لا يكاد يختلف آثنان – مهما اختلفت مشاربهما – على أنّ مناجيات Soliloquy هاملت السبع، هي من لباب الشعر، ومن أروع ما أتتْ به ملكة شعرية في صناعة القول. تتوقّتُ المناجاة الأولى في مرحلة دقيقة من حياة هاملت، وهي بعد في مقتبلها، فهزّت صميمه، وصبغت نظرته إلى الحياة، وإلى الجنس البشري بصبغة أقرب ما تكون إلى العدميّة.
امراء، كلّ مناجاةٍ، مختبرٌ لتحليل الإنسان إلى عناصره الأوّلية. نعرف – كمشاهدين أو قرّاء – أن هاملت كان يعلم قبل المناجاة الأولى، علم اليقين عن طريق الشبح، أنّ عمّه هو الذي قتل الملك، واغتصب عرشه وامرأته الملكة، أي والدة هاملت. ما من إشارة في المسرحية إلى أنّ الملكة كان لها ضلع في الجريمة، إلاّ أنّ جريرتها في نظر هاملت هي سرعة زواجها إذ لم يمرّ على وفاة زوجها الأوّل إلاّ "شهر صغير". تبدأ المناجاة حينما يجد هاملت نفسَه وحيداً:
"أوه ليت هذه اللحمة الصلبة جدّاً جدّاً تنحلّ
تذوب وتحلّ نفسها إلى سائل…"
قبل كلّ شئ، لماذا ابتدأتْ المناجاة بلحمة صلبة؟ ولماذا عرّفها فقال: اللحمة الصلبة أو الأفضل المتصلبة؟ ولماذا كرّر كلمة: جدّاً؟ هل كان يخجل من تسميتها؟ ربّما. ربّما. أمْ أنّه أراد التوكيد على توتّرها؟ مع ذلك، ما هي تلك اللحمة المتصلبة؟ ما من شارح فيما بين يديّ من مبسوطات نسخ هاملت، أتى على تلك اللحمة بحثاً وتنقيراً. على العكس، ظنّها بعض الشرّاح أنها Sallied بدلاً من Solid.الاختلاف لا على اللحمة وإنما على الصفة الملحقة بها. والصفات -كما نعلم - هي هوية الموصوف، ومن هنا خطورة هذا الاختلاف.
لا شكّ إنّ مسرحيّة هاملت قائمة برمّتها على جرائر الجنس. فالأخ يقتل أخاه بسببه، والأمّ تتزوّج سفاحاً لإطفاء شهوة، وبولونيوس يمنع ابنته أوفيليا من الاختلاء بهاملت خشية العواقب، حتى وإن قادها حرمانها إلى الجنون، فالموت غرقاً. يبدو أن شيكبير كان قد شخّص مشكلة الإنسان الأزلية في الشهوة الجنسية. على هذا فاللحمة المتصلبة التي تمنّى هاملت أن تنحلّ وتذوب ما هي إلاّ آلة الذكورة لدى الرجل، على ما يبدو من القرائن. إنها أصل النوازل والكوارث. أمنية هاملت في انحلال وذوبان اللحمة مستحيلة. ما المخرج؟ ما من مخرج سوى الاستغناء عن الحياة بالانتحار. ولكنّ الانتحار ببساطة محرّم. لا بدّ من العيش. كيف؟ باتت الحياة في عينيْ هاملت أشبه ما تكون بحديقة مهملة، اكتستْ بالأعشاب الضارّة. مخلوقاتها متوحشة ومغثية. عند هذه المرحلة، دشّنت المسرحية لأوّل مرّة الغثيان الذي سيأخذ من الآن فصاعداً أحجاماً قاطعة للتنفّس. ينتقل هاملت فجأة إلى استحضار أبيه الذي لم يمض على وفاته إلاّ شهران. يرتبك هاملت. لا يستطيع أن يتحمل ما جرى لوالده. من أمارات ارتباكه انفلات الزمن، فلا يدري كم مرّ بالضبط من الوقت على وفاته. يقول هاملت:
"شهران مرّا على موته – لا، ليس شهرين، ليس اثنيْن"
هل أُصيب هاملت بخبل موقت؟ تركيب العبارة يدلّ على ذلك. قال أولاً: شهران مرّا، وهي جملة سردية يقينية، ولكن حين قال بعدها مباشرة: لا، فكأنّما انفصمت شخصيّته من هول الصدمة. وحين ذكر: "ليس شهريْن، ليس اثنين": فكأنه فقد الوعي. فقد بؤرة التركيز.بعد أسطر قليلة يعود إلى الزمن فيذكر: خلال شهر، وبعد هذا بسطر يذكر: شهر، ويصفه بأنّه
شهر صغير. بكلمات أخرى أخذ الشهرا ن يتقلصان بالتدريج، فأصبحا أقلّ من شهر، وهذه طريقة بارعة لتقريب الفاجعة وكأنها وقعت البارحة. وحتى يبيّن شيكسبير تفاهة الشهر كمسافة زمنية، راح يقيسه بأغرب وأدنى مادّة:
"شهر صغير، أو قبل أن يعتق حذاؤها
الذي مشت به وراء جثمان أبي المسكين"
ذكرنا أعلاه أنّ جريرة الأم كانت في عجلة زواحها. كيف قاسها هاملت هذه المرّة؟:
"وفي خلال شهر تزوّجتْ
قبل أن تزول الدموع الملحية الزائفة
من عينيها المحمرّتيْن – آه يا أخبث عجلة –
تهرعين بمثل هذه السهولة إلى الشراشف المحرّمة"
بالإضافة إلى ذلك، نستطيع أن نرى ارتباكات هاملت النفسية أكثر فيما دار من حوار، بعد هذه المناجاة مباشرة، بين هوراشيو وهاملت وهما صديقان حميمان:
هوراشيو: مرحباً بسيّدي اللورد
هاملت: مسرور برؤيتك وأنت بصحّة جيّدة
هوراشيو أم أنني فقدت وعيي؟"
فقدان الوعي هذا سيكون منعطفاً شديد التعقيد في مسار المسرحية، بحيث يختلط الأمر علينا، فلا ندري هل كان هاملت شخصية حقيقية تمثّل دوراً مسرحيّاً أمْ انّه شخصية مسرحية تمثل دور إنسان واقعي؟ مما يزيد في حيرتنا، هو السطر الأخير الذي ختم به هاملت مناجاته:
"الصمت يكسر القلب ولكنْ عليّ أن أمسك لساني"
بهذا ينغلق هاملت حتى على نفسه، وتبات لغته ملغّمة وملغّزة تزيده ثراء وتزيدنا عيّاً. على أية حال؛ من تقنيات شيكسبير الأخرى في هذه المناجاة، هي الطريقة التي قارن فيها بين معدن أو طينة الملك القتيل وبين شقيقه القاتل. ففي حين شبّه هاملت، والده بـ "هايبيريون" إله الشمس والقمر والفجر، أي أنّه جعله مصدر النور والسموّ وهذا هو شأن الأجساد حين تتحرر من مادّتها وتصبح أثيرية محلقة. وشبّه عمّه بالكائن الأسطوري"ساتر" أي نصف إنسان ونصف معزى. كذا جعله هجيناً من مادة بهيمية وأخرى بشريّة. سل الفنان السومري ومعزاه، سل بيكاسو ومعزاه هل هناك رمز أكثر شبقاً وشهوة من المعزى؟ فإذا عرفنا أن "ساتر" هو رفيق باخوس ربّ الخمر، يكون جسد عمّه بهيميّاً ومخموراّ، فما أشدّ التصاقه بالأرض إذن. ما أشدّ تمرغه. ما أشدّ تعتعاته!
امراء، كلّ مناجاةٍ، مختبرٌ لتحليل الإنسان إلى عناصره الأوّلية. نعرف – كمشاهدين أو قرّاء – أن هاملت كان يعلم قبل المناجاة الأولى، علم اليقين عن طريق الشبح، أنّ عمّه هو الذي قتل الملك، واغتصب عرشه وامرأته الملكة، أي والدة هاملت. ما من إشارة في المسرحية إلى أنّ الملكة كان لها ضلع في الجريمة، إلاّ أنّ جريرتها في نظر هاملت هي سرعة زواجها إذ لم يمرّ على وفاة زوجها الأوّل إلاّ "شهر صغير". تبدأ المناجاة حينما يجد هاملت نفسَه وحيداً:
"أوه ليت هذه اللحمة الصلبة جدّاً جدّاً تنحلّ
تذوب وتحلّ نفسها إلى سائل…"
قبل كلّ شئ، لماذا ابتدأتْ المناجاة بلحمة صلبة؟ ولماذا عرّفها فقال: اللحمة الصلبة أو الأفضل المتصلبة؟ ولماذا كرّر كلمة: جدّاً؟ هل كان يخجل من تسميتها؟ ربّما. ربّما. أمْ أنّه أراد التوكيد على توتّرها؟ مع ذلك، ما هي تلك اللحمة المتصلبة؟ ما من شارح فيما بين يديّ من مبسوطات نسخ هاملت، أتى على تلك اللحمة بحثاً وتنقيراً. على العكس، ظنّها بعض الشرّاح أنها Sallied بدلاً من Solid.الاختلاف لا على اللحمة وإنما على الصفة الملحقة بها. والصفات -كما نعلم - هي هوية الموصوف، ومن هنا خطورة هذا الاختلاف.
لا شكّ إنّ مسرحيّة هاملت قائمة برمّتها على جرائر الجنس. فالأخ يقتل أخاه بسببه، والأمّ تتزوّج سفاحاً لإطفاء شهوة، وبولونيوس يمنع ابنته أوفيليا من الاختلاء بهاملت خشية العواقب، حتى وإن قادها حرمانها إلى الجنون، فالموت غرقاً. يبدو أن شيكبير كان قد شخّص مشكلة الإنسان الأزلية في الشهوة الجنسية. على هذا فاللحمة المتصلبة التي تمنّى هاملت أن تنحلّ وتذوب ما هي إلاّ آلة الذكورة لدى الرجل، على ما يبدو من القرائن. إنها أصل النوازل والكوارث. أمنية هاملت في انحلال وذوبان اللحمة مستحيلة. ما المخرج؟ ما من مخرج سوى الاستغناء عن الحياة بالانتحار. ولكنّ الانتحار ببساطة محرّم. لا بدّ من العيش. كيف؟ باتت الحياة في عينيْ هاملت أشبه ما تكون بحديقة مهملة، اكتستْ بالأعشاب الضارّة. مخلوقاتها متوحشة ومغثية. عند هذه المرحلة، دشّنت المسرحية لأوّل مرّة الغثيان الذي سيأخذ من الآن فصاعداً أحجاماً قاطعة للتنفّس. ينتقل هاملت فجأة إلى استحضار أبيه الذي لم يمض على وفاته إلاّ شهران. يرتبك هاملت. لا يستطيع أن يتحمل ما جرى لوالده. من أمارات ارتباكه انفلات الزمن، فلا يدري كم مرّ بالضبط من الوقت على وفاته. يقول هاملت:
"شهران مرّا على موته – لا، ليس شهرين، ليس اثنيْن"
هل أُصيب هاملت بخبل موقت؟ تركيب العبارة يدلّ على ذلك. قال أولاً: شهران مرّا، وهي جملة سردية يقينية، ولكن حين قال بعدها مباشرة: لا، فكأنّما انفصمت شخصيّته من هول الصدمة. وحين ذكر: "ليس شهريْن، ليس اثنين": فكأنه فقد الوعي. فقد بؤرة التركيز.بعد أسطر قليلة يعود إلى الزمن فيذكر: خلال شهر، وبعد هذا بسطر يذكر: شهر، ويصفه بأنّه
شهر صغير. بكلمات أخرى أخذ الشهرا ن يتقلصان بالتدريج، فأصبحا أقلّ من شهر، وهذه طريقة بارعة لتقريب الفاجعة وكأنها وقعت البارحة. وحتى يبيّن شيكسبير تفاهة الشهر كمسافة زمنية، راح يقيسه بأغرب وأدنى مادّة:
"شهر صغير، أو قبل أن يعتق حذاؤها
الذي مشت به وراء جثمان أبي المسكين"
ذكرنا أعلاه أنّ جريرة الأم كانت في عجلة زواحها. كيف قاسها هاملت هذه المرّة؟:
"وفي خلال شهر تزوّجتْ
قبل أن تزول الدموع الملحية الزائفة
من عينيها المحمرّتيْن – آه يا أخبث عجلة –
تهرعين بمثل هذه السهولة إلى الشراشف المحرّمة"
بالإضافة إلى ذلك، نستطيع أن نرى ارتباكات هاملت النفسية أكثر فيما دار من حوار، بعد هذه المناجاة مباشرة، بين هوراشيو وهاملت وهما صديقان حميمان:
هوراشيو: مرحباً بسيّدي اللورد
هاملت: مسرور برؤيتك وأنت بصحّة جيّدة
هوراشيو أم أنني فقدت وعيي؟"
فقدان الوعي هذا سيكون منعطفاً شديد التعقيد في مسار المسرحية، بحيث يختلط الأمر علينا، فلا ندري هل كان هاملت شخصية حقيقية تمثّل دوراً مسرحيّاً أمْ انّه شخصية مسرحية تمثل دور إنسان واقعي؟ مما يزيد في حيرتنا، هو السطر الأخير الذي ختم به هاملت مناجاته:
"الصمت يكسر القلب ولكنْ عليّ أن أمسك لساني"
بهذا ينغلق هاملت حتى على نفسه، وتبات لغته ملغّمة وملغّزة تزيده ثراء وتزيدنا عيّاً. على أية حال؛ من تقنيات شيكسبير الأخرى في هذه المناجاة، هي الطريقة التي قارن فيها بين معدن أو طينة الملك القتيل وبين شقيقه القاتل. ففي حين شبّه هاملت، والده بـ "هايبيريون" إله الشمس والقمر والفجر، أي أنّه جعله مصدر النور والسموّ وهذا هو شأن الأجساد حين تتحرر من مادّتها وتصبح أثيرية محلقة. وشبّه عمّه بالكائن الأسطوري"ساتر" أي نصف إنسان ونصف معزى. كذا جعله هجيناً من مادة بهيمية وأخرى بشريّة. سل الفنان السومري ومعزاه، سل بيكاسو ومعزاه هل هناك رمز أكثر شبقاً وشهوة من المعزى؟ فإذا عرفنا أن "ساتر" هو رفيق باخوس ربّ الخمر، يكون جسد عمّه بهيميّاً ومخموراّ، فما أشدّ التصاقه بالأرض إذن. ما أشدّ تمرغه. ما أشدّ تعتعاته!
صلاح نيازي
Comment