الـــوردة
في شهر أيار، كانت توجد في حديقة هذا البيتالصغير في الضاحية، بالقرب من أشجار الورد، صفوف من الملفوف. كان المالك، وهو عجوزمتقاعد، يعيش وحيداً مع طاهيته، يخلع سترته عند الغسق، ويلبس مئزراً من القماشالمخطّط وينكش الأرض بالمعول، ويشذِّبها، ويسقيها ساعة، في انتظار وجبة العشاء. وكانت نساء الحيّ تستطيع رؤيته، وهن عائدات مساءً من الحدائق العامَّة مع أطفالهن،من خلال قضبان الشبكة المعدنية، فيما هو يوجِّه الفوارة على المساكب حاملاً خرطومالماء بيده. وكان الرجل المتقاعد يقطف، من حينٍ لآخر، ملفوفةً، ويعطيها لطاهيته؛ أويقص بالمقراض بعضاً من تلك الورود، ويضعها في زهرية في منتصف الطاولة، في قاعةالطعام. وعندما يجد وردة جميلة جمالاً خاصاً، كان الرجل المتقاعد يحملها إلى غرفته،ويضعها في كأس بعد ملئها بالماء، ويضعها على منضدةٍ قرب سريره. وكانت الوردة تبقىفي الماء تنظر إلى رأس سرير العجوز، حتى تسقط أوراقها، وتتفتَّح كل بتلاتها مثلالأصابع، وتكشف عن قلبها الأشقر والوَبِر. لكن المتقاعد لم يكن يرمي الوردة إلاعندما يجد بتلاتها منثورةً على رخام المنضدة، ولا يوجد في الماء الذي فتر والمليءبالفقاعات سوى الساق المليئة بالأشواك.
وفي صباح أحد أيام شهر أيار،انقضَّت سيتونية(1) مذهَّبة كبيرة، تتبعها ابنتها التي لا تزال شابة، بعد أنحلَّقتا سدىً في حدائق المنطقة، ولم تجدا أية زهرة وقد شاهدتا، من بعيد، مساكبالمتقاعد، انقضتا على ورقة شجرة زعرور جرماني، عريضة وقاسية؛ وهنا قالت الأملابنتها بعد أن استردَّت أنفاسها: "ها قد وصلنا إلى نهاية تجوالنا. فإذا ما انحنيتِونظرت إلى الأسفل، سترين زهرات عدة لا تنتظر سوى مجيئك. فنظراً لصغر سنِّك، أردتحتى الآن مرافقتك ونصحك في اختيار الورود وعلاقاتك معها... كنت أخشى أن تتعرضصحتُكِ الجسدية والنفسية للخطر بفعل حداثة الأحاسيس وعنفها إضافة إلى النهم الخاصبشبابك، لكنني وجدت أنكِ سيتونية عاقلة، مثل باقي سيتونيات عائلتنا، وقرَّرت أنالوقت قد حان، من الآن فصاعداً، لكي تعتمدي على نفسك وتحلِّقي بأجنحتك نحو الورودالتي تفضلين؛ فمن الأوفق إذاً أن نفترق نهاراً كاملاً؛ وسنعود ونلتقي على ورقة شجرةالزعرور هذه. لكنني سأعطيكِ قبل أن نفترق، بعض التوصيات. تذكّري أن السيتونية خلقتلتلتهم الورود. أو، على العكس، خلق الله الورود كي تتغذّى السيتونيات عليها. وبخلافذلك، فلسنا نجد لماذا تصلح هذه الورود. وإذا لم تجدي ورداً، أمسكي وامتنعي عنالطعام، فمن الأفضل تحمّل الجوع على مسّ غذاءٍ غير جدير بعِرقنا. ولا تصدِّقيمغالطات دود الأرض والرعاع الآخرين، الذين يدَّعون أن جميع الورود جيدة. هذا مايبدو، في أول الأمر لكن بعد ذلك تنكشف بعض الأمور. وبعد أن ينقضي زمن الشباب، تكشفالسيتونية التي انحطت، النقاب عن جميع نقائص انحطاطها المخجلة؛ وعليها، بعد أن يتمإبعادها عن قومها أن تقاوم صحبة الخنافس والزنابير والطفيليات، وقائمة طويلة أخرىمن الهَنات(2). لأن الوردة، يا صغيرتي، هي غذاء إلهي، قبل أن تكون غذاءً مادياً. ومن جمالها، تنهل السيتونية جمالها هي. إنها أشياء غامضة، ولن أعرف أن أقول لكِأكثر من ذلك. وأعرف ببساطة، أن بعض القوانين، التي تدعى، بدقةٍ، إلهية، لم تُنْتَهكأبداً دون عقاب. لكنكِ لست بحاجة لمثل هذه التحذيرات، فأنتِ سيتونية سويَّة ونزيهة،وتحكمين بالفطرة على بعض الأشياء. فإلى اللقاء، يا صغيرتي، إلى اللقاء هذا المساء." وبعد أن عبَّرت عن أفكارها على هذا النحو، طارت الأم الشجاعة، لأن وردة قرمزيةضخمة، تفتَّحت أوراقها قبل هنيهة، كانت الآن تستهويها، وتخشى أن تسبقها إليهاسيتونية أخرى، أو أن تستميل صراحة، ابنتها.
وبقيت السيتونية الفتيَّة بضعدقائق أخرى على ورقة شجرة الزعرور تتملَّى حديث أمها. ثم طارت بدورها.
إنأحداً آخر غير السيتونية، لا يمكنه أن يتصوَّر ما هي الوردة لسيتونية. فتخيَّلواالزرقة في شهر أيار، تجتازها موجات شمسية بطيئة، في حديقة مزهرة. وها هو سطح منتفخوأبيض يظهر أمام عيني السيتونية المحلِّقة والتي يداعب ظلّها بتضاريسه المُهيبة،ويتوِّج الضوء حوافه المتألِّقة؛ سطح واسع وناعم، مماثلٍ لسطح ثدي مثقل بالحليب. إنها الورقة الخارجية لوردة بيضاء، لا تزال منغلقة، لكنها عريضة عند الأطراف، وتكشفعن أوراق أخرى متراصَّة وملتوية بعضها على بعض. وقد أثار هذا البياض الشاسع والبكر،الذي اكتسح فجأةً سماء عينيّ السيتونية، هيجاناً شرهاً، فاتناً ولاهثاً. وكان أولاندفاع شعرت به، هي أن تنقضَّ برأسها أولاً، على هذا اللحم الرائع غير المحمي،وتنهشه، وتمزِّقه لتدمغه بندبة استحواذها المسبق عليه. لكن حدسها أوحى لها بطريقةأكثر نعومة لولوج الوردة؛ وها هي تتشبَّث بحوافي ورقةٍ مفرطة وتتسلل إلى داخلالوردة. كان في الإمكان رؤية جسم السيتونية الأخضر- الذهبي برهة، مماثلاً ليد تندسبين أغطية سرائر من الكتَّان الأبيض، يتخبَّط بيأس، محاولاً شق طريقٍ لنفسه؛ ثماختفى تقريباً، واستعادت الوردة، المنتصبة على ساقها، مظهرها المألوف، شبيهةً بفتاةشابة، تحتفظ تحت مظهر البراءة العذرية، بالسر الحارق لأول عناقٍ غراميّ لها. لكن،فلنتبع السيتونية في قرارة الوردة. كل شيء حولها ظلام؛ لكنه ظلام نديّ، ذكيّالرائحة وناعم؛ ظلام يحيا ويخفق في ثناياها الخفيَّة، مثل ثنايا فمٍ مُشْتَهى؛والسيتونية ذاهلة بعطر الوردة، مبهورة ببياضها الذي تسبره بين البتلات التي تنطبقثانيةً، وقد اهتاجت بليونة هذا اللحم. وهي ليست سوى رغبة، كما أن الوردة ليست سوىغرام؛ وبحبٍّ جنوني فطري، بدأت تلتهم الأوراق. ليس الجوع، كما قد يُظن خطأ، مايدفعها إلى تمزيق البتلات وخرقها، لكنها الرغبة المجنونة في الوصول إلى قلب الوردةبأسرع وقتٍ ممكن. إنها تعصر بين براثنها، وتمزِّق، وتقطِّع، وتخزق، وتجزِّئ. وفيالخارج، لا يشك أحد بأمر هذا الولوج المجنون؛ وتحتفظ الوردة المنتصبة والبِكْر تحتضوء الشمس، بدون خجلٍ، بسرِّها. لقد كسرت السيتونية، في أثناء ذلك الوقت، بهيجانٍمتزايد، غلاف الوردة الأول، والثاني والثالث. وبمقدار ما كانت تلج، كانت الأوراقتصبح أكثر نعومة، وأزكى رائحة، وأكثر بياضاً. وشعرت السيتونية بأنه سيغشى عليها منالمباهج، وأن قواها ستخور تقريباً، وتضرب ضربةً أخيرة ببراثنها، وتفتح في متراسالبتلات القاتم، فتحة نهائية، وتُدْخِل رأسها أخيراً في الفرو الأبيض والمُسْكِرلغبار الطلع. وستبقى هنا، دائخة، ضائعة، منهكة وكأنها ميتة، في هذه الظلمات النديةوالمعطّرة؛ لن تتحرَّك، وستبقى جامدة، ساعات، وأياماً كاملة. أما، في الخارج، فلميُفْشِ أدنى ارتعاش للأوراق، تحت براءة أشعة شهر أيار، سرَّ الوردة المثير.
هذا هو قدَر السيتونية. لقد كانت هذه الشابَّة التي أعطتها أمها نصائحهاالتي تظنُّها غير ضرورية، تشعر في الواقع بأنها مختلفة، اختلافاً لا يُحدّ نهائياً،عن رفيقاتها من جنسها. شيء لا يصدَّق، لكنه صحيح: كانت الورود لا تعني لها شيئاً. وكانت سيتونيتنا تشعر، شعوراً عارماً، بأنها مدفوعة لتغيير هذه المشاعر الوراثيةوالحارَّة، التي تشعر بها السيتونيات نحو أجمل الورود المعطَّرة، منذ الأزمنةالسحيقة، إلى اختيارات باردة وخشنة. كانت السيتونية قد اكتشفت باكراً جداً ميولها،ورأت، في مبادرةٍ أولية، أن تكاشف أمها بالأمر. لكنها فيما بعد، ومثلما يحدث دائماًفي هذه الحالة، شعرت بالذعر من صعوبة اعترافٍ كهذا، وفي الوقت ذاته ومع شكِّهابالعلاج الأمومي، عدلت عن ذلك. وحاولت جاهدة ولثقتها بقدراتها الشخصية، إصلاح نفسهابنفسها. وهكذا حاولت متنقِّلة من وردةٍ إلى وردة، تحت عيني أمها العطوف، الحصول معالرضى على هذه الرغبات التي كانت فطرتها ترفض إعطاءها لها. جهد ضائع. فما أن كانتتدخل بين الأوراق حتى تتوقَّف سريعاً، وكأنها مشلولة، وليس فقط غير مبالية، بلصراحةً، عرضة لنفورٍ لا يقاوم. وكان هذا اللَّحم الناعم يبدو لها مغموساً بشهوةٍلزجة وعسليَّة، والروائح كعفونات مختلطة، والبياض كظلٍّ نجسٍ وفاحش. وكانت تحلم،وهي لا تزال جامدة ومشمئزَّة، بالملفوف الأخضر الطازج والشهي. فالملفوف لا يتزيَّنبألوان البطاقات البريدية المزيَّفة، ولا يتعطَّر بعطر البتشولي(3) المقزِّزوالمريب، ولا يعرض بمحاباة هذه العذوبة المغثية. وقلب الملفوف مثير للشهية، يلتويوهو يتعرَّج بين التِلَع(4)، ورائحته رائحة العشب والندى الصحيِّ، ولونه أخضر زاهٍ. كانت السيتونية تلعن في قلبها، الطبيعة التي جعلتها مختلفة عن ممثِّلات جنسهاالأخريات؛ أو بالأحرى ما جعل جميع السيتونيات الأخريات مختلفات عنها. أخيراً،وعندما وجدت أن إرادتها لا تساعدها على النجاح في شيء، وأنها حاولت جاهدة إرغامنفسها كثيراً ولم تستطع حب الورود، قررت ألا تقاوم ميولها أبداً، بل أن تستسلم لهاصراحةً. كانت تفكر أحياناً، محاولة تبرئة نفسها بطريقة مغالطة، وإنامة ضميرها تقول: "وفضلاً عن ذلك، ما هو الملفوف؟ إنه وردة خضراء... إذاً، لماذا لا أحبُّالملفوف...؟"
بعد كل ما قيل، من السَّهل تصوُّر ملاحظات السيتونية الشابة،حول ورقة شجرة الزعرور، حيث تركتها الأم لتطير نحو وردة شهواتها. ولكي نسلّط الضوءعلى مأساة هذه النّفْس، سنروي بعضاً منها: "شيء حزين أن نُخْلق مختلفين عن الجمهور. لا نعرف لماذا، ولا نعرف كيف يصبح الفرق، فجأة، دونيةً، خطيئةً، وجريمة. ومع ذلك،لا يوجد بين الجمهور وبيني سوى علاقة عدد. مصادفة كون السيتونيات، في غالبيتهنالعظمى يحببن الورود؛ من الجيد إذاً، أن نحب الورود. نهج جميل في التفكير. أنا،مثلاً، أحب الملفوف ولا شيء آخر سوى الملفوف. إنني مكونَّة على هذا النحو، ولاأستطيع أن أتغيّر."
ومن غير المجدي، من جهةٍ أخرى، نقل أفكار السيتونيةالتعيسة كاملةً. يكفي القول، كي نبتّ في أمر تفكيرها الطويل إنها طارت نحو شجرةالزعرور، وبعد عدة جولات استكشافية، ذهبت لتحط على ورقة أكبر ملفوفة موجودة، لونهاأخضر-مزرق، منتفخة، ومليئة بالضلوع والتجاعيد. وكي لا تلفت الأنظار إليها، تظاهرتبأنها حطّت على الخضرة لترتاح. وبالتالي، اتخذت وضعاً متراخياً؛ فجلست على جنبهاوأسندت رأسها على قائمتها. وكان نعم الرأي، لأن سيتونيتين طائشتين مفعمتينبالحيوية، ظهرتا بعد برهة، وأخذتا ترفرفان حولها. ثم صاحتا ثملتين: "ألن تأتي؟ إنناذاهبتان إلى الورود." ولحسن الحظ أنهما لم تهتَّما في عجلتهما بمراقبة رد السيتونيةعلى دعوتهما. ................وبعد أن ألقت السيتونية نظرة خاطفة حولها، ولحظت عدمظهور أي سيتونية في الأفق، تظاهرت بأنها تعثَّرت بضلعٍ من أضلع ورقة الملفوف، وتركتنفسها تتدحرج باتجاه قلب الخضرة. وخلال ثانية واحدة، وبعد أن أحدثت فتحةً بضرباتٍتشنُّجية في الورقة السمينة والغشائية، اختفت داخل قلبها المجعَّد.
وماذانقول أكثر من ذلك؟ هل علينا أن نتوقَّف عند وصف الهيجان الذي فتحت به السيتونيةطريقاً لها داخل الملفوفة، وقد أصبحت حرة أخيراً في إطلاق غرائزها المكبوتة، وقدانتشت بالنتانة النباتية التي كانت تفوح من قلب النبتة الشحيم، وكيف وصلت إلى قلبالأوراق البارد واللَّزج؟ وكيف بقيت طوال النهار في الداخل، خائرة القوى، وأمضت فيهنهار سكرٍ وعربدةٍ حقيقيين؟ ....... وعند المساء، انسحبت السيتونية، على مضض،بالممر الذي حفرته في قلب الملفوفة، كما هو مقرَّر، وطارت نحو شجرة الزعرور، إلىالمكان الذي حدَّدته أمها لموعدهما. فوجدتها منحنية، تنظر حولها، قلقة لأنها لمترها تظهر. سألت الأم الشجاعة ابنتها سريعاً كيف سارت الأمور خلال النهار؛ فردتالسيتونية صراحة، بأن كل شيء تمَّ على أحسن ما يرام: فالورود متوفِّرة بكثرة. وتفحَّصت الأم وجه ابنتها؛ لكنها اطمأنّت تماماً لملاحظتها بأنه صافٍ وبريء مثلماهو دائماً. قالت لها عندئذٍ: "تصوَّري بأن فضيحة قد تفجّرت... لقد شوهدت سيتونيةتدخل تحت أوراق، أكاد لا أجرؤ على أن أكرِّر الكلمة، ملفوفة." وزايدت الابنة قائلة: "يا للهول"؛ لكن سرعة دقات قلبها بدأت تشتد، وأضافت: "ومن كانت؟" أجابت الأم: "لميستطيعوا تبيُّنها. شاهدوها تدخل تحت الأوراق، وهي تخبِّئ رأسها فيها... لكن، تبعاًلأغمدتها يُظَنُّ أنها فتيّة. شقيّة هي الأم التي جعلها حظها العاثر تلد بنتاًكتلك. وأعترف لكِ بأنني لو كنت أعلم أن لابنتي ميولاً مماثلة، لمتُّ من الألم." وردّت البنت قائلة: "إنكِ على حق. إنها أشياء يرفض العقل حتى تصوّرها." فقالت الأم: "هيا بنا." وطارت السيتونيتان في فتور الغسق، نحو حدائق أخرى، وهما تثرثران.