من الثابت تاريخياً حتى الآن أن دمشق ذكرت لأول مرة في المصادر المكتوبة في قائمة البلدان والمدن التي أخضعها الفرعون المصري تحوتموس الثالث لسيطرته في سورية وفلسطين في أعقاب معركة مجيدّو (1486 ق.م)، والتي انتصر فيها على تحالف الممالك السورية الذي ضمّ 330 أميراً، وقع منهم 119 أسراً بيد تحوتموس، ربما كان بينهم أمير أو ملك دمشق.
يرد الاسم على الشكل التالي:
Ta-mas-qu
نذكر بعدها مباشرة، حسب اعتقاد بعض الباحثين:
a-ta-ru : عدرا
ولكن دون أن ترد أية معلومات أخرى عن وضع هذين الموقعين السياسي أو الاقتصادي، أو غير ذلك. إلا أنه يمكن الاستنتاج أن منطقة دمشق كانت تحت السيطرة المصرية، على الأقل منذ عهد تحوتموس الثالث.
ولو عدنا إلى القرن الثامن عشر قبل الميلاد، وبالتحديد إلى نصوص أرشيف ماري، لوجدنا أن دمشق لا تظهر في تلك النصوص أبداً، بينما تظهر عدرا على شكل a-da-ru، دون أية معلومات أخرى.
وربما يرد ذكر موقع آخر في منطقة دمشق في أحد نصوص اللعن المصرية التي تعود إلى بداية عهد الأسرة الثالثة عشرة (القرن 17 ق.م)، وهو المزة:
Ma-s-a، وأميرها يدعى s-q-r-a(?).
ويتوالى ذكر دمشق ومنطقة دمشق (upi) في وثائق العصور التالية.
ففي عصر العمارنة (القرن 14 ق.م) كانت أجزاء واسعة من سورية أو بلاد الشام خاضعة للسيطرة المصرية، وقسمت إلى ثلاث مقاطعات يحكم كل واحدة منها موظف يُدعى رابيصو، وهي:
1- المقاطعة الجنوبية: وتدعى كنعان ومركزها غزة، وتشمل فلسطين مع حدود شمالية على طول الساحل تصل إلى جُبيل.
2- المقاطعة الثانية أمور، ومركزها صومور (تل الكزل الحالي جنوب طرطوس)، وتشمل مملكة أمور في وسط سورية ومنطقة الساحل حتى أوجاريت.
3- المنطقة الثالثة أوبي upi (منطقة دمشق) ومركزها كوميدي (كامد اللوز في البقاع الجنوبي).
وهناك لوح مسماري عُثر عليه في كامد اللوز يشير إلى المدعو زلايا "ملك دمشق" كتابع للفرعون المصري أمنحوتب الثالث.
وتأتي من عهد هذا الفرعون الإشارة الثانية في النصوص المصرية إلى دمشق، حيث نقشت على قواعد مجموعة من التماثيل التي أقامها أمنحوتب الثالث في معبده الجنائزي في طيبة الغربية أسماء مدن وممالك متعددة كانت لها علاقات مع مصر، من بينها دمشق ti-ms-qu وبصرى Bosruna
باختصار تقدم لنا رسائل العمارنة معلومات قليلة جداً عن دمشق ومنطقتها، لكن من المؤكد أنها كانت تخضع للسيطرة المصرية، ولم تكن مهمة على الصعيد السياسي أو الاقتصادي.
تبدأ دمشق بالظهور كمركز لمملكة آرامية قوية اعتباراً من أواخر الألف الثاني قبل الميلاد عندما ظهرت في سورية مجموعة من الممالك الآرامية المتصارعة فيما بينها، كمملكة آرام صوبا ومملكة حماة وغيرها.
و ظهرت آرام دمشق كقوة قائدة لتحالف الممالك الآرامية السورية في وجه محاولات التوسع الآشوري خلال القرن التاسع قبل الميلاد. وتُعدّ النقوش والكتابات الملكية الآشورية الحديثة المصدر الرئيس عن الدور الهام الذي لعبته آرام دمشق خلال هذه الفترة على صعيد الأحداث الكبرى الخارجية. والإشارة الأولى إليها نجدها في تقرير حملة السنة السادسة لشلمنصّر الثالث من العام 853 ق.م.
فقد سار هذا الملك (858-824ق.م) على خطى والده آشور ناصربال الثاني في توسيع السيطرة الآشورية على المناطق المجاورة لآشور، وبخاصة على سورية، لكسب السيطرة على طريق التجارة التي تربط سورية مع بلاد الرافدين، وللحصول على الأخشاب والمنتجات الأخرى من سورية.
في سنة حكمه السادسة (أي في العام 853 ق.م) خرج شلمنصّر الثالث بجيشه من العاصمة نينوى، وعبر وادي نهر البليخ، ثم سار باتجاه الفرات، فعبر النهر، وتلقى جزية من أمراء المنطقة. ثم قدّم القرابين للاله أدد إله مدينة حلب، كي يضفي على أعماله صفة شرعية. ولكن لم يكن يعني إخضاعه عدة إمارات واقعة بين الفرات والبحر المتوسط إخضاعاً لسورية كلها. فمملكة حماة الآرامية على العاصي ومملكة آرام دمشق أقوى الممالك الآرامية في سورية آنذاك، عرفتا كيف تدافعان عن استقلالهما ضد محاولات التوغل الآشورية في داخل سورية.
قرر شلمنصّر الثالث أن يُخضع مملكة حماة أولاً، كي يتمكن من الوصول إلى وسط سورية، فاحتل ثلاث مدن تابعة لإرخوليني ملك حماة، ونهب القصور في تلك المدن وأحرقها. تابع بعد ذلك زحفه إلى مدينة قرقر الملكية، الواقعة في وادي العاصي إلى الشمال الغربي من مدينة حماة (ربما تل قرقور الحالي). وهناك التقى جيشاً ضخماً لتحالف آرامي كبير ضم أربع عشرة مملكة تمتد من فلسطين في الجنوب حتى كيليكية في الشمال، بقيادة أدد-إدري Adad-idri ملك دمشق وإرخوليني ملك حماة.
إن الاسم أدد-إدري هو الصيغة الأكادية للاسم الآرامي هدد-عِذر (بالعبرية هدد-عيزير). أما دمشق فتظهر هنا باسم جديد هو إميريشو Imerishu، الذي فسر على أنه "مدينة تجّار الحمير" أو "مدينة قوافل الحمير".
وتسمية هدد-عِذر ملك إميريشو هنا تعني البلاد أو المنطقة التي عاصمتها دمشق.
يتحدث شلمنصّر الثالث عن معركة قرقر في إحدى كتاباته فيقول:
" في السنة السادسة من حكمي خرجت من نينوى واقتربت من مدن منطقة البليخ ...... سرت من منطقة البليخ. عبرت الفرات وقت الفيضان. تسلمت جزية من ملك بلاد الحثيين (كركميش). سرت من بلاد الحثيين واقتربت من حلب. قدمت الأضاحي للاله أدد من حلب. خرجت من حلب واقتربت من قرقرا Qarqara هدد-عِذر من دمشق، إرخوليني من بلاد أماتو (حماة) واثنا عشر ملك من شاطئ البحر خرجوا ضدي معتمدين كلٌ على قوة الآخر لخوض المعركة. اشتبكت معهم وأرديت خمسة وعشرين ألفاً من محاربيهم بالسلاح. وسلبتهم عرباتهم الحربية وخيولهم وعتادهم الحربي ومن أجل انقاذ حياتهم ولوا هاربين" .
حسب التقارير الآشورية بلغت قوات الخصم ثلاثة آلاف وتسعمئة عربة حربية وألفاً وتسعمئة من الفرسان وأكثر من اثنين وستين ألف جندي مشاة وألف راكب جمل عربي بقيادة شيخ العرب جُندب.
ويظهر هدد-عِذر ملك دمشق وقد شارك بألف ومائتي عربة وألف ومائتي فارس وعشرين ألفاً من المشاة. بينما شارك إرخوليني ملك حماة بسبعمئة عربة وسبعمئة فارس وعشرة آلاف من الفرسان.
وهذا إن دلّ على شيء فإنما يدل على تمتع مملكة دمشق بالقوة الأكبر بين الممالك الآرامية السورية آنذاك.لم تؤد معركة قرقر إلى نتيجة حاسمة. وعلى الرغم مما يذكره شلمنصّر في حولياته عن خسائر الأعداء الكبيرة، فإن القوة الآرامية لم تضعف، ولم يستطع الآشورين متابعة زحفهم نحو جنوبي سورية. ولم يعد شلمنصّر مرة أخرى إلى سورية إلا بعد انقضاء ثلاث سنوات كاملة على معركة قرقر. ففي العام 849 ق.م (السنة العاشرة من حكم شلمنصّر) تقدم الملك الآشوري باتجاه الجنوب الغربي، لكنه التقى مرة أخرى بتحالف قاده هدد-عِذر وإرخوليني. وللمرة الثانية ادعى أنه هزم هذا التحالف. لكن حولية السنة العاشرة تنتهي بالحديث عن المعركة دون إعطاء أية إشارة عن استمرار الحملة باتجاه جنوبي سورية. وكُتب الوصف المقتضب للمعركة بلغة وصفية: "في ذلك الوقت أدد-إدري من بلاد إميريشو وإرخوليني الحموي معاً مع اثني عشر ملكاً من ساحل البحر بقواتهم المتحدة، هم غامروا بحرب ومعركة ضدي وهاجموني. أنا حاربتهم، وألحقت بهم الهزيمة. العربات وخيول الفرسان ومعدات المعركة استوليت عليها. وللحفاظ على حياتهم لجأوا إلى الاختباء"
وفي العام 848 ق.م فشلت محاولة أخرى للتقدم باتجاه جنوبي سورية على الرغم من أن شلمنصّر الثلث يدّعي أنه قتل عشرة آلاف رجل من الأعداء المتحالفين ووصف المعركة غامض، وليس هناك أي ذكر لاستيلاء على مدن تتبع أعضاء التحالف، أو خضوع لشلمنصّر.
وفي العام 845 ق.م بدا شلمنصّر هجوماً كبيراً على سورية بجيش مؤلف من مئة وعشرين ألف رجل عبر بهم الفرات. وهنا أظهر التحالف الآرامي أيضاً أنه قادر على مواجهته. وتوجب على شلمنصّر الانتظار عدة سنوات أخرى حتى تحين الفرصة المناسبة لإخضاع سورية.
وفي العام 841 ق.م (السنة الثامنة عشرة من حكم شلمنصّر) بدا وكأن تلك الفرصة قد أتت. فملك دمشق هدد-عِذر اغتيل واغتصب العرش المدعو حزائيل. يتحدث سفر الملوك الثاني 8: 7-15 عن ذلك. ويشير شلمنصّر إليه بقوله: " توفي أدد-إدري (أو اغتيل)، حزائيل ابن لا أحد، استولى على العرش" هذا إن دل على شيء فإنما يدل على أن حزائيل لا ينتمي إلى أصل ملكي. سار شلمنصّر بجيوشه نحو دمشق التي وقفت لوحدها هذه المرة في وجه الجيش الآشوري، حيث أن عقد تحالفاتها السابقة ضد الآشوريين كان قد انفرط. فحماة التي كانت تأتي في المرتبة الثانية من حيث الأهمية في التحالف، عقدت سلاماً مع آشور. والنقوش الموجودة لا تذكر حماة، مع أنه من المفترض أن شلمنصّر عبرها للوصول إلى دمشق. كما أن مدن صيدا وصور ومدن أخرى قدمت الجزية لشلمنصّر.
نظم حزائيل قواته للمعركة بالقرب من قلعة في جبل سانيرو kur sa-ni-ru (ربما أحد قمم جبال القلمون أو حرمون)، لكنه هزم فتراجع إلى داخل مدينة دمشق حيث حاصره شلمنصّر. وعلى الرغم من الخسائر الكبيرة تحملت دمشق الحصار بنجاح، فصب الآشوريون جام غضبهم على المناطق المجاورة، وخربوا بساتين الفواكه والنخيل، ووصلوا حتى جبل حوران، ثم اتجهوا غرباً نحو ساحل البحر المتوسط إلى صور.
يصف شلمنصّر ما حدث فيقول:
"في السنة الثامنة عشرة من حكمي عبرت الفرات للمرة السادسة عشرة. حزائيل من دمشق اعتمد على ضخامة قواته وحشد فرقه بكثرة. وجعل سانيرو قمة إحدى الجبال مقابل لبنان حصنه. اشتبكت معه وألحقت به الهزيمة. أرديت بالسلاح ستة عشر ألفاً من محاربيه، وسلبته ألفاً ومئة وإحدى وعشرين (1121) من عرباته الحربية، وأربع مئة وسبعين من خيوله ومعسكره. وهرب لإنقاذ حياته سرت خلفة وحاصرته في دمشق URU di-ma-ash-qi مقره. قطعت بساتينه وأحرقت محاصيله بالنار، وزحفت حتى جبل حوران. خرت مدناً لا تعد ودمرتها وأحرقتها بالنار. وغنمت غنائم لا تحصى......".
و هكذا نجت دمشق من السطوة الآشورية، ولكن كان عليها أن تواجه الآشوريين مرة أخرى بعد ثلاث سنوات (838 ق.م)، عندما عاد شلمنصّر إلى سورية في سنة حكمة الحادية والعشرين، وحاول احتلال دمشق، لكنه فشل هذه المرة أيضاً، فاستولى على بعض المناطق التابعة لها في منطقة (ملاخو ودانابو)، وعاد محملاً بالجزية والغنائم إلى بلاد آشور.
يصف شلمنصّر ذلك فيقول:
" في سنة حكمي الحادية والعشرين عبرت الفرات للمرة الحادية والعشرين، وزحفت على مدن حزائيل من دمشق، وفتحت أربعاً من مدنه. تلقيت جزية الصوريين والصيداويين والجبيليين".
وهناك خاتم اسطواني عُثر عليه في آشور يشير إلى غنيمة أخذت من معبد الإله شيرو sheruفي مدينة ملاخو، مدينة حزائيل الملكية في بلاد إميريشو (دمشق) من المحتمل أن هذه الغنيمة جاءت من حملة السنة الحادية والعشرين.
يتضح مما تقدم أن شلمنصّر الثالث فشل في السيطرة بشكل كامل على جنوبي سورية، على الرغم من قوته الكبيرة وحملاته المتعددة. فقد وقفت دمشق في وجهه وقاومته بشدة. وهذا ما جعله يتجه بأنظاره للتوسع في مناطق أخرى.
بعد توقف الحملات الآشورية على سورية قام حزائيل بتوسيع مناطق نفوذه في سورية في مختلف الاتجاهات، ودام حكمه نحو أربعين عاماً، وربما كانت وفاته في أواخر القرن التاسع قبل الميلاد، وخلفه على العرش ابنه بر هدد الثالث.
انقضى أكثر من ثلاثين عاماً على آخر حملة آشورية ضد دمشق قبل أن يفكر ملوك آشور بإرسال جيوشهم من جديد إلى سورية.
قام أدد-نيراري الثالث بعد اعتلائه العرش (803 ق.م) بتوجيه اهتمامه إلى المقاطعات الغربية التابعة لآشور حيث كان خطر الانفصال قائماً. وانتهز فرصة قيام ثورة في دمشق على ملكها بر هدد الثالث بعد هزيمته على يد ملك حماة، وسار إلى سورية فأخضع أمورو ودمشق، وتلقى جزية ضخمة من ملك يدعى مَريئي، ومن أمراء سوريين وفلسطينيين آخرين. تتحدث إحدى كتاباته عن ذلك فتقول:
"انطلاقاً من الفرات أخضعت لقدمي بلاد الحثيين (كركميش) وكل بلاد أمورو وصور وصيدا وبيت عُمري وإدوم وفلسطيا حتى بحر مغرب الشمس الكبير . فرضت عليهم جزية وضرائب. سرت إلى دمشق. حاصرت مَريئي ملك دمشق في دمشق مقره. وبسبب خوفه من رهبة آشور سيدي خرّ راكعاً عند قدميّ، وأظهر خضوعه لي. استوليت على ألفين وثلاثمئة تالنت فضة، وعشرين تالنت ذهب، وثلاثة آلاف تالنت برونز، وخمسة لآلاف تالنت حديد، وعلى ألبسة من نسيج ملون وكتان، وسرير من العاج، وسرير راحة من العاج المحاط بتزيينات، وتسلمت منه أملاكه وممتلكاته بكميات ضخمة في دمشق مقره في قصره".
غير أن هذا النصر كان خادعاً ونتائجه مؤقتة. ولم يستطع أدد-نيراري العودة مرة أخرى إلى دمشق.
يلفت الانتباه في الكتابة المذكورة ذكر تلك الكميات الكبيرة من المعادن التي استولى عليها الملك الآشوري الكبير. ويمكن القول: إن وجودها في دمشق هو نتيجة للدور التجاري الذي كانت تلعبه المدينة بين المدن الفينيقية الساحلية وبلاد الرافدين، وبين آسية الصغرى وشبه الجزيرة العربية ومصر.
أيضاً هناك شيء آخر يلفت الانتباه في الكتابة السابقة هو اسم الملك مَريئي. هل كان هذا ملكاً جديداً خلف بر هدد الثالث ؟ أم هو لقب أطلق على بر هدد الثالث ؟ على اعتبار أن "مَريئي" كلمة آرامية تعني سيدي، وبالتالي هو لقب كان يُطلق على "ملك دمشق".
عاد الآشوريون مرة أخرى لمهاجمة دمشق في العام 773 ق.م. والإشارة الوحيدة المعروفة عن هجومهم هذا توجد في عبارة في قائمة الموظفين هي: anaURU di-mash-qi إلى دمشق.
وتوجد تفاصيل عن هذه العبارة في نقش على مسلة عُثر عليها في بزرجيك في تركيا، أقيمت في عهد الملك الآشوري شلمنصّر الرابع (781-772ق.م) من قبل قائد الجيش القوي (تورتانو) المدعو شمشي إلو. يشير النقش إلى حملة ضد بلاد إميريشو (آرام دمشق)، وهي الحملة التي يجب أن تكون عبارة قائمة الموظفين قد أشارت إليها في العام 773 ق.م. ويذكر أيضاً الجزية التي أخذها شمشي إلو من ملك دمشق المدعو خَديانو.
يمكن الاستنتاج من هذا النقش أن ملك دمشق قبل أن يدفع جزية إلى آشور مقابل احتفاظه باستقلاله الداخلي على الأقل.
انتهت فترة الضعف التي كانت تمر بها آشور خلال النصف الأول من القرن الثامن قبل الميلاد باعتلاء تيكلات بيليصر الثالث العرش (745-727ق.م). قام هذا بمجموعة من الإصلاحات الإدارية والعسكرية التي وضعت الأساس لعصر قوة جديد في تاريخ الإمبراطورية الآشورية الحديثة دام اكثر من قرن من الزمن. وقادت سياسته القائمة على ضم مناطق مختلفة إلى الإمبراطورية الآشورية ووضع حكام آشور عليها، والتهجير الجماعي لسكان المناطق الثائرة، قادت إلى القضاء على العديد من الممالك، ومنها مملكة آرام دمشق، التي قضى عليها في العام 732 ق.م.
كرّس تيكلات بيليصر حملته الثالثة (743 ق.م) للقضاء على المقاومة في سورية. كان متيع إل حاكم مملكة أرباد Arpad الآرامية (حالياً تل رفعت شمال حلب) قد استغل ضعف الملك آشور نيراري الخامس فنقض العهد المبرم مع الإمبراطورية الآشورية، وشكل تحالفاً مع الممالك السورية الأخرى التي كانت تأمل مساعدة ساردور الثالث ملك أورارتو. وهذا التحالف معروف من نص آرامي نقش على نصب عُثر على كسراته في السفيرة بالقرب من حلب. يذكر النص أن آرام العليا وآرام السفلى وكل آرام قد اتحدت. وانضمت إلى هذا الاتحاد ممالك أخرى تقع على الفرات الأعلى في جبال طوروس.
خرج تيكلات بيليصر الثالث على رأس جيش قوي ضد أرباد التي كانت بمثابة القوة المحركة للتحالف. ولكن لم يكد يصل الفرات حتى ظهر له ملك أورارتو ساردور الثالث الذي كان يطمح إلى طرد الآشوريين من شمالي سورية وفرض سلطته هناك. جرت معركة بين الطرفين على ضفتي الفرات شمال كركميش بالقرب من بيرجيك. ونتج عنها هزيمة ملك أورارتو وانسحابه إلى بلاده. ولم يلاحقه تيكلات بيليصر الثالث، بل تابع زحفه نحو أرباد التي حاصرها نحو سنتين (742-740 ق.م). وعندما سقطت ترك ذلك صدىً في كل أنحاء سورية. فجاء ملوك ممالك متعددة من بينهم ملك كركميش ودمشق وصور، يقدمون الطاعة والجزية للملك المنتصر. كان ملك دمشق يدعى رضيان (رصين في العهد القديم) الذي يبدو أنه لم يكن ينتمي إلى البيت الملكي في دمشق، بل كان مغتصباً للعرش، حيث توجد إشارة إلى ذلك في حوليات تيكلات بيليصر، إذ يقول: "مدينة خادارا Chadara موطن رضيان ملك آرام دمشق (إيميريشو) حيث وُلد، حاصرت وفتحت".
لكن للأسف هذه المدينة غير معروفة، كما أن تاريخ وصول رضيان إلى العرش غير معروف.
قام تيكلات بيليصر في الفترة بين (737-735ق.م) بحملات على المناطق الواقعة إلى الشمال والشرق من آشور. وهذا ما أتاح الفرصة لقيام تحالفات معادية للآشوريين في سورية. فدمشق والسامرة وعسقلان وغزة رفضت دفع الجزية. وتمردت صور وصيدا بسبب العوائق التي فرضها الآشوريون على تصدير الأخشاب إلى مصر. والأسوأ من ذلك تشكل تحالف معاد للآشوريين شمل كل ممالك فلسطين وشرقي الأردن، نظمه حكام عسقلان وغزة.
سار تيكلات بيليصر في العام 734 ق.م على رأس جيش أخضع مدن الساحل الفينيقي، وقسّمها إلى ست مقاطعات عسكرية. ثم توغل أبعد من ذلك إلى الجنوب وهاجم عسقلان وغزة، فقتل أمير عسقلان، وهرب حانو ملك غزة إلى مصر، ونُهبت مدينته. ودفعت ممالك أرواد وعمون وإدوم ومؤاب ويهودا وشمسي ملكة بلاد العرب الجزية.
بعد ذلك بسنتين (732 ق.م) استنجد آحاز يهوذا بتكلات بيليصر بسبب مضايقات بعض جيرانه له كرضيان ملك دمشق. فهاجم الملك الآشوري دمشق واحتلها بعد حصار قصير لها، فقد خلاله ملكها حياته، وهجّر ثمانمئة من سكانها، وحوّلها إلى مقاطعات آشورية.
تصف حوليات تيكلات بيليصر سقوط دمشق بشكل متقطع، ويشير إلى ذلك سِفر الملوك الثاني (16 : 7-11) من العهد القديم أيضاً.
نقرأ في الحوليات مايلي:
" مدينة خادارا موطن رضيان ملك آرام دمشق إيميريشو)، حيث وُلد، حاصرت وفتحت. ثمانمئة من السكان مع ممتلكاتهم........ ثيرانهم وأغنامهم سلبت. سبعمئة وخمسون أسيراً من كوروصّا.......إرمايا،خمسمئة وخمسين أسيراً من ميتونا أخذت.591 مدينة..... من الست عشرة منطقة من آرام دمشق دمرت أنا كربوة طوفان.......". .
ويبدو أن المعركة من أجل الاستيلاء على دمشق لم تكن سهلة، بدليل أن أحد النقوش الآرامية، وهو نقش بر راكب ملك ياؤودي/شمأل (في منطقة الأمانوس) يتحدث عن تنصيب هذا الملك على عرش مملكة شمأل من قبل تيكلات بيليصر الثالث مكان أبيه بنامووا Panamowa II الثاني الذي كان تابعاً للملك الآشوري ووفياً له. وقد رافقه في عدة حملات، وسقط صريعاً في الحملة على دمشق.
وحسب النص السطر (17) بكاه الجيش الآشوري بكامله، وأقام له الملك الآشوري (السطر18) نصباً على الطريق، ونقل جثمانه من دمشق إلى آشور.
يعدّ استيلاء تيكلات بيليصر الثالث على دمشق في العام 732 ق.م نهاية مملكة آرام دمشق المستقلة التي قُسّمت إلى مقاطعات آشورية، منها دمشق وحوران وصوبا وقرنايم ومنصواتي. ووضع على كل مقاطعة حاكم آشوري. وبذلك فقدت دمشق أهميتها السياسية والعسكرية. ففي التحالف السوري الذي تشكل في العام 720 ق.م ضد شاروكين الثاني تظهر دمشق كمشارك صغير فقط.
غير أنها لم تفقد أهميتها التجارية، وبخاصة كمحطة على طرق التجارة الواصلة بين سواحل البحر المتوسط الشرقية ومدن بلاد الرافدين، وبين مصر وشبه الجزيرة العربية وبلاد الأناضول. فسِفر حزقيال 18 : 27 يذكر أن دمشق كانت تتاجر بكثرة مع صور
نلخص مما تقدم أن دمشق عاشت عصر قوة وازدهار خلال القرنين التاسع والثامن قبل الميلاد عندما كانت عاصمة لمملكة آرامية مستقلة هي آرام دمشق التي أفشلت محاولات الآشوريين للسيطرة على سورية بكاملها آنذاك. لذلك حاول الملوك الآشوريون المتعاقبون خلال تلك الفترة كسر شوكة مقاومة دمشق من خلال القيام بالعديد من الحملات التي أسفرت آخرها في العام 732 ق.م عن احتلال دمشق والقضاء بشكل نهائي على مملكتها المستقلة.
يرد الاسم على الشكل التالي:
Ta-mas-qu
نذكر بعدها مباشرة، حسب اعتقاد بعض الباحثين:
a-ta-ru : عدرا
ولكن دون أن ترد أية معلومات أخرى عن وضع هذين الموقعين السياسي أو الاقتصادي، أو غير ذلك. إلا أنه يمكن الاستنتاج أن منطقة دمشق كانت تحت السيطرة المصرية، على الأقل منذ عهد تحوتموس الثالث.
ولو عدنا إلى القرن الثامن عشر قبل الميلاد، وبالتحديد إلى نصوص أرشيف ماري، لوجدنا أن دمشق لا تظهر في تلك النصوص أبداً، بينما تظهر عدرا على شكل a-da-ru، دون أية معلومات أخرى.
وربما يرد ذكر موقع آخر في منطقة دمشق في أحد نصوص اللعن المصرية التي تعود إلى بداية عهد الأسرة الثالثة عشرة (القرن 17 ق.م)، وهو المزة:
Ma-s-a، وأميرها يدعى s-q-r-a(?).
ويتوالى ذكر دمشق ومنطقة دمشق (upi) في وثائق العصور التالية.
ففي عصر العمارنة (القرن 14 ق.م) كانت أجزاء واسعة من سورية أو بلاد الشام خاضعة للسيطرة المصرية، وقسمت إلى ثلاث مقاطعات يحكم كل واحدة منها موظف يُدعى رابيصو، وهي:
1- المقاطعة الجنوبية: وتدعى كنعان ومركزها غزة، وتشمل فلسطين مع حدود شمالية على طول الساحل تصل إلى جُبيل.
2- المقاطعة الثانية أمور، ومركزها صومور (تل الكزل الحالي جنوب طرطوس)، وتشمل مملكة أمور في وسط سورية ومنطقة الساحل حتى أوجاريت.
3- المنطقة الثالثة أوبي upi (منطقة دمشق) ومركزها كوميدي (كامد اللوز في البقاع الجنوبي).
وهناك لوح مسماري عُثر عليه في كامد اللوز يشير إلى المدعو زلايا "ملك دمشق" كتابع للفرعون المصري أمنحوتب الثالث.
وتأتي من عهد هذا الفرعون الإشارة الثانية في النصوص المصرية إلى دمشق، حيث نقشت على قواعد مجموعة من التماثيل التي أقامها أمنحوتب الثالث في معبده الجنائزي في طيبة الغربية أسماء مدن وممالك متعددة كانت لها علاقات مع مصر، من بينها دمشق ti-ms-qu وبصرى Bosruna
باختصار تقدم لنا رسائل العمارنة معلومات قليلة جداً عن دمشق ومنطقتها، لكن من المؤكد أنها كانت تخضع للسيطرة المصرية، ولم تكن مهمة على الصعيد السياسي أو الاقتصادي.
تبدأ دمشق بالظهور كمركز لمملكة آرامية قوية اعتباراً من أواخر الألف الثاني قبل الميلاد عندما ظهرت في سورية مجموعة من الممالك الآرامية المتصارعة فيما بينها، كمملكة آرام صوبا ومملكة حماة وغيرها.
و ظهرت آرام دمشق كقوة قائدة لتحالف الممالك الآرامية السورية في وجه محاولات التوسع الآشوري خلال القرن التاسع قبل الميلاد. وتُعدّ النقوش والكتابات الملكية الآشورية الحديثة المصدر الرئيس عن الدور الهام الذي لعبته آرام دمشق خلال هذه الفترة على صعيد الأحداث الكبرى الخارجية. والإشارة الأولى إليها نجدها في تقرير حملة السنة السادسة لشلمنصّر الثالث من العام 853 ق.م.
فقد سار هذا الملك (858-824ق.م) على خطى والده آشور ناصربال الثاني في توسيع السيطرة الآشورية على المناطق المجاورة لآشور، وبخاصة على سورية، لكسب السيطرة على طريق التجارة التي تربط سورية مع بلاد الرافدين، وللحصول على الأخشاب والمنتجات الأخرى من سورية.
في سنة حكمه السادسة (أي في العام 853 ق.م) خرج شلمنصّر الثالث بجيشه من العاصمة نينوى، وعبر وادي نهر البليخ، ثم سار باتجاه الفرات، فعبر النهر، وتلقى جزية من أمراء المنطقة. ثم قدّم القرابين للاله أدد إله مدينة حلب، كي يضفي على أعماله صفة شرعية. ولكن لم يكن يعني إخضاعه عدة إمارات واقعة بين الفرات والبحر المتوسط إخضاعاً لسورية كلها. فمملكة حماة الآرامية على العاصي ومملكة آرام دمشق أقوى الممالك الآرامية في سورية آنذاك، عرفتا كيف تدافعان عن استقلالهما ضد محاولات التوغل الآشورية في داخل سورية.
قرر شلمنصّر الثالث أن يُخضع مملكة حماة أولاً، كي يتمكن من الوصول إلى وسط سورية، فاحتل ثلاث مدن تابعة لإرخوليني ملك حماة، ونهب القصور في تلك المدن وأحرقها. تابع بعد ذلك زحفه إلى مدينة قرقر الملكية، الواقعة في وادي العاصي إلى الشمال الغربي من مدينة حماة (ربما تل قرقور الحالي). وهناك التقى جيشاً ضخماً لتحالف آرامي كبير ضم أربع عشرة مملكة تمتد من فلسطين في الجنوب حتى كيليكية في الشمال، بقيادة أدد-إدري Adad-idri ملك دمشق وإرخوليني ملك حماة.
إن الاسم أدد-إدري هو الصيغة الأكادية للاسم الآرامي هدد-عِذر (بالعبرية هدد-عيزير). أما دمشق فتظهر هنا باسم جديد هو إميريشو Imerishu، الذي فسر على أنه "مدينة تجّار الحمير" أو "مدينة قوافل الحمير".
وتسمية هدد-عِذر ملك إميريشو هنا تعني البلاد أو المنطقة التي عاصمتها دمشق.
يتحدث شلمنصّر الثالث عن معركة قرقر في إحدى كتاباته فيقول:
" في السنة السادسة من حكمي خرجت من نينوى واقتربت من مدن منطقة البليخ ...... سرت من منطقة البليخ. عبرت الفرات وقت الفيضان. تسلمت جزية من ملك بلاد الحثيين (كركميش). سرت من بلاد الحثيين واقتربت من حلب. قدمت الأضاحي للاله أدد من حلب. خرجت من حلب واقتربت من قرقرا Qarqara هدد-عِذر من دمشق، إرخوليني من بلاد أماتو (حماة) واثنا عشر ملك من شاطئ البحر خرجوا ضدي معتمدين كلٌ على قوة الآخر لخوض المعركة. اشتبكت معهم وأرديت خمسة وعشرين ألفاً من محاربيهم بالسلاح. وسلبتهم عرباتهم الحربية وخيولهم وعتادهم الحربي ومن أجل انقاذ حياتهم ولوا هاربين" .
حسب التقارير الآشورية بلغت قوات الخصم ثلاثة آلاف وتسعمئة عربة حربية وألفاً وتسعمئة من الفرسان وأكثر من اثنين وستين ألف جندي مشاة وألف راكب جمل عربي بقيادة شيخ العرب جُندب.
ويظهر هدد-عِذر ملك دمشق وقد شارك بألف ومائتي عربة وألف ومائتي فارس وعشرين ألفاً من المشاة. بينما شارك إرخوليني ملك حماة بسبعمئة عربة وسبعمئة فارس وعشرة آلاف من الفرسان.
وهذا إن دلّ على شيء فإنما يدل على تمتع مملكة دمشق بالقوة الأكبر بين الممالك الآرامية السورية آنذاك.لم تؤد معركة قرقر إلى نتيجة حاسمة. وعلى الرغم مما يذكره شلمنصّر في حولياته عن خسائر الأعداء الكبيرة، فإن القوة الآرامية لم تضعف، ولم يستطع الآشورين متابعة زحفهم نحو جنوبي سورية. ولم يعد شلمنصّر مرة أخرى إلى سورية إلا بعد انقضاء ثلاث سنوات كاملة على معركة قرقر. ففي العام 849 ق.م (السنة العاشرة من حكم شلمنصّر) تقدم الملك الآشوري باتجاه الجنوب الغربي، لكنه التقى مرة أخرى بتحالف قاده هدد-عِذر وإرخوليني. وللمرة الثانية ادعى أنه هزم هذا التحالف. لكن حولية السنة العاشرة تنتهي بالحديث عن المعركة دون إعطاء أية إشارة عن استمرار الحملة باتجاه جنوبي سورية. وكُتب الوصف المقتضب للمعركة بلغة وصفية: "في ذلك الوقت أدد-إدري من بلاد إميريشو وإرخوليني الحموي معاً مع اثني عشر ملكاً من ساحل البحر بقواتهم المتحدة، هم غامروا بحرب ومعركة ضدي وهاجموني. أنا حاربتهم، وألحقت بهم الهزيمة. العربات وخيول الفرسان ومعدات المعركة استوليت عليها. وللحفاظ على حياتهم لجأوا إلى الاختباء"
وفي العام 848 ق.م فشلت محاولة أخرى للتقدم باتجاه جنوبي سورية على الرغم من أن شلمنصّر الثلث يدّعي أنه قتل عشرة آلاف رجل من الأعداء المتحالفين ووصف المعركة غامض، وليس هناك أي ذكر لاستيلاء على مدن تتبع أعضاء التحالف، أو خضوع لشلمنصّر.
وفي العام 845 ق.م بدا شلمنصّر هجوماً كبيراً على سورية بجيش مؤلف من مئة وعشرين ألف رجل عبر بهم الفرات. وهنا أظهر التحالف الآرامي أيضاً أنه قادر على مواجهته. وتوجب على شلمنصّر الانتظار عدة سنوات أخرى حتى تحين الفرصة المناسبة لإخضاع سورية.
وفي العام 841 ق.م (السنة الثامنة عشرة من حكم شلمنصّر) بدا وكأن تلك الفرصة قد أتت. فملك دمشق هدد-عِذر اغتيل واغتصب العرش المدعو حزائيل. يتحدث سفر الملوك الثاني 8: 7-15 عن ذلك. ويشير شلمنصّر إليه بقوله: " توفي أدد-إدري (أو اغتيل)، حزائيل ابن لا أحد، استولى على العرش" هذا إن دل على شيء فإنما يدل على أن حزائيل لا ينتمي إلى أصل ملكي. سار شلمنصّر بجيوشه نحو دمشق التي وقفت لوحدها هذه المرة في وجه الجيش الآشوري، حيث أن عقد تحالفاتها السابقة ضد الآشوريين كان قد انفرط. فحماة التي كانت تأتي في المرتبة الثانية من حيث الأهمية في التحالف، عقدت سلاماً مع آشور. والنقوش الموجودة لا تذكر حماة، مع أنه من المفترض أن شلمنصّر عبرها للوصول إلى دمشق. كما أن مدن صيدا وصور ومدن أخرى قدمت الجزية لشلمنصّر.
نظم حزائيل قواته للمعركة بالقرب من قلعة في جبل سانيرو kur sa-ni-ru (ربما أحد قمم جبال القلمون أو حرمون)، لكنه هزم فتراجع إلى داخل مدينة دمشق حيث حاصره شلمنصّر. وعلى الرغم من الخسائر الكبيرة تحملت دمشق الحصار بنجاح، فصب الآشوريون جام غضبهم على المناطق المجاورة، وخربوا بساتين الفواكه والنخيل، ووصلوا حتى جبل حوران، ثم اتجهوا غرباً نحو ساحل البحر المتوسط إلى صور.
يصف شلمنصّر ما حدث فيقول:
"في السنة الثامنة عشرة من حكمي عبرت الفرات للمرة السادسة عشرة. حزائيل من دمشق اعتمد على ضخامة قواته وحشد فرقه بكثرة. وجعل سانيرو قمة إحدى الجبال مقابل لبنان حصنه. اشتبكت معه وألحقت به الهزيمة. أرديت بالسلاح ستة عشر ألفاً من محاربيه، وسلبته ألفاً ومئة وإحدى وعشرين (1121) من عرباته الحربية، وأربع مئة وسبعين من خيوله ومعسكره. وهرب لإنقاذ حياته سرت خلفة وحاصرته في دمشق URU di-ma-ash-qi مقره. قطعت بساتينه وأحرقت محاصيله بالنار، وزحفت حتى جبل حوران. خرت مدناً لا تعد ودمرتها وأحرقتها بالنار. وغنمت غنائم لا تحصى......".
و هكذا نجت دمشق من السطوة الآشورية، ولكن كان عليها أن تواجه الآشوريين مرة أخرى بعد ثلاث سنوات (838 ق.م)، عندما عاد شلمنصّر إلى سورية في سنة حكمة الحادية والعشرين، وحاول احتلال دمشق، لكنه فشل هذه المرة أيضاً، فاستولى على بعض المناطق التابعة لها في منطقة (ملاخو ودانابو)، وعاد محملاً بالجزية والغنائم إلى بلاد آشور.
يصف شلمنصّر ذلك فيقول:
" في سنة حكمي الحادية والعشرين عبرت الفرات للمرة الحادية والعشرين، وزحفت على مدن حزائيل من دمشق، وفتحت أربعاً من مدنه. تلقيت جزية الصوريين والصيداويين والجبيليين".
وهناك خاتم اسطواني عُثر عليه في آشور يشير إلى غنيمة أخذت من معبد الإله شيرو sheruفي مدينة ملاخو، مدينة حزائيل الملكية في بلاد إميريشو (دمشق) من المحتمل أن هذه الغنيمة جاءت من حملة السنة الحادية والعشرين.
يتضح مما تقدم أن شلمنصّر الثالث فشل في السيطرة بشكل كامل على جنوبي سورية، على الرغم من قوته الكبيرة وحملاته المتعددة. فقد وقفت دمشق في وجهه وقاومته بشدة. وهذا ما جعله يتجه بأنظاره للتوسع في مناطق أخرى.
بعد توقف الحملات الآشورية على سورية قام حزائيل بتوسيع مناطق نفوذه في سورية في مختلف الاتجاهات، ودام حكمه نحو أربعين عاماً، وربما كانت وفاته في أواخر القرن التاسع قبل الميلاد، وخلفه على العرش ابنه بر هدد الثالث.
انقضى أكثر من ثلاثين عاماً على آخر حملة آشورية ضد دمشق قبل أن يفكر ملوك آشور بإرسال جيوشهم من جديد إلى سورية.
قام أدد-نيراري الثالث بعد اعتلائه العرش (803 ق.م) بتوجيه اهتمامه إلى المقاطعات الغربية التابعة لآشور حيث كان خطر الانفصال قائماً. وانتهز فرصة قيام ثورة في دمشق على ملكها بر هدد الثالث بعد هزيمته على يد ملك حماة، وسار إلى سورية فأخضع أمورو ودمشق، وتلقى جزية ضخمة من ملك يدعى مَريئي، ومن أمراء سوريين وفلسطينيين آخرين. تتحدث إحدى كتاباته عن ذلك فتقول:
"انطلاقاً من الفرات أخضعت لقدمي بلاد الحثيين (كركميش) وكل بلاد أمورو وصور وصيدا وبيت عُمري وإدوم وفلسطيا حتى بحر مغرب الشمس الكبير . فرضت عليهم جزية وضرائب. سرت إلى دمشق. حاصرت مَريئي ملك دمشق في دمشق مقره. وبسبب خوفه من رهبة آشور سيدي خرّ راكعاً عند قدميّ، وأظهر خضوعه لي. استوليت على ألفين وثلاثمئة تالنت فضة، وعشرين تالنت ذهب، وثلاثة آلاف تالنت برونز، وخمسة لآلاف تالنت حديد، وعلى ألبسة من نسيج ملون وكتان، وسرير من العاج، وسرير راحة من العاج المحاط بتزيينات، وتسلمت منه أملاكه وممتلكاته بكميات ضخمة في دمشق مقره في قصره".
غير أن هذا النصر كان خادعاً ونتائجه مؤقتة. ولم يستطع أدد-نيراري العودة مرة أخرى إلى دمشق.
يلفت الانتباه في الكتابة المذكورة ذكر تلك الكميات الكبيرة من المعادن التي استولى عليها الملك الآشوري الكبير. ويمكن القول: إن وجودها في دمشق هو نتيجة للدور التجاري الذي كانت تلعبه المدينة بين المدن الفينيقية الساحلية وبلاد الرافدين، وبين آسية الصغرى وشبه الجزيرة العربية ومصر.
أيضاً هناك شيء آخر يلفت الانتباه في الكتابة السابقة هو اسم الملك مَريئي. هل كان هذا ملكاً جديداً خلف بر هدد الثالث ؟ أم هو لقب أطلق على بر هدد الثالث ؟ على اعتبار أن "مَريئي" كلمة آرامية تعني سيدي، وبالتالي هو لقب كان يُطلق على "ملك دمشق".
عاد الآشوريون مرة أخرى لمهاجمة دمشق في العام 773 ق.م. والإشارة الوحيدة المعروفة عن هجومهم هذا توجد في عبارة في قائمة الموظفين هي: anaURU di-mash-qi إلى دمشق.
وتوجد تفاصيل عن هذه العبارة في نقش على مسلة عُثر عليها في بزرجيك في تركيا، أقيمت في عهد الملك الآشوري شلمنصّر الرابع (781-772ق.م) من قبل قائد الجيش القوي (تورتانو) المدعو شمشي إلو. يشير النقش إلى حملة ضد بلاد إميريشو (آرام دمشق)، وهي الحملة التي يجب أن تكون عبارة قائمة الموظفين قد أشارت إليها في العام 773 ق.م. ويذكر أيضاً الجزية التي أخذها شمشي إلو من ملك دمشق المدعو خَديانو.
يمكن الاستنتاج من هذا النقش أن ملك دمشق قبل أن يدفع جزية إلى آشور مقابل احتفاظه باستقلاله الداخلي على الأقل.
انتهت فترة الضعف التي كانت تمر بها آشور خلال النصف الأول من القرن الثامن قبل الميلاد باعتلاء تيكلات بيليصر الثالث العرش (745-727ق.م). قام هذا بمجموعة من الإصلاحات الإدارية والعسكرية التي وضعت الأساس لعصر قوة جديد في تاريخ الإمبراطورية الآشورية الحديثة دام اكثر من قرن من الزمن. وقادت سياسته القائمة على ضم مناطق مختلفة إلى الإمبراطورية الآشورية ووضع حكام آشور عليها، والتهجير الجماعي لسكان المناطق الثائرة، قادت إلى القضاء على العديد من الممالك، ومنها مملكة آرام دمشق، التي قضى عليها في العام 732 ق.م.
كرّس تيكلات بيليصر حملته الثالثة (743 ق.م) للقضاء على المقاومة في سورية. كان متيع إل حاكم مملكة أرباد Arpad الآرامية (حالياً تل رفعت شمال حلب) قد استغل ضعف الملك آشور نيراري الخامس فنقض العهد المبرم مع الإمبراطورية الآشورية، وشكل تحالفاً مع الممالك السورية الأخرى التي كانت تأمل مساعدة ساردور الثالث ملك أورارتو. وهذا التحالف معروف من نص آرامي نقش على نصب عُثر على كسراته في السفيرة بالقرب من حلب. يذكر النص أن آرام العليا وآرام السفلى وكل آرام قد اتحدت. وانضمت إلى هذا الاتحاد ممالك أخرى تقع على الفرات الأعلى في جبال طوروس.
خرج تيكلات بيليصر الثالث على رأس جيش قوي ضد أرباد التي كانت بمثابة القوة المحركة للتحالف. ولكن لم يكد يصل الفرات حتى ظهر له ملك أورارتو ساردور الثالث الذي كان يطمح إلى طرد الآشوريين من شمالي سورية وفرض سلطته هناك. جرت معركة بين الطرفين على ضفتي الفرات شمال كركميش بالقرب من بيرجيك. ونتج عنها هزيمة ملك أورارتو وانسحابه إلى بلاده. ولم يلاحقه تيكلات بيليصر الثالث، بل تابع زحفه نحو أرباد التي حاصرها نحو سنتين (742-740 ق.م). وعندما سقطت ترك ذلك صدىً في كل أنحاء سورية. فجاء ملوك ممالك متعددة من بينهم ملك كركميش ودمشق وصور، يقدمون الطاعة والجزية للملك المنتصر. كان ملك دمشق يدعى رضيان (رصين في العهد القديم) الذي يبدو أنه لم يكن ينتمي إلى البيت الملكي في دمشق، بل كان مغتصباً للعرش، حيث توجد إشارة إلى ذلك في حوليات تيكلات بيليصر، إذ يقول: "مدينة خادارا Chadara موطن رضيان ملك آرام دمشق (إيميريشو) حيث وُلد، حاصرت وفتحت".
لكن للأسف هذه المدينة غير معروفة، كما أن تاريخ وصول رضيان إلى العرش غير معروف.
قام تيكلات بيليصر في الفترة بين (737-735ق.م) بحملات على المناطق الواقعة إلى الشمال والشرق من آشور. وهذا ما أتاح الفرصة لقيام تحالفات معادية للآشوريين في سورية. فدمشق والسامرة وعسقلان وغزة رفضت دفع الجزية. وتمردت صور وصيدا بسبب العوائق التي فرضها الآشوريون على تصدير الأخشاب إلى مصر. والأسوأ من ذلك تشكل تحالف معاد للآشوريين شمل كل ممالك فلسطين وشرقي الأردن، نظمه حكام عسقلان وغزة.
سار تيكلات بيليصر في العام 734 ق.م على رأس جيش أخضع مدن الساحل الفينيقي، وقسّمها إلى ست مقاطعات عسكرية. ثم توغل أبعد من ذلك إلى الجنوب وهاجم عسقلان وغزة، فقتل أمير عسقلان، وهرب حانو ملك غزة إلى مصر، ونُهبت مدينته. ودفعت ممالك أرواد وعمون وإدوم ومؤاب ويهودا وشمسي ملكة بلاد العرب الجزية.
بعد ذلك بسنتين (732 ق.م) استنجد آحاز يهوذا بتكلات بيليصر بسبب مضايقات بعض جيرانه له كرضيان ملك دمشق. فهاجم الملك الآشوري دمشق واحتلها بعد حصار قصير لها، فقد خلاله ملكها حياته، وهجّر ثمانمئة من سكانها، وحوّلها إلى مقاطعات آشورية.
تصف حوليات تيكلات بيليصر سقوط دمشق بشكل متقطع، ويشير إلى ذلك سِفر الملوك الثاني (16 : 7-11) من العهد القديم أيضاً.
نقرأ في الحوليات مايلي:
" مدينة خادارا موطن رضيان ملك آرام دمشق إيميريشو)، حيث وُلد، حاصرت وفتحت. ثمانمئة من السكان مع ممتلكاتهم........ ثيرانهم وأغنامهم سلبت. سبعمئة وخمسون أسيراً من كوروصّا.......إرمايا،خمسمئة وخمسين أسيراً من ميتونا أخذت.591 مدينة..... من الست عشرة منطقة من آرام دمشق دمرت أنا كربوة طوفان.......". .
ويبدو أن المعركة من أجل الاستيلاء على دمشق لم تكن سهلة، بدليل أن أحد النقوش الآرامية، وهو نقش بر راكب ملك ياؤودي/شمأل (في منطقة الأمانوس) يتحدث عن تنصيب هذا الملك على عرش مملكة شمأل من قبل تيكلات بيليصر الثالث مكان أبيه بنامووا Panamowa II الثاني الذي كان تابعاً للملك الآشوري ووفياً له. وقد رافقه في عدة حملات، وسقط صريعاً في الحملة على دمشق.
وحسب النص السطر (17) بكاه الجيش الآشوري بكامله، وأقام له الملك الآشوري (السطر18) نصباً على الطريق، ونقل جثمانه من دمشق إلى آشور.
يعدّ استيلاء تيكلات بيليصر الثالث على دمشق في العام 732 ق.م نهاية مملكة آرام دمشق المستقلة التي قُسّمت إلى مقاطعات آشورية، منها دمشق وحوران وصوبا وقرنايم ومنصواتي. ووضع على كل مقاطعة حاكم آشوري. وبذلك فقدت دمشق أهميتها السياسية والعسكرية. ففي التحالف السوري الذي تشكل في العام 720 ق.م ضد شاروكين الثاني تظهر دمشق كمشارك صغير فقط.
غير أنها لم تفقد أهميتها التجارية، وبخاصة كمحطة على طرق التجارة الواصلة بين سواحل البحر المتوسط الشرقية ومدن بلاد الرافدين، وبين مصر وشبه الجزيرة العربية وبلاد الأناضول. فسِفر حزقيال 18 : 27 يذكر أن دمشق كانت تتاجر بكثرة مع صور
نلخص مما تقدم أن دمشق عاشت عصر قوة وازدهار خلال القرنين التاسع والثامن قبل الميلاد عندما كانت عاصمة لمملكة آرامية مستقلة هي آرام دمشق التي أفشلت محاولات الآشوريين للسيطرة على سورية بكاملها آنذاك. لذلك حاول الملوك الآشوريون المتعاقبون خلال تلك الفترة كسر شوكة مقاومة دمشق من خلال القيام بالعديد من الحملات التي أسفرت آخرها في العام 732 ق.م عن احتلال دمشق والقضاء بشكل نهائي على مملكتها المستقلة.
ملحق (1) ملوك آرام دمشق المعروفين خلال هذه الفترة
هدد عِذر نحو 842 ق.م
حزائيل نحو 841 نحو 800 ق.م
بر هدد الثالث بداية القرن الثامن قبل الميلاد
خَديانو الربع الثاني من القرن الثامن قبل الميلاد
رضيان من حوالي منتصف القرن الثامن – 732 ق.م
ملحق (2) ملوك آشور الذين تعاملوا مع دمشق
شلمنصّر الثالث 858 – 824 ق.م
أدد-نيراري الثالث 804 – 781 ق.م
تيكلات بيليصر الثالث 745 – 727 ق.م
شاروكين الثاني 722 – 705 ق.م
Comment