من مجموعة قصصية لانيسة عبود
عطوني رأيكون
----------------------------------------------------------------
فجأة تذبل الشمس
عطوني رأيكون
----------------------------------------------------------------
فجأة تذبل الشمس
إسمع..
هذا اليوم لن أحمل لك سندويشة الجبن.
أتسمع؟
لماذا عليّ أن أحمل لك كل يوم سندويشة ساخنة؟ أخبئها بين كتبي وأخفيها عن عيون أمي؟
صحيح أني كبرت، وصرت في الجامعة، لكن -وحياتك يا علي- أنا أخاف أمي. بل أحترم كلامها ونظراتها. يوم رأتني أول مرة أدرج لك سندويشة قالت: لمن الثانية؟ سكتُ. لم أجرؤ أن أقول اسمك. وعندما كررت السؤال، ارتبكتُ دون أن أعرف السبب. لم أستطع القول بأني أحبك. لأن هذا لم يكن وارداً فعلاً. وقد لا تروقني أنت كشاب. أنت لم تشعل في روحي الحرائق. ولم ترم في القلب كي تكسر السطح الرائق للمشاعر. لكن لأعترف: كنت بحاجة إليك. إلى وجودك معي. نتمشى في رواقات الجامعة. نتشاجر، نتحاور، وعندما يأتي المساء نفترق.
أمي قالت: بالتأكيد السندويشة الثانية لزميلتك لأني أعرفك. لا يمكن أن تأكلي سندويشتين. لم أرفع عيني إلى وجهها. وحين قالت: طيب. "سلّمي على صديقتك" ابتسمتُ. إذن أنت صديقتي، صديقتي زينب، أو خولة، أو.. لكن أقسم: إنك الأغلى. لا تزعل يا علي. هناك أشياء كثيرة تشدّني إليك لا أعرف ما هي، لكن الآن... الآن!! أجزم أنها ليست الحب من أول نظرة.
أمي تسلّم عليك، وبيتنا يسلّمُ عليك، والسندويشة التي لم أحملها لك اليوم تسلّم عليك.
آ.. علي: لماذا لا تحمل أنت سندويشة لي؟ غداً، أو بعد غدٍ، "تخاف؟"
لم لا؟ أنت تخاف أن تحمل سندويشة لفتاة. ستحتقرك أمك. وستقول لك: "لا تمشِ مع البنات. هن ينزعن مستقبل الرجل. يعطلن عن الدراسة. وعن طاعة الأم. و".
... ...
البنات حيوانات مفترسة... مخربة. لا تحزن، أمي تقول هكذا إنها توصيني ألا أمشي مع الزملاء. هم حيوانات مفترسة، تلتهم كل شيء كلانا معاً -الزملاء، والزميلات -أقصد: نحن سبب انهيارات العالم وحروبه. مع ذلك لا بد أن نلتقي. نتحاور. نتشاجر. نستلطف. ونعيش تمزقاً إثر آخر. لا يهم. أنا أضحك عليهم وأقول: إني أجلس أمام الزملاء كتمثال مصنوع من العاج الفاخر. لا أبتسم ولا أثرثر. لا أحمل السندويش لأحد. لا أنتظر هاتفاً يوقظني. ولا أرتبك إذا رأيت شرفة تخصّني. لا أحبّ يعني أنا أنثى محترمة، عصية على المشاعر الرهيفة، ولا رغبة لي بالتفاتات أحد.
"ما أكذبنا نحن الزملاء والزميلات"
تمنيت أن أحبّك يا علي. تمنيت أن يصير جسدي زوبعة وأنت الفضاء الذي أعصف فيه. لو أقدر كي أرى العالم أكثر اتساعاً. وكي أراني أجمل النساء. لكن للأسف، لم أستطع أن أحبّك. كنت أراك شجرة يحركها الريح كيفما يشاء. يعريّك البرد. لا تعترض. يعريك الخريف، لا تبكي. أنا كنت أريد جبلاً يسند صخبي. أريد بحراً يغمرني. لا تقل إني لم أحاول أن أراك بطريقة مختلفة!
أتدري؟ وجدتك مهزوماً. تعاني أزمة وجودك. ترتب كلامك. تمحو.. تبيض... تسوّد. تخطط رسائلك. وأنا لم أكن أحبّ ذلك. أكره التصنع. دع الأمور حرّة هكذا. تعال نركض. نتعال نجلس على الرصيف. كنت تنظر إليّ باندهاش -معقول؟
لماذا غير معقول يا علي؟ نحن لا نؤذي أحداً. تعال نقشر الفستق على الكورنيش. نأكل الذرة البوشار. نركب زورقاً. سأغني لك -أجل- أغني لك. بينما يميل رأسي على كتفك. ربما تصعد موجة من عبّ البحر وتجثو إلى جوارك، ربما. أظن عندما أغني، ستضحك أنت، ستقول إن صوتي رديء. ستسخر منيّ. كم أنت ثقيل الروح. لا يعجبك صوتي. لكن نكاية بك، سأغني. سأقلّد أم كلثوم. لن أتوقف عن الغناء كي أسرق الوقت منك فلا تهدره بنظرياتك المهترئة عن الحياة والسياسة والأدب.
في كل لقاء سيحدثني عن انهيار العالم.
وسيحدثني عن الأسلوب الجديد في التفكير. هي مجرد نظريات لا أكثر. الهم القادم. الخراب القادم. العطش القادم. الجوع الكافر.
تطفر عيني بالدموع. أشعر بدوار شديد "دعني أغني. لماذا توقظني على الوجع؟"
لكنه يستمر، يحدثني عن اتفاق غزّة أريحا. عن أطفال يمشون بهياكل عظمية. يفرش أمامي خارطة القرية الواحدة. القوي يأكل الضعيف. أصمت. كيف أغني وأشلائي أمامي؟ طابور أيدٍ مقطوعة يخرج من شاشة التلفزيون.
طابور عيون مفقوءة -كدسة حروف يطلقون الرصاص عليها.. كدسة ألسنة مقطوعة. يشعلون النار بها، النار ترتفع، تمتد. يخرج سوط مخيف، يرقص في النار ويمتد عالياً.
آه... أتكور أمام الشاشة. أشتم زميلي علي الذي أيقظني على هذا الخراب. كنت أظن الحياة أجمل من ذلك. عد بي يا علي إلى الزمن السطحي الممتد. أشعر أن البحر يتحجر ماؤه وقارب النهايات يلتصق بالقاع. أرتال التوابيت تمشي على الماء. أسمع صوتك "كل واحد يختار تابوته. هيا. إن لم يكن الآن فغداً"
"ألا يوجد خيار آخر"
"في هذه المرحلة. لا"
أنظر إلى وجه علي بينما يدير وجهه إلى جهة أخرى. إنه يتأمل صفحة الماء وأنا أتأمل صمته. تباغتنا أسماك القرش قادمة من وراء الأفق إلى مدينتنا الصغيرة القابعة على الشطّ. أخاف. أريد أن أهرب ككل أهل المدينة. لكن أسماك القرش لم تفتح فمها لتأكل بل راحت تبتسم وتوزع عرائس الحلوى واللؤلؤ "خذوا، اصنعوا عقوداً للنساء. أصنعوا جوائز للشعراء. خذوا. خذوا" أردت أن أقول: لا لا... التفتُّ إليك، أردت أن أستنجد بك، ولكنك وضعت يدك على فمي، كدت أختنق. أخذت عقداً ووضعته في عنقي، شعرت أن أفعى تطوقني. صرت أرتعش خوفاً ورفضاً. ارتاحت أساريرك. ظننتني أرقص؟!!
لا تؤتمن الأفعى. أنت علمتني ذلك. فمتى تصالحت مع نفسك، ومع هزائمك؟! ومتى كنت صديقاً لحاكم المدينة؟! لماذا تذبل الشمس فجأة؟.
لماذا إذن أعطيته حصتك من اللؤلؤ؟! لماذا؟!!
......
كم حاولت أن أجعله يرد! ظل صامتاً. أخلع العقد. أراه أفعى تتحرك على الأرض.
ينحني ويلتقطه عن الأرض. يضعه في جيبه. ينظر إليَّ "معك سندويشة؟! إني جائع"
"حقاً. هل أشتري لك بسكويتاً؟"
"لا. فقط أريد أن أملأ فمك كي تسكتي وأرتاح من ثرثرتك. دعيني أتأمل أوجاعي وحدي"
"أما زال لديك أوجاع؟"
"أكثر مما تظنين... إني" تدحرجت دمعته. أكره أن أرى دمع الرجال، لأنه يحولني إلى قشٍ يحترق.
"اسمعي: اليد التي لا تستطيع كسرها، صافحها وادع عليها بالكسر. هكذا يقول المثل"
إذن أنت... لم أكمل. شعرت أني أتلهف لأقترب منه. تمنيت لو يرفع يده ويطوقني، بل أن تتهادى يده على ظهري. مع ذلك لم أجرؤ أن أنظر إلى عينيه. لأول مرة أخاف النظر إلى وجهه. فجأة أصبح عليّ حبيبي. وفجأة فقدت عفوية تصرفاتي، وكي أهرب من قضقضة النار في داخلي قلت "أنت تكرهني إذن يا علي..."
"مجنونة"
شدّ على يدي.
"ألا تريد أن تملأ فمي بالطعام لأسكت؟ أي تكره صوتي"
"بل صوتك جميل.. لا أقدر على مقاومته"
"صوتي فقط؟"
نظر إلي كأنه ينظر إلى وجهي لأول مرة. كأنني في محطة سفر وصوت قطار بعيد يتهادى، وعلي أن أقول كل شيء قبل السفر. عليَّ أن أكمل طقوس وداع لا ينتهي. طوقني بذراعيه ابتسم "أأرميك بعيداً؟! تتدحرجين إلى قاع البحر. هناك نلتقي. نصفي حسابنا مع الشطوط وسمك القرش والموج الأزرق"
... ...
ها هو قطار الذاكرة يمرّ، قطار الوداع، قطار المحطات. فجأة يجد المرء أنه وصل إلى المحطة الأخيرة. لم نكن نخطط هكذا. ما حملنا أمتعة السفر الشاق.
"سنلتقي؟"
لكننا لم نلتق.
انتهت الجامعة. تبعثرنا في صيفها الطويل. وحين عاد العام الدراسي الجديد رأيتك من بعيد. لم تحاول الاقتراب مني. وأنا لم تسمح كرامتي بالركض وراءك. لكن يوم اجتمعنا مع حسان شعرت بحاجة لأن أستفزّك، أتحداك. أحررك من صمتك.
كان يمكن أن أقول لك ببساطة "إني الآن أحبك" ولكن أدرك تماماً ردة فعلك.
أنت الصياد. أليس كذلك؟! لهذا السبب قلت لك: أنا أحمل السندويش من أجل حسان. أمي تسخنه وتقول لي: خذيه. لكن أنا لا أحب أن أحمل السندويش إلا لك وحدك.
أؤكد أنك فهمت. أؤكد أنك لم تكن أنت. عندئذ نظرت إليّ وقلت "ماذا في الأمر؟ حسان شاب ممتاز ويستحق أن تحملي له السندويش. أنا ما عدت أحبّ السندويش"
ارتبكت. حاولت أن يخرج صوتي، لكنه لم يخرج. شعرت أن أفعى تخنقني. لعلها أفعى الندم. شعرت أني قطة بائسة تموء في زوايا معتمة ومخيفة. أخيراً استطعت أن أقول: أجل. حسان رائع. كررت العبارة ومضيت أجرجر أسماك قرش ورائي، أرمي لها بالسندويش وهي ترمي لؤلؤاً زائفاً، وعندما ابتعدت استدرت إلى الوراء. رأيته كنقطة تذوب في المدى. نقطة لا تعيق قطارات الرحيل ولا القطارات القادمة. مع ذلك بكيت وأنا أرنو إلى وجهي في المرآة وأهمس "لماذا نتغير بهذه السرعة؟"
هذا اليوم لن أحمل لك سندويشة الجبن.
أتسمع؟
لماذا عليّ أن أحمل لك كل يوم سندويشة ساخنة؟ أخبئها بين كتبي وأخفيها عن عيون أمي؟
صحيح أني كبرت، وصرت في الجامعة، لكن -وحياتك يا علي- أنا أخاف أمي. بل أحترم كلامها ونظراتها. يوم رأتني أول مرة أدرج لك سندويشة قالت: لمن الثانية؟ سكتُ. لم أجرؤ أن أقول اسمك. وعندما كررت السؤال، ارتبكتُ دون أن أعرف السبب. لم أستطع القول بأني أحبك. لأن هذا لم يكن وارداً فعلاً. وقد لا تروقني أنت كشاب. أنت لم تشعل في روحي الحرائق. ولم ترم في القلب كي تكسر السطح الرائق للمشاعر. لكن لأعترف: كنت بحاجة إليك. إلى وجودك معي. نتمشى في رواقات الجامعة. نتشاجر، نتحاور، وعندما يأتي المساء نفترق.
أمي قالت: بالتأكيد السندويشة الثانية لزميلتك لأني أعرفك. لا يمكن أن تأكلي سندويشتين. لم أرفع عيني إلى وجهها. وحين قالت: طيب. "سلّمي على صديقتك" ابتسمتُ. إذن أنت صديقتي، صديقتي زينب، أو خولة، أو.. لكن أقسم: إنك الأغلى. لا تزعل يا علي. هناك أشياء كثيرة تشدّني إليك لا أعرف ما هي، لكن الآن... الآن!! أجزم أنها ليست الحب من أول نظرة.
أمي تسلّم عليك، وبيتنا يسلّمُ عليك، والسندويشة التي لم أحملها لك اليوم تسلّم عليك.
آ.. علي: لماذا لا تحمل أنت سندويشة لي؟ غداً، أو بعد غدٍ، "تخاف؟"
لم لا؟ أنت تخاف أن تحمل سندويشة لفتاة. ستحتقرك أمك. وستقول لك: "لا تمشِ مع البنات. هن ينزعن مستقبل الرجل. يعطلن عن الدراسة. وعن طاعة الأم. و".
... ...
البنات حيوانات مفترسة... مخربة. لا تحزن، أمي تقول هكذا إنها توصيني ألا أمشي مع الزملاء. هم حيوانات مفترسة، تلتهم كل شيء كلانا معاً -الزملاء، والزميلات -أقصد: نحن سبب انهيارات العالم وحروبه. مع ذلك لا بد أن نلتقي. نتحاور. نتشاجر. نستلطف. ونعيش تمزقاً إثر آخر. لا يهم. أنا أضحك عليهم وأقول: إني أجلس أمام الزملاء كتمثال مصنوع من العاج الفاخر. لا أبتسم ولا أثرثر. لا أحمل السندويش لأحد. لا أنتظر هاتفاً يوقظني. ولا أرتبك إذا رأيت شرفة تخصّني. لا أحبّ يعني أنا أنثى محترمة، عصية على المشاعر الرهيفة، ولا رغبة لي بالتفاتات أحد.
"ما أكذبنا نحن الزملاء والزميلات"
تمنيت أن أحبّك يا علي. تمنيت أن يصير جسدي زوبعة وأنت الفضاء الذي أعصف فيه. لو أقدر كي أرى العالم أكثر اتساعاً. وكي أراني أجمل النساء. لكن للأسف، لم أستطع أن أحبّك. كنت أراك شجرة يحركها الريح كيفما يشاء. يعريّك البرد. لا تعترض. يعريك الخريف، لا تبكي. أنا كنت أريد جبلاً يسند صخبي. أريد بحراً يغمرني. لا تقل إني لم أحاول أن أراك بطريقة مختلفة!
أتدري؟ وجدتك مهزوماً. تعاني أزمة وجودك. ترتب كلامك. تمحو.. تبيض... تسوّد. تخطط رسائلك. وأنا لم أكن أحبّ ذلك. أكره التصنع. دع الأمور حرّة هكذا. تعال نركض. نتعال نجلس على الرصيف. كنت تنظر إليّ باندهاش -معقول؟
لماذا غير معقول يا علي؟ نحن لا نؤذي أحداً. تعال نقشر الفستق على الكورنيش. نأكل الذرة البوشار. نركب زورقاً. سأغني لك -أجل- أغني لك. بينما يميل رأسي على كتفك. ربما تصعد موجة من عبّ البحر وتجثو إلى جوارك، ربما. أظن عندما أغني، ستضحك أنت، ستقول إن صوتي رديء. ستسخر منيّ. كم أنت ثقيل الروح. لا يعجبك صوتي. لكن نكاية بك، سأغني. سأقلّد أم كلثوم. لن أتوقف عن الغناء كي أسرق الوقت منك فلا تهدره بنظرياتك المهترئة عن الحياة والسياسة والأدب.
في كل لقاء سيحدثني عن انهيار العالم.
وسيحدثني عن الأسلوب الجديد في التفكير. هي مجرد نظريات لا أكثر. الهم القادم. الخراب القادم. العطش القادم. الجوع الكافر.
تطفر عيني بالدموع. أشعر بدوار شديد "دعني أغني. لماذا توقظني على الوجع؟"
لكنه يستمر، يحدثني عن اتفاق غزّة أريحا. عن أطفال يمشون بهياكل عظمية. يفرش أمامي خارطة القرية الواحدة. القوي يأكل الضعيف. أصمت. كيف أغني وأشلائي أمامي؟ طابور أيدٍ مقطوعة يخرج من شاشة التلفزيون.
طابور عيون مفقوءة -كدسة حروف يطلقون الرصاص عليها.. كدسة ألسنة مقطوعة. يشعلون النار بها، النار ترتفع، تمتد. يخرج سوط مخيف، يرقص في النار ويمتد عالياً.
آه... أتكور أمام الشاشة. أشتم زميلي علي الذي أيقظني على هذا الخراب. كنت أظن الحياة أجمل من ذلك. عد بي يا علي إلى الزمن السطحي الممتد. أشعر أن البحر يتحجر ماؤه وقارب النهايات يلتصق بالقاع. أرتال التوابيت تمشي على الماء. أسمع صوتك "كل واحد يختار تابوته. هيا. إن لم يكن الآن فغداً"
"ألا يوجد خيار آخر"
"في هذه المرحلة. لا"
أنظر إلى وجه علي بينما يدير وجهه إلى جهة أخرى. إنه يتأمل صفحة الماء وأنا أتأمل صمته. تباغتنا أسماك القرش قادمة من وراء الأفق إلى مدينتنا الصغيرة القابعة على الشطّ. أخاف. أريد أن أهرب ككل أهل المدينة. لكن أسماك القرش لم تفتح فمها لتأكل بل راحت تبتسم وتوزع عرائس الحلوى واللؤلؤ "خذوا، اصنعوا عقوداً للنساء. أصنعوا جوائز للشعراء. خذوا. خذوا" أردت أن أقول: لا لا... التفتُّ إليك، أردت أن أستنجد بك، ولكنك وضعت يدك على فمي، كدت أختنق. أخذت عقداً ووضعته في عنقي، شعرت أن أفعى تطوقني. صرت أرتعش خوفاً ورفضاً. ارتاحت أساريرك. ظننتني أرقص؟!!
لا تؤتمن الأفعى. أنت علمتني ذلك. فمتى تصالحت مع نفسك، ومع هزائمك؟! ومتى كنت صديقاً لحاكم المدينة؟! لماذا تذبل الشمس فجأة؟.
لماذا إذن أعطيته حصتك من اللؤلؤ؟! لماذا؟!!
......
كم حاولت أن أجعله يرد! ظل صامتاً. أخلع العقد. أراه أفعى تتحرك على الأرض.
ينحني ويلتقطه عن الأرض. يضعه في جيبه. ينظر إليَّ "معك سندويشة؟! إني جائع"
"حقاً. هل أشتري لك بسكويتاً؟"
"لا. فقط أريد أن أملأ فمك كي تسكتي وأرتاح من ثرثرتك. دعيني أتأمل أوجاعي وحدي"
"أما زال لديك أوجاع؟"
"أكثر مما تظنين... إني" تدحرجت دمعته. أكره أن أرى دمع الرجال، لأنه يحولني إلى قشٍ يحترق.
"اسمعي: اليد التي لا تستطيع كسرها، صافحها وادع عليها بالكسر. هكذا يقول المثل"
إذن أنت... لم أكمل. شعرت أني أتلهف لأقترب منه. تمنيت لو يرفع يده ويطوقني، بل أن تتهادى يده على ظهري. مع ذلك لم أجرؤ أن أنظر إلى عينيه. لأول مرة أخاف النظر إلى وجهه. فجأة أصبح عليّ حبيبي. وفجأة فقدت عفوية تصرفاتي، وكي أهرب من قضقضة النار في داخلي قلت "أنت تكرهني إذن يا علي..."
"مجنونة"
شدّ على يدي.
"ألا تريد أن تملأ فمي بالطعام لأسكت؟ أي تكره صوتي"
"بل صوتك جميل.. لا أقدر على مقاومته"
"صوتي فقط؟"
نظر إلي كأنه ينظر إلى وجهي لأول مرة. كأنني في محطة سفر وصوت قطار بعيد يتهادى، وعلي أن أقول كل شيء قبل السفر. عليَّ أن أكمل طقوس وداع لا ينتهي. طوقني بذراعيه ابتسم "أأرميك بعيداً؟! تتدحرجين إلى قاع البحر. هناك نلتقي. نصفي حسابنا مع الشطوط وسمك القرش والموج الأزرق"
... ...
ها هو قطار الذاكرة يمرّ، قطار الوداع، قطار المحطات. فجأة يجد المرء أنه وصل إلى المحطة الأخيرة. لم نكن نخطط هكذا. ما حملنا أمتعة السفر الشاق.
"سنلتقي؟"
لكننا لم نلتق.
انتهت الجامعة. تبعثرنا في صيفها الطويل. وحين عاد العام الدراسي الجديد رأيتك من بعيد. لم تحاول الاقتراب مني. وأنا لم تسمح كرامتي بالركض وراءك. لكن يوم اجتمعنا مع حسان شعرت بحاجة لأن أستفزّك، أتحداك. أحررك من صمتك.
كان يمكن أن أقول لك ببساطة "إني الآن أحبك" ولكن أدرك تماماً ردة فعلك.
أنت الصياد. أليس كذلك؟! لهذا السبب قلت لك: أنا أحمل السندويش من أجل حسان. أمي تسخنه وتقول لي: خذيه. لكن أنا لا أحب أن أحمل السندويش إلا لك وحدك.
أؤكد أنك فهمت. أؤكد أنك لم تكن أنت. عندئذ نظرت إليّ وقلت "ماذا في الأمر؟ حسان شاب ممتاز ويستحق أن تحملي له السندويش. أنا ما عدت أحبّ السندويش"
ارتبكت. حاولت أن يخرج صوتي، لكنه لم يخرج. شعرت أن أفعى تخنقني. لعلها أفعى الندم. شعرت أني قطة بائسة تموء في زوايا معتمة ومخيفة. أخيراً استطعت أن أقول: أجل. حسان رائع. كررت العبارة ومضيت أجرجر أسماك قرش ورائي، أرمي لها بالسندويش وهي ترمي لؤلؤاً زائفاً، وعندما ابتعدت استدرت إلى الوراء. رأيته كنقطة تذوب في المدى. نقطة لا تعيق قطارات الرحيل ولا القطارات القادمة. مع ذلك بكيت وأنا أرنو إلى وجهي في المرآة وأهمس "لماذا نتغير بهذه السرعة؟"
Comment