"طريق إيتاكا" معقوف وملتوٍ، تكتنفه مساوئ فظيعة، فعوض أن يفضي إلى فردوس، تهجس للمسافر أحجار جنباته أن إيتاكا مدينة مستحيلة بامتياز. ذلك هو عنوان رواية الأوروغوايي كارلوس ليسكانو ما قبل الأخيرة، والتي صدرت ترجمتها الفرنسية قبل عام وقد أنجزها جان ماري سان لو، وظهرت طبعتها لدى 18/10 هذا العام نفسه حيث تُرجمت فيه روايته الأخيرة "شاحنة المجانين" وصدرت لدى بيلفون.
ولد كارلوس ليسكانو بمونتيفيدو بالأوروغواي سنة 1949. وقبيل بلوغه العقدين من عمره سُجن من طرف النظام الديكتاتوري ببلاده، وذاق شراسة التعذيب والسجن لأزيد من اثنتي عشرة سنة، ليلتجئ إلى السويد بمجرد إطلاق سراحه سنة 1985. سعى ليسكانو في روايته أن يؤرجح حد العنف تساؤل الوجود وكيف أن الطريق ليست تكون دوما سوى وهماً وانخراطا في سديم أسطوري ليس يبعث سوى على قلق أكثر وخسارة يفقد من خلالها الفردُ عتوّ مظهر الإنساني في خضم التيه الفلسفي والوجودي البالغين.
"في اعتقادي، أني أحسست في الطريق بالرغبة في تغيير اتجاهي. أن أذهب إلى أي مكان. لقد خُلقنا هكذا. قبل أن نصل إلى حيث نمضي، نكون مستعدين لأن نغادر. وكأن الأمور سوف تتحسن إذا ما غيرنا المكان. الأمور لن تتحسن أبدا، وفي أي مكان. نحن ندرك ذلك، غير أننا لا نحرك ساكنا. أو لربما لا ندركه. نحن إذن بلداء أو مغفلون، ولسنا نلحظ أي شيء. نرى الأشياء ونظن أن كل شيء كما هو جيد. كل شيء يقف ضدنا ونعتقد أن ذلك طبيعي، وأنه القاعدة. الأمور تتشابه حيثما اتجهنا..."(ص.9 ).
هكذا إذن يفلسف فلاديمير بطل الرواية تيهه منذ الصفحة الأولى. وإن كانت غرابة رواية ليسكانو تمضي أكثر إلى غايتها في كون النص ينتهي في الصفحة 22 ويبدأ في الصفحة التالية. ونحن نعلم أن الرواية تربو صفحاتها على الثلاثمائة.
ليس في الأمر تلاعبا، عهدناه عند غيره، ولست أرى فيه مكانا ممكنا لتفريغ مصطلحات شكلانية معقدة في ظاهرها ليس إلا.
إن ليسكانو يبدأ روايته من الأخير، ما فعله بالتأكيد آخرون من قبله، غير أن الأهم لديه يكمن في فكرة الطريق، الطريق الأسطوري إلى مدينة تعد بالكثير، الطريق الذي يجعل حتى من شكل العمل الروائي لدِنا، نعود ونبدأ من جديد من نقطة الصفر، وكأن إيتاكا هي التي خدعتنا إذ وجدناها أكثر بؤسا، لمّا لم ننصت جيدا إلى تحذير كفافي!
طوحت بفلاديمير أمور معقدة، أفدحها ثقته في جدوى المضي إلى مكان آخر، من الأوروغواي إلى الباراغواي، من البرازيل إلى السويد من السويد إلى إسبانيا ومن إسبانيا إلى السويد مرة أخرى:
"الأهم عندما نغادر مكانا إلى آخر هو أننا نعتقد أن المكان الجديد أفضل. غير أنْ ليس ثمة من حل. ونحن ندرك ذلك. ندرك أن الأمر سيكون سيان. وبالرغم من أننا ندرك ذلك. ندرك أن كل شيء سوف يفسد متى وطأنا أرضا. نتخيل أن كل جديد مختلف. غير أن النتيجة هي أن ليس ثمة جديدا ولا مختلفا. إذ الأمر هوَ هوَ تماما، مشهد جديد من نفس المسرحية على خشبة أخرى"(ص.26 ).
جمال نص كارلوس ليسكانو يكمن في سلاسة لغته واطراد مضامين فصوله عبر نسج فوريٍّ للحظات عمله تقتضيها سيولته. وكأنه يضرب عرض الحائط بتقنيات وسلوك روائي مِثالٍ، في انفتاحِ مبحثه على آفاق ليست تحصل سوى لمن يشرّع روحه لغياهب المغامرة، وإن لم يغامر فلمن لا يخشى أشرعة المغامرة متى خفقت عاليا حواليه وتملاّها بإعجاب وذوق فلسفيين.
كأن النص لذلك مجزأ إلى عالمين يستويان في مدى السواد الاجتماعي المنسدل عليهما. السويد وإسبانيا. فلاديمير نموذج عشرات الآلاف من الذين يصلون إلى أوروبا هربا من واقع مر، على كل المستويات، في أوطانهم. يبحثون عن حل مثل من يبحث عن إبرة ضاعت له في كومة قش كما يقال. أو كمن يبحث تحت مصباح الشارع عن مفتاح ضاع له وهو يدرك أنه ضاع في مكان آخر، غير أنه يبحث عنه ثمة لأن هناك نور المصباح كما نقرأ عند بول فاتزلافيك!
يجيء فلاديمير، وكأنه شخص بيكيتي، إلى السويد على أعقاب امرأة التقاها من قَبلُ بالبرازيل. وكأني به يهاجر، مثلما نسمع في حديث محمد، إلى امرأة ينكحها. إذ من هاجر إلى الله فهجرته إلى الله ومن هاجر إلى امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه. صعب الحكم عليك إذن يا فلاديمير!
بطل ليسكانو فرّ أيضا لأنه كان يتاجر في المخدرات، أي من ممنوعات بلاده، مثلها مثل الاشتغال بالسياسة، كتنويع يتفرع فيه النص من سيرة ذاتية إلى رواية. أي من كل ما هو كرونولوجي في العلاقة مع حياة الكاتب إلى إضافات خيالية هامشية.
في السويد يستهزئ من ضرورة تعلم لغتهم ما يراه مستحيلا بالنسبة له. أمر آخر هو أن صديقته إنغريد قد حملت منه. ليس يتخيل قط نفسه أبًا، ونستشف لديه نظرية معرية (نسبة إلى المعري) معاصرة. ذلك لأنه لا يرغب أن يكون له خلف في عالم سيء، ولأنه يرى في نفسه كذلك أبا سيئا.
ابتلى بهذا الأمر، إذ إنغريد لا تريد بتاتا أن تجهض ما اقترح عليها بإلحاح ومطالبة شديدين. فكر في الرحيل إلى برشلونة، لأنه على الأقل يفهم لغتهم ويفهمون خلاف السويديين لغته. ونظرا لحنان مباغت لم يمض قبل أن تضع إنغريد.
لكن رخصة العمل ما لبثت تقض مضجعه. ليست له أوراق إقامة رسمية. عمل في أماكن شتى. خبر أوساط المهاجرين. واستنتج أن بلد السويد مثل غيره من البلدان، خليط من البشر، بل دخلاء، جاؤوا جميعهم من حيث تجئ فراشات الليل التي تموت متى لم تنج جراء نور ونار القنديل!
استخلصَ من عمله في ملجأ، ما دام سفره سفرا "علميا"، أن "الذي لا ينطلق، نُزِيله من نظام المرور، كي يستمر السير، لأن المجنون في الشارع يشكل دوما سببا في توقف حركة السير"، أنه "يلزم قضاء بعض وقت في الملجأ، وإلا لن نفهم أبدا ماذا تعنيه الحياة" (ص.77).
"المستشفى النفسي أحزن شيء على وجه الأرض!".
"يحز ذلك في أعماقي. ويُيَبّس الأحاسيس النادرة التي أستشعر. حزن الملجأ يرشح على طول الجدران. كل الأشياء تصير حزينة، ويذبل الأشخاص. حتى أن يداي تصيران حزينتين!" (ص.116).
ولد كارلوس ليسكانو بمونتيفيدو بالأوروغواي سنة 1949. وقبيل بلوغه العقدين من عمره سُجن من طرف النظام الديكتاتوري ببلاده، وذاق شراسة التعذيب والسجن لأزيد من اثنتي عشرة سنة، ليلتجئ إلى السويد بمجرد إطلاق سراحه سنة 1985. سعى ليسكانو في روايته أن يؤرجح حد العنف تساؤل الوجود وكيف أن الطريق ليست تكون دوما سوى وهماً وانخراطا في سديم أسطوري ليس يبعث سوى على قلق أكثر وخسارة يفقد من خلالها الفردُ عتوّ مظهر الإنساني في خضم التيه الفلسفي والوجودي البالغين.
"في اعتقادي، أني أحسست في الطريق بالرغبة في تغيير اتجاهي. أن أذهب إلى أي مكان. لقد خُلقنا هكذا. قبل أن نصل إلى حيث نمضي، نكون مستعدين لأن نغادر. وكأن الأمور سوف تتحسن إذا ما غيرنا المكان. الأمور لن تتحسن أبدا، وفي أي مكان. نحن ندرك ذلك، غير أننا لا نحرك ساكنا. أو لربما لا ندركه. نحن إذن بلداء أو مغفلون، ولسنا نلحظ أي شيء. نرى الأشياء ونظن أن كل شيء كما هو جيد. كل شيء يقف ضدنا ونعتقد أن ذلك طبيعي، وأنه القاعدة. الأمور تتشابه حيثما اتجهنا..."(ص.9 ).
هكذا إذن يفلسف فلاديمير بطل الرواية تيهه منذ الصفحة الأولى. وإن كانت غرابة رواية ليسكانو تمضي أكثر إلى غايتها في كون النص ينتهي في الصفحة 22 ويبدأ في الصفحة التالية. ونحن نعلم أن الرواية تربو صفحاتها على الثلاثمائة.
ليس في الأمر تلاعبا، عهدناه عند غيره، ولست أرى فيه مكانا ممكنا لتفريغ مصطلحات شكلانية معقدة في ظاهرها ليس إلا.
إن ليسكانو يبدأ روايته من الأخير، ما فعله بالتأكيد آخرون من قبله، غير أن الأهم لديه يكمن في فكرة الطريق، الطريق الأسطوري إلى مدينة تعد بالكثير، الطريق الذي يجعل حتى من شكل العمل الروائي لدِنا، نعود ونبدأ من جديد من نقطة الصفر، وكأن إيتاكا هي التي خدعتنا إذ وجدناها أكثر بؤسا، لمّا لم ننصت جيدا إلى تحذير كفافي!
طوحت بفلاديمير أمور معقدة، أفدحها ثقته في جدوى المضي إلى مكان آخر، من الأوروغواي إلى الباراغواي، من البرازيل إلى السويد من السويد إلى إسبانيا ومن إسبانيا إلى السويد مرة أخرى:
"الأهم عندما نغادر مكانا إلى آخر هو أننا نعتقد أن المكان الجديد أفضل. غير أنْ ليس ثمة من حل. ونحن ندرك ذلك. ندرك أن الأمر سيكون سيان. وبالرغم من أننا ندرك ذلك. ندرك أن كل شيء سوف يفسد متى وطأنا أرضا. نتخيل أن كل جديد مختلف. غير أن النتيجة هي أن ليس ثمة جديدا ولا مختلفا. إذ الأمر هوَ هوَ تماما، مشهد جديد من نفس المسرحية على خشبة أخرى"(ص.26 ).
جمال نص كارلوس ليسكانو يكمن في سلاسة لغته واطراد مضامين فصوله عبر نسج فوريٍّ للحظات عمله تقتضيها سيولته. وكأنه يضرب عرض الحائط بتقنيات وسلوك روائي مِثالٍ، في انفتاحِ مبحثه على آفاق ليست تحصل سوى لمن يشرّع روحه لغياهب المغامرة، وإن لم يغامر فلمن لا يخشى أشرعة المغامرة متى خفقت عاليا حواليه وتملاّها بإعجاب وذوق فلسفيين.
كأن النص لذلك مجزأ إلى عالمين يستويان في مدى السواد الاجتماعي المنسدل عليهما. السويد وإسبانيا. فلاديمير نموذج عشرات الآلاف من الذين يصلون إلى أوروبا هربا من واقع مر، على كل المستويات، في أوطانهم. يبحثون عن حل مثل من يبحث عن إبرة ضاعت له في كومة قش كما يقال. أو كمن يبحث تحت مصباح الشارع عن مفتاح ضاع له وهو يدرك أنه ضاع في مكان آخر، غير أنه يبحث عنه ثمة لأن هناك نور المصباح كما نقرأ عند بول فاتزلافيك!
يجيء فلاديمير، وكأنه شخص بيكيتي، إلى السويد على أعقاب امرأة التقاها من قَبلُ بالبرازيل. وكأني به يهاجر، مثلما نسمع في حديث محمد، إلى امرأة ينكحها. إذ من هاجر إلى الله فهجرته إلى الله ومن هاجر إلى امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه. صعب الحكم عليك إذن يا فلاديمير!
بطل ليسكانو فرّ أيضا لأنه كان يتاجر في المخدرات، أي من ممنوعات بلاده، مثلها مثل الاشتغال بالسياسة، كتنويع يتفرع فيه النص من سيرة ذاتية إلى رواية. أي من كل ما هو كرونولوجي في العلاقة مع حياة الكاتب إلى إضافات خيالية هامشية.
في السويد يستهزئ من ضرورة تعلم لغتهم ما يراه مستحيلا بالنسبة له. أمر آخر هو أن صديقته إنغريد قد حملت منه. ليس يتخيل قط نفسه أبًا، ونستشف لديه نظرية معرية (نسبة إلى المعري) معاصرة. ذلك لأنه لا يرغب أن يكون له خلف في عالم سيء، ولأنه يرى في نفسه كذلك أبا سيئا.
ابتلى بهذا الأمر، إذ إنغريد لا تريد بتاتا أن تجهض ما اقترح عليها بإلحاح ومطالبة شديدين. فكر في الرحيل إلى برشلونة، لأنه على الأقل يفهم لغتهم ويفهمون خلاف السويديين لغته. ونظرا لحنان مباغت لم يمض قبل أن تضع إنغريد.
لكن رخصة العمل ما لبثت تقض مضجعه. ليست له أوراق إقامة رسمية. عمل في أماكن شتى. خبر أوساط المهاجرين. واستنتج أن بلد السويد مثل غيره من البلدان، خليط من البشر، بل دخلاء، جاؤوا جميعهم من حيث تجئ فراشات الليل التي تموت متى لم تنج جراء نور ونار القنديل!
استخلصَ من عمله في ملجأ، ما دام سفره سفرا "علميا"، أن "الذي لا ينطلق، نُزِيله من نظام المرور، كي يستمر السير، لأن المجنون في الشارع يشكل دوما سببا في توقف حركة السير"، أنه "يلزم قضاء بعض وقت في الملجأ، وإلا لن نفهم أبدا ماذا تعنيه الحياة" (ص.77).
"المستشفى النفسي أحزن شيء على وجه الأرض!".
"يحز ذلك في أعماقي. ويُيَبّس الأحاسيس النادرة التي أستشعر. حزن الملجأ يرشح على طول الجدران. كل الأشياء تصير حزينة، ويذبل الأشخاص. حتى أن يداي تصيران حزينتين!" (ص.116).
يقول فلاديمير عن رغبته في الرحيل وتركِ كل شيء وعن عدم قدرته في اتخاذ مثل ذلك القرار أنه: "كلما كانت لنا مصلحة ما، أو شيئا ما و أي شيء نقع دوما في فخ الرغبة في الدفاع عن ذلك الشيء بأي ثمن، وإن كان الشيء الذي نملكه لا يساوي شيئا..." (ص.117).
بعد أن وصل إلى برشلونة اتخذ ساحة ريال مسكنا له، بعدما استنزف تجارُ البؤس عرقَه وابتزوا ما تبقى له، فكر كثيرا في الإنسان الأبيض أو الأوروبي، الذي يعتقد دوما أنه وحده المتحضر وأن غيره ليسوا سوى همجا. لم ينس أن ينبز عن حق الأستراليين بكونهم ربما قد نسوا أنهم انحدروا من منتشلين ومجرمين.
كتب لدى عودته إلى السويد: "ينتهي المشهد هنا، وأحس بأن هذا الأمان هو الذي أبحث عنه. لم يعد ينقصني سوى أن أتملى وجه المرأة، ولكي أتمكن من ذلك بدأت أحلم من جديد، آلاف المرات، مقتنعا أنني سوف أتمكن من ذلك ذات يوم. لربما ذلك اليوم سوف أتوقف عن أن أحلم وأن أبحث، وإن كان هذاـ أن أبحث ـ ليس من باب الحلم!" (ص.22).
Comment