هناك تركت نبض قلبي!
شادٍ على الأيك غنانا فأشجانا تبارك الشعر ألحاناً وأوزانا
ترنّم البان واخضلّت شمائله فهل سقى من صحبائه البانا؟
وفي الجواب اقول: نعم! فالبان يخضلّ، في عقدة الزنار، حول خصر امرأة، شبيه بالخيزران، في ممشوق رهافته، واملوديّ ادلاله رقة وعذوبة.
أنت من هنا، من دمشق وطريقها المستقيم، ومن دمشق التي لها، في القدم السحيق، تاريخ تأبى على التأريخ، ولها في الإشعاع الابداعي، منبر لا أعلى ولا أغلى ، ولها، في سبق بناء الدولة، سبق في ذاكرة الزمان، أبعث بتحياتي الى السقيلبية وأهلها ثم إن دمشق، كانت، وستبقى، قولة الأخطل الكبير، الفارس والمضمار، لأن أهلها «خير من ركب المطايا، وأندى العالمين بطون راح»
نعم! من دمشق، في حسبها والنسب، أبعث، راكعاً على قدميّ، تجلة واحتراماً، لتلك المرأة التي، في لباسها الأسود، ولسانها الطلق، وذاكرتها الألقة، اوقفتني على مدخل القاعة، في المدينة الحبيبة، لتنشدني، وأنا على العتبة، باقة من شعرها الدارج، العذب، المنضّر، وسط دويّ التصفيق، ونثار الزهور، والزغردات التي جن بها الآباء، وتقبلني في مفرق الشعر من الرأس، قائلة، كما لو أنني أتعمّد في نهر الأردن المبارك: «أنت هو ابني الحبيب، الذي به سررت» فانحني، من تجلّة ، لأقبل يديها، وأنهض لألثم رأسها والوجنتين.
من ذا الذي قال، ان محاضرتي، في البلاغة كانت هي الأبلغ، في التعبير عن الذات، من بلاغة تلك السيدة ذات الثوب الأسود، التي في ردّياتها، منوّعة، منغّمة، مموسقة، رفعت الكلمات صلاة من الأرض الى السماء؟
طوبى لذكراك، أيتها التي، بكلماتك باركتني، وطوبى لك، ايتها السيدة المجللة بالسواد، من تقوى لامن حزن، اسمعتني «نشيد الإنشاد» كرمى محبة، وتقدير، ونعمى تأهيل، وتسهيل، نيابة عن كل من في السقيلبية، من سمّار وندمان، ومعذرة، سيدتي، اذا لم أحفظ اسمك، فأنا لا أحفظ أسماء النساء، ولاأحمل، في قلبي أو جيبي، قلما، أو ورقة بيضاء، أو دفتر ذكريات، أو مذكرات، بعد أن فعلت ذلك يوماً، ودفعت الثمن غالياً، في اسئلة من لا أهابهم، لكنني أعرف أساليبهم، في التواء القصد والنوايا، وفي المحاولات السمجة، للسؤال عن هذا، أو تلك، وأنا أحمل أغلالي، في انتقالي من سجن الى سجن، ايام الاحتلال الفرنسي، وعهود الاقطاع، وفي المنافي التي تهت بينها، قبل ان اسمع شعر عمر ابو ريشة: «أوقفي الركب يا رمال البيد إنه تاه في مداك البعيد».
إنني أدعي الصراحةكاملة، وما كان ادعائي اكذوبة يوماً، فالحديث الشريف يقول: «الكذب رأس المعاصي» وأنا أحفظ الحكمة القائلة: «اذا صدقنا بسرعة كل ما نسمع، وجدنا الكذابين في كل مكان!» لكنني بقلب طيب، أدع بعض الأكاذيب تمر على جسري، من ضفة الى أخرى، متذكراً أبداً دهاء معاوية، الذي قال له أحد وزرائه، بصراحة وجرأة، وهو في مجلسه المعتاد «لقد خدعوك يا أمير المؤمنين» فأجابه مبتسماً: «نحن، أيها الوزير، نريد أن نخدع أحياناً!» والخديعة، في الحرب، جائزة، وجائزة أيضاً، في مقاومة العدوان، كما في فلسطين والعراق، حيث تتضرى المعارك هناك.
ولئن كنت مدّعياً، معتدا، فذلك من بعض الشيم في طبعي، ومن بعض الجنون في سلوكي، وبعض العنفوان في الصمود للخوف، إذا ماكان، في أيما موقف، وهذا الصمود للخوف هو الشجاعة في تعريفي، وقد خفت، مع رجوة أن يكون خوفي في غير محله، ان تصعد السيدة المجلببة بالسواد، الى المنبر الذي أقف عليه، وأن تحاورني شعراً فتهزمني، ويبوخ قولي، مهما يكن أنقاً، امام ما تحفظ من شعر دارج، وأمثال، وردّيات، سمعت بعضها، قبل أن أتخطى عتبة قاعة المحاضرات!
إلا أن السيدة المفوهة لم تفعلها، ولم اقع لها على أثر بعد ذلك، فقد زفّتني، انا العجوز، زفافاً لائقاً، وعقدت قراني على امرأة مجهولة وبذلك، كما أقدر، انتهت مهمتها، فارتفعت الى أعلى وصارت، في السحب البيض، سحابة بيضاء، وكان تكريمها، على طريقتها المفضلة، تكريماً لي، نيابة عن جميع من احببتهم وأحبوني، بإخلاص لا زوغ فيه، وصدق صدوق لا كذب فيه ولارياء، وهذا ما أدهشني حقاً ولايزال.
ان قصتي مع السقيلبية، قصة تروى… فقد دعوني، قبل سنوات طوال، لزيارة هذه البلدة الجميلة، فلم ازرها، وبعد عام او عامين، كرروا الدعوة ، فلم ألبها أيضاً وبعد مدة غير قصيرة، جاءني بريدياً، الى وزارة الثقافة، مغلف كبير، تريثت في فتحه حتى الانتهاء من بعض اعمالي المستعجلة، وعندما فتحت المغلف خجلت من نفسي… كان المغلف يحتوي على عريضة، وقعها الكثرة من اهالي السقيلبية، والمعنى، فيها، واضح: اذا كنت لا تأتي بدعوة، فـ «شرف» وتعال بعريضة، وطبعاً لم «أتشرف» وأذهب حتى بالعريضة، الى أن كان هذا العام، وتجددت الدعوة، فذهبت، مع مدير أعمالي جورج اسبر، في سيارة خاصة، يقودها احد المحامين، ارسلت من السقيلبية الى دمشق، لنقل «جنابي» الى البلدة التي سأدهش، من الاستقبال الحافل الذي أعد لي، من كرام رجال وسيدات اهلها، ومن اطفالها الذين يحملون الزهور، بينما اجراس الكنائس تقرع، والورود تهدى والأرز ينثر، على السلطان عبد الحميد الذي هو أنا، وهذا السلطان لا يعرف الى الآن كيف يجزي على الجميل جميلاً.
حنا مينة
دمشق_ صحيفة تشرين
الأحد 24 أيار 2009
شادٍ على الأيك غنانا فأشجانا تبارك الشعر ألحاناً وأوزانا
ترنّم البان واخضلّت شمائله فهل سقى من صحبائه البانا؟
وفي الجواب اقول: نعم! فالبان يخضلّ، في عقدة الزنار، حول خصر امرأة، شبيه بالخيزران، في ممشوق رهافته، واملوديّ ادلاله رقة وعذوبة.
أنت من هنا، من دمشق وطريقها المستقيم، ومن دمشق التي لها، في القدم السحيق، تاريخ تأبى على التأريخ، ولها في الإشعاع الابداعي، منبر لا أعلى ولا أغلى ، ولها، في سبق بناء الدولة، سبق في ذاكرة الزمان، أبعث بتحياتي الى السقيلبية وأهلها ثم إن دمشق، كانت، وستبقى، قولة الأخطل الكبير، الفارس والمضمار، لأن أهلها «خير من ركب المطايا، وأندى العالمين بطون راح»
نعم! من دمشق، في حسبها والنسب، أبعث، راكعاً على قدميّ، تجلة واحتراماً، لتلك المرأة التي، في لباسها الأسود، ولسانها الطلق، وذاكرتها الألقة، اوقفتني على مدخل القاعة، في المدينة الحبيبة، لتنشدني، وأنا على العتبة، باقة من شعرها الدارج، العذب، المنضّر، وسط دويّ التصفيق، ونثار الزهور، والزغردات التي جن بها الآباء، وتقبلني في مفرق الشعر من الرأس، قائلة، كما لو أنني أتعمّد في نهر الأردن المبارك: «أنت هو ابني الحبيب، الذي به سررت» فانحني، من تجلّة ، لأقبل يديها، وأنهض لألثم رأسها والوجنتين.
من ذا الذي قال، ان محاضرتي، في البلاغة كانت هي الأبلغ، في التعبير عن الذات، من بلاغة تلك السيدة ذات الثوب الأسود، التي في ردّياتها، منوّعة، منغّمة، مموسقة، رفعت الكلمات صلاة من الأرض الى السماء؟
طوبى لذكراك، أيتها التي، بكلماتك باركتني، وطوبى لك، ايتها السيدة المجللة بالسواد، من تقوى لامن حزن، اسمعتني «نشيد الإنشاد» كرمى محبة، وتقدير، ونعمى تأهيل، وتسهيل، نيابة عن كل من في السقيلبية، من سمّار وندمان، ومعذرة، سيدتي، اذا لم أحفظ اسمك، فأنا لا أحفظ أسماء النساء، ولاأحمل، في قلبي أو جيبي، قلما، أو ورقة بيضاء، أو دفتر ذكريات، أو مذكرات، بعد أن فعلت ذلك يوماً، ودفعت الثمن غالياً، في اسئلة من لا أهابهم، لكنني أعرف أساليبهم، في التواء القصد والنوايا، وفي المحاولات السمجة، للسؤال عن هذا، أو تلك، وأنا أحمل أغلالي، في انتقالي من سجن الى سجن، ايام الاحتلال الفرنسي، وعهود الاقطاع، وفي المنافي التي تهت بينها، قبل ان اسمع شعر عمر ابو ريشة: «أوقفي الركب يا رمال البيد إنه تاه في مداك البعيد».
إنني أدعي الصراحةكاملة، وما كان ادعائي اكذوبة يوماً، فالحديث الشريف يقول: «الكذب رأس المعاصي» وأنا أحفظ الحكمة القائلة: «اذا صدقنا بسرعة كل ما نسمع، وجدنا الكذابين في كل مكان!» لكنني بقلب طيب، أدع بعض الأكاذيب تمر على جسري، من ضفة الى أخرى، متذكراً أبداً دهاء معاوية، الذي قال له أحد وزرائه، بصراحة وجرأة، وهو في مجلسه المعتاد «لقد خدعوك يا أمير المؤمنين» فأجابه مبتسماً: «نحن، أيها الوزير، نريد أن نخدع أحياناً!» والخديعة، في الحرب، جائزة، وجائزة أيضاً، في مقاومة العدوان، كما في فلسطين والعراق، حيث تتضرى المعارك هناك.
ولئن كنت مدّعياً، معتدا، فذلك من بعض الشيم في طبعي، ومن بعض الجنون في سلوكي، وبعض العنفوان في الصمود للخوف، إذا ماكان، في أيما موقف، وهذا الصمود للخوف هو الشجاعة في تعريفي، وقد خفت، مع رجوة أن يكون خوفي في غير محله، ان تصعد السيدة المجلببة بالسواد، الى المنبر الذي أقف عليه، وأن تحاورني شعراً فتهزمني، ويبوخ قولي، مهما يكن أنقاً، امام ما تحفظ من شعر دارج، وأمثال، وردّيات، سمعت بعضها، قبل أن أتخطى عتبة قاعة المحاضرات!
إلا أن السيدة المفوهة لم تفعلها، ولم اقع لها على أثر بعد ذلك، فقد زفّتني، انا العجوز، زفافاً لائقاً، وعقدت قراني على امرأة مجهولة وبذلك، كما أقدر، انتهت مهمتها، فارتفعت الى أعلى وصارت، في السحب البيض، سحابة بيضاء، وكان تكريمها، على طريقتها المفضلة، تكريماً لي، نيابة عن جميع من احببتهم وأحبوني، بإخلاص لا زوغ فيه، وصدق صدوق لا كذب فيه ولارياء، وهذا ما أدهشني حقاً ولايزال.
ان قصتي مع السقيلبية، قصة تروى… فقد دعوني، قبل سنوات طوال، لزيارة هذه البلدة الجميلة، فلم ازرها، وبعد عام او عامين، كرروا الدعوة ، فلم ألبها أيضاً وبعد مدة غير قصيرة، جاءني بريدياً، الى وزارة الثقافة، مغلف كبير، تريثت في فتحه حتى الانتهاء من بعض اعمالي المستعجلة، وعندما فتحت المغلف خجلت من نفسي… كان المغلف يحتوي على عريضة، وقعها الكثرة من اهالي السقيلبية، والمعنى، فيها، واضح: اذا كنت لا تأتي بدعوة، فـ «شرف» وتعال بعريضة، وطبعاً لم «أتشرف» وأذهب حتى بالعريضة، الى أن كان هذا العام، وتجددت الدعوة، فذهبت، مع مدير أعمالي جورج اسبر، في سيارة خاصة، يقودها احد المحامين، ارسلت من السقيلبية الى دمشق، لنقل «جنابي» الى البلدة التي سأدهش، من الاستقبال الحافل الذي أعد لي، من كرام رجال وسيدات اهلها، ومن اطفالها الذين يحملون الزهور، بينما اجراس الكنائس تقرع، والورود تهدى والأرز ينثر، على السلطان عبد الحميد الذي هو أنا، وهذا السلطان لا يعرف الى الآن كيف يجزي على الجميل جميلاً.
حنا مينة
دمشق_ صحيفة تشرين
الأحد 24 أيار 2009
Comment