لعلَّ أصعب ما يلاقيه الفكرُ هو الفصل بين حقيقة الوجود وأوهامه. غير أنَّ أكثر النَّاس لا يفكِّرون، فلا يتردَّدون لحظة في إقامة الحدود بين ما يدعونه حقيقة وما يروقهم أن يدمغوه بدمغة الوهم أو الخرافة. هكذا فالغراب في نظرهم حقيقة. أمَّا الفينكس فخرافة لا يؤمن بها إلاَّ البسطاء والقدماء.
ألا فليزجَّني من شاء بين القدماء والبسطاء. لأنَّني أؤمن بالفينكس. وأنا أؤمن به لأنَّني أؤمن بالخيال الذي ابتدعه. أوَليس الخيال حقيقة؟ إذنْ كلُّ ما يحبل به الخيال ويلده ويغذيه، أكان أجمل الجميل أو أقبح القبيح، يشترك في حقيقة الخيال. ونحن لو نظرنا في الخيال الذي يعمل بغير انقطاع لوجدنا أنَّ ما دون النَّزْر من أعماله يتَّخذ شكلاً محسوسًا. فلو رضينا بهذا النزر وحده حقيقةً، ونبذنا ما تبَقَّى كما لو كان وهمًا أو غير حقيقة، إذن لكان الخيال ذاته خرافة، والإنسان نفسه أسطورة.
إنّ خيالاً يلد طائرًا كالفينكس لَخيالٌ مبدع في ذاته ومن ذاته. لقد خلق الإنسانُ الفينكس، ومن حقِّه أن ينظر إلى ما خلقه ويقول: "إنَّه لحَسنٌ جدًّا." بل إنني أُضيف إلى ذلك، وإن رماني البعض بالتجديف، أنَّ الله نفسه، لو أنَّه فكَّر بطائر كهذا الطائر، لخلق واحدًا مثله. وقد يكون أنَّ خيال الإنسان يتمِّم خيال خالقه. أوَلم يصنع اللهُ الإنسان على صورته ومثاله؟
من روايات هذه الأسطورة المتعدِّدة الرِّوايات أنَّ الفينكس يسكن الجزيرة العربيَّة. فتعال نفلت، ولو بضع دقائق، من نطاق الجدران والسقوف، ونهرب بالخيال إلى غابة في مجاهل تلك الشقَّة من الجزيرة التي دعاها الأقدمون "العربيَّة السعيدة" والتي نعرفها اليوم باسم اليَمن، لعلَّنا نطلُّ على الفينكس في موطنه.
ها هي الشمس قد ارتفعت في المشرق. السماء صافية زرقاء، ونسمات الصبح العليلة تتهادى بين الأشجار مدغدغة أوراقها الغضَّة. في الغابة نهر عميق يسير بجلال نحو البحر، حاملاً على صفحته الصافية خيالات الأشجار والأدغال المتعانقة على جانبيه. أنَّى التفتَّ جمالٌ وسلام. حتى لتحسبك في جنَّة من جِنان الفردوس.
غير أنَّ الأشجار تحذِّرك من الانخداع بالظواهر. فهي تعرف أنَّ فيها وعليها وحواليها قد اشتبك الموت والحياة في صراع عنيف. كلُّ ما في الغابة من مخلوقات تمشي، ومخلوقات تدبُّ أو تزحف، ومخلوقات تمتطي الهواء وتهمزه بالأغاريد، يدأب بغير انقطاع طالبًا غذاء لنفسه أو مطلوبًا ليكون غذاء لسواه. ولا مفرَّ من ذلك الدُّردور حتى للصخور. كلُّ ما ينبثق من الأرض تبتلعُه الأرض رويدًا رويدًا، لتعود فتلفظه حيوانات وطيورًا وزحَّافات وحشرات وأشجارًا وأعشابًا وأزهارًا. فالحياة ههنا، شأنها في سائر المسكونة، تشتعل كعليقة موسى من غير أن تحترق.
في رأس أعلى شجرة من الغابة قد جثم طائرٌ لا شبيه له في كلِّ الخليقة. وقد اتَّجه نحو الشمس، فبانت كلُّ ريشة من صدره القرمزي الناعم كما لو كانت تلتهب بنار من عالم آخر. وكلُّ ريشة من جناحيه الذهبيَّين، المغموسة أطرافُهما في زرقة ولا زرقة السماء، كما لو كانت تقدح شرارًا من شرار الثريا. عنقه الطويل الجميل، المطوَّق بطوق ناصع البياض، قد تقوَّس إلى الأمام. أمَّا رأسه الدقيق الصنع فقد ارتدَّ قليلاً إلى الوراء مصوِّبًا منقاره الحادَّ نحو الشمس.
لقد جمع هذا الطائر بين زخرفة الطاووس وجمال طائر الفردوس، دون خُيَلاء الأوَّل وخجل الثاني. وهو ينظر بطمأنينة إلى الشرق كأنَّه لا يشعر بوجود شيء في العالم إلاَّ الشمس – مصدر النور والحياة. ترفرف من حواليه طيور كثيرة ما بين كبيرة وصغيرة، وإذ تمرُّ به تخفض أجنحتها مسلِّمةً عليه سلام إعجاب واحترام. حتى إن القويَّ من الفَراش الذي تمكِّنه أجنحتُه من الوصول إليه يرفرف حواليه مرَّتين أو ثلاثًا، ثم يهبط إلى الأرض شاكرًا جذِلاً.
الغابة تعجُّ بالأصوات من طائر يناجي عشيره أو وحش ينادي رفيقه – إلاَّ هذا الطائر الغريب. فهو لا يناجي أحدًا ولا أحد يناجيه. إذ لا عشير له ولا رفيق، لا في مشارق الأرض ولا في مغاربها، ولا في عالم آخر من العوالم الدائرة في الفضاء. سواه من الطيور منهمك في بناء أعشاش أو تربية فراخ؛ أمَّا هو فلا عشٌّ يبنيه ولا فراخ يزقُّها. سواه يرفرف هنا وهنالك طالبًا قوتًا؛ أمَّا هو فلا يقتات بشيء حيٍّ بل بالبخور والعطور. سواه من الطيور يصيح فَرَقًا وقد علق في مخالب عدوِّه؛ أمَّا هو فلا يعرف الخوف لأنَّه لا يؤذي مخلوقًا فلا يؤذيه مخلوق، لا ولا تؤذيه العناصر. هو وحيد في العالم كلِّه. لكنَّه لا وحدة في قلبه ولا وحشة. سواه من الطيور يبدِّل ريشه مرَّة في كل عام؛ أمَّا هو فلم يبدل ريشة واحدة منذ أن كان له من العمر يوم واحد – وذلك منذ خمسمائة سنة!
لقد نبتتْ في الغابة أشجارٌ كثيرة، فنَمَتْ حتى طالت السحاب، ثمَّ هرمت وتفتَّتت وأخْلَتْ مكانها لأشجار أخرى. ولقد جرفت الفصول المسرعة أجيالاً لا تحصى من الطيور والحشرات والحيوانات، ثمَّ جاءت بغيرها لتحلَّ محلَّها. ووراء حدود الغابة، في مملكة الإنسان، قد طغت موجة بعد موجة من أعمال الناس، ثم تكسَّرت وتبعثرت على شواطئ الزمان الذي لا بداية له ولا نهاية.
أمَمٌ بكاملها أطلَّت على الحياة ثمَّ توارت، فكأنها لم تكن. ومدنٌ عديدة شمخت بأبراجها وقببها إلى السماء فلم تلبث أن عانقت التراب. ممالك عَلَتْ ثمَّ انخفضت. غزاة ومغزوُّون. أبطال وأنذال. عاشقون ومعشوقون. رؤوس متوَّجة ورؤوس بغير تيجان – كلُّ هؤلاء وهذه مشوا فترة على الأرض، ثمَّ عادت الأرض فاحتضنتهم ليمشي فوقهم سواهم من أبناء الأرض. حيث كانت تكرُّ أنهار جبَّارة نبتتْ اليوم أشواك وأحساك وأدغال وبنى النمل قراه والجراذين أجحارها.
كم من جنائن غنَّاء ابتلعتها الصحراء، وكم من صحراء أورقت وأزهرت! كم إله أُنزِل عن عرشه وإله أُجلِس على عرش! كلُّ ما في الكون قد تغيَّر وتحوَّل في غضون خمسة قرون – إلاَّ هذا الطائر الذي في عينَيه – كما في عينَيْ يهوه – "ألف سنة كيوم أمس الذي عبر وكهجعة من الليل".
غير أنَّ الوقت قد أزف حتى للفينكس أن "يتغيَّر". لا صوت يهمس في أذنيه؛ ولا إصبع تدلُّه كيف يتَّجه؛ ولا قوَّة خارجيَّة تأمره أن يفعل ما هو مزمع أن يفعله. لكنَّه بدليل من نفسه، وبصوت من داخله، يدير وجهه نحو الشمال الغربي، وبعد أن يصفِّق بجناحيه ثلاثًا، يمتطي الهواء. ولا حزن في قلبه على أمسية خمسة قرون يتركها وراءه، ولا خوف من أغدية خمسةٍ أخرى يقابلها. وهو يعرف محجَّته كلَّ المعرفة.
في وادي النيل البعيد مدينة كان المصريُّون يدعونها "آنُّو"، والعبرانيون "بيت شمس"، والروم "هليوبوليس". وفي تلك المدينة هيكل مكرَّس لعبادة الإله "رَعْ".
الفينكس يعرف المدينة والهيكل، ويعرف الفسحة التي سيستقرُّ عليها من المذبح. لأنَّه، منذ أجيال لا تحصى، يقصد إلى جلجثته هذه مرَّة في كل خمسمائة سنة ليتقبَّل عليها الموت. ومرَّة في كل خمسمائة سنة يعود منها تاركًا الموت في حيرة وارتباك.
يشقُّ الفينكس الهواء بجناحيه القويَّين مسرعًا نحو وادي النيل، فتجتمع من حوله شتَّى الطيور لترافقه، ولو بعض المسافة، فتُظهِر له تجلَّتها واحترامها. ولا يزال يطوي المسافات إلى أن تبدو لعينيه هليوبوليس.
في هيكل رَعْ نافذة فوق المذبح تطلُّ منها الشمس فتمتزج أشعتُها بدخان البخور وتضفر منه غدائر من ذهب وفضَّة كأنها أنفاس أرواح تائهة. وهذه الغدائر تلتفُّ وتنحلُّ فوق المذبح كأنَّها خيوط ممدودة على منوال خفيٍّ، وكأنَّ يدًا خفيَّة تحوك منها أنسجة غريبة. وليس في الهيكل الواسع المظلم سوى كاهن عجوز غارق في تأمُّلاته.
يسمع الكاهن بغتة حفيف أجنحة يقطع عليه مجرى تأملاته. وإذ يرفع عينيه يبصر على المذبح طائرًا عجيبًا يغتسل بنور الشمس، وقطُّ لم تقع عيناه على أجمل منه. فتأخذه الدهشة. ولا تلبث دهشته أن تنقلب إلى رهبة، إذ يحدِّق إلى الطائر فيراه قد انتصب رافعًا جناحيه إلى فوق. ثم يراه يصفِّق بهما تصفيقًا حادًّا. وما هي إلاَّ لمحة حتى يلتهب الجناحان فيبدوان كأنهما مروحة من نار. ويندمج الطائر بأشعة الشمس حتى ليشكل على الكاهن أن يفرِّق بينهما. وما هي إلا لمحة أخرى حتى يرتفع الجناحان إلى أعلى، وقد انقطعا عن التصفيق، فتبدو كلُّ ريشة كأنَّها مشعل من نار حيَّة.
يكاد الكاهن لا يصدِّق عينيه من شدَّة دهشته. فحيث رأى منذ لحظة طائرًا حيًّا يرى الآن ألسنة من لهيب تثب إلى فوق. ويا له من لهيب ما سبق له أن أبصر نظيره في كلِّ حياته! هو لهيب يرتدُّ البصر كليلاً عن بهائه، وتسكر الأنفاس بعطره. ألا تبارك رَعْ الأزلي الأبدي، الذي يحيي نفسه بنفسه ويحيي كلَّ شيء!
يملأ اللهيب الهيكل بأشباح رائعة، كلُّها يثب إلى فوق ويتلاشى في وثباته. ورويدًا رويدًا تخمد النار تاركة حفنة من الرماد المتوهِّج.
يا للخسارة أن يهلك طائر بديع كهذا الطائر وفي صورة مفجعة كتلك الصورة! ولكن... أحقًّا أنه قد هلك؟
يفرك الكاهن عينيه ليتأكَّد من أنه ليس في منام، فيرى – ويا للعجيبة! – يرى طائرًا يخرج من كومة الرماد المتوهِّج، كاملاً بكلِّ تفاصيله، عجيبًا بجماله، كالطائر الذي التهمته النار منذ لحظة. فكأنَّه هو. بل هو هو. فيهبط الكاهن على ركبتيه، ويغطي عينيه بيديه، ويحني هامته البيضاء حتى تلامس الأرض، ويتمتم كلمات يكاد لا يسمعها:
يا رَعْ. أيُّها الكائن الجميل الذي يجدِّد ذاته في حينه. أيُّها الطفل الإلهي. يا وريث الأبديَّة. يا والد نفسه. يا أمير الأرجاء السفلى ومدير الأحياء العليا. يا إله الحياة. يا ربَّ المجد. كل نسمة تحيا بشعاعك.
***
إن خيالاً جريئًا وخصبًا، إذا ما أعطيته مثالاً كمثال الفينكس، نمَّق فيه ووشَّى حواشيه إلى ما لا نهاية له. فالقدماء، مع محافظتهم على الفينكس كطائر يحيا فردًا ويجدِّد ذاته بذاته، قد ابتدعوا أساطير مختلفة لموته وللمدَّة التي يحياها بين التجدُّد والتجدُّد. وما الرواية التي حاولتُ تصويرها في ما سلف إلاَّ واحدة من تلك الروايات الكثيرة التي ضاعت مصادرُها في زمان قلَّما كان يأبه للأسماء والتواريخ لأنَّه كان يهتم قبل كلِّ شيء بحقائق الحياة الثابتة أو بالفكرة الأبديَّة.
لا خلاف على أن اسم الفينكس يوناني. والكلمة تعني، في بعض ما تعنيه، نوعًا من النخيل. ولعلَّ اليونان عرفوا ذلك النوع في بلاد فينيقية أوَّلاً فأسموه باسم البلاد. أو لعلَّهم أسموا البلاد باسم ذلك النوع من النخل لأنه كان يكثر فيها. وقد يكون أنَّهم أطلقوا اسم الفينكس على ذلك الطائر الخرافيِّ لأنهم أخذوا الأسطورة عن الفينيقيِّين. وفي الفقرة الآتية من نشيد بولاق للإله رَعْ ما يدعم الظن بأن اسم الفينكس مأخوذ من فينيقية:
المجد له في الهيكل عندما ينهض من بيت النار. الآلهة كلُّها تحبُّ أريجه عندما يقترب من بلاد العرب. هو ربُّ الندى عندما يأتي من ماتان. ها هو يدنو بجماله اللامع من فينيقية محفوفًا بالآلهة.
إن يكن أصل الاسم في شك فأصل الطائر ذاته أكثر تعقُّدًا من الاسم. فقد يكون فينيقيًّا. وقد يكون مصريًّا. وأقرب شبيه له في قديم الآثار الكتابية تقع عليه في ذلك السِّفر المصري العجيب المعروف بـكتاب الموتى؛ وهو مجموعة فصول شائقة في الأمور الباطنيَّة والفلسفة والشعر والسحر يرجع بعضها إلى القرن الأربعين قبل الميلاد. ولعلَّ هذه المجموعة هي أثمن ما ورثناه عن سكَّان وادي النيل القدماء. فهي، من أوَّلها إلى آخرها، تنبض بإيمان المصريِّين بالخلود. فالموت عندهم ما كان إلا سياحة بين عالَمين أو انتقالاً من شاطئ الحياة الأدنى إلى شاطئها الأقصى. وإذ إنَّ حكماءهم كانوا يدركون كلَّ الإدراك أن العامة من الناس أجهل من أن تتناول الحقيقة مجرَّدةً عن الحسِّ تراهم أقاموا لها بنايات عديدة من الرموز كيما يسهِّلوا عليهم الوصول بالحسِّ إلى ما هو أبعد من الحسِّ. وكان أحد رموزهم طائرًا من نوع الغرنوق أو مالك الحزين، وكانوا يدعونه "بنُّو" – والاسم مشتقٌّ من كلمة تعني الرجوع. وهذا الطائر كان يمثِّل في أساطيرهم وعلى رأسه ريشتان منحنيتان إلى خلف.
مَن يطالع كتاب الموتى يرَ أن طائر البنُّو كان يرمز إلى رَعْ – الإله الذي ولد نفسه من نفسه وما كان يعرف الموت؛ النهار المنبثق من حقوَي الليل، والنور المتغلِّب أبدًا على الظلمة. فمن هذا القبيل، وكذلك من حيث الصلة بينه وبين هليوبوليس، نرى أن طائر البنُّو يشترك في بعض خصائص الفينكس. غير أنه ليس مذكورًا في كتاب الموتى أو في كتاب آخر كطائر يموت بالنار مرَّة في كل خمسمائة سنة أو أكثر ثمَّ ينهض متجدِّدًا من رماده.
إلا أن كاهنًا مصريًّا اسمه "هورابولُّو" قد أوجد صلة متينة بين الطائر المصري والفينكس، وذلك في القرن الخامس قبل الميلاد. ففي الترجمة اليونانية لكتاباته نسمعه يتكلَّم عن طائر معروف عند المصريِّين وفي تقاليدهم. واسمه في الترجمة اليونانية "فينكس". وبعد أن يتكلَّم هورابولُّو عن ظهور هذا الطائر مرَّةً في كلِّ خمسمائة سنة يصف موته هكذا:
عندما يشعر الفينكس بدنوِّ أجله يطرح نفسه بعنف على الأرض فينجرح ويسيل دمه. ومن دمه المتجمِّد يولد فينكس جديد. وهذا حالما يكتسي بالريش يطير بوالده إلى هليوبوليس. وإذ يبلغانها يموت الوالد عند شروق الشمس. فيحرقه الكهنة المصريون. وأمَّا الفينكس الجديد فينطلق إلى بلاده.
من بعد هورابولُّو أخذت حكاية الفينكس تنتشر وتزداد شهرة في الغرب، إلى حدِّ أنَّها استرعت انتباه المؤرِّخين والشعراء واللاهوتيِّين القدماء. ومنهم هيرودوتس. فهذا المؤرِّخ، في سياق وصفه لسياحة قام بها في مصر، يتكلَّم عن الفينكس كما لو كان طائرًا عربيًّا. ثم يضيف متحفِّظًا: "أمَّا أنا فلم أبصره إلا في الصور." لكن الشاعر أوفيد لا يتحفَّظ أبدًا في وصفه. فهو يتحدَّث عن الفينكس كطائر يجدِّد ذاته بذاته، ويتغذَّى بالعطور لا غير. ويقول إنَّه، بعد أن يعيش خمسمائة سنة، يبني لذاته عشًّا من القرفة والناردين والمرِّ في رأس نخلة. وفي ذلك العشِّ يلفظ آخر أنحابه. ومن جثَّته يولد فينكس جديد. وهذا، عندما تكتمل قواه، ينتشل العشَّ الذي هو مهده ولحد والده ويطير به إلى هليوبوليس حيث يضعه في هيكل الشمس.
وأكثر جرأة من الشاعر أوفيد المؤرِّخ تاسيتوس الذي لا يتردَّد في ذكر ظهور الفينكس كحادث تاريخي في زمان القنصل بولس فابيوس (34 م).
هكذا درجت حكاية الفينكس على ألسنة القدماء وأقلام كتَّابهم وشعرائهم. وكان آباء الكنيسة أكثر الناس إقبالاً عليها. فقد اتَّخذها أمثال ترتوليانوس وكليمنضوس وأبيفانيوس رمزًا لقيامة المسيح من الموت. وغيرهم وجد فيها شاهدًا لا يُدحَض على ولادة المسيح من عذراء.
مِن أقدم الآثار الكنسية التي ورد فيها ذكر الفينكس كتاب الفيزيولوغوس الإسكندري؛ وهو مجموعة حكايات وثنيَّة عن الحيوانات والطيور استخلص منها جامعوها مواعظ وإرشادات وحججًا دينيَّة. وقد ورد فيها أن الفينكس طائر هندي لا يتغذَّى بشيء غير الهواء؛ ومرَّةً في كل خمسمائة سنة يقصد إلى هليوبوليس حاملاً أنواع الطيب على جناحيه. وهناك يحرق نفسه على مذبح الهيكل، فتخرج من رماده دودة تتحوَّل بعد ثلاثة أيَّام إلى فينكس كامل. وهذا الفينكس يحيِّي الكاهن ثمَّ يطير إلى بلاده.
وفي اللاتينيَّة كتاب يدعى Anecdota Syriaca، أو الحكايات السريانيَّة، وردت فيه أسطورة الفينكس كما يلي:
يقولون كذلك إن في بلاد الهند طائرًا عظيمًا يأتي مرَّةً في كل خمسين (كذا) سنة إلى جبل لبنان. وهناك يجمع أطيب العطور وأجمل الأزهار ثم يعود إلى الهند. ومجيئه يكون في شهر نيسان. ففي ذلك الشهر يقيم كاهن المنطقة مذبحًا على قمَّة جبلٍ عالٍ ويبني حول المذبح شبه بيت من أغصان الكرمة. فيأتي الطائر ويدخل البيت ويقف على المذبح، ثمَّ يأخذ يصفق بجناحيه حتى يلتهبا ويلتهب البيت معهما فيصبح الكل رمادًا. وبعد ثلاثة أيَّام يصعد الكاهن إلى قمَّة الجبل ويتفحَّص الرماد وفيه يجد دودة صغيرة. والدودة هذه تكبر ثمَّ تتحوَّل طائرًا كالذي احترق. وهذا الطائر يعود من حيث جاء.
***
لقد بقي الإيمان بالفينكس حيًّا حتى عصر التجدُّد Renaissance. وبعد ذلك أخذ يتقهقر من وجه "العلم" الذي لا يؤمن إلاَّ بالبرهان "الحسِّي". حتى أصبح "خرافةً" قلَّ من يهتم بها. وأكثر الناس لا يعرف منها غير الاسم. ولكنَّ الفينكس ما أُدرِجَ في أكفان الإهمال والنسيان إلا من بعد أن خلَّف لنا آثارًا لا تمحى من روعة جماله ومعانيه.
ويندر أن تجد أمَّة قديمة لم تنسج على مثال الفينكس ولم تخلق لها طائرًا قريبًا منه. فالعرب قد خلقوا العنقاء والفُرس "السيمورغ" والهنود "غارودا" والصينيُّون "فَنْغْ–هْوانْغ" واليابانيون "هُوْ–أوْ". ومن شاء أن يقابل بين رقيِّ الأمم الروحي فليقابل بين الطيور التي ابتدعها خيالها. ففي المقابلة درسٌ طريف ولذَّة لا تُنكَر.
أمَّا أنا فلي لذَّة أكبر في درس الفينكس. وقبل أن أودِّع هذا الطائر العجيب أُحبُّ، إذا استطعت ذلك، أن أنفذ إلى سرِّه، فأعرف القصد من خلقه.
لِنَقُل إن الفينكس رمز. ولكن إلى مَ يرمز؟ ألعلَّه وليد شوق الإنسان الفاني إلى عدم الفناء؟ أم لعلَّه قناع من الجمال حاكه الوهم لأعين قرَّحتْها الشناعة؟ أم هو رؤيا من رؤى الإلهام الذي ينير الآباد بطرفة عين وينشب من خلال الأشكال إلى روح الأشياء وجوهرها؟
إنَّ أكثر البحَّاثين الذين وقفتُ لهم على رأي في الفينكس يتخلَّصون منه بقولهم إن قدامى المصريِّين اتَّخذوه رمزًا للشمس في شروقها وغروبها لأنَّهم كانوا يعبدون الشمس تحت اسم رَعْ. وإذ إنَّني لست بالبحَّاثة ولا بالعالِمِ الأثري، تراني أبيح لنفسي مخالفة هذا الرأي من غير أن أجلب لذاتي سخط البحَّاثين وعداوة العلماء.
لا جدال في أن سواد الشعب المصري القديم كان يتَّخذ الشمس معبودًا له. أما مؤلِّفو كتاب الموتى، وشائدو الأهرام، وخالقو أبي الهول وإيزيس وأوزيريس وأسرارهما، ومعلِّمو ديموقريط وبيثاغورس وأفلاطون، فكيف تصدِّق أنهم كانوا يعبدون جِرمًا سماويًّا – مهما عَظُمَ ذلك الجِرم وعَجُبَ – وهم قد رادوا الفضاء واكتشفوا سبل النجوم؟ بل إن الشمس لم تكن لمثل هؤلاء غير رمز محسوس لإله غير محسوس – لِرَعْ الوالد ذاته من ذاته، المحيط بكلِّ شيء والذي لا يحيط به شيء، المبدع الأشكال ولا شكل له، والخالق البدايات والنهايات ولا بداية له ولا نهاية. وما آلهة المصريِّين، على وفرتها، سوى صفات متنوعة لذلك الإله الواحد.
إن من يقرأ كتاب الموتى – ولو قراءة سطحيَّة – لا يسعه أن يقول غير هذا القول. وأنا أجلُّ حكماء المصريِّين عن حماقة تجعل من الشمس رمزًا لِرَعْ، ثم تخلق الفينكس الذي لم يكن يبصره غير نفرٍ قليل من الناس – وذاك مرَّة في خمسة قرون – لتجعله رمزًا للشمس التي يراها كلُّ ذي بصر في كلِّ يوم. إنَّما يرمز الفينكس إلى ما هو أبعد من الشمس وأبقى بما لا يقاس – إلى الحياة في مظهريها كمادَّة وروح.
في خواء الظواهر المتقلِّبة تعوَّد الناس أن يميِّزوا بين نوعين من التغير، وأن يدعوا الواحد حياة والآخر موتًا. أما الفينكس فكأني به يقول إنَّ الموت والحياة واحد لأن مصدرهما واحد، وهو الروح المرموز إليه بالنار. فالنار أبدًا هي هي. تلتهم الأشياء ثمَّ تكثرها وتنوِّعها. لكنَّها لا تلتهم ولا تكثر أو تنوِّع ذاتها. هي النار – أو الروح – تلك الحياة الأولية التي يدعوها العلم الحديث "الطاقة" – تنظِّم ذرَّات الأشياء على اختلاف أنواعها ثم تنثرها. فهي متغلغلة في كل شيء: في ركام الجليد الطافي على وجه اليمِّ مثلها في الشمس؛ وفي الزناد مثلها في كتلة اللحم النابضة في صدر الإنسان. وهي عندما تلتهم شيئًا تردُّه إلى عناصره الأصليَّة؛ فلا تتلاشى بل تنعتق من سجنها الوقتي. وهكذا عندما يحرق الفينكس نفسه لا "يموت" حتى لحظة واحدة. لأن النار التي هي روحه تبقى كامنة في رماده. وهي التي تعود فتجمع ذرَّاته من جديد فتكوِّن منها فينكسًا جديدًا. فهو وإن بدَّل جسده مرَّة في كلِّ خمسمائة سنة لا يبدُّل الروح التي لا يطرأ عليها انقطاع أو تغيير.
ثم إن الناس يباهون بما يدعونه "نموًّا" و"تقدُّمًا". أما الفينكس فكأنِّي به يقول أن ليس في الحياة نموٌّ وتقدُّم. إذ إن كلَّ ما ينمو يحمل في داخله جراثيم انحلاله. وكلُّ ما ينحلُّ لا يدوم. وكل ما لا يدوم لا وجود أو لا حقيقة له في ذاته؛ بل هو يستمدُّ حقيقة وجوده من الحقيقة الواحدة التي هي اليوم مثلها أمس، وغدًا مثلها اليوم؛ فلا يطرأ عليها أقلُّ تغيير أو تبديل. وهي لا "تنمو"؛ إذ لا شكل لها ولا قياس، ولا بداية ولا نهاية. وهي لا "تتقدَّم"؛ إذ ليس في الوجود ما هو خارج عنها لتتقدَّم من ذاتها إليه. والفينكس يقول إن السبيل الأوحد إلى "النموِّ" هو بالنقصان أو بالتقلُّص – بالتجرُّد من الأشكال الخارجية للوصول إلى الحقيقة الكامنة في الأشكال – إلى النَّار التي هي رمز الروح الكائن في كلِّ شيء. وإن السبيل الأوحد إلى "التقدم" هو بالرجوع إلى الوراء – كلٌّ إلى هليوبوليسه.
أما المدة التي يحياها الفينكس بين التجدُّد والتجدُّد والتي تختلف باختلاف الروايات بين خمسين، وخمسمائة، وخمسمائة وثمانين، وألف وأربعمائة وإحدى وستين، وسبعة آلاف سنة فالمتفق عليه أنها ترمز إلى أدوار وتقلبات فلكيَّة. فلنتركها للفلكيِّين. غير أنَّ فيها معاني لا صلة لها بالأفلاك. فكأنِّي بالفينكس الذي يعمِّر أجيالاً طويلة يقول إن أعمار الكائنات موقوفة على جمال حياتها الباطنيَّة وانسجامها مع ذاتها ومع ما حواليها من كائنات سواها. فهي تطول بطول ذلك الانسجام وتقصر بقصره.
هكذا نرى الفينكس الذي لا يسطو على مخلوق من أجل طعامه، ولا يقاتل مخلوقًا في سبيل رفيقة أو عشيقة، يعيش في أُلفة مع كلِّ مخلوق. ولأنَّه لا يشتهي شيئًا تراه لا يخاف شيئًا بل يحيا في سلام مع كل شيء. ومن ثمَّ فأنا لا أعرف مثالاً كمثال الفينكس يبين لك أن نقاوة الجسد – كنقاوة القلب – قوَّة لا تُقهر. فهذا الطائر لا يغذي جسده بنبات الأرض أو حيوانها بل بعطورها؛ لذلك يعمِّر قرونًا طويلة. إلاَّ أن هذا الغذاء، على كل ما فيه من طهارة، معرَّض للانحلال. ولذاك يعرض جسد الفينكس للانحلال، ولو بعد قرون. فالنظام الأعلى قد حتَّم على كل ما يولد من مصدر قابل للتغير أن يكون عبدًا للتغيُّر؛ وعلى كل ما يتغذَّى بالمادة أن يكون غذاء للمادة؛ وعلى كل ما يأخذ أن يعطي على قدر ما يأخذ؛ وعلى كلِّ ما يشتهي شيئًا خارجًا عن ذاته أن يكون محطًّا لشهوات الأشياء الخارجة عن ذاته.
هنالك صفة تفرَّد بها الفينكس عن كل الطيور التي ابتدعها الإنسان على شاكلته. فهو أبدًا وحيد، لا رفيق له من جنسه. فكأنَّه ذكر وأنثى معًا. وكأنِّي به يعلن بذلك مع الناصريِّ أنَّ في الكون أرجاء من الوجود "لا يزوِّجون فيها ولا يتزوَّجون"، وأنَّ الذكر والأنثى عنصران مختلفان في دورة محدودة من دورات الحياة، وأنَّ الاثنين يتوحَّدان في عوالم غير عالمنا هذا.
ولكَ، إن أنت آنَستَ من نفسك ميلاً إلى التعمُّق في بواطن الحياة، أن تقرأ في الفينكس معاني غير التي قرأت، وأجمل ممَّا قرأت. إلا أنك قد تكون ممَّن لا يؤمنون بغير ما يبصرون ويلمسون. وإذ ذاك فالغراب أحقُّ بإيمانك من الفينكس؛ وما الفينكس عندك غير خرافة متهرئة وأسطورة قديمة. ألا خُذْ غرابكَ وأعطني الفينكس.
ها أنا أُطبِق أجفاني فتنهض أمامي من خراباتها مدينة "آنُّو" العاتية الزاهية – هليوبوليس – مدينة الشمس. وفي وسطها أُبصر هيكل رَعْ في كلِّ أُبَّهته وجلاله. وعلى مذبح الهيكل أُبصر طائرًا مغمورًا بنور الشمس وهو يصفِّق بجناحيه البديعين تصفيق غبطةٍ وجذل. ها صدره القرمزي يلتهب فتتحوَّل كل ريشة فيه إلى لسانٍ من نار. ثم يتحوَّل الطائر كلُّه إلى ذبيحة متوهِّجة ونور معطَّر وعناق محرق بين الحياة والموت. وإذ تهدأ النار فأبصر فينكسًا ناهضًا من كومة الرماد أهتف كالمسحور مع كاهن الهيكل:
يا رَعْ! أيُّها الكائن الجميل الذي يجدِّد ذاته في حينه. أيُّها الطفل الإلهي. يا وريث الأبديَّة. يا والد نفسه. يا أمير الأرجاء السفلى ومدير الأحياء العليا. يا إله الحياة. يا ربَّ المجد. كلُّ نسمة تحيا بشعاعك!
*** *** ***
* ميخائيل نعيمه، صوت العالم، مؤسسة نوفل، بيروت، 1988، ص 96-114.
ألا فليزجَّني من شاء بين القدماء والبسطاء. لأنَّني أؤمن بالفينكس. وأنا أؤمن به لأنَّني أؤمن بالخيال الذي ابتدعه. أوَليس الخيال حقيقة؟ إذنْ كلُّ ما يحبل به الخيال ويلده ويغذيه، أكان أجمل الجميل أو أقبح القبيح، يشترك في حقيقة الخيال. ونحن لو نظرنا في الخيال الذي يعمل بغير انقطاع لوجدنا أنَّ ما دون النَّزْر من أعماله يتَّخذ شكلاً محسوسًا. فلو رضينا بهذا النزر وحده حقيقةً، ونبذنا ما تبَقَّى كما لو كان وهمًا أو غير حقيقة، إذن لكان الخيال ذاته خرافة، والإنسان نفسه أسطورة.
إنّ خيالاً يلد طائرًا كالفينكس لَخيالٌ مبدع في ذاته ومن ذاته. لقد خلق الإنسانُ الفينكس، ومن حقِّه أن ينظر إلى ما خلقه ويقول: "إنَّه لحَسنٌ جدًّا." بل إنني أُضيف إلى ذلك، وإن رماني البعض بالتجديف، أنَّ الله نفسه، لو أنَّه فكَّر بطائر كهذا الطائر، لخلق واحدًا مثله. وقد يكون أنَّ خيال الإنسان يتمِّم خيال خالقه. أوَلم يصنع اللهُ الإنسان على صورته ومثاله؟
من روايات هذه الأسطورة المتعدِّدة الرِّوايات أنَّ الفينكس يسكن الجزيرة العربيَّة. فتعال نفلت، ولو بضع دقائق، من نطاق الجدران والسقوف، ونهرب بالخيال إلى غابة في مجاهل تلك الشقَّة من الجزيرة التي دعاها الأقدمون "العربيَّة السعيدة" والتي نعرفها اليوم باسم اليَمن، لعلَّنا نطلُّ على الفينكس في موطنه.
ها هي الشمس قد ارتفعت في المشرق. السماء صافية زرقاء، ونسمات الصبح العليلة تتهادى بين الأشجار مدغدغة أوراقها الغضَّة. في الغابة نهر عميق يسير بجلال نحو البحر، حاملاً على صفحته الصافية خيالات الأشجار والأدغال المتعانقة على جانبيه. أنَّى التفتَّ جمالٌ وسلام. حتى لتحسبك في جنَّة من جِنان الفردوس.
غير أنَّ الأشجار تحذِّرك من الانخداع بالظواهر. فهي تعرف أنَّ فيها وعليها وحواليها قد اشتبك الموت والحياة في صراع عنيف. كلُّ ما في الغابة من مخلوقات تمشي، ومخلوقات تدبُّ أو تزحف، ومخلوقات تمتطي الهواء وتهمزه بالأغاريد، يدأب بغير انقطاع طالبًا غذاء لنفسه أو مطلوبًا ليكون غذاء لسواه. ولا مفرَّ من ذلك الدُّردور حتى للصخور. كلُّ ما ينبثق من الأرض تبتلعُه الأرض رويدًا رويدًا، لتعود فتلفظه حيوانات وطيورًا وزحَّافات وحشرات وأشجارًا وأعشابًا وأزهارًا. فالحياة ههنا، شأنها في سائر المسكونة، تشتعل كعليقة موسى من غير أن تحترق.
في رأس أعلى شجرة من الغابة قد جثم طائرٌ لا شبيه له في كلِّ الخليقة. وقد اتَّجه نحو الشمس، فبانت كلُّ ريشة من صدره القرمزي الناعم كما لو كانت تلتهب بنار من عالم آخر. وكلُّ ريشة من جناحيه الذهبيَّين، المغموسة أطرافُهما في زرقة ولا زرقة السماء، كما لو كانت تقدح شرارًا من شرار الثريا. عنقه الطويل الجميل، المطوَّق بطوق ناصع البياض، قد تقوَّس إلى الأمام. أمَّا رأسه الدقيق الصنع فقد ارتدَّ قليلاً إلى الوراء مصوِّبًا منقاره الحادَّ نحو الشمس.
لقد جمع هذا الطائر بين زخرفة الطاووس وجمال طائر الفردوس، دون خُيَلاء الأوَّل وخجل الثاني. وهو ينظر بطمأنينة إلى الشرق كأنَّه لا يشعر بوجود شيء في العالم إلاَّ الشمس – مصدر النور والحياة. ترفرف من حواليه طيور كثيرة ما بين كبيرة وصغيرة، وإذ تمرُّ به تخفض أجنحتها مسلِّمةً عليه سلام إعجاب واحترام. حتى إن القويَّ من الفَراش الذي تمكِّنه أجنحتُه من الوصول إليه يرفرف حواليه مرَّتين أو ثلاثًا، ثم يهبط إلى الأرض شاكرًا جذِلاً.
الغابة تعجُّ بالأصوات من طائر يناجي عشيره أو وحش ينادي رفيقه – إلاَّ هذا الطائر الغريب. فهو لا يناجي أحدًا ولا أحد يناجيه. إذ لا عشير له ولا رفيق، لا في مشارق الأرض ولا في مغاربها، ولا في عالم آخر من العوالم الدائرة في الفضاء. سواه من الطيور منهمك في بناء أعشاش أو تربية فراخ؛ أمَّا هو فلا عشٌّ يبنيه ولا فراخ يزقُّها. سواه يرفرف هنا وهنالك طالبًا قوتًا؛ أمَّا هو فلا يقتات بشيء حيٍّ بل بالبخور والعطور. سواه من الطيور يصيح فَرَقًا وقد علق في مخالب عدوِّه؛ أمَّا هو فلا يعرف الخوف لأنَّه لا يؤذي مخلوقًا فلا يؤذيه مخلوق، لا ولا تؤذيه العناصر. هو وحيد في العالم كلِّه. لكنَّه لا وحدة في قلبه ولا وحشة. سواه من الطيور يبدِّل ريشه مرَّة في كل عام؛ أمَّا هو فلم يبدل ريشة واحدة منذ أن كان له من العمر يوم واحد – وذلك منذ خمسمائة سنة!
لقد نبتتْ في الغابة أشجارٌ كثيرة، فنَمَتْ حتى طالت السحاب، ثمَّ هرمت وتفتَّتت وأخْلَتْ مكانها لأشجار أخرى. ولقد جرفت الفصول المسرعة أجيالاً لا تحصى من الطيور والحشرات والحيوانات، ثمَّ جاءت بغيرها لتحلَّ محلَّها. ووراء حدود الغابة، في مملكة الإنسان، قد طغت موجة بعد موجة من أعمال الناس، ثم تكسَّرت وتبعثرت على شواطئ الزمان الذي لا بداية له ولا نهاية.
أمَمٌ بكاملها أطلَّت على الحياة ثمَّ توارت، فكأنها لم تكن. ومدنٌ عديدة شمخت بأبراجها وقببها إلى السماء فلم تلبث أن عانقت التراب. ممالك عَلَتْ ثمَّ انخفضت. غزاة ومغزوُّون. أبطال وأنذال. عاشقون ومعشوقون. رؤوس متوَّجة ورؤوس بغير تيجان – كلُّ هؤلاء وهذه مشوا فترة على الأرض، ثمَّ عادت الأرض فاحتضنتهم ليمشي فوقهم سواهم من أبناء الأرض. حيث كانت تكرُّ أنهار جبَّارة نبتتْ اليوم أشواك وأحساك وأدغال وبنى النمل قراه والجراذين أجحارها.
كم من جنائن غنَّاء ابتلعتها الصحراء، وكم من صحراء أورقت وأزهرت! كم إله أُنزِل عن عرشه وإله أُجلِس على عرش! كلُّ ما في الكون قد تغيَّر وتحوَّل في غضون خمسة قرون – إلاَّ هذا الطائر الذي في عينَيه – كما في عينَيْ يهوه – "ألف سنة كيوم أمس الذي عبر وكهجعة من الليل".
غير أنَّ الوقت قد أزف حتى للفينكس أن "يتغيَّر". لا صوت يهمس في أذنيه؛ ولا إصبع تدلُّه كيف يتَّجه؛ ولا قوَّة خارجيَّة تأمره أن يفعل ما هو مزمع أن يفعله. لكنَّه بدليل من نفسه، وبصوت من داخله، يدير وجهه نحو الشمال الغربي، وبعد أن يصفِّق بجناحيه ثلاثًا، يمتطي الهواء. ولا حزن في قلبه على أمسية خمسة قرون يتركها وراءه، ولا خوف من أغدية خمسةٍ أخرى يقابلها. وهو يعرف محجَّته كلَّ المعرفة.
في وادي النيل البعيد مدينة كان المصريُّون يدعونها "آنُّو"، والعبرانيون "بيت شمس"، والروم "هليوبوليس". وفي تلك المدينة هيكل مكرَّس لعبادة الإله "رَعْ".
الفينكس يعرف المدينة والهيكل، ويعرف الفسحة التي سيستقرُّ عليها من المذبح. لأنَّه، منذ أجيال لا تحصى، يقصد إلى جلجثته هذه مرَّة في كل خمسمائة سنة ليتقبَّل عليها الموت. ومرَّة في كل خمسمائة سنة يعود منها تاركًا الموت في حيرة وارتباك.
يشقُّ الفينكس الهواء بجناحيه القويَّين مسرعًا نحو وادي النيل، فتجتمع من حوله شتَّى الطيور لترافقه، ولو بعض المسافة، فتُظهِر له تجلَّتها واحترامها. ولا يزال يطوي المسافات إلى أن تبدو لعينيه هليوبوليس.
في هيكل رَعْ نافذة فوق المذبح تطلُّ منها الشمس فتمتزج أشعتُها بدخان البخور وتضفر منه غدائر من ذهب وفضَّة كأنها أنفاس أرواح تائهة. وهذه الغدائر تلتفُّ وتنحلُّ فوق المذبح كأنَّها خيوط ممدودة على منوال خفيٍّ، وكأنَّ يدًا خفيَّة تحوك منها أنسجة غريبة. وليس في الهيكل الواسع المظلم سوى كاهن عجوز غارق في تأمُّلاته.
يسمع الكاهن بغتة حفيف أجنحة يقطع عليه مجرى تأملاته. وإذ يرفع عينيه يبصر على المذبح طائرًا عجيبًا يغتسل بنور الشمس، وقطُّ لم تقع عيناه على أجمل منه. فتأخذه الدهشة. ولا تلبث دهشته أن تنقلب إلى رهبة، إذ يحدِّق إلى الطائر فيراه قد انتصب رافعًا جناحيه إلى فوق. ثم يراه يصفِّق بهما تصفيقًا حادًّا. وما هي إلاَّ لمحة حتى يلتهب الجناحان فيبدوان كأنهما مروحة من نار. ويندمج الطائر بأشعة الشمس حتى ليشكل على الكاهن أن يفرِّق بينهما. وما هي إلا لمحة أخرى حتى يرتفع الجناحان إلى أعلى، وقد انقطعا عن التصفيق، فتبدو كلُّ ريشة كأنَّها مشعل من نار حيَّة.
يكاد الكاهن لا يصدِّق عينيه من شدَّة دهشته. فحيث رأى منذ لحظة طائرًا حيًّا يرى الآن ألسنة من لهيب تثب إلى فوق. ويا له من لهيب ما سبق له أن أبصر نظيره في كلِّ حياته! هو لهيب يرتدُّ البصر كليلاً عن بهائه، وتسكر الأنفاس بعطره. ألا تبارك رَعْ الأزلي الأبدي، الذي يحيي نفسه بنفسه ويحيي كلَّ شيء!
يملأ اللهيب الهيكل بأشباح رائعة، كلُّها يثب إلى فوق ويتلاشى في وثباته. ورويدًا رويدًا تخمد النار تاركة حفنة من الرماد المتوهِّج.
يا للخسارة أن يهلك طائر بديع كهذا الطائر وفي صورة مفجعة كتلك الصورة! ولكن... أحقًّا أنه قد هلك؟
يفرك الكاهن عينيه ليتأكَّد من أنه ليس في منام، فيرى – ويا للعجيبة! – يرى طائرًا يخرج من كومة الرماد المتوهِّج، كاملاً بكلِّ تفاصيله، عجيبًا بجماله، كالطائر الذي التهمته النار منذ لحظة. فكأنَّه هو. بل هو هو. فيهبط الكاهن على ركبتيه، ويغطي عينيه بيديه، ويحني هامته البيضاء حتى تلامس الأرض، ويتمتم كلمات يكاد لا يسمعها:
يا رَعْ. أيُّها الكائن الجميل الذي يجدِّد ذاته في حينه. أيُّها الطفل الإلهي. يا وريث الأبديَّة. يا والد نفسه. يا أمير الأرجاء السفلى ومدير الأحياء العليا. يا إله الحياة. يا ربَّ المجد. كل نسمة تحيا بشعاعك.
***
إن خيالاً جريئًا وخصبًا، إذا ما أعطيته مثالاً كمثال الفينكس، نمَّق فيه ووشَّى حواشيه إلى ما لا نهاية له. فالقدماء، مع محافظتهم على الفينكس كطائر يحيا فردًا ويجدِّد ذاته بذاته، قد ابتدعوا أساطير مختلفة لموته وللمدَّة التي يحياها بين التجدُّد والتجدُّد. وما الرواية التي حاولتُ تصويرها في ما سلف إلاَّ واحدة من تلك الروايات الكثيرة التي ضاعت مصادرُها في زمان قلَّما كان يأبه للأسماء والتواريخ لأنَّه كان يهتم قبل كلِّ شيء بحقائق الحياة الثابتة أو بالفكرة الأبديَّة.
لا خلاف على أن اسم الفينكس يوناني. والكلمة تعني، في بعض ما تعنيه، نوعًا من النخيل. ولعلَّ اليونان عرفوا ذلك النوع في بلاد فينيقية أوَّلاً فأسموه باسم البلاد. أو لعلَّهم أسموا البلاد باسم ذلك النوع من النخل لأنه كان يكثر فيها. وقد يكون أنَّهم أطلقوا اسم الفينكس على ذلك الطائر الخرافيِّ لأنهم أخذوا الأسطورة عن الفينيقيِّين. وفي الفقرة الآتية من نشيد بولاق للإله رَعْ ما يدعم الظن بأن اسم الفينكس مأخوذ من فينيقية:
المجد له في الهيكل عندما ينهض من بيت النار. الآلهة كلُّها تحبُّ أريجه عندما يقترب من بلاد العرب. هو ربُّ الندى عندما يأتي من ماتان. ها هو يدنو بجماله اللامع من فينيقية محفوفًا بالآلهة.
إن يكن أصل الاسم في شك فأصل الطائر ذاته أكثر تعقُّدًا من الاسم. فقد يكون فينيقيًّا. وقد يكون مصريًّا. وأقرب شبيه له في قديم الآثار الكتابية تقع عليه في ذلك السِّفر المصري العجيب المعروف بـكتاب الموتى؛ وهو مجموعة فصول شائقة في الأمور الباطنيَّة والفلسفة والشعر والسحر يرجع بعضها إلى القرن الأربعين قبل الميلاد. ولعلَّ هذه المجموعة هي أثمن ما ورثناه عن سكَّان وادي النيل القدماء. فهي، من أوَّلها إلى آخرها، تنبض بإيمان المصريِّين بالخلود. فالموت عندهم ما كان إلا سياحة بين عالَمين أو انتقالاً من شاطئ الحياة الأدنى إلى شاطئها الأقصى. وإذ إنَّ حكماءهم كانوا يدركون كلَّ الإدراك أن العامة من الناس أجهل من أن تتناول الحقيقة مجرَّدةً عن الحسِّ تراهم أقاموا لها بنايات عديدة من الرموز كيما يسهِّلوا عليهم الوصول بالحسِّ إلى ما هو أبعد من الحسِّ. وكان أحد رموزهم طائرًا من نوع الغرنوق أو مالك الحزين، وكانوا يدعونه "بنُّو" – والاسم مشتقٌّ من كلمة تعني الرجوع. وهذا الطائر كان يمثِّل في أساطيرهم وعلى رأسه ريشتان منحنيتان إلى خلف.
مَن يطالع كتاب الموتى يرَ أن طائر البنُّو كان يرمز إلى رَعْ – الإله الذي ولد نفسه من نفسه وما كان يعرف الموت؛ النهار المنبثق من حقوَي الليل، والنور المتغلِّب أبدًا على الظلمة. فمن هذا القبيل، وكذلك من حيث الصلة بينه وبين هليوبوليس، نرى أن طائر البنُّو يشترك في بعض خصائص الفينكس. غير أنه ليس مذكورًا في كتاب الموتى أو في كتاب آخر كطائر يموت بالنار مرَّة في كل خمسمائة سنة أو أكثر ثمَّ ينهض متجدِّدًا من رماده.
إلا أن كاهنًا مصريًّا اسمه "هورابولُّو" قد أوجد صلة متينة بين الطائر المصري والفينكس، وذلك في القرن الخامس قبل الميلاد. ففي الترجمة اليونانية لكتاباته نسمعه يتكلَّم عن طائر معروف عند المصريِّين وفي تقاليدهم. واسمه في الترجمة اليونانية "فينكس". وبعد أن يتكلَّم هورابولُّو عن ظهور هذا الطائر مرَّةً في كلِّ خمسمائة سنة يصف موته هكذا:
عندما يشعر الفينكس بدنوِّ أجله يطرح نفسه بعنف على الأرض فينجرح ويسيل دمه. ومن دمه المتجمِّد يولد فينكس جديد. وهذا حالما يكتسي بالريش يطير بوالده إلى هليوبوليس. وإذ يبلغانها يموت الوالد عند شروق الشمس. فيحرقه الكهنة المصريون. وأمَّا الفينكس الجديد فينطلق إلى بلاده.
من بعد هورابولُّو أخذت حكاية الفينكس تنتشر وتزداد شهرة في الغرب، إلى حدِّ أنَّها استرعت انتباه المؤرِّخين والشعراء واللاهوتيِّين القدماء. ومنهم هيرودوتس. فهذا المؤرِّخ، في سياق وصفه لسياحة قام بها في مصر، يتكلَّم عن الفينكس كما لو كان طائرًا عربيًّا. ثم يضيف متحفِّظًا: "أمَّا أنا فلم أبصره إلا في الصور." لكن الشاعر أوفيد لا يتحفَّظ أبدًا في وصفه. فهو يتحدَّث عن الفينكس كطائر يجدِّد ذاته بذاته، ويتغذَّى بالعطور لا غير. ويقول إنَّه، بعد أن يعيش خمسمائة سنة، يبني لذاته عشًّا من القرفة والناردين والمرِّ في رأس نخلة. وفي ذلك العشِّ يلفظ آخر أنحابه. ومن جثَّته يولد فينكس جديد. وهذا، عندما تكتمل قواه، ينتشل العشَّ الذي هو مهده ولحد والده ويطير به إلى هليوبوليس حيث يضعه في هيكل الشمس.
وأكثر جرأة من الشاعر أوفيد المؤرِّخ تاسيتوس الذي لا يتردَّد في ذكر ظهور الفينكس كحادث تاريخي في زمان القنصل بولس فابيوس (34 م).
هكذا درجت حكاية الفينكس على ألسنة القدماء وأقلام كتَّابهم وشعرائهم. وكان آباء الكنيسة أكثر الناس إقبالاً عليها. فقد اتَّخذها أمثال ترتوليانوس وكليمنضوس وأبيفانيوس رمزًا لقيامة المسيح من الموت. وغيرهم وجد فيها شاهدًا لا يُدحَض على ولادة المسيح من عذراء.
مِن أقدم الآثار الكنسية التي ورد فيها ذكر الفينكس كتاب الفيزيولوغوس الإسكندري؛ وهو مجموعة حكايات وثنيَّة عن الحيوانات والطيور استخلص منها جامعوها مواعظ وإرشادات وحججًا دينيَّة. وقد ورد فيها أن الفينكس طائر هندي لا يتغذَّى بشيء غير الهواء؛ ومرَّةً في كل خمسمائة سنة يقصد إلى هليوبوليس حاملاً أنواع الطيب على جناحيه. وهناك يحرق نفسه على مذبح الهيكل، فتخرج من رماده دودة تتحوَّل بعد ثلاثة أيَّام إلى فينكس كامل. وهذا الفينكس يحيِّي الكاهن ثمَّ يطير إلى بلاده.
وفي اللاتينيَّة كتاب يدعى Anecdota Syriaca، أو الحكايات السريانيَّة، وردت فيه أسطورة الفينكس كما يلي:
يقولون كذلك إن في بلاد الهند طائرًا عظيمًا يأتي مرَّةً في كل خمسين (كذا) سنة إلى جبل لبنان. وهناك يجمع أطيب العطور وأجمل الأزهار ثم يعود إلى الهند. ومجيئه يكون في شهر نيسان. ففي ذلك الشهر يقيم كاهن المنطقة مذبحًا على قمَّة جبلٍ عالٍ ويبني حول المذبح شبه بيت من أغصان الكرمة. فيأتي الطائر ويدخل البيت ويقف على المذبح، ثمَّ يأخذ يصفق بجناحيه حتى يلتهبا ويلتهب البيت معهما فيصبح الكل رمادًا. وبعد ثلاثة أيَّام يصعد الكاهن إلى قمَّة الجبل ويتفحَّص الرماد وفيه يجد دودة صغيرة. والدودة هذه تكبر ثمَّ تتحوَّل طائرًا كالذي احترق. وهذا الطائر يعود من حيث جاء.
***
لقد بقي الإيمان بالفينكس حيًّا حتى عصر التجدُّد Renaissance. وبعد ذلك أخذ يتقهقر من وجه "العلم" الذي لا يؤمن إلاَّ بالبرهان "الحسِّي". حتى أصبح "خرافةً" قلَّ من يهتم بها. وأكثر الناس لا يعرف منها غير الاسم. ولكنَّ الفينكس ما أُدرِجَ في أكفان الإهمال والنسيان إلا من بعد أن خلَّف لنا آثارًا لا تمحى من روعة جماله ومعانيه.
ويندر أن تجد أمَّة قديمة لم تنسج على مثال الفينكس ولم تخلق لها طائرًا قريبًا منه. فالعرب قد خلقوا العنقاء والفُرس "السيمورغ" والهنود "غارودا" والصينيُّون "فَنْغْ–هْوانْغ" واليابانيون "هُوْ–أوْ". ومن شاء أن يقابل بين رقيِّ الأمم الروحي فليقابل بين الطيور التي ابتدعها خيالها. ففي المقابلة درسٌ طريف ولذَّة لا تُنكَر.
أمَّا أنا فلي لذَّة أكبر في درس الفينكس. وقبل أن أودِّع هذا الطائر العجيب أُحبُّ، إذا استطعت ذلك، أن أنفذ إلى سرِّه، فأعرف القصد من خلقه.
لِنَقُل إن الفينكس رمز. ولكن إلى مَ يرمز؟ ألعلَّه وليد شوق الإنسان الفاني إلى عدم الفناء؟ أم لعلَّه قناع من الجمال حاكه الوهم لأعين قرَّحتْها الشناعة؟ أم هو رؤيا من رؤى الإلهام الذي ينير الآباد بطرفة عين وينشب من خلال الأشكال إلى روح الأشياء وجوهرها؟
إنَّ أكثر البحَّاثين الذين وقفتُ لهم على رأي في الفينكس يتخلَّصون منه بقولهم إن قدامى المصريِّين اتَّخذوه رمزًا للشمس في شروقها وغروبها لأنَّهم كانوا يعبدون الشمس تحت اسم رَعْ. وإذ إنَّني لست بالبحَّاثة ولا بالعالِمِ الأثري، تراني أبيح لنفسي مخالفة هذا الرأي من غير أن أجلب لذاتي سخط البحَّاثين وعداوة العلماء.
لا جدال في أن سواد الشعب المصري القديم كان يتَّخذ الشمس معبودًا له. أما مؤلِّفو كتاب الموتى، وشائدو الأهرام، وخالقو أبي الهول وإيزيس وأوزيريس وأسرارهما، ومعلِّمو ديموقريط وبيثاغورس وأفلاطون، فكيف تصدِّق أنهم كانوا يعبدون جِرمًا سماويًّا – مهما عَظُمَ ذلك الجِرم وعَجُبَ – وهم قد رادوا الفضاء واكتشفوا سبل النجوم؟ بل إن الشمس لم تكن لمثل هؤلاء غير رمز محسوس لإله غير محسوس – لِرَعْ الوالد ذاته من ذاته، المحيط بكلِّ شيء والذي لا يحيط به شيء، المبدع الأشكال ولا شكل له، والخالق البدايات والنهايات ولا بداية له ولا نهاية. وما آلهة المصريِّين، على وفرتها، سوى صفات متنوعة لذلك الإله الواحد.
إن من يقرأ كتاب الموتى – ولو قراءة سطحيَّة – لا يسعه أن يقول غير هذا القول. وأنا أجلُّ حكماء المصريِّين عن حماقة تجعل من الشمس رمزًا لِرَعْ، ثم تخلق الفينكس الذي لم يكن يبصره غير نفرٍ قليل من الناس – وذاك مرَّة في خمسة قرون – لتجعله رمزًا للشمس التي يراها كلُّ ذي بصر في كلِّ يوم. إنَّما يرمز الفينكس إلى ما هو أبعد من الشمس وأبقى بما لا يقاس – إلى الحياة في مظهريها كمادَّة وروح.
في خواء الظواهر المتقلِّبة تعوَّد الناس أن يميِّزوا بين نوعين من التغير، وأن يدعوا الواحد حياة والآخر موتًا. أما الفينكس فكأني به يقول إنَّ الموت والحياة واحد لأن مصدرهما واحد، وهو الروح المرموز إليه بالنار. فالنار أبدًا هي هي. تلتهم الأشياء ثمَّ تكثرها وتنوِّعها. لكنَّها لا تلتهم ولا تكثر أو تنوِّع ذاتها. هي النار – أو الروح – تلك الحياة الأولية التي يدعوها العلم الحديث "الطاقة" – تنظِّم ذرَّات الأشياء على اختلاف أنواعها ثم تنثرها. فهي متغلغلة في كل شيء: في ركام الجليد الطافي على وجه اليمِّ مثلها في الشمس؛ وفي الزناد مثلها في كتلة اللحم النابضة في صدر الإنسان. وهي عندما تلتهم شيئًا تردُّه إلى عناصره الأصليَّة؛ فلا تتلاشى بل تنعتق من سجنها الوقتي. وهكذا عندما يحرق الفينكس نفسه لا "يموت" حتى لحظة واحدة. لأن النار التي هي روحه تبقى كامنة في رماده. وهي التي تعود فتجمع ذرَّاته من جديد فتكوِّن منها فينكسًا جديدًا. فهو وإن بدَّل جسده مرَّة في كلِّ خمسمائة سنة لا يبدُّل الروح التي لا يطرأ عليها انقطاع أو تغيير.
ثم إن الناس يباهون بما يدعونه "نموًّا" و"تقدُّمًا". أما الفينكس فكأنِّي به يقول أن ليس في الحياة نموٌّ وتقدُّم. إذ إن كلَّ ما ينمو يحمل في داخله جراثيم انحلاله. وكلُّ ما ينحلُّ لا يدوم. وكل ما لا يدوم لا وجود أو لا حقيقة له في ذاته؛ بل هو يستمدُّ حقيقة وجوده من الحقيقة الواحدة التي هي اليوم مثلها أمس، وغدًا مثلها اليوم؛ فلا يطرأ عليها أقلُّ تغيير أو تبديل. وهي لا "تنمو"؛ إذ لا شكل لها ولا قياس، ولا بداية ولا نهاية. وهي لا "تتقدَّم"؛ إذ ليس في الوجود ما هو خارج عنها لتتقدَّم من ذاتها إليه. والفينكس يقول إن السبيل الأوحد إلى "النموِّ" هو بالنقصان أو بالتقلُّص – بالتجرُّد من الأشكال الخارجية للوصول إلى الحقيقة الكامنة في الأشكال – إلى النَّار التي هي رمز الروح الكائن في كلِّ شيء. وإن السبيل الأوحد إلى "التقدم" هو بالرجوع إلى الوراء – كلٌّ إلى هليوبوليسه.
أما المدة التي يحياها الفينكس بين التجدُّد والتجدُّد والتي تختلف باختلاف الروايات بين خمسين، وخمسمائة، وخمسمائة وثمانين، وألف وأربعمائة وإحدى وستين، وسبعة آلاف سنة فالمتفق عليه أنها ترمز إلى أدوار وتقلبات فلكيَّة. فلنتركها للفلكيِّين. غير أنَّ فيها معاني لا صلة لها بالأفلاك. فكأنِّي بالفينكس الذي يعمِّر أجيالاً طويلة يقول إن أعمار الكائنات موقوفة على جمال حياتها الباطنيَّة وانسجامها مع ذاتها ومع ما حواليها من كائنات سواها. فهي تطول بطول ذلك الانسجام وتقصر بقصره.
هكذا نرى الفينكس الذي لا يسطو على مخلوق من أجل طعامه، ولا يقاتل مخلوقًا في سبيل رفيقة أو عشيقة، يعيش في أُلفة مع كلِّ مخلوق. ولأنَّه لا يشتهي شيئًا تراه لا يخاف شيئًا بل يحيا في سلام مع كل شيء. ومن ثمَّ فأنا لا أعرف مثالاً كمثال الفينكس يبين لك أن نقاوة الجسد – كنقاوة القلب – قوَّة لا تُقهر. فهذا الطائر لا يغذي جسده بنبات الأرض أو حيوانها بل بعطورها؛ لذلك يعمِّر قرونًا طويلة. إلاَّ أن هذا الغذاء، على كل ما فيه من طهارة، معرَّض للانحلال. ولذاك يعرض جسد الفينكس للانحلال، ولو بعد قرون. فالنظام الأعلى قد حتَّم على كل ما يولد من مصدر قابل للتغير أن يكون عبدًا للتغيُّر؛ وعلى كل ما يتغذَّى بالمادة أن يكون غذاء للمادة؛ وعلى كل ما يأخذ أن يعطي على قدر ما يأخذ؛ وعلى كلِّ ما يشتهي شيئًا خارجًا عن ذاته أن يكون محطًّا لشهوات الأشياء الخارجة عن ذاته.
هنالك صفة تفرَّد بها الفينكس عن كل الطيور التي ابتدعها الإنسان على شاكلته. فهو أبدًا وحيد، لا رفيق له من جنسه. فكأنَّه ذكر وأنثى معًا. وكأنِّي به يعلن بذلك مع الناصريِّ أنَّ في الكون أرجاء من الوجود "لا يزوِّجون فيها ولا يتزوَّجون"، وأنَّ الذكر والأنثى عنصران مختلفان في دورة محدودة من دورات الحياة، وأنَّ الاثنين يتوحَّدان في عوالم غير عالمنا هذا.
ولكَ، إن أنت آنَستَ من نفسك ميلاً إلى التعمُّق في بواطن الحياة، أن تقرأ في الفينكس معاني غير التي قرأت، وأجمل ممَّا قرأت. إلا أنك قد تكون ممَّن لا يؤمنون بغير ما يبصرون ويلمسون. وإذ ذاك فالغراب أحقُّ بإيمانك من الفينكس؛ وما الفينكس عندك غير خرافة متهرئة وأسطورة قديمة. ألا خُذْ غرابكَ وأعطني الفينكس.
ها أنا أُطبِق أجفاني فتنهض أمامي من خراباتها مدينة "آنُّو" العاتية الزاهية – هليوبوليس – مدينة الشمس. وفي وسطها أُبصر هيكل رَعْ في كلِّ أُبَّهته وجلاله. وعلى مذبح الهيكل أُبصر طائرًا مغمورًا بنور الشمس وهو يصفِّق بجناحيه البديعين تصفيق غبطةٍ وجذل. ها صدره القرمزي يلتهب فتتحوَّل كل ريشة فيه إلى لسانٍ من نار. ثم يتحوَّل الطائر كلُّه إلى ذبيحة متوهِّجة ونور معطَّر وعناق محرق بين الحياة والموت. وإذ تهدأ النار فأبصر فينكسًا ناهضًا من كومة الرماد أهتف كالمسحور مع كاهن الهيكل:
يا رَعْ! أيُّها الكائن الجميل الذي يجدِّد ذاته في حينه. أيُّها الطفل الإلهي. يا وريث الأبديَّة. يا والد نفسه. يا أمير الأرجاء السفلى ومدير الأحياء العليا. يا إله الحياة. يا ربَّ المجد. كلُّ نسمة تحيا بشعاعك!
*** *** ***
* ميخائيل نعيمه، صوت العالم، مؤسسة نوفل، بيروت، 1988، ص 96-114.
Comment