الفصل الأول:
لماذا نحتاج النظرية الماركسية؟
فيم نحتاج النظرية؟ نحن نعلم ان هناك ازمة، ونحن نعلم ان اصحاب العمل ينهبوننا، واننا كلناغاضبون، وأننا في حاجة للاشتراكية..أما ماعدا ذلك فلندعه للمثقفين.
كثيرا ما تسمع كلمات كهذه من مناضلين اشتراكيين ونقابيين.
ويتم دعم وتشجيع مثل هذه الآراء بكل قوة من جانب أعداء الاشتراكية، الذين يحاولون إعطاء الانطباع بأن الماركسية هي تعاليم غامضة ومعقدة ومملة. إنهم يقولون إن الأفكار الاشتراكية "مجردة".
وقد تبدو هذه الأفكار جيدة نظريا، أما على أرض الواقع فإن الحس السليم يخبرنا بشيء مختلف كليا.
تكمن مشكلة هذه الأطروحات في أن أصحابها عادة ما تكون لهم " نظرية" فعلا، وإن كانوا يرفضون الاعتراف بذلك.
اسألهم أي سؤال عن المجتمع، وستجدهم يحاولون الإجابة بتعميم أو بآخر. وإليك بعض الأمثلة:
" الناس أنانيون بطبعهم"، "لولا الأغنياء لما كانت هناك نقود لتوفير العمل للباقين"، " لو أننا فقط استطعنا تعليم العمال، سيتغير المجتمع"، " تدهور الأخلاق هو الذي أوصل البلاد لما هي عليه اليوم".
أنصت لما يقال في الشارع والأتوبيس والمطعم، وستسمع العشرات من هذه الأقوال، التي يتضمن كل منها رأيا حول أسباب الحالة الراهنة للمجتمع وكيفية تحسين الناس لظروفهم. إن مثل هذه الآراء هي كلها " نظريات" حول المجتمع.
عندما يقول الناس انهم ليس لديهم نظرية، فإن ما يعنونه حقيقة هو أن آرائهم ليست واضحة.
إن ذلك خطير بشكل خاص بالنسبة لمن يحاول تغيير المجتمع. فالجرائد والراديو والتليفزيون تحاول جميعها ملء عقولنا باستمرار بتفسيرات لحالة المجتمع المضطربة.
وهم يأملون أن نقبل بما يقولونه دون أن نفكر أكثر حول القضايا نفسها.
إلا أنك لا تستطيع أن تحارربب بفعالية لتغيير المجتمع ما لم تتعرف على ما هو خاطيء في تلك الأطروحات المختلفة.
ظهر ذلك لأول مرة قبل 170 سنة. ففي ثلاثينات وأربعينات القرن التاسع عشر، أدى نشوء الصناعة في مناطق مثل شمال غرب انجلترا إلى دفع مئات الآلاف من الرجال والنساء والأطفال للعمل مقابل أجور بخسة.
وكان عليهم تحمل ظروف معيشية بائسة بشكل يستعصي على التصديق.
وبدأ هؤلاء النضال ضد تلك الأوضاع مع ظهور أول منظمات عمالية جماهيرية ـ أول نقابات ـ والتي كانت مثلا فير بريطانيا مهد الثورة الصناعية الحركة الشارتية (أول حركة من أجل الحقوق السياسية للعمال).
وسرعان ما ظهرت مشكلة كيفية تحقيق الحركة العمالية لأهدافها.
قال بعض الناس إنه من الممكن إقناع حكام المجتمع بالتغيير من خلال الوسائل السلمية.
فمن شأن " القوة المعنوية" لحركة سلمية جماهيرية أن تكفل إعطاء مكاسب للعمال.
وقد قام مئات الآلاف من الناس بتنظيم أنفسهم والتظاهر والعمل من أجل بناء حركة على أساس تلك الآراء ـ لكي يواجهوا في النهاية الهزيمة والإحباط.
أدرك البعض الآخر الحاجة لاستخدام " القوة المادية"، إلا أنهم اعتقدوا بإمكانية تحقيق ذلك بواسطة مجموعات متآمرة صغيرة منفصلة عن بقية المجتمع. قاد هؤلاء أيضا عشرات الآلاف من العمال نحو صراعات انتهت أيضا بالهزيمة والإحباط.
كما اعتقد آخرون أن بإمكان العمال تحقيق أهدافهم عن طريق الفعل الاقتصادي، دون مواجهة الجيش والشرطة. ومرة أخرى أدت أفكارهم لنضالات جماهيرية. شهدت انجلترا في 1842 أول إضراب عام في العالم، وقد وقع في المناطق الصناعية في الشمال، حيث ثابر عشرا الآلاف من العمال على الإضراب لأربعة أسابيع إلى أن أجبرهم الجوع والحرمان على العودة للعمل.
وبقرب نهاية المرحلة الأولى من النضالات العمالية المهزومة أقدم الاشتراكي الألماني كارل ماركس على طرح أفكاره مكتملة في كتيبه " البيان الشيوعي".
لم تأت أفكاره من الهواء، بل حاولت توفير أساس للتعامل مع كافة الأسئلة التي أثارتها الحركة العمالية في ذلك الوقت.
إن الأفكار التي طرحها ماركس لا تزال صالحة اليوم. ومن الحماقة القول، كما يفعل بعض الناس، بان هذه الأفكار قد عفا عليها الزمن لأن ماركس كتبها قبل 150 عاما. فالواقع أن كافة الأفكار التي جادلها ماركس حول المجتمع ما تزال واسعة الانتشار للغاية. ومثلما تجادل الشارتيون حول القوة المعنوية أو القوة المادية، يتجادل الاشتراكيون اليوم حول " الطريق البرلماني" أو " الطريق الثوري". وداخل صفوف الثوريين لا يزال الجدال محتدما حول " الإرهاب" تأييدا أو رفضا، بنفس حيويته سنة 1848.
المثاليون لم يكن ماركس أول من حاول وصف مشكلات المجتمع. ففي الوقت الذي كان يكتب فيه، كانت الاختراعات الجديدة في المصانع تخلق ثروة على نطاق لم يكن بوسع الأجيال السابقة أن تحلم به. ولأول مرة بدا أن الإنسانية لديها وسائل الدفاع عن نفسها ضد الكوارث الطبيعية التي كانت جلاد العصور السابقة.
ومع ذلك فإن هذا لم يعن أي تحسن في حياة غالبية الناس.
بل على العكس تماما كانت حياة الرجال والنساء والأطفال الذين عملوا في المصانع الجديدة أسوأ كثيرا من حياة أجدادهم الذين كانوا يكدحون في الأرض. فأجورهم كانت بالكاد تبقيهم فوق حد الكفاف، في حين كانت موجات البطالة الواسعة تدفع بهم تحت هذا الحد كثيرا.
وكانوا يحشرون في أحياء بائسة وقذرة تفتقد للشروط الصحية السليمة، حيث يتعرضون لأوبئة بشعة.وبدلا من أن يؤدي تطور الحضارة إلى السعادة والرفاهية العامة، فإنه كان يخلق بؤسا أكبر.
لم يلحظ ذلك ماركس فقط وإنما أيضا بعض المفكرين العظام الآخرين في تلك الفترة ـ رجال مثل الشاعرين الإنجليزيين بليك وشيلي، والفرنسيين فورييه وبرودون، والفيلسوفين الألمانيين هيجل وفيورباخ.
أطلق هيجل وفيورباخ وصف " الاغتراب" على الحالة البائسة التي وجدت الإنسانية نفسها فيها ـ وهي كلمة لا نزال نسمعها كثيرا. كان ما عناه هيجل وفيورباخ بالاغتراب هو أن الرجال والنساء يجدون أنفسهم باستمرار تحت سيطرة وقهر قوي صنعوها بأنفسهم. وكلما تقدم المجتمع، كلما زاد الناس بؤسا و"اغترابا".
أخذ ماركس في كتاباته المبكرة فكرة الاغتراب هذه وطبقها على حياة أولئك الذين يخلقون ثروة المجتمع. "يزداد العامل فقرا مع زيادة الثروة التي ينتجها، وزيادة إنتاجه قوة وتنوعا..ومع زيادة قيمة عالم الأشياء تنخفض بشكل طردي قيمة عالم البشر…
فالشيء الذي ينتجه العمل يواجهه كشيء مغترب، كقوة مستقلة عن المنتج.."
في زمن ماركس كان الفهم الأوسع انتشارا لمشكلة المجتمع لا يزال دينيا. كان يقال إن البؤس يعود إلى عجز الناس عن اتباع تعاليم الله. ولو أننا جميعا " نبذنا الخطيئة" فإن كل شيء سيصبح على ما يرام.
كثيرا ما نسمع رأيا مماثلا هذه الأيام، وإن كان عادة لا يتخذ شكلا دينيا.
ويتمثل ذلك في الزعم بأنك " لكي تغير المجتمع، عليك أولا أن تغير نفسك". إذا ما طهر الرجال والنساء الأفراد أنفسهم من " الأنانية" أو " المادية" ( أو أحيانا السلبية واللا مبالاة) فإن المجتمع سيصبح أفضل على الفور.
أحد الآراء القريبة من هذا تحدث لا عن تغيير كل الأفراد، وإنما فقط البعض منهم ـ أولئك الذين يمارسون السلطة في المجتمع. كانت الفكرة هي جعل الأغنياء والأقوياء " يرون حكم العقل".
بدأ أحد هؤلاء الاشتراكيين البريطانيين، روبرت أوين، بمحاولة إقناع رجال الصناعة ( أصحاب المصانع) بأن يكونوا أكثر عطفا على عمالهم.
لا تزال نفس الفكرة مسيطرة اليوم داخل صفوف قيادات الأحزاب الإصلاحية مثل حزب العمال البريطاني ـ بما في ذلك جناحه اليساري.
لا حظ كيف أنهم دائما ما يصفون جرائم أصحاب العمل بأنها " أخطاء"، كما لو أن بعض الحجج يمكن أن تقنع كبار رجال الأعمال بتخفيف قبضتهم على المجتمع.
وصف ماركس كافة تلك الآراء بأنها " مثالية".
ولم يكن ذلك لأنه ضد أن يكون للناس " مثل" أو أفكار، وإنما لأن تلك الآراء ترى الأفكار بمعزل عن الشروط التي يعيش في ظلها الناس.
ترتبط أفكار الناس بصلة وثيقة بنوع الحياة التي يعيشونها. خذ مثلا " الأنانية". إن المجتمع القائم اليوم يولد الأنانية ـ حتى بين الناس الذين يحاولون على الدوام أن يقدموا غيرهم من الناس على أنفسهم. فالعامل الذي يريد أن يقدم أفضل ما عنده من أجل أولاده، أو لكي يوفر لوالديه شيء إلى جانب معاشهم، يجد أن السبيل الوحيد أمامه هو الصراع دوما ضد الآخرين ـ من أجل وظيفة أفضل، أو مزيد من الأجر الإضافي، أو لكي يتقدم صفوف الحصول على إعانات البطالة. في مجتمع كهذا، لا يمكن التخلص من " الأنانية" أو " الجشع" بمجرد تغيير عقول الأفراد.
ولعله أكثر حمقا الحديث عن تغيير المجتمع عن طريق تغيير أفكار " أناس القمة". لنفرض أنك نجحت في كسب صاحب عمل كبير للأفكار الاشتراكية وأنه توقف عن استغلال العمال.
كل ما هنالك أنه سيخسر في المنافسة مع أصحاب العمل الآخرين، وسيدفع به ذلك خارج السوق. وحتى بالنسبة لمن يحكمون المجتمع، فإن المهم ليس هو الأفكار، وإنما بنية المجتمع التي يتبنون داخلها هذه الأفكار.
يمكن طرح هذه النقطة بطريقة أخرى.
وإذا كانت الأفكار هي التي تغير المجتمع، فمن أين تأتي الأفكار؟
إننا نحيا في مجتمع من نوع محدد. والأفكار المطروحة في الصحافة والتليفزيون ونظام التعليم تدافع عن هذا النوع من المجتمع.
فكيف إذن يكون بوسع الأفراد أن يطوروا أفكارا مختلفة تماما؟
لأن خبراتهم اليومية تناقض الأفكار الرسمية للمجتمع.
وعلى سبيل المثال، أنت لا تستطيع أن تفسر أسباب الانخفاض الكبير في أعداد المتدينين اليوم بالمقارنة بما كان عليه قبل مائة عام بمجرد نجاح الدعاية الإلحادية. فعليك أن تفسر لماذا ينصت الناس للأفكار الإلحادية بشكل لم يفعلوه قبل مائة عام.
وبالمثل إذا أردت أن تفهم تأثير " الرجال العظام"، فعليك أن تفسر لماذا يقبل الآخرون اتباعهم. ومن غير المجدي مثلا القول بان نابليون أو لينين غيروا التاريخ، دون أن نفهم لماذا كان ملايين الناس راغبين في القيام بما اقترحاه. فهما في النهاية لم ينوموا الناس مغناطيسيا. إن شيئا في حياة المجتمع في وقت معين دفع الناس للشعور بان ما اقترحاه بدا صحيحا.
تستطيع فقط أن تفهم كيف تغير الأفكار المجتمع إذا ما فهمت من أين تأتي هذه الأفكار ولماذا يقبلها الناس.
ويعني ذلك النظر لأبعد من الأفكار إلى الظروف المادية للمجتمع الذي تنشأ الأفكار داخله. ولهذا أصر ماركس على مقولته:"
ليس الوعي هو الذي يحدد الوجود الاجتماعي، وإنما الوجود الاجتماعي هو الذي يحدد الوعي".
لماذا نحتاج النظرية الماركسية؟
فيم نحتاج النظرية؟ نحن نعلم ان هناك ازمة، ونحن نعلم ان اصحاب العمل ينهبوننا، واننا كلناغاضبون، وأننا في حاجة للاشتراكية..أما ماعدا ذلك فلندعه للمثقفين.
كثيرا ما تسمع كلمات كهذه من مناضلين اشتراكيين ونقابيين.
ويتم دعم وتشجيع مثل هذه الآراء بكل قوة من جانب أعداء الاشتراكية، الذين يحاولون إعطاء الانطباع بأن الماركسية هي تعاليم غامضة ومعقدة ومملة. إنهم يقولون إن الأفكار الاشتراكية "مجردة".
وقد تبدو هذه الأفكار جيدة نظريا، أما على أرض الواقع فإن الحس السليم يخبرنا بشيء مختلف كليا.
تكمن مشكلة هذه الأطروحات في أن أصحابها عادة ما تكون لهم " نظرية" فعلا، وإن كانوا يرفضون الاعتراف بذلك.
اسألهم أي سؤال عن المجتمع، وستجدهم يحاولون الإجابة بتعميم أو بآخر. وإليك بعض الأمثلة:
" الناس أنانيون بطبعهم"، "لولا الأغنياء لما كانت هناك نقود لتوفير العمل للباقين"، " لو أننا فقط استطعنا تعليم العمال، سيتغير المجتمع"، " تدهور الأخلاق هو الذي أوصل البلاد لما هي عليه اليوم".
أنصت لما يقال في الشارع والأتوبيس والمطعم، وستسمع العشرات من هذه الأقوال، التي يتضمن كل منها رأيا حول أسباب الحالة الراهنة للمجتمع وكيفية تحسين الناس لظروفهم. إن مثل هذه الآراء هي كلها " نظريات" حول المجتمع.
عندما يقول الناس انهم ليس لديهم نظرية، فإن ما يعنونه حقيقة هو أن آرائهم ليست واضحة.
إن ذلك خطير بشكل خاص بالنسبة لمن يحاول تغيير المجتمع. فالجرائد والراديو والتليفزيون تحاول جميعها ملء عقولنا باستمرار بتفسيرات لحالة المجتمع المضطربة.
وهم يأملون أن نقبل بما يقولونه دون أن نفكر أكثر حول القضايا نفسها.
إلا أنك لا تستطيع أن تحارربب بفعالية لتغيير المجتمع ما لم تتعرف على ما هو خاطيء في تلك الأطروحات المختلفة.
ظهر ذلك لأول مرة قبل 170 سنة. ففي ثلاثينات وأربعينات القرن التاسع عشر، أدى نشوء الصناعة في مناطق مثل شمال غرب انجلترا إلى دفع مئات الآلاف من الرجال والنساء والأطفال للعمل مقابل أجور بخسة.
وكان عليهم تحمل ظروف معيشية بائسة بشكل يستعصي على التصديق.
وبدأ هؤلاء النضال ضد تلك الأوضاع مع ظهور أول منظمات عمالية جماهيرية ـ أول نقابات ـ والتي كانت مثلا فير بريطانيا مهد الثورة الصناعية الحركة الشارتية (أول حركة من أجل الحقوق السياسية للعمال).
وسرعان ما ظهرت مشكلة كيفية تحقيق الحركة العمالية لأهدافها.
قال بعض الناس إنه من الممكن إقناع حكام المجتمع بالتغيير من خلال الوسائل السلمية.
فمن شأن " القوة المعنوية" لحركة سلمية جماهيرية أن تكفل إعطاء مكاسب للعمال.
وقد قام مئات الآلاف من الناس بتنظيم أنفسهم والتظاهر والعمل من أجل بناء حركة على أساس تلك الآراء ـ لكي يواجهوا في النهاية الهزيمة والإحباط.
أدرك البعض الآخر الحاجة لاستخدام " القوة المادية"، إلا أنهم اعتقدوا بإمكانية تحقيق ذلك بواسطة مجموعات متآمرة صغيرة منفصلة عن بقية المجتمع. قاد هؤلاء أيضا عشرات الآلاف من العمال نحو صراعات انتهت أيضا بالهزيمة والإحباط.
كما اعتقد آخرون أن بإمكان العمال تحقيق أهدافهم عن طريق الفعل الاقتصادي، دون مواجهة الجيش والشرطة. ومرة أخرى أدت أفكارهم لنضالات جماهيرية. شهدت انجلترا في 1842 أول إضراب عام في العالم، وقد وقع في المناطق الصناعية في الشمال، حيث ثابر عشرا الآلاف من العمال على الإضراب لأربعة أسابيع إلى أن أجبرهم الجوع والحرمان على العودة للعمل.
وبقرب نهاية المرحلة الأولى من النضالات العمالية المهزومة أقدم الاشتراكي الألماني كارل ماركس على طرح أفكاره مكتملة في كتيبه " البيان الشيوعي".
لم تأت أفكاره من الهواء، بل حاولت توفير أساس للتعامل مع كافة الأسئلة التي أثارتها الحركة العمالية في ذلك الوقت.
إن الأفكار التي طرحها ماركس لا تزال صالحة اليوم. ومن الحماقة القول، كما يفعل بعض الناس، بان هذه الأفكار قد عفا عليها الزمن لأن ماركس كتبها قبل 150 عاما. فالواقع أن كافة الأفكار التي جادلها ماركس حول المجتمع ما تزال واسعة الانتشار للغاية. ومثلما تجادل الشارتيون حول القوة المعنوية أو القوة المادية، يتجادل الاشتراكيون اليوم حول " الطريق البرلماني" أو " الطريق الثوري". وداخل صفوف الثوريين لا يزال الجدال محتدما حول " الإرهاب" تأييدا أو رفضا، بنفس حيويته سنة 1848.
المثاليون لم يكن ماركس أول من حاول وصف مشكلات المجتمع. ففي الوقت الذي كان يكتب فيه، كانت الاختراعات الجديدة في المصانع تخلق ثروة على نطاق لم يكن بوسع الأجيال السابقة أن تحلم به. ولأول مرة بدا أن الإنسانية لديها وسائل الدفاع عن نفسها ضد الكوارث الطبيعية التي كانت جلاد العصور السابقة.
ومع ذلك فإن هذا لم يعن أي تحسن في حياة غالبية الناس.
بل على العكس تماما كانت حياة الرجال والنساء والأطفال الذين عملوا في المصانع الجديدة أسوأ كثيرا من حياة أجدادهم الذين كانوا يكدحون في الأرض. فأجورهم كانت بالكاد تبقيهم فوق حد الكفاف، في حين كانت موجات البطالة الواسعة تدفع بهم تحت هذا الحد كثيرا.
وكانوا يحشرون في أحياء بائسة وقذرة تفتقد للشروط الصحية السليمة، حيث يتعرضون لأوبئة بشعة.وبدلا من أن يؤدي تطور الحضارة إلى السعادة والرفاهية العامة، فإنه كان يخلق بؤسا أكبر.
لم يلحظ ذلك ماركس فقط وإنما أيضا بعض المفكرين العظام الآخرين في تلك الفترة ـ رجال مثل الشاعرين الإنجليزيين بليك وشيلي، والفرنسيين فورييه وبرودون، والفيلسوفين الألمانيين هيجل وفيورباخ.
أطلق هيجل وفيورباخ وصف " الاغتراب" على الحالة البائسة التي وجدت الإنسانية نفسها فيها ـ وهي كلمة لا نزال نسمعها كثيرا. كان ما عناه هيجل وفيورباخ بالاغتراب هو أن الرجال والنساء يجدون أنفسهم باستمرار تحت سيطرة وقهر قوي صنعوها بأنفسهم. وكلما تقدم المجتمع، كلما زاد الناس بؤسا و"اغترابا".
أخذ ماركس في كتاباته المبكرة فكرة الاغتراب هذه وطبقها على حياة أولئك الذين يخلقون ثروة المجتمع. "يزداد العامل فقرا مع زيادة الثروة التي ينتجها، وزيادة إنتاجه قوة وتنوعا..ومع زيادة قيمة عالم الأشياء تنخفض بشكل طردي قيمة عالم البشر…
فالشيء الذي ينتجه العمل يواجهه كشيء مغترب، كقوة مستقلة عن المنتج.."
في زمن ماركس كان الفهم الأوسع انتشارا لمشكلة المجتمع لا يزال دينيا. كان يقال إن البؤس يعود إلى عجز الناس عن اتباع تعاليم الله. ولو أننا جميعا " نبذنا الخطيئة" فإن كل شيء سيصبح على ما يرام.
كثيرا ما نسمع رأيا مماثلا هذه الأيام، وإن كان عادة لا يتخذ شكلا دينيا.
ويتمثل ذلك في الزعم بأنك " لكي تغير المجتمع، عليك أولا أن تغير نفسك". إذا ما طهر الرجال والنساء الأفراد أنفسهم من " الأنانية" أو " المادية" ( أو أحيانا السلبية واللا مبالاة) فإن المجتمع سيصبح أفضل على الفور.
أحد الآراء القريبة من هذا تحدث لا عن تغيير كل الأفراد، وإنما فقط البعض منهم ـ أولئك الذين يمارسون السلطة في المجتمع. كانت الفكرة هي جعل الأغنياء والأقوياء " يرون حكم العقل".
بدأ أحد هؤلاء الاشتراكيين البريطانيين، روبرت أوين، بمحاولة إقناع رجال الصناعة ( أصحاب المصانع) بأن يكونوا أكثر عطفا على عمالهم.
لا تزال نفس الفكرة مسيطرة اليوم داخل صفوف قيادات الأحزاب الإصلاحية مثل حزب العمال البريطاني ـ بما في ذلك جناحه اليساري.
لا حظ كيف أنهم دائما ما يصفون جرائم أصحاب العمل بأنها " أخطاء"، كما لو أن بعض الحجج يمكن أن تقنع كبار رجال الأعمال بتخفيف قبضتهم على المجتمع.
وصف ماركس كافة تلك الآراء بأنها " مثالية".
ولم يكن ذلك لأنه ضد أن يكون للناس " مثل" أو أفكار، وإنما لأن تلك الآراء ترى الأفكار بمعزل عن الشروط التي يعيش في ظلها الناس.
ترتبط أفكار الناس بصلة وثيقة بنوع الحياة التي يعيشونها. خذ مثلا " الأنانية". إن المجتمع القائم اليوم يولد الأنانية ـ حتى بين الناس الذين يحاولون على الدوام أن يقدموا غيرهم من الناس على أنفسهم. فالعامل الذي يريد أن يقدم أفضل ما عنده من أجل أولاده، أو لكي يوفر لوالديه شيء إلى جانب معاشهم، يجد أن السبيل الوحيد أمامه هو الصراع دوما ضد الآخرين ـ من أجل وظيفة أفضل، أو مزيد من الأجر الإضافي، أو لكي يتقدم صفوف الحصول على إعانات البطالة. في مجتمع كهذا، لا يمكن التخلص من " الأنانية" أو " الجشع" بمجرد تغيير عقول الأفراد.
ولعله أكثر حمقا الحديث عن تغيير المجتمع عن طريق تغيير أفكار " أناس القمة". لنفرض أنك نجحت في كسب صاحب عمل كبير للأفكار الاشتراكية وأنه توقف عن استغلال العمال.
كل ما هنالك أنه سيخسر في المنافسة مع أصحاب العمل الآخرين، وسيدفع به ذلك خارج السوق. وحتى بالنسبة لمن يحكمون المجتمع، فإن المهم ليس هو الأفكار، وإنما بنية المجتمع التي يتبنون داخلها هذه الأفكار.
يمكن طرح هذه النقطة بطريقة أخرى.
وإذا كانت الأفكار هي التي تغير المجتمع، فمن أين تأتي الأفكار؟
إننا نحيا في مجتمع من نوع محدد. والأفكار المطروحة في الصحافة والتليفزيون ونظام التعليم تدافع عن هذا النوع من المجتمع.
فكيف إذن يكون بوسع الأفراد أن يطوروا أفكارا مختلفة تماما؟
لأن خبراتهم اليومية تناقض الأفكار الرسمية للمجتمع.
وعلى سبيل المثال، أنت لا تستطيع أن تفسر أسباب الانخفاض الكبير في أعداد المتدينين اليوم بالمقارنة بما كان عليه قبل مائة عام بمجرد نجاح الدعاية الإلحادية. فعليك أن تفسر لماذا ينصت الناس للأفكار الإلحادية بشكل لم يفعلوه قبل مائة عام.
وبالمثل إذا أردت أن تفهم تأثير " الرجال العظام"، فعليك أن تفسر لماذا يقبل الآخرون اتباعهم. ومن غير المجدي مثلا القول بان نابليون أو لينين غيروا التاريخ، دون أن نفهم لماذا كان ملايين الناس راغبين في القيام بما اقترحاه. فهما في النهاية لم ينوموا الناس مغناطيسيا. إن شيئا في حياة المجتمع في وقت معين دفع الناس للشعور بان ما اقترحاه بدا صحيحا.
تستطيع فقط أن تفهم كيف تغير الأفكار المجتمع إذا ما فهمت من أين تأتي هذه الأفكار ولماذا يقبلها الناس.
ويعني ذلك النظر لأبعد من الأفكار إلى الظروف المادية للمجتمع الذي تنشأ الأفكار داخله. ولهذا أصر ماركس على مقولته:"
ليس الوعي هو الذي يحدد الوجود الاجتماعي، وإنما الوجود الاجتماعي هو الذي يحدد الوعي".
Comment