بائسة هي وشقية.. يعاكسني الحظ ، وتقتلها الغصة؛ فكلما عادت من المدرسة ترتسم في ذهنها صورة مرعبة لسوط مشدود بيد لا ترحم.. يد أخ لها همه الوحيد أن يتقن رسم خارطة غريبة على جسدها. يتهمها بأنها من بنات الشوارع، وهي التي لا تخرج من البيت إلا ساعات الدراسة، أو لحاجة واضحة. وإذا كانت قد اعترفت لأخيها بعلاقة عاطفية مع شاب يسبقها بفصل دراسي، فإنها بالمقابل أكدت له أنها علاقة طاهرة لا يمكن أن يشوبها عيب، لكنه لم يقتنع..
وظلت أمها تلتزم الصمت.. ربما تعترف لأخيها بحق تقرير مصيرها، حتى ولو بهذه الطريقة الوحشية؛ فهو الرجل القوي التقي المتدين، يرتاد المساجد ويغض الطرف عن المحارم، أما هي فالفتاة الضعيفة المعرضة للخطأ والاستغلال وتمريغ سمعة العائلة في العار..
وأصبحت حيال هذه المعاملة تبحث عن حل.. لقد كانت أجبن من أن تقدم نفسها للموت، ولذلك لم يكن أمامها سوى الصبر سلاحا إلى حين..
إنها تحترمه أخا وتطيع أوامره، بل إنها تقدر فيه هذه الغيرة على أخته، ولكنه لا يريد رؤية الأشياء على حقيقتها.. لا يريد أن يقدر مشاعر الأنوثة فيها، وهي ترفض أن تعامل مثل حيوان، ذلك أن الله أعطاها عقلا وكرامة ولا بد أن تعامل بمنطقهما.
تستلقي على فراشها فتحس بما يشبه الأشواك تدخل بطيئة بين مسام جلدها.. تعذبها.. تتأوه.. تشتم وتغتصب شيئا من شعرها المبعثر، ثم سرعان ما تغطس في بحر من النوم. ولا تدري لماذا ترى أخاها في منامها دوما يصارع الأخطار، فتشعر بشيء من فرح الانتقام الذي لا يدوم طويلا، إذ تستيقظ وتموت الابتسامة التي رافقتها طيلة عرض الحلم، وتعود إلى عالم الحقيقة الذي لا يفرق فيه أخوها بين الحب والخطيئة.
فجأة.. يلح عليها سؤال نبه جوارحها: أمعقول أن يكون شاب جميل ووسيم مثل أخيها لا يحب؟ وتقرر بعد ذلك أن تبحث الموضوع بجد، فلربما تصل إلى نتيجة ما.
كم هو متعب هذا الحب، لكنه شر لا بد منه.. أخوها لا يعدل عن مواصلة تعذيبه لها، وهي– كأية رومنسية مجنونة– تقبل كل شيء إلا الاستقالة من منصب الحب الذي تشغله في قلب من أحب..
لكن الطريق طويلة، وتحتاج إلى صبر أيوب، النبي الذي قهر البلاء بصبره.. لكن أيوب نبي وهي فتاة عادية تغامر بليال من الهدوء في شيء يبدو لها عظيما اسمه الحب.
بعد أيام.. تشعر أن خطة مهمة ترتسم خيوطها في ذهنها المتعب في غموض، كما يرسم المعلم أشكالا هندسية لتلاميذ لا عهد لهم بالهندسة، لكنها تؤجل النظر فيها إلى الليل حيث الهدوء والسكينة…
يدخل أخوها، وفي عينيه حقد لها.. تتمنى في يأس أن تعصف بقلبه عاصفة كتلك التي تصيب وجوه النحس في البحار البعيدة، تغير موقفه المتصلب الذي لا يقبل الجدل والمناقشة. وحين ينام الليل على العالم كدجاجة على بيضها، تجلس هي إلى طاولتها، وتبدأ دراسة الخطة التي طرقت ذهنها. ويبدو على شفتيها – بعد ساعة من النقاش– شبح ابتسامة تترجم ارتياحها. وتقرر: كم هي سهلة المفاوضات الصامتة..! لو أن كبار الساسة يعتمدونها يكون أريح لأعصابهم التي لا تعرف الهدوء..
وتتضح الابتسامة التي كانت شبحا وتتحول إلى قهقهة مكتومة.. تريد مثل كل النساء التخلص– ولو لفترة – من خوفها، وتبحث عن أشياء تخص سلوك أخيها. لا بد من وجود دليل مادي يثبت أن فتاة ما في هذا العالم الفسيح تسيطر على قلبه.
وتتوسد قرارها مطمئنة إليه.. وعند الضحى تدخل غرفته حاملة دلوا ومنشفة، متظاهرة بالرغبة في تنظيفها على غير العادة.. تتأكد أن لا إنس يراقبها، وتبدأ التفتيش عن شيء يدين أخاها بالغرام، وتحرص في الآن نفسه على أن تعيد الأشياء إلى حالها.. وفي الأخير تبلع خيبتها باكية، وتنظف الغرفة على مضض، وتنسحب و الغصة تأكل من قوتها؛ لكن هيهات الاستسلام واليأس.
ويأتي غد جميل.. لم تصدق في البداية، كأية منحوسة أصابها الحظ-أن ما يقوله من تحب صحيح، تهلل بعدها.. بل تكاد زغرودة مبعثرة تفلت من لسانها.. ولكن ماذا بعد؟؟
يعود إليها هدوءها، وتحاط بنوع من التردد المفاجئ.. تعتقد أنها ستكون قاسية عليه. لكن صوتا قويا من أعماقها يذكرها بأنه جلادها الدائم.. جلادها الذي لا يضع اعتبارا لها كأنها سقط متاع، ومع ذلك لا تسمع من والدتها تعزية تأكل من غيظها.
تشعر أنها وحيدة مع أخيها في الميدان، تماما كما يشعر مغامر ضعيف بوجوده أمام وحش عظيم.. أمامها الفرصة الكبرى وعليها أن ترد الاعتبار لشخصها، فجلادها لن يرحمها ما دام يعتقد أن له الحق كل الحق في احتقارها.
وتتضارب في رأسها أفكار شتى، لكنها تجد في نفسها القوة الكافية التي تدفعها إلى التحرك لحل مشكلتها. وتعض على قرارها، وتنمو ملكة البطولة فيها، يلونها نوع من الاعتداد بالنفس، وتبدأ في إتلاف مشاعر الضعف، وتؤمن بضرورة انهيار السجن على الجلاد.
وجاءت اللحظة الحاسمة..
كانت تنظر إلى ساعة معصمها، وتنتظر خلف جدار حضور الضحية، وقبل أن يتعب بصرها في تمييز أخيها من بين الداخلين إلى الحديقة تلمحه.. أنيقا كعادته كل نهاية أسبوع، وإلى يساره صبية يلمع الندى في بشرتها!
أي جمال هذا؟؟ تتساءل في دهشة.. إنه يتعلم فن التعذيب على جسدها مدعيا أن حب الشوارع حرام، وهو يحب بحرية الطائر عصفورة بهذا القدر من الجمال.. ربما يعتقد الملعون أنه وحده الذي يحق له التمتع بالحياة، وأن كل فتيات العالم لا بد أن تأسرهن الجدران ما عدا هذه التي بجانبه!!
وتزيد أحقادها عليه كما لم تحقد على إنسان من قبل.. يتقدمان وتتبعهما عن بعد، وينتابها شعور غريب: كأنها تتقدم إلى جريمة بسابق إصرار. وعندما يجلس أخوها وصبيته على مقعدهما، تختفي هي خلف نخلة لتهمس في نفسها: سأفاجئك بحضوري أيها الملعون، ولك بعد ذلك أن تقتلني.
ولم تتردد هذه المرة في الظهور أمامهما في تحد صامت.. كانت يده اليمنى تطوق عنقها، وعيناه مركزتين على عينيها.. وعندما تشكلت ملامحها جيدا في نظره، وقف مذعورا من فرط المفاجأة.. لاحظت احمراره الشديد وارتعاش أطرافه. واعتصرت ما تبقى من دموع في مقلتيها، ثم أدارت إليهما ظهرها الذي أتقن رسم خارطة دموية عليه.
ومضت عائدة في الاتزان نفسه، لتعلن للملأ أن تنفيذ الحكم قد تم، وأن الحبل الذي علق طويلا في انتظار المجرم قد أدى دوره.. وسمعت داخل نفسها عزفا يبارك انتصارها.
وحدثت منها التفاتات كثيرة، لكن المشهد واحد: جلاد جامد ينظر إليها عاجزا حتى عن الحركة، بينما زهرته إلى جانبه لا تفهم شيئا.. مذهولة هي الأخرى كمن فقد أمه في لحظة سعادة.. وآن لها بعد ذلك أن تشعر أن الطريق طويلة وعريضة…
وظلت أمها تلتزم الصمت.. ربما تعترف لأخيها بحق تقرير مصيرها، حتى ولو بهذه الطريقة الوحشية؛ فهو الرجل القوي التقي المتدين، يرتاد المساجد ويغض الطرف عن المحارم، أما هي فالفتاة الضعيفة المعرضة للخطأ والاستغلال وتمريغ سمعة العائلة في العار..
وأصبحت حيال هذه المعاملة تبحث عن حل.. لقد كانت أجبن من أن تقدم نفسها للموت، ولذلك لم يكن أمامها سوى الصبر سلاحا إلى حين..
إنها تحترمه أخا وتطيع أوامره، بل إنها تقدر فيه هذه الغيرة على أخته، ولكنه لا يريد رؤية الأشياء على حقيقتها.. لا يريد أن يقدر مشاعر الأنوثة فيها، وهي ترفض أن تعامل مثل حيوان، ذلك أن الله أعطاها عقلا وكرامة ولا بد أن تعامل بمنطقهما.
تستلقي على فراشها فتحس بما يشبه الأشواك تدخل بطيئة بين مسام جلدها.. تعذبها.. تتأوه.. تشتم وتغتصب شيئا من شعرها المبعثر، ثم سرعان ما تغطس في بحر من النوم. ولا تدري لماذا ترى أخاها في منامها دوما يصارع الأخطار، فتشعر بشيء من فرح الانتقام الذي لا يدوم طويلا، إذ تستيقظ وتموت الابتسامة التي رافقتها طيلة عرض الحلم، وتعود إلى عالم الحقيقة الذي لا يفرق فيه أخوها بين الحب والخطيئة.
فجأة.. يلح عليها سؤال نبه جوارحها: أمعقول أن يكون شاب جميل ووسيم مثل أخيها لا يحب؟ وتقرر بعد ذلك أن تبحث الموضوع بجد، فلربما تصل إلى نتيجة ما.
كم هو متعب هذا الحب، لكنه شر لا بد منه.. أخوها لا يعدل عن مواصلة تعذيبه لها، وهي– كأية رومنسية مجنونة– تقبل كل شيء إلا الاستقالة من منصب الحب الذي تشغله في قلب من أحب..
لكن الطريق طويلة، وتحتاج إلى صبر أيوب، النبي الذي قهر البلاء بصبره.. لكن أيوب نبي وهي فتاة عادية تغامر بليال من الهدوء في شيء يبدو لها عظيما اسمه الحب.
بعد أيام.. تشعر أن خطة مهمة ترتسم خيوطها في ذهنها المتعب في غموض، كما يرسم المعلم أشكالا هندسية لتلاميذ لا عهد لهم بالهندسة، لكنها تؤجل النظر فيها إلى الليل حيث الهدوء والسكينة…
يدخل أخوها، وفي عينيه حقد لها.. تتمنى في يأس أن تعصف بقلبه عاصفة كتلك التي تصيب وجوه النحس في البحار البعيدة، تغير موقفه المتصلب الذي لا يقبل الجدل والمناقشة. وحين ينام الليل على العالم كدجاجة على بيضها، تجلس هي إلى طاولتها، وتبدأ دراسة الخطة التي طرقت ذهنها. ويبدو على شفتيها – بعد ساعة من النقاش– شبح ابتسامة تترجم ارتياحها. وتقرر: كم هي سهلة المفاوضات الصامتة..! لو أن كبار الساسة يعتمدونها يكون أريح لأعصابهم التي لا تعرف الهدوء..
وتتضح الابتسامة التي كانت شبحا وتتحول إلى قهقهة مكتومة.. تريد مثل كل النساء التخلص– ولو لفترة – من خوفها، وتبحث عن أشياء تخص سلوك أخيها. لا بد من وجود دليل مادي يثبت أن فتاة ما في هذا العالم الفسيح تسيطر على قلبه.
وتتوسد قرارها مطمئنة إليه.. وعند الضحى تدخل غرفته حاملة دلوا ومنشفة، متظاهرة بالرغبة في تنظيفها على غير العادة.. تتأكد أن لا إنس يراقبها، وتبدأ التفتيش عن شيء يدين أخاها بالغرام، وتحرص في الآن نفسه على أن تعيد الأشياء إلى حالها.. وفي الأخير تبلع خيبتها باكية، وتنظف الغرفة على مضض، وتنسحب و الغصة تأكل من قوتها؛ لكن هيهات الاستسلام واليأس.
ويأتي غد جميل.. لم تصدق في البداية، كأية منحوسة أصابها الحظ-أن ما يقوله من تحب صحيح، تهلل بعدها.. بل تكاد زغرودة مبعثرة تفلت من لسانها.. ولكن ماذا بعد؟؟
يعود إليها هدوءها، وتحاط بنوع من التردد المفاجئ.. تعتقد أنها ستكون قاسية عليه. لكن صوتا قويا من أعماقها يذكرها بأنه جلادها الدائم.. جلادها الذي لا يضع اعتبارا لها كأنها سقط متاع، ومع ذلك لا تسمع من والدتها تعزية تأكل من غيظها.
تشعر أنها وحيدة مع أخيها في الميدان، تماما كما يشعر مغامر ضعيف بوجوده أمام وحش عظيم.. أمامها الفرصة الكبرى وعليها أن ترد الاعتبار لشخصها، فجلادها لن يرحمها ما دام يعتقد أن له الحق كل الحق في احتقارها.
وتتضارب في رأسها أفكار شتى، لكنها تجد في نفسها القوة الكافية التي تدفعها إلى التحرك لحل مشكلتها. وتعض على قرارها، وتنمو ملكة البطولة فيها، يلونها نوع من الاعتداد بالنفس، وتبدأ في إتلاف مشاعر الضعف، وتؤمن بضرورة انهيار السجن على الجلاد.
وجاءت اللحظة الحاسمة..
كانت تنظر إلى ساعة معصمها، وتنتظر خلف جدار حضور الضحية، وقبل أن يتعب بصرها في تمييز أخيها من بين الداخلين إلى الحديقة تلمحه.. أنيقا كعادته كل نهاية أسبوع، وإلى يساره صبية يلمع الندى في بشرتها!
أي جمال هذا؟؟ تتساءل في دهشة.. إنه يتعلم فن التعذيب على جسدها مدعيا أن حب الشوارع حرام، وهو يحب بحرية الطائر عصفورة بهذا القدر من الجمال.. ربما يعتقد الملعون أنه وحده الذي يحق له التمتع بالحياة، وأن كل فتيات العالم لا بد أن تأسرهن الجدران ما عدا هذه التي بجانبه!!
وتزيد أحقادها عليه كما لم تحقد على إنسان من قبل.. يتقدمان وتتبعهما عن بعد، وينتابها شعور غريب: كأنها تتقدم إلى جريمة بسابق إصرار. وعندما يجلس أخوها وصبيته على مقعدهما، تختفي هي خلف نخلة لتهمس في نفسها: سأفاجئك بحضوري أيها الملعون، ولك بعد ذلك أن تقتلني.
ولم تتردد هذه المرة في الظهور أمامهما في تحد صامت.. كانت يده اليمنى تطوق عنقها، وعيناه مركزتين على عينيها.. وعندما تشكلت ملامحها جيدا في نظره، وقف مذعورا من فرط المفاجأة.. لاحظت احمراره الشديد وارتعاش أطرافه. واعتصرت ما تبقى من دموع في مقلتيها، ثم أدارت إليهما ظهرها الذي أتقن رسم خارطة دموية عليه.
ومضت عائدة في الاتزان نفسه، لتعلن للملأ أن تنفيذ الحكم قد تم، وأن الحبل الذي علق طويلا في انتظار المجرم قد أدى دوره.. وسمعت داخل نفسها عزفا يبارك انتصارها.
وحدثت منها التفاتات كثيرة، لكن المشهد واحد: جلاد جامد ينظر إليها عاجزا حتى عن الحركة، بينما زهرته إلى جانبه لا تفهم شيئا.. مذهولة هي الأخرى كمن فقد أمه في لحظة سعادة.. وآن لها بعد ذلك أن تشعر أن الطريق طويلة وعريضة…
Comment