترضه حاجبان يتصلانببعضهما باخدود يعين طرف انفه العلوي, وانفه المفلطح تدور باسفله دائرتان واسعتانفوق شارب رمادي كثيف , يتدلى , فيخفي شفته العليا ... اما ذقنه فلقد كانت عريضةحادة , كانها قطعت لتوها من صدره, ومن ثم , بردت رقبته الثخينة بردا.
ان سعيدالحمضوني نادرا ما يتكلم عن ماضيه, انه دائما يتحدث عما سياتي , وما ينفك يعتقد انغدا سيكون احسن من اليوم , ولكن اهل(السلمة) يتناقلون فيما بينهم , بشيء كثير منالمبالغة , اخبار سعيد الحمضوني ايام كان يقود حركات ثورية في 1936 , يقولون-هناكفي القرية- ان سعيدا اطلق سراحه من المعتقل لانه لم يدن .. ويقال انه لم يقبض عليهبعد , ومهما يكن , فهو الان يملأ القرية , ويربط الصبيان كل احاسيسهم وتخيلاتهمالتي يرسمونها للرجل الممتاز .. وليد المغامرة القاسية ...
لقد عاد سعيد مؤخرامن يافا, واحضر معه رشاشا من طراز(الماشينغن) كان قد قضي قرابة اسبوع كامل يجمعثمنه من التبرعات, ومع ان سكان السلمة كانوا على يقين كبير ان ثمن مدفع من هذاالطراز لا يمكن انيجمع من التبرعات , فلقد اثروا ان يسكتوا , لان وصول المدفعالرائع اهم بكثير جدا من طريقة وصوله , فالقرية في اشد الحاجة الى اي نوع من انواعالسلاح, فكيف اذا حصلت على سلاح من نوع جيد؟..
لقد عرف سعيد الحمضوني ماذايشتري! ان هذا المدفع , مدفع (الماشينغن ) كفيل برد اي هجوم يهودي مسعور, انه نوعراق من السلاح , والقرية في اشد الحاجة اليه.. فلماذا يفكرون في طريقة و صول المدفع؟ . ولكن سكوت رجال السلمة , لايعني سكوت نسائها , لقد بقيت المشكلة بالنسبة لهنتلح الحاحا قاسيا , ولما لم يجدن من يدلهن على حقيقة الامر , استطعن ان يقنعنانفسهن , ان سعيد الحمضوني كان قد سلم في ثورة 1936 مدفعا من هذا الطراز ابلى منخلفه بلاءا حسنا , ثم خبأه في الجبال الى ان ان اوان استعماله من جديد .. ولكنالتساؤل بقي متضمنا في اعمق اعماق السلمة , لم يكن من اليسير ان يجمع الانسان ثمنمدفع من طراز الماشينغن ..
اذن فمن اين اتى سعيد الحمضوني بهذا المدفع ؟ نعم .مناين؟المهم .. ان هذا المدفع الاسود صار قوة هائلة تكمن في نفوس اهل السلمة, وهو يعني بالنسبة لهم اشياء كثرة, اشياء كثيرة يعرفونها , واشياء اكثر لا يعرفونها .. ولكنهم يشعرون بها , هكذا, في ابهام مطمئن .. ان كل كهل و كل شاب في السلمة , صار يربط حياته ربطا وثيقا بوجود هذا المدفع , وصار من صوته المتتابع الثقيل , اثناء تجربته في كل امسيتين , نوعا من الشعور بالحماية..
وكما يرتبط الشيءبالاخر , اذا تلازما , ربط الناس صورة المدفع بوجه سعيد الحمضوني المربع , لم تعدتجد من يفصل هذا عن ذاك في حديث الدفاع عن السلمة , ان سعيد الحمضوني اصبح الانضرورة مكملة .. بل اساسية , للمدفع , وعندما يتحدث الناس عن سعيد, كانوا يشعرون انهاداة من ادوات المدفع المعقدة .. شيء كحبل الرصاص , كقائمتي المدفع .. كالماسورة: كل متماسك لا تنفصل اطرافه عن بعضها . بل واكثر من ذلك , لقد صار يربط سعيدالحمضوني حياته نفسها ربطا شديدا بوجود المدفع . كان المدفع يعني بالنسبة له شعوراهادئا بالطمأنينة , شعورا يوحي بالمنعة : فهو دائم التفكير بالمدفع , دائم الاعتناءبه , تكاد لا تراه الا وهو يدرب شباب القرية على استعماله , ويدلهم في نهايةالتدريب على المكان الذي وضع فيه خرقة لمسح المدفع , هذا المكان الذي سيصير –فيمابعد – معتادا . ومع مرور الايام بدأ سعيد الحمضوني يتغير.. لقد تبدل لونه عن ذي قبل . وبدا كأنه يضمر شيئا فشيئا , و احس شباب السلمة ان سعيد الحمضوني صار يبدو اكبرمن ذي قبل , وانه صار يققد هذه الحركة الحية في وجهه وفي صوته .. انه صامت الان, صامت الى حد يخيل للانسان معه انه نسى كيف كان يتكلم الناس , وصار شيئا مألوفا انيجده الناس منطلقا الى جنوب السلمة , حيث ركز المدفع , ليجلس وحيدا بقربة الىالعشية .
هذا الرجل الجبار .. الهاديء.. الثائر.. هل كان يعتقد انسان انهسيرتجف كذرة من القطن المندوف على قوس المنجد؟ لقد فتحواعليه باب داره والصباح يوشكان ينبلج , وتضاخمت امامه كتلة سوداء, وضربت الارض وبرز منها صوت احد رجاله , يدوركالدوامة , ليبتلع كل احساس بالوجود :
- المدفع .. لقد اصابه العطب .. انماسورته تتحرك بغير ما توجيه.. اليهود يتقدمون.
وأحس سعيد الحمضوني بقوة جبارةتقتلع من جوفه شيئا يعز عليه ان يضيع منه , شيئا كقلبه لا يستطيع ان يتابع وجودهالا معه .. كان يشعر بكل هذا و هو منطلق عبر الحقول الباهتة النائمة في اخر الليل .. ووصل الى حيث كان الرشاش يتكيء كالطفل الميت على الاغصان اليابسة , كل شيء ساكن ,الا طلقات البنادق الهزيلة , تحاول عبثا الوقوف في وجه الهجوم .. اما المدفع .. اما جهنم ..
وهز سعيد الحمضونيرأسه و كأنه يواسي نفسه بمصاب ابنه , ثم فكر : انلا بد من اجراء .. لا بد .. شيء قوي كالكلابة يجب ان يمسك الفوهة الهاربة الى بطنالدفع.. شيء قوي..
- اسمع .. سأشد الماسورة الى بطن المدفع بكفي. وحاول ان تطلق .. لا يوجد اية دقيقة لتضيع في كلام .. دعنانجرب ,
- لكن ..
- اطلق!
- سيرانا اليهود وانت فوق الحفرة .
- اطلق!
- ستحرق كفيك بلهب الرصاص..
- اطلق.. اطلق!.
وبدأالمدفع يهدر بصوته المتتابع الثقيل, ومع صوته المحبوب, شعرسعيد الحمضوني بنفسيته التي تغذت طويلا بالثورة والدم والقتال في الجبال, شعر بانهاالنهاية .. نهاية تاق اليها طويلا وها هي ذي تتقدم اليه بتؤدة , كم هو بشع الموت .. وكم هو جميل ان يختار الانسان القدر الذي يريد.. وسمع صوته من خلال دقاتالرصاص:
- اسمع اريد ان اوصيك و صية هامة ..
- وعاد يصيخ الى المدفع واستخلصمن صوت الرصاص ثقة جديدة ليتابع وهو يحاول ان يمضغ المه:
- قرب قرية ( ابو كبير ) ابعد منها قليلا , يوجد مستشفى للسل ..عرفته؟حسنا! لي هناك مبلغ جيد من المال , قالوا لي .. ان ارجع لأقبضه بعد ان يفحصوا الدم .. انا متأكد انه .. دم جيد.. في كلمرة يقولون انهم يريدون ان يفحصوا الدم كأن دم الانسان يتغير في خلال اسبوع و نصف .. اسمع .. ان ثمن المدفع لم يسدد كله .. ستجد اسم التاجر في داري .. هو من يافا . لقد دفعت قسما كبيرا من ثمنه من تبرعاتكم . لقد اوشك ثمنه ان يتم .. هل تعرف انهميشترون الدم بمبلغ كبير؟ لو عشت شهرين فقط؟ شهرين اخرين لاستطعت ان اسدد كل ثمنه .. انني اعطيهم دما جيدا .. ثمنه جيد .. خذ حسن و حسين واذهب الى ذلك المستشفى .. الاتريد ان يبقى المدفع عندكم .. ان حسن وحسين .. ولدي.. يعرفان كيف يذهبان الى هناك.. لقد كانا يذهبان معي في كل مرة .. ان دماءنا جميعا جيدة.. جيدة جدا.. القضية قضيةالحليب الذي رضعناه . قضية.. اريد ان اقول لك شيئا اخر.. اذا تراجع اليهود هذهالمرة .. تكون اخر مرة يهجمون بها من هذه الناحية .. سيخافون .. فعليكم ان تنقلواالمدفع الى الشمال .. لان الهجوم التالي سيكون من هناك ..
واشتد شعوره بالنارتلسع كفيه بقسوة .. واحس احساسا ملحا انه لو كان في صحته العادية لاستطاع ان يقاوماحسن من الان , وراوده شعور قاتم بالندم على انه سلك في شراء المدفع ذلك السبيل, ولكنه احس احساسا دافقا ان المدفع طرف اخر من الموضوع , طرف هام.. ان وجوده يحافظعلى اهميته قبل ان يموت هو , وبعد ان يموت..
فأغمض عينيه , وحاول جاهدا ان يحررنفسه من سجن ذاته كي ينسى المه .. لكنه لم يستطع .. فأسقط ركبته على الارض في ثقل..
وعلى صوت الطلقات المتقطعة بانتظام وعنف.. احس سعيد الحمضوني باشياء كثيرة .. كانها ملايين الابر تدخل في شرايينه فتسلبه ما تبقى من دمه ,ثم شعر باطرافهجميعها تنكمش كانها ورقة جافة في نهاية الصيف.. وبجهد شرس حاول ان يرفع راسه ليشمالحياة , الا انه وجد نفسه فجأة في تنور من ذلك النوع الذي يكثر .. في السلمة , والذي عاش الى جواره فترات طويلة من صباه , وجد نفسه في ذلك التنور جنبا الى جنب معالارغفة الساخنة تحمر تحت السنة اللهب , ورأى بعينيه فقاقيع العجين الملتهبة , تطيرعن رغيف المرقوق وتلتصق على شفتيه , وشعر بيد قاسية تشد رأسه الى ادنى .. الى ادنى .. الى ادنى .. فيسمع لفقرات رقبته صوتا منتظما ثقيلا وهي تتكسر تحت ثقل راسه .. واحس انه فعلا لا يريد ان يموت , واعطته الفكرة دفقة اخرى من الحياة .. فاكتشف انصوت تكسر فقرات رقبته هو صوت الرصاص الذي ينطلق من المدفع الرشاش , وشعر بمواساة مننوع غريب , مواساة تشبه تلك التي يراها الوالد في ولد عاش بعد مصرع اخيه , فابتسمباطمئنان, وخرجمن( التنور ) لكنه شعر انه لم يلمس الارض بقدميه..
وشيعته القريةكلها الى مقره الاخير.. او الاول .. سيان..
قرلك لك اخيرا مجموعة لا بأس بها من الاقاصيصالمنشورة هنا وهناك , وسرني بالفعل انك قد تخلصت الى حد بعيد نم ذلك الافتعال اللزجالذي يثقل طبيعة القصة , ويعرقل انسياب حوادثها . ان اصعب ما في كتابة القصة , هوالتخلص من ذلك الافتعال , لكنني , واصدقك القول , لا افهم تماما ماهية هذا الذييدعونه "افتعال" , فان كان يقصد منه ضعف الاسلوب وتقصيره عن اظهار الحادثة بشكلهاالطبيعي , فانا موافق , اما اذا قصد منه ان الحادثة في القصة هي حادثة تعوزهاالامكانية والعفوية , وانها حادثة بسيطة الى حد ليس فيه اية قيمة , فأنا لا اوافق , اذ انني اعرف قصة حدثت حقيقة مع احد من اصدقائي , وكلما فكرت ان اكتبها , لمحت فيها , مقدما , خطوطا ثخينة من هذا "الافتعال " تحدد بعض جوانب حوادثها … لماذا؟ انني فيالحقيقة لا ادري , او , ولاعترف بذلك , ان حوادث القصة ذاتها ليس فيها اشياء كثيرةتحفظ عليها بنيانها القصصي . واخاف ان ازيد على احداثها كي اخلص نم الضعف والافتعال , فاقع في الكذب .
فانا , على هذا , احب ان اكتبها لك هي , احتراما للبطلوللحادثة , كما حدثت قبل عدة اشهر دون ان ازيد فيها او ان انقص .. وعليك انت انتجرب فيها القواعد التي قلتها عن كتابة القصة , ولكي تكتب عن هذه الحادثة نفسها قصةناجحة يقول عنها النقاد انها " مكتملة البناء الفني " , فكيف ستتصرف يا ترى ؟ وهلتجيز لنفسك ان تغير الحوادث التي وقعت , او تضيف علها حوادث جديدة كي تنسجم مع مايسمونه "البناء الفني للقصة " ؟ واذا اجزت لنفسك ذلك , فهل تعتقد انك تكون في مستوىالقضية التي تعذب البطل من اجلها ؟
***
ان صديقي – بطل القصة – ولنسمه رياضا , يعيش قضية تعكس نفسها على كافة جوانب حياته , انه يعيش قضية الامة العربية , ويبذل جهدا هائلا لكي يرتفع بنفسه الى المستوى الايجابي المنتج اهذه القضية .. انرياض قد حاز اعجاب الجميع وتقديرهم , رغم ان قسما من هذا "الجميع " عندما تعرف الىرياض قال عنه انه انسان يحب التظاهر , وانه في باطنه يريد ان ينطلق الى اقرب ملهى .. كي يلعب مع العصافير – حسب تعبيرهم – ولكن رياضا ما لبث ان فرض نفسه يتشامخارتباطه مع القضية الكبيرة ..
لم يكن رياض –اذن – مزيفا بهذا الارتباط , ربماكان ارتباطه هذا اوضح ما في نفسه من اصالة .. كان يقف وقته كله على تغذية نفسه بفهمواسع , وانصع , لهذه القضية .. انني لا ابالغ , بل اعطيك انسانا اعرفه كما يعرفالانسان الصق الاشياء به..
لقد سافر رياض الى الاردن , بعد انتكاسه نيسانالاخيرة , فان هنالك اشياء كثيرة يستطيع ان يؤديها باتقان , واستطاع ان يجد غرفةمتواضعة منعزلة في دار تسكنها امرأة في حوالي الثلاثين من عمرها , مع زوجها .. هناكسكن رياض , كان يمضي اوقاتا طويلة في غرفته , يتم اعماله الخاصة , غير مهمل البتةالقيام بالواجبات الصغيرة التي تحتمها المجلات مع اصحاب الدار .. لقد كان يستقبلهابغرفته , ويسهر معهما , حتى اذا ما قاما الى غرفتهما دأب هو على عمله حتى الصباح ..
وكان في عمله ذاك , اوضح مثال عن الانسان الذي يتغذى بالنضال الصامت . كانقاسيا على نفسه , غير متهاون ابدا في مطالبتها بالواجبات .. كان رفاقه يحترمونه , لقد كان قويا , وقد فرض هذا الشعور على جميع من تعاون معه , فرضه الى حد جعل بعضهميتسائل , هل يمكن ان يكون لهذا الانسان - رياض- جوانب اخرى غير قوته , في ذاته ؟واتى الجواب في لحظة عابرة .. راوه مرة يبكي , كان ذلك ليلة نزل فيها بسيارةهزيلة مع بعض اصحابه , حاملا رزما من المناشير , وفي الطريق , لاحظ السائق ان ثمةسيارة تتبعهم , فراوده خوف مشحون بالرغبة في التحدي , ولكنه اضطر الى ان يبدل اتجاهالطريق . . لم يلحظ هذه الحركة الا رياض . . بينما استمر واحد من زملائه يلقي شعرا , لشاعر من اقليم مصر بصوت خفيض مبحوح :
. . لاجئة , تبكي ايام الحب . .
لما كانت يافا . . يافا .
واخيرا . . ما بعدك يا يافا ؟كم سنة ونصيرحكاية ؟ويقول العلماء ..
العرب انقرضوا !
وفجأة نظر الجميع الى رياض , كانت اللحظة تحتويهم بعنف وتجهم , ان ثمة لحظات تعطي الانسان دفقات من المشاعرالقاسية , البعيدة , العجيبة . . تلح على راسه الحاحا ممضا . . لقد كانت تلك اللحظةمن هذا النوع , ان رياضا قد خضع حتما لتلك الدفقات العجيبة . . ان اشياء كثيرا , تلح عليه , لا شك , بحدة وصلابة . فبكى !
شيء مؤلم ان تجد انسانا قويا يبكي . . اليس كذلك ؟
***
قلنا ان رياضا عاش في الاردن منذ وصلها , وهو يعمل ليلانهارا , لقد توطدت صداقته مع اصحاب الدار فصاروا يحبونه حبا جما , وليس هذا فحسب بلكانوا يقدمون له عشاءه في بعض الامسيات . .
لقد كانت (ام …) صاحبة الدار تاتيالى غرفته كل ليلة تقريبا مع زوجها , فتجلس على طرف السرير , وتتحدث عن الاخباربينما كان رياض يجلس على كرسيه , خلف طاولة صغيرة .
وفي مرة , رفعت (ام…) جريدةموضوعة على السرير امام عينيها , ولاخظ رياض ان الجريدة مقلوبة , وقبل ان يتكلم , رمت (ام…) الجريدة جانبا وهي تقول :
- الله يلعن ايام زمان . . على كل حال , انا تزوجت , وصار عندي اولاد . . ولم يبق من العمر قدر ما ما مضى . .
- انك يا ( ام . . . ) من الناس الذين قيل عنهم انهم متعلمون رغم انهم لا يعرفون القراءة . .
وضحكت (ام . . . ) ونهضت وهي تتمنى له ليلة طيبة.
***
حتى اذا كانذات مساء . . وقد عاد رياض الى داره مرهقا , استقبلته الشرطة على الباب , وشدواالحديد على رسغيه وقادوه –دونما كلمة – الى المخفر . . وذهب رياض الى هناك هادئا , وهناك قالوا له انه يتامر على العرش , ولنه نفى ذلك بهدوء . . انه كان على يقينكبير ان احدا لن يجد ضده اثباتا واحدا . . لقد كان حريصا في اخفاء اوراقه , قديرافي التخلص منها في الوقت الملائم , ان الشتائم لم تجد , لا هي ولا السياط لقد بقيرياض سامدا في كل لحظة .
لكن الامور تجري بقسة اشد , لقد سجن رياض في زنزانةمنفردة , وسلكوا في سحب اعترافاته طريقا وحشيا مريعا . . كان يعرض لتيار كهربائي فيكل يوم. . كان يجلد , ويعذب , ويرمى في زنزانته وحيدا مع جراحه ولكنه صمد ببطولةصامتة , فلقد ذوت ابتسامته تحت صفع السياط وصفع الشتائم , وبات لا يحس الا التمزق .
ثم حمل الى غرفة الضابط المسؤول واعيدت عليه مجموعة الاسئلة التقليدية , وانكررياض كما اعتاد ان يفعل , قدم له الضابط – دون ان يغير تعابير وجهه المبتسم بجذلوحبور – مصنفا صغيرا وطلب منه ان يفتحه .
لقد راى رياض في المنصنف مجموعة منالاوراق , ما لبث ان عرف فيها اوراقا كان قد كتبها في غرفته تلك , منشورات , وبعضهاالاخر رسائل الى هاربين , واوراق اخرى , لقد احس رياض لا شك , قسوة المفاجأة – وعليك انت ان تبرز هذه المفاجأة عندما تكتب القصة – ولكنه تشبث بالنقطة الاخيرةالتي بقيت لصموده , لقد قال ان هذا الخط ليس خطه وانه , على هذا , لا يتعرف علىالاوراق . .
نعم يا رياض , انه ليس خطك ولكن ايعدم الخائن وسيلة ليلوث نفسهاكثر بالوحل والحماء ؟ ان عندهم مجموعة من الاثباتات الصغيرة لابد وانهم سيبرزونهافي الوقت الملائم ..
وبدأت الخطوط تنجلي شيئا فشيئا , ان صاحبة الدار هي صاحبةالوشاية , وهي التي كانت تنسخ اوراقه اثناء خروجه في الصباح , وهي التي قدمت تقريراعنه , ان المرأة الشريرة اذن تعرف القراءة و الكتابة لقد حطمت المفاجأة كل قلعةللامل في صدر رياض , ولكنه احتفظ لنفسه بمواساة اخيرة . ان المرأة الكاذبة لمتبدأعملها منذ زمن بعيد وانها نسخت جهود ايام قليلة فقط .
ويتذكر رياض المرأةويشعر بالمرارة , لقد خدعته ولكن ما مصلحتها من هذا كله ؟ - وياتي الجواب من زميلفي السجن , انها زوجة منتسب لحزب معين – ساوافيك باسمه ان قررت ان تكتب القصة فعلا – وهو حزب معروف بتعاونه مع الفئة الحاكمة هناك , وهي- اي المرأة - ام لابن يعملفيه .
ويقول له الضابط – ما ايك ؟ويقول رياض – انكم اذناب صغيرة في بالوعةالقاذورات المنتنة , فليسقط العرش , ولتسقط الوزارة , ولتسقط انت .
ويصفعبالصوت . . ويلقى في السجن .
هذه هي القصة وهي بسيطة في حوادثها , عادية الى حدبعيد , انني لا اريد ان اكتبها كقصة خوف ان الجأ الى الحواشي , فاقع في الكذب , اوفي شيء لا اعرفه , ولا احبه , و الحادثة كما كتبتها , هي الحادثة التي وقعت فعلا , وقد تبدوا في بعض احداثها غريبة او مدسوسة وهذا سيزعج بعضهم , او انما ستبدوا عاديةجدا , وهذا سيزعجهم اكثر .
خذ مثلا عندما يكتشف ان صاحبة الدار هي امرأة تعمللحساب الفئة الحاكمة , وانها منتسبة الى ذلك الحزب , سيقول بعضهم ( انك دسست هذاالمقطع لغاية في نفسك ) ولكن الحقيقة التي وقعت ترفض هذا التكذيب واذا لم اذكر هذهالحقيقة , فماذا اقول ؟ اليس في ذكرها فائدة لطائفة من الناس ؟ اذن ؟اتريدمثالا اخر ؟ يقولون لك ان كذب المرأة , صاحبة الدار , وان كلماته الاخيرة عندماصفعه الاثبات وحوادث تعذيبه , هي امور غير واقعية – وفيها شعار ما – ولكن لماذاننفي الحقيقة ونفتش في اذهاننا عن حادثة يقول عنها النقاد انها ممكنة الوقوع , اليسفي الذي وقع ممكن اوضح ؟اريد من كل الذي كتبت ان اسأل – اليس من حق هذاالانسان الطيب النبيل , ان يحتفظ لنفسه بحوادثه الخاصة تلك التي بذل فيها جانبا منانسانيته ؟ اليس من حقه ان يقدم للناس كما هو , وان يتصرف في القصة كما تصرف حقيقة؟ اذن لماذا نحاول ان نحكي عنه قصة لم تحدث معه ؟ النخدم فن القصة ؟ قل لي لماذا؟ .
ولكنني لا بد لي , ان اوافقك ان مشاعر القارىء يجب ان تحترم ايضا . . فأنت – ككاتب يهمك جدا , وربما اولا , رضا هذا القارىء – تطالب بنهاية ما لهذا المقطع منحياة البطل , نهاية تخدم فن القصة وترضي القارىء، الذي يجلس حيث لا أدري والذي يريدأن يدغدغ مشاعره قليلا ، إذن، فلنجد نهاية ما ، إن رياض ، ملقى في زنزانته الان ،على حشبة قش وبراغيث ، محروم من التدخين ، محروم من القراءة ، محروم من التفكير ،الخيوط الحمراء التي حفرتها في جسده الاسمر سياط المجانين محشوة بالملح ، إن أصابعهترجف من التعب ، لا من الخوف .. تعال نفتش عن مخرج ، تعال نخط له نهاية سعيدة علىصفحة ورقة ، كي يتمتع بها انسان حر طليق .. تعال نعمل كل هذا لنتم القصة . . كينخدم فن الاقصوصة القصيرة .
لقد قرأت القصة على صاحبين من أصحابي ،وطالبتهما بنهاية تسر القارىء ، أو على الأقل ترضيه . . فاقترح أحدهما : أن يهربرياض من السجن بكيفية ما ، ولكنه طالب بأن تكون عنيفة ، وأن يذهب لتوه الى الدارفيقابل ( ام. . . ) وليقول لها أن وشايتها قد عذبت انسان ، وآلمته ، وأرهقته . . ومن ثم، يتركها لتأنيب ضميرها ، الذي لا بد له – كما أكد صاحبي – ان يستتيقظ ، دفعةواحدة .
واقترح الآخر – وهو من قراء دوماس – " بل يجب أن تجري الحوادث الآنعلى نحو مغاير أن المرأة هذه ، تشعر فجأ أنها تحب رياض حبا عنيفاً الم تقل أنها فيالثلاثين ؟ حسن جداً، إن سبب هذا الحب هو أن رجولة رياض، ابرزتفاهة الزوج، هذهالمرأة، تذهب إلى السجن لتقابل رياضاً، ولتقدم له الطعام والدخان، ولكنه يرفض، فتصرويصر هو على رفضه، وتشعر فجأة بجريمتها، فتقرر قراراً عنيفاً . . . "
اننيلا اوافق على هذه الثرثرة، وادرك كم كنت مشمئز الآن، لكن ارجو ان تسمع رايي فيالموضوع، انني متأكد من نهاية هذه القصة، تأكيدي من الشمس ستغرب اليوم على طرفالخليج، مثل كل يوم، ان الوضع الهزيل القائم سيتهاوى لا شك، وسيخرج رياض من السجنمع زملائه الاحرار، وسيغمس مرة اخرى في مشاغل القضية التي آمن بها، وتعذب من أجلها .
أما عن ( ام. . . )، فستضيع بين أكوام التجارب الصغيرة التي مرت به . .
فانا , على هذا , احب ان اكتبها لك هي , احتراما للبطلوللحادثة , كما حدثت قبل عدة اشهر دون ان ازيد فيها او ان انقص .. وعليك انت انتجرب فيها القواعد التي قلتها عن كتابة القصة , ولكي تكتب عن هذه الحادثة نفسها قصةناجحة يقول عنها النقاد انها " مكتملة البناء الفني " , فكيف ستتصرف يا ترى ؟ وهلتجيز لنفسك ان تغير الحوادث التي وقعت , او تضيف علها حوادث جديدة كي تنسجم مع مايسمونه "البناء الفني للقصة " ؟ واذا اجزت لنفسك ذلك , فهل تعتقد انك تكون في مستوىالقضية التي تعذب البطل من اجلها ؟
***
ان صديقي – بطل القصة – ولنسمه رياضا , يعيش قضية تعكس نفسها على كافة جوانب حياته , انه يعيش قضية الامة العربية , ويبذل جهدا هائلا لكي يرتفع بنفسه الى المستوى الايجابي المنتج اهذه القضية .. انرياض قد حاز اعجاب الجميع وتقديرهم , رغم ان قسما من هذا "الجميع " عندما تعرف الىرياض قال عنه انه انسان يحب التظاهر , وانه في باطنه يريد ان ينطلق الى اقرب ملهى .. كي يلعب مع العصافير – حسب تعبيرهم – ولكن رياضا ما لبث ان فرض نفسه يتشامخارتباطه مع القضية الكبيرة ..
لم يكن رياض –اذن – مزيفا بهذا الارتباط , ربماكان ارتباطه هذا اوضح ما في نفسه من اصالة .. كان يقف وقته كله على تغذية نفسه بفهمواسع , وانصع , لهذه القضية .. انني لا ابالغ , بل اعطيك انسانا اعرفه كما يعرفالانسان الصق الاشياء به..
لقد سافر رياض الى الاردن , بعد انتكاسه نيسانالاخيرة , فان هنالك اشياء كثيرة يستطيع ان يؤديها باتقان , واستطاع ان يجد غرفةمتواضعة منعزلة في دار تسكنها امرأة في حوالي الثلاثين من عمرها , مع زوجها .. هناكسكن رياض , كان يمضي اوقاتا طويلة في غرفته , يتم اعماله الخاصة , غير مهمل البتةالقيام بالواجبات الصغيرة التي تحتمها المجلات مع اصحاب الدار .. لقد كان يستقبلهابغرفته , ويسهر معهما , حتى اذا ما قاما الى غرفتهما دأب هو على عمله حتى الصباح ..
وكان في عمله ذاك , اوضح مثال عن الانسان الذي يتغذى بالنضال الصامت . كانقاسيا على نفسه , غير متهاون ابدا في مطالبتها بالواجبات .. كان رفاقه يحترمونه , لقد كان قويا , وقد فرض هذا الشعور على جميع من تعاون معه , فرضه الى حد جعل بعضهميتسائل , هل يمكن ان يكون لهذا الانسان - رياض- جوانب اخرى غير قوته , في ذاته ؟واتى الجواب في لحظة عابرة .. راوه مرة يبكي , كان ذلك ليلة نزل فيها بسيارةهزيلة مع بعض اصحابه , حاملا رزما من المناشير , وفي الطريق , لاحظ السائق ان ثمةسيارة تتبعهم , فراوده خوف مشحون بالرغبة في التحدي , ولكنه اضطر الى ان يبدل اتجاهالطريق . . لم يلحظ هذه الحركة الا رياض . . بينما استمر واحد من زملائه يلقي شعرا , لشاعر من اقليم مصر بصوت خفيض مبحوح :
. . لاجئة , تبكي ايام الحب . .
لما كانت يافا . . يافا .
واخيرا . . ما بعدك يا يافا ؟كم سنة ونصيرحكاية ؟ويقول العلماء ..
العرب انقرضوا !
وفجأة نظر الجميع الى رياض , كانت اللحظة تحتويهم بعنف وتجهم , ان ثمة لحظات تعطي الانسان دفقات من المشاعرالقاسية , البعيدة , العجيبة . . تلح على راسه الحاحا ممضا . . لقد كانت تلك اللحظةمن هذا النوع , ان رياضا قد خضع حتما لتلك الدفقات العجيبة . . ان اشياء كثيرا , تلح عليه , لا شك , بحدة وصلابة . فبكى !
شيء مؤلم ان تجد انسانا قويا يبكي . . اليس كذلك ؟
***
قلنا ان رياضا عاش في الاردن منذ وصلها , وهو يعمل ليلانهارا , لقد توطدت صداقته مع اصحاب الدار فصاروا يحبونه حبا جما , وليس هذا فحسب بلكانوا يقدمون له عشاءه في بعض الامسيات . .
لقد كانت (ام …) صاحبة الدار تاتيالى غرفته كل ليلة تقريبا مع زوجها , فتجلس على طرف السرير , وتتحدث عن الاخباربينما كان رياض يجلس على كرسيه , خلف طاولة صغيرة .
وفي مرة , رفعت (ام…) جريدةموضوعة على السرير امام عينيها , ولاخظ رياض ان الجريدة مقلوبة , وقبل ان يتكلم , رمت (ام…) الجريدة جانبا وهي تقول :
- الله يلعن ايام زمان . . على كل حال , انا تزوجت , وصار عندي اولاد . . ولم يبق من العمر قدر ما ما مضى . .
- انك يا ( ام . . . ) من الناس الذين قيل عنهم انهم متعلمون رغم انهم لا يعرفون القراءة . .
وضحكت (ام . . . ) ونهضت وهي تتمنى له ليلة طيبة.
***
حتى اذا كانذات مساء . . وقد عاد رياض الى داره مرهقا , استقبلته الشرطة على الباب , وشدواالحديد على رسغيه وقادوه –دونما كلمة – الى المخفر . . وذهب رياض الى هناك هادئا , وهناك قالوا له انه يتامر على العرش , ولنه نفى ذلك بهدوء . . انه كان على يقينكبير ان احدا لن يجد ضده اثباتا واحدا . . لقد كان حريصا في اخفاء اوراقه , قديرافي التخلص منها في الوقت الملائم , ان الشتائم لم تجد , لا هي ولا السياط لقد بقيرياض سامدا في كل لحظة .
لكن الامور تجري بقسة اشد , لقد سجن رياض في زنزانةمنفردة , وسلكوا في سحب اعترافاته طريقا وحشيا مريعا . . كان يعرض لتيار كهربائي فيكل يوم. . كان يجلد , ويعذب , ويرمى في زنزانته وحيدا مع جراحه ولكنه صمد ببطولةصامتة , فلقد ذوت ابتسامته تحت صفع السياط وصفع الشتائم , وبات لا يحس الا التمزق .
ثم حمل الى غرفة الضابط المسؤول واعيدت عليه مجموعة الاسئلة التقليدية , وانكررياض كما اعتاد ان يفعل , قدم له الضابط – دون ان يغير تعابير وجهه المبتسم بجذلوحبور – مصنفا صغيرا وطلب منه ان يفتحه .
لقد راى رياض في المنصنف مجموعة منالاوراق , ما لبث ان عرف فيها اوراقا كان قد كتبها في غرفته تلك , منشورات , وبعضهاالاخر رسائل الى هاربين , واوراق اخرى , لقد احس رياض لا شك , قسوة المفاجأة – وعليك انت ان تبرز هذه المفاجأة عندما تكتب القصة – ولكنه تشبث بالنقطة الاخيرةالتي بقيت لصموده , لقد قال ان هذا الخط ليس خطه وانه , على هذا , لا يتعرف علىالاوراق . .
نعم يا رياض , انه ليس خطك ولكن ايعدم الخائن وسيلة ليلوث نفسهاكثر بالوحل والحماء ؟ ان عندهم مجموعة من الاثباتات الصغيرة لابد وانهم سيبرزونهافي الوقت الملائم ..
وبدأت الخطوط تنجلي شيئا فشيئا , ان صاحبة الدار هي صاحبةالوشاية , وهي التي كانت تنسخ اوراقه اثناء خروجه في الصباح , وهي التي قدمت تقريراعنه , ان المرأة الشريرة اذن تعرف القراءة و الكتابة لقد حطمت المفاجأة كل قلعةللامل في صدر رياض , ولكنه احتفظ لنفسه بمواساة اخيرة . ان المرأة الكاذبة لمتبدأعملها منذ زمن بعيد وانها نسخت جهود ايام قليلة فقط .
ويتذكر رياض المرأةويشعر بالمرارة , لقد خدعته ولكن ما مصلحتها من هذا كله ؟ - وياتي الجواب من زميلفي السجن , انها زوجة منتسب لحزب معين – ساوافيك باسمه ان قررت ان تكتب القصة فعلا – وهو حزب معروف بتعاونه مع الفئة الحاكمة هناك , وهي- اي المرأة - ام لابن يعملفيه .
ويقول له الضابط – ما ايك ؟ويقول رياض – انكم اذناب صغيرة في بالوعةالقاذورات المنتنة , فليسقط العرش , ولتسقط الوزارة , ولتسقط انت .
ويصفعبالصوت . . ويلقى في السجن .
هذه هي القصة وهي بسيطة في حوادثها , عادية الى حدبعيد , انني لا اريد ان اكتبها كقصة خوف ان الجأ الى الحواشي , فاقع في الكذب , اوفي شيء لا اعرفه , ولا احبه , و الحادثة كما كتبتها , هي الحادثة التي وقعت فعلا , وقد تبدوا في بعض احداثها غريبة او مدسوسة وهذا سيزعج بعضهم , او انما ستبدوا عاديةجدا , وهذا سيزعجهم اكثر .
خذ مثلا عندما يكتشف ان صاحبة الدار هي امرأة تعمللحساب الفئة الحاكمة , وانها منتسبة الى ذلك الحزب , سيقول بعضهم ( انك دسست هذاالمقطع لغاية في نفسك ) ولكن الحقيقة التي وقعت ترفض هذا التكذيب واذا لم اذكر هذهالحقيقة , فماذا اقول ؟ اليس في ذكرها فائدة لطائفة من الناس ؟ اذن ؟اتريدمثالا اخر ؟ يقولون لك ان كذب المرأة , صاحبة الدار , وان كلماته الاخيرة عندماصفعه الاثبات وحوادث تعذيبه , هي امور غير واقعية – وفيها شعار ما – ولكن لماذاننفي الحقيقة ونفتش في اذهاننا عن حادثة يقول عنها النقاد انها ممكنة الوقوع , اليسفي الذي وقع ممكن اوضح ؟اريد من كل الذي كتبت ان اسأل – اليس من حق هذاالانسان الطيب النبيل , ان يحتفظ لنفسه بحوادثه الخاصة تلك التي بذل فيها جانبا منانسانيته ؟ اليس من حقه ان يقدم للناس كما هو , وان يتصرف في القصة كما تصرف حقيقة؟ اذن لماذا نحاول ان نحكي عنه قصة لم تحدث معه ؟ النخدم فن القصة ؟ قل لي لماذا؟ .
ولكنني لا بد لي , ان اوافقك ان مشاعر القارىء يجب ان تحترم ايضا . . فأنت – ككاتب يهمك جدا , وربما اولا , رضا هذا القارىء – تطالب بنهاية ما لهذا المقطع منحياة البطل , نهاية تخدم فن القصة وترضي القارىء، الذي يجلس حيث لا أدري والذي يريدأن يدغدغ مشاعره قليلا ، إذن، فلنجد نهاية ما ، إن رياض ، ملقى في زنزانته الان ،على حشبة قش وبراغيث ، محروم من التدخين ، محروم من القراءة ، محروم من التفكير ،الخيوط الحمراء التي حفرتها في جسده الاسمر سياط المجانين محشوة بالملح ، إن أصابعهترجف من التعب ، لا من الخوف .. تعال نفتش عن مخرج ، تعال نخط له نهاية سعيدة علىصفحة ورقة ، كي يتمتع بها انسان حر طليق .. تعال نعمل كل هذا لنتم القصة . . كينخدم فن الاقصوصة القصيرة .
لقد قرأت القصة على صاحبين من أصحابي ،وطالبتهما بنهاية تسر القارىء ، أو على الأقل ترضيه . . فاقترح أحدهما : أن يهربرياض من السجن بكيفية ما ، ولكنه طالب بأن تكون عنيفة ، وأن يذهب لتوه الى الدارفيقابل ( ام. . . ) وليقول لها أن وشايتها قد عذبت انسان ، وآلمته ، وأرهقته . . ومن ثم، يتركها لتأنيب ضميرها ، الذي لا بد له – كما أكد صاحبي – ان يستتيقظ ، دفعةواحدة .
واقترح الآخر – وهو من قراء دوماس – " بل يجب أن تجري الحوادث الآنعلى نحو مغاير أن المرأة هذه ، تشعر فجأ أنها تحب رياض حبا عنيفاً الم تقل أنها فيالثلاثين ؟ حسن جداً، إن سبب هذا الحب هو أن رجولة رياض، ابرزتفاهة الزوج، هذهالمرأة، تذهب إلى السجن لتقابل رياضاً، ولتقدم له الطعام والدخان، ولكنه يرفض، فتصرويصر هو على رفضه، وتشعر فجأة بجريمتها، فتقرر قراراً عنيفاً . . . "
اننيلا اوافق على هذه الثرثرة، وادرك كم كنت مشمئز الآن، لكن ارجو ان تسمع رايي فيالموضوع، انني متأكد من نهاية هذه القصة، تأكيدي من الشمس ستغرب اليوم على طرفالخليج، مثل كل يوم، ان الوضع الهزيل القائم سيتهاوى لا شك، وسيخرج رياض من السجنمع زملائه الاحرار، وسيغمس مرة اخرى في مشاغل القضية التي آمن بها، وتعذب من أجلها .
أما عن ( ام. . . )، فستضيع بين أكوام التجارب الصغيرة التي مرت به . .
المدفع
لقد عرفه الجميع ...وكادوا انيعهدوا وجهه كجزء لا ينفصل عن القرية كلها: وجهه المربع يعترضه حاجبان يتصلانببعضهما باخدود يعين طرف انفه العلوي, وانفه المفلطح تدور باسفله دائرتان واسعتانفوق شارب رمادي كثيف , يتدلى , فيخفي شفته العليا ... اما ذقنه فلقد كانت عريضةحادة , كانها قطعت لتوها من صدره, ومن ثم , بردت رقبته الثخينة بردا.
ان سعيدالحمضوني نادرا ما يتكلم عن ماضيه, انه دائما يتحدث عما سياتي , وما ينفك يعتقد انغدا سيكون احسن من اليوم , ولكن اهل(السلمة) يتناقلون فيما بينهم , بشيء كثير منالمبالغة , اخبار سعيد الحمضوني ايام كان يقود حركات ثورية في 1936 , يقولون-هناكفي القرية- ان سعيدا اطلق سراحه من المعتقل لانه لم يدن .. ويقال انه لم يقبض عليهبعد , ومهما يكن , فهو الان يملأ القرية , ويربط الصبيان كل احاسيسهم وتخيلاتهمالتي يرسمونها للرجل الممتاز .. وليد المغامرة القاسية ...
لقد عاد سعيد مؤخرامن يافا, واحضر معه رشاشا من طراز(الماشينغن) كان قد قضي قرابة اسبوع كامل يجمعثمنه من التبرعات, ومع ان سكان السلمة كانوا على يقين كبير ان ثمن مدفع من هذاالطراز لا يمكن انيجمع من التبرعات , فلقد اثروا ان يسكتوا , لان وصول المدفعالرائع اهم بكثير جدا من طريقة وصوله , فالقرية في اشد الحاجة الى اي نوع من انواعالسلاح, فكيف اذا حصلت على سلاح من نوع جيد؟..
لقد عرف سعيد الحمضوني ماذايشتري! ان هذا المدفع , مدفع (الماشينغن ) كفيل برد اي هجوم يهودي مسعور, انه نوعراق من السلاح , والقرية في اشد الحاجة اليه.. فلماذا يفكرون في طريقة و صول المدفع؟ . ولكن سكوت رجال السلمة , لايعني سكوت نسائها , لقد بقيت المشكلة بالنسبة لهنتلح الحاحا قاسيا , ولما لم يجدن من يدلهن على حقيقة الامر , استطعن ان يقنعنانفسهن , ان سعيد الحمضوني كان قد سلم في ثورة 1936 مدفعا من هذا الطراز ابلى منخلفه بلاءا حسنا , ثم خبأه في الجبال الى ان ان اوان استعماله من جديد .. ولكنالتساؤل بقي متضمنا في اعمق اعماق السلمة , لم يكن من اليسير ان يجمع الانسان ثمنمدفع من طراز الماشينغن ..
اذن فمن اين اتى سعيد الحمضوني بهذا المدفع ؟ نعم .مناين؟المهم .. ان هذا المدفع الاسود صار قوة هائلة تكمن في نفوس اهل السلمة, وهو يعني بالنسبة لهم اشياء كثرة, اشياء كثيرة يعرفونها , واشياء اكثر لا يعرفونها .. ولكنهم يشعرون بها , هكذا, في ابهام مطمئن .. ان كل كهل و كل شاب في السلمة , صار يربط حياته ربطا وثيقا بوجود هذا المدفع , وصار من صوته المتتابع الثقيل , اثناء تجربته في كل امسيتين , نوعا من الشعور بالحماية..
وكما يرتبط الشيءبالاخر , اذا تلازما , ربط الناس صورة المدفع بوجه سعيد الحمضوني المربع , لم تعدتجد من يفصل هذا عن ذاك في حديث الدفاع عن السلمة , ان سعيد الحمضوني اصبح الانضرورة مكملة .. بل اساسية , للمدفع , وعندما يتحدث الناس عن سعيد, كانوا يشعرون انهاداة من ادوات المدفع المعقدة .. شيء كحبل الرصاص , كقائمتي المدفع .. كالماسورة: كل متماسك لا تنفصل اطرافه عن بعضها . بل واكثر من ذلك , لقد صار يربط سعيدالحمضوني حياته نفسها ربطا شديدا بوجود المدفع . كان المدفع يعني بالنسبة له شعوراهادئا بالطمأنينة , شعورا يوحي بالمنعة : فهو دائم التفكير بالمدفع , دائم الاعتناءبه , تكاد لا تراه الا وهو يدرب شباب القرية على استعماله , ويدلهم في نهايةالتدريب على المكان الذي وضع فيه خرقة لمسح المدفع , هذا المكان الذي سيصير –فيمابعد – معتادا . ومع مرور الايام بدأ سعيد الحمضوني يتغير.. لقد تبدل لونه عن ذي قبل . وبدا كأنه يضمر شيئا فشيئا , و احس شباب السلمة ان سعيد الحمضوني صار يبدو اكبرمن ذي قبل , وانه صار يققد هذه الحركة الحية في وجهه وفي صوته .. انه صامت الان, صامت الى حد يخيل للانسان معه انه نسى كيف كان يتكلم الناس , وصار شيئا مألوفا انيجده الناس منطلقا الى جنوب السلمة , حيث ركز المدفع , ليجلس وحيدا بقربة الىالعشية .
هذا الرجل الجبار .. الهاديء.. الثائر.. هل كان يعتقد انسان انهسيرتجف كذرة من القطن المندوف على قوس المنجد؟ لقد فتحواعليه باب داره والصباح يوشكان ينبلج , وتضاخمت امامه كتلة سوداء, وضربت الارض وبرز منها صوت احد رجاله , يدوركالدوامة , ليبتلع كل احساس بالوجود :
- المدفع .. لقد اصابه العطب .. انماسورته تتحرك بغير ما توجيه.. اليهود يتقدمون.
وأحس سعيد الحمضوني بقوة جبارةتقتلع من جوفه شيئا يعز عليه ان يضيع منه , شيئا كقلبه لا يستطيع ان يتابع وجودهالا معه .. كان يشعر بكل هذا و هو منطلق عبر الحقول الباهتة النائمة في اخر الليل .. ووصل الى حيث كان الرشاش يتكيء كالطفل الميت على الاغصان اليابسة , كل شيء ساكن ,الا طلقات البنادق الهزيلة , تحاول عبثا الوقوف في وجه الهجوم .. اما المدفع .. اما جهنم ..
وهز سعيد الحمضونيرأسه و كأنه يواسي نفسه بمصاب ابنه , ثم فكر : انلا بد من اجراء .. لا بد .. شيء قوي كالكلابة يجب ان يمسك الفوهة الهاربة الى بطنالدفع.. شيء قوي..
- اسمع .. سأشد الماسورة الى بطن المدفع بكفي. وحاول ان تطلق .. لا يوجد اية دقيقة لتضيع في كلام .. دعنانجرب ,
- لكن ..
- اطلق!
- سيرانا اليهود وانت فوق الحفرة .
- اطلق!
- ستحرق كفيك بلهب الرصاص..
- اطلق.. اطلق!.
وبدأالمدفع يهدر بصوته المتتابع الثقيل, ومع صوته المحبوب, شعرسعيد الحمضوني بنفسيته التي تغذت طويلا بالثورة والدم والقتال في الجبال, شعر بانهاالنهاية .. نهاية تاق اليها طويلا وها هي ذي تتقدم اليه بتؤدة , كم هو بشع الموت .. وكم هو جميل ان يختار الانسان القدر الذي يريد.. وسمع صوته من خلال دقاتالرصاص:
- اسمع اريد ان اوصيك و صية هامة ..
- وعاد يصيخ الى المدفع واستخلصمن صوت الرصاص ثقة جديدة ليتابع وهو يحاول ان يمضغ المه:
- قرب قرية ( ابو كبير ) ابعد منها قليلا , يوجد مستشفى للسل ..عرفته؟حسنا! لي هناك مبلغ جيد من المال , قالوا لي .. ان ارجع لأقبضه بعد ان يفحصوا الدم .. انا متأكد انه .. دم جيد.. في كلمرة يقولون انهم يريدون ان يفحصوا الدم كأن دم الانسان يتغير في خلال اسبوع و نصف .. اسمع .. ان ثمن المدفع لم يسدد كله .. ستجد اسم التاجر في داري .. هو من يافا . لقد دفعت قسما كبيرا من ثمنه من تبرعاتكم . لقد اوشك ثمنه ان يتم .. هل تعرف انهميشترون الدم بمبلغ كبير؟ لو عشت شهرين فقط؟ شهرين اخرين لاستطعت ان اسدد كل ثمنه .. انني اعطيهم دما جيدا .. ثمنه جيد .. خذ حسن و حسين واذهب الى ذلك المستشفى .. الاتريد ان يبقى المدفع عندكم .. ان حسن وحسين .. ولدي.. يعرفان كيف يذهبان الى هناك.. لقد كانا يذهبان معي في كل مرة .. ان دماءنا جميعا جيدة.. جيدة جدا.. القضية قضيةالحليب الذي رضعناه . قضية.. اريد ان اقول لك شيئا اخر.. اذا تراجع اليهود هذهالمرة .. تكون اخر مرة يهجمون بها من هذه الناحية .. سيخافون .. فعليكم ان تنقلواالمدفع الى الشمال .. لان الهجوم التالي سيكون من هناك ..
واشتد شعوره بالنارتلسع كفيه بقسوة .. واحس احساسا ملحا انه لو كان في صحته العادية لاستطاع ان يقاوماحسن من الان , وراوده شعور قاتم بالندم على انه سلك في شراء المدفع ذلك السبيل, ولكنه احس احساسا دافقا ان المدفع طرف اخر من الموضوع , طرف هام.. ان وجوده يحافظعلى اهميته قبل ان يموت هو , وبعد ان يموت..
فأغمض عينيه , وحاول جاهدا ان يحررنفسه من سجن ذاته كي ينسى المه .. لكنه لم يستطع .. فأسقط ركبته على الارض في ثقل..
وعلى صوت الطلقات المتقطعة بانتظام وعنف.. احس سعيد الحمضوني باشياء كثيرة .. كانها ملايين الابر تدخل في شرايينه فتسلبه ما تبقى من دمه ,ثم شعر باطرافهجميعها تنكمش كانها ورقة جافة في نهاية الصيف.. وبجهد شرس حاول ان يرفع راسه ليشمالحياة , الا انه وجد نفسه فجأة في تنور من ذلك النوع الذي يكثر .. في السلمة , والذي عاش الى جواره فترات طويلة من صباه , وجد نفسه في ذلك التنور جنبا الى جنب معالارغفة الساخنة تحمر تحت السنة اللهب , ورأى بعينيه فقاقيع العجين الملتهبة , تطيرعن رغيف المرقوق وتلتصق على شفتيه , وشعر بيد قاسية تشد رأسه الى ادنى .. الى ادنى .. الى ادنى .. فيسمع لفقرات رقبته صوتا منتظما ثقيلا وهي تتكسر تحت ثقل راسه .. واحس انه فعلا لا يريد ان يموت , واعطته الفكرة دفقة اخرى من الحياة .. فاكتشف انصوت تكسر فقرات رقبته هو صوت الرصاص الذي ينطلق من المدفع الرشاش , وشعر بمواساة مننوع غريب , مواساة تشبه تلك التي يراها الوالد في ولد عاش بعد مصرع اخيه , فابتسمباطمئنان, وخرجمن( التنور ) لكنه شعر انه لم يلمس الارض بقدميه..
وشيعته القريةكلها الى مقره الاخير.. او الاول .. سيان..
دمشق 12/8/57
يتبع ..
Comment