الفصل الأول
فك الأطباء الجـصعـنـي أخـيـراً , ونـظـروا إلـي بـشـفـقـة , وحـاولـت الممرضات استدراجي إلى تحريكأطرافي بحذر , وقد ضايقني حديثهن معي كما لو كـنت طفلاً رضيعاً , وقال ماركوس إننييجب أن أعيش في الريف .
هواء نظيف , حياة هادئة , الامتناع عن فعل أي شيء ـ هذاهو علاجك . وسوف تعتني بك أختك , فكل ما عليك هو أن تأكل وتنام وتقلد مملكةالنباتات قدر الإمكان.
لم أسأله ما إذا كنت سأستطيع الطيران مرة أخرى أم لا . فهناك أسئلة يخشى المرء من طرحها خوفاً من الإجابة . لذلك , لم أسأله في الأشهرالخمسة الأخيرة ما إذا كان قد حُكم علي أن أعيش طريح الفراش للأبد . كنت خائفاً منعبارات الطمأنينة البراقة التي تفوح منها رائحة النفاق كقول الممرضة لي : " ما هذاالسؤال الذي تطرحه ؟ إننا لا نسمح لمرضانا بالتحدث بهذه الطريقة أبداً ! "
لذا , لم أسأل ـ وسارت الأمور على ما يرام . فلم يكن مقدراً لي أن أظل عاجزاً إلى الأبد . حيث أستطيع تحريك ساقيّ , والوقوف عليهما , وأخيراً أستطيع المشي لبضع خطوات ـ وإنكنت أشعر بأنني طفل مغامر يتعلم المشي , بركبتين مرتعشتين ولفائف من القطن والصوفتلتف حول قدمي ـ حسناً , إن هذا مجرد ضعف سرعان ما سيزول . وقد أجاب الدكتور ماركوسكِنت ـ وهو طبيب قدير ـ عما أطرحه من أسئلة .
قال : " سوف تتعافى تماماً . لمنكن متأكدين من ذلك حتى الثلاثاء الماضي عندما أجرينا لك ذلك الفحص , ولكن بوسعيإخباري بذلك الآن وأنا مطمئن ـ غير أن ذلك سيستغرق وقتاً طويلاً . ستكون رحلة طويلة , وإن جاز لي القول , فستكون شاقة بعض الشيء . فعندما يتعلق الأمر بشفاء الأعصابوالعضلات , فيجب أن يقوم العقل بمساعدة الجسم . وأي استعجال سوف يتسبب في انتكاسة , وأياً ما كنت تمارسه من قبل , فعليك التوقف عنه الآن , حاول أن تساعد نفسك علىالشفاء بسرعة . إذا فعلت أي شيء من هذا القبيل , ستعود إلى دار الرعاية مجدداً . يجب عليك مراعاة البطء والتمهل . فليس جسدك وحده هو الذي يحتاج إلى شفاء , بل إنأعصابك أيضاً أصابها الضعف نتيجة لإخضاعك للأدوية لفترة من الزمن .
لذا , أنصحكبالعيش في الريف , استأجر منزلاً , واهتم بالسياسة المحلية , وبالفضائح المحلية , وبالقيل والقال في القرية , اهتم بجيرانك بشكل فضولي , وإذا كان لي أن أقترحاقتراحاً , فاذهب إلى جزء من العالم ليس لك فيه أصدقاء . "
أومأت برأسي قائلاً : " هذا ما فكرت فيه بالفعل . "
لا أعتقد أن ثمة شيئاً أفضع من زيارات الأصدقاءوالأقارب , وإبداء تعاطفهم , والتحدث عن شؤونهم الشخصية .
سيقولون : " ولكنجيري يبدو رائعاً ـ أليس كذلك ؟ يجب أن أخبرك يا صديقي ـ خمن ما الذي فعله باستر ؟ "
كلا , لا أريد شيئاً كهذا يحدث معي . إن الكلاب تتمتع بالحكمة , فهي تنزويبعيداً في أحد الأركان الهادئة وتلعق جراحها , ولا تعود للعالم من حولها حتى تبرأتماماً مرة أخرى .
لذا فقد قمت أنا وجوانا ـ بـعـد طـول بحث من خلال وكلاءالعقارات في جميع أنحاء بريطانيا ـ باختيار " ليتـل فـيـرز " بقريـة لايـمـسـتـوك , كأحد المنازل التـي يـمـكـن رؤيتها . وخاصة أننا لم نذهب إلى لايمستوك أبداً ولانعرف أي أحد هناك .
وعندما رأت جوانا ليتل فيرز قررت أنه المنزل الذي نبحث عنه .
إنه يقع على نصف ميل تقريباً عن لايمستوك على الطريق المؤدي إلى المستنقعات . وهو منزل أنيق أبيض غير مرتفع , به شرفة على الطراز الفيكتوري , بلون أخضر باهت , ويطل على منحدر مغطى بنبات الخلج .
ويمتلك البيت أسرة تتكون من سيدات عوانس , منعائلة بارتون , واللاتي لم يبق منهن إلا واحدة فقط , وهي أصغرهن , الآنسة إيميليبارتون .
كانت الآنسة إيميلي سيدة ضئيلة الجسم , كبيرة السن وكانت تتناغم معمنزلها بشكل غريب . شرحت لجوانا بصوت ناعم وبه رنة أسف أنها لم تترك المنزل من قبل , ولم تفكر في ذلك أصلاً . قالت : " ولكنك ترين يا عزيزتي , فإن الظروف قد تغيرتهذه الأيام ـ الضرائب . بالطبع , وهناك أسهمي الآمنة , كما كنت أتخيل دائما , والتيقد أوصاني مدير البنك نفسه بشرائها , ولكن يبدو أنها لا تدر عائداً هذه الأيام ـ ماأقوله لا علاقة له بموضوعنا , بالطبع ! صارت الأمور صعبة جداً . إن المرء لا يحبفكرة ترك المرء لبيته للغرباء ـ ولكن يجب فعل شيء ما , وبعدما رأيتكما , فإننيسعيدة بوجودكما هنا ـ إن المنزل بحاجة لوجود شباب . ويجب أن أعترف بأنني أتجنب فكرةوجود رجال هنا ! "
عند هذه النقطة , كان على جوانا أن تخبرها بحالتي .وكان ردفعل الآنسة إيميلي رقيقاً .
" أوه يا عزيزتي , لقد فهمت . حادث طيران ؟ إن هؤلاءالشباب يتمتعون بقدر هائل من الشجاعة .ولكن هل سيبقى شقيقك عاجز عملياً ؟ "
يبدوأن الفكرة هدأت السيدة الرقيقة . فمن الواضح أنني لن أستطيع ممارسة تلك الأنشطةالذكورية التي تخشاها إيميلي بارتون وسألَت باستيحاء عما إذا كنت أدخن .
أجابتهاجوانا : " كالمدخنة . " ثم أوضحت قائلة : " ولكنني أنا أيضاً أدخن . "
" بالطبع , بالطبع , يا لغبائي . أخشى أنني لم أتغير مع الزمن . فقد كانت شقيقاتي أكبر منيسناً , وقد عاشت أمي العزيزة حتى وصلت التاسعة والسبعون ـ تخيلوا ـ وكانت صارمة إلىأبعد الحدود . نعم , نعم , إن الجميع يدخنون هنا بَيد أنه لا توجد منفضة للتدخين فيهذا البيت. "
قالت جوانا أننا سوف نحضر الكثير منها , وأضافت ابتسامة : " لننقوم بإطفاء السجائر في الأثاث الفخم .لا شيء يضايقني بقدر رؤية بعض الناس يفعلونذلك . "
وهكذا تمت تسوية الأمر واستأجرنا ليتل فيرز لستة أشهر , مع إمكانية مدهالثلاة أشهر أخرى , وأوضحت إيميلي بارتون أنها تشعر بالراحة لأنها ستقيم عند خادمتناالعجوز المخلصة فلورنسا , والتي توجت بعد أن قضت معنا خمسة عشر عاماً . قالت إيميلي : " إنها فتاة لطيفة , وزوجها يعمل في مجال العقارات . إن لديهما منزل جميل في منزلهاي ستريت وحجرتين جميلتين بالطابق العلوي , حيث سأكون أكثر راحة هناك , وستسرفلورنسا بوجودي معها . "
إذاً , يبدو أن كل شيء يسير على ما يرام , فقد تم توقيعالعقد , ووصلنا أنا وجوانا في الوقت المناسب , ورحبت بارتريدج ـ خادمة إيميليبارتون ـ بفكرة بقائها معنا . كما يتم الاعتناء بشؤونها بفضل " فتاة " كانت تأتي كلصباح والتي كان ذكاؤها محدوداً ولكنها لطيفة .
كانت بارتريدج سيدة في منتصفالعمر نحيلة وقاسية الملامح ـ تجيد الطهي , وعلى الرغم من رفضها تأخير موعد العشاء ( كان من عادة إيميلي أن تتناول عشاء خفيفاً يتكون من بيض مسلوق ) إلا أنها كيفتنفسها على أسلوبنا , حتى أنها اعترفت بأنني يجب أن أستعيد قوتي ...
بعدما استقربنا الحال وأقمنا في ليتل فيرز أسبوعاً , جاءت الآنسة إيميلي بارتون وتركت بعضالبطاقات , وهكذا فعلت السيدة سيمنجتون . زوجة المحامي , والآنسة جريفيث , أختالطبيب , والسيد باي " رئيس برايرز إند " .
لقد ترك ذلك انطباعاً جميلاً في نفسجوانا .
قالت جوانا بصوت يعبر عن انبهارها : " لك أكن أن هؤلاء الناس مهووسونفعلاً ـ بالبطاقات . "
قلت : " هذا يا عزيزتي لأنك لا تعرفين شيئاً عن الريف . "
" هراء . لقد قضيت من عطلات نهاية الأسبوع في الريف . "
إنني أكبر من جوانابخمس سنوات , وأتذكر ذلك البيت المطلي باللون الأبيض الباهت , وغير المتهالكوالمنظم الذي كنا نعيش فيه أيام طفولتي , حيث كانت تمتد الحقول حتى النهر . وبوسعيتذكر قيامي بالزحف تحت أشجار التوت دون أن يراني البستاني , ورائحة التراب الأبيضفي الإسطبل , وقطة برتقالية تعبره , وسماع صوت حوافر الحصان وهي تضرب الأرض فيالإسطبل .
ولكن عندما بلغت السابعة وكانت جوانا في الثانية, ذهبنا للعيش في لندنمع عمتي, ومنذ ذلك الحين ونحن نقضي جميع العطلات و الأعياد في دور السينما والمسرح, حيث كنا نخرج للتنزه في حديقة كنجستون جاردنز ونركب القوارب , ثم مؤخراً أصبحنانمارس رياضة التزلج . وفي شهر أغسطس كنا نحجز غرفة في أحد الفنادق المطلة على البحر .
وبينما كنت أشرد بذهني هكذا , قلت لجوانا متأملاً , وبإحساس من وخر الضميروبعد أن أدركت كم أصبحت عاجزاً وأنانياً في نفس الوقت .
" أنا آسف , سيكون ذلكفضيعاً بالنسبة لك . سوف تفتقدين كل شيء . "
قلت ذلك لأن جوانا جميلة جداًومليئة بالحيوية , وتحب الرقص والحفلات وقيادة السيارات بسرعة جنونية .
ضحكتجوانا وقالت أنها لا تبالي بذلك إطلاقاً .
" في الحقيقة , أنا سعيدة بالابتعادعن ذلك كله . فقد مللت من الزحام , وعلى الرغم من أنك لن تبدي تعاطفك , فقد تأثرتكثيراً لفراق باول , وسيستغرق الأمر مني وقتاً طويلاً حتى أتناساه يا جيري . "
كنت أشك في هذا , فقصص الحب الخاصة بجوانا دائماً ما تسير على هذا النحو . فهيتفتتن بشاب ضعيف الشخصية , وتعتقد أنه عبقري لا يستطيع الناس فهمه , وتنصت إلىشكواه التي لا تنتهي وتفعل أي شيء لتحوز تقديره , وعندما يجحد مجهوداتها , فإنهاتتأثر بشدة وتقول أن قلبها قد جرح ـ حتى يأتي شاب آخر , وعادة ما يأتي بعد ثلاثةأسابيع !
لذا لم آخذ مسألة جرح قلب جوانا على محمل الجد . ولكن بدا لي أن العيشفي الريف لعبة جديدة لشقيقتي الجذابة .
قالت : " على كل حال , فإن مظهري جيد , أليس كذلك ؟ "
تفحصتها بنظرة كلها نقد ولم أستطع الاتفاق معها .
كانت جواناترتدي ملابس رياضية , كانت ترتدي تنورة قصيرة وضيقة , وعلى نصفها العلوي كانت ترتديقميصاً قصيراً يدعو للسخرية . كانت تلبس جوربين من الحرير الشفاف , وحذاء لا غبارعليه , وكله يعد من علامات الموضة .
قلت : " كلا , إن مظهرك ليس مناسباً علىالإطلاق , بل وبه الكثير من الأخطاء , ينبغي أن ترتدي تنورة ذات لون أخضر أو بنيباهت , وحري بك ارتداك سترة من الكشمير تناسبها , وربما معطف صوفي , ويمكنك أنتلبسي قبعة من اللباد وجوربين من قماش سميك وحذاء قديم . فقط , عندئذ , يمكنك السيرعبر شارع هاي ستريت بلايمستوك دون أن تبدي شاذة عن الآخرين كما أنت الآن.وبالمناسبة , فإن وجهك كله أخطاء أيضاً . "
" ما الخطأ فيه ؟ لقد وضعت مساحيق من الدرجةالثانية تناسب الريف . "
" نعم , إذا أردت العيش في لايمستوك , فلا تضعي إلاالقليل من المساحيق حتى لا تلفتي النظر إلى أنفك , وربما يجب عليك وضع القليل منأحمر الشفاه ـ مع عدم توخي الدقة الشديدة ـ وعليك وضع كل رموشك تقريباً بدلاً منربعها . "
صاحت جوانا وبدت أنها وجدت المزيد من ضروب التسلية .
قالت : " أتعتقد أنهم سيضنونني فظيعة ؟ "
قلت : " كلا , بل شاذة . "
استأنفت جواناقراءتها للبطاقات التي تركها زوارنا . زوجة رجل الدين هي الوحيدة التي أسعدها , أوربما ساءها الحظ بأن تستضيف جوانا في منزلها .
تمتمت جوانا قائلة : " تبدوالأسر هنا سعيدة , أليس كذلك ؟ فهذه زوجة محامٍ , وتلك أخت طبيب ... الخ " ثم أضافتبحماس : " أعتقد أن هذا المكان لطيف يا جيري ! عالم قديم جميل جداً . لا يمكنكالتفكير بأن شيئاً شريراً سيحدث هنا , أليس كذلك ؟ "
وعلى الرغم من أنني أعرف أنما تقوله محض هراء , إلا أنني وافقتها الرأي . ففي مكان مثل لايمستوك لا يمكن أنيحدث شيء شرير , والغريب أننا تلقينا أولى خطاباتنا بعد أسبوع واحد فقط .
2
أعرف أنني بدأت بشكل سيء , فلم أعط وصفاً لقرية لايمستوك , وبدون فهمأوصاف لايمستوك لا يمكن فهم قصتي .
بادئ ذي بدء , فإن لايمستوك لها جذور ضاربةفي الماضي . ففي أيام الغزو النورماندي , كانت لايمستوك على قدر كبير من الأهمية , وتنبع أهميتها من كونها مركزاً دينياً حينذاك . فقد كان في لايمستوك دير للرهبانوتعاقب عليه الكثير من الرهبان الطموحين وذي النفوذ . وكان اللوردات والباروناتالذين يعيشون في الريف المحيط به يتركون جزءاً من أراضيهم تحت تصرف الدير . وازدادثراء وأهمية الدير واكتسب نفوذاً لقرون عدة . بيد أنه بمرور الزمن قام هنري الثامنبإلغاء كل تلك الامتيازات ولحق بالدير ما لحق بأقرانه . ومنذ ذلك الحين هيمنت قلعةالبلدة . كانت لا تزال مهمة وآلت لها الحقوق والميزات والثروات .
وثم , فيحوالي القرن الثامن عشر , جاء المد التقدمي ليطيح بنفوذ لايمستوك ويتركها في غياهبالتخلف . حيث انهارت القلعة , ولم يتم إنشاء شوارع رئيسية ولا سكك حديدية بالقرب منلايمستوك , التي تحولت إلى سوق محلي غير ذي أهمية تمتد بها المستنقعات والمزارعوتحيط بها الحقول الهادئة .
كان يقامبها سوق مرة كل أسبوع , وفي ذلك اليوميصادف المرء قطعان الماشية في الأزقة والطرقات . وكا يقام بها سباق للخيل مرتين فيالسنة لا يتبارى فيه إلا الخيول الضعيفة .
وكان بها شارع رئيسي خلاب , تصطف علىجانبيه المنازل التي تقف بشموخ , والتي كانت تبدو غريبة بعض الشيء بنوافذهاالمتواجدة في الطابق الأرضي والتي كان دائماً ما يوجد عليها الفطائر أو الفاكهة أوالخضروات . وكان بالشارع أيضاً متجر ضخم لتجارة الألبسة والجوخ يمتد على نحو مستقمع الشارع , وهناك أيضاً تجد متجراً هائلاً للحدادة , ومكتباً للبريد له أهمية فيهذا المكان .
وكذلك هناك في ذات الشارع مجموعة من المتاجر والمحال المتنوعة , فهناك متجران يتنافسان لبيع اللحوم , وكان بالشارع لافتة لعيادة طبيب ومؤسسةقانونية يديرها السيدان جالبرث والسيد سيمنجتون , وكان بالشارع أيضاً إحدى دورالعبادة والتي يرجع تاريخها إلى عام 1420 م , ولا يزال يفوح منها رائحة العصرالساكسوني . وهناك أيضاً مدرسة أنشئت حديثاً وحانتين .
هذه هي لايمستوك , وبدافعإيميلي بارتون , حضر جميع من في البلدة لكي يتعرفوا علينا , ومن أجل هذا اضطرتجوانا لأن تبتاع زوجاً من القفازات وقلنسوة مخملية , بدلاً من ملابسها التي تفتقرإلى الذوق , حتى تتمكن من رد زيارتهم .
بالنسبة لنا كان كل شيئاً جديداً ومسلياً , فنحن لم نذهب إلى هناك للإقامة الدائمة . لقد كانت بالنسبة لنا شيئاً مؤقتاً . وقد استعددت لإطاعة تعليمات طبيبي والاتهمام بجيراني .
لقد وجدت أنا وأختيجوانا الأمر ممتعاً للغاية .
أعتقد أنني تذكرت تعليمات ماركوس كِنت بالاستمتاعبالفضائح المحلية . بالقطع كنت أشك في كيفية معرفتي بهذه الفضائح .
والشيءالغريب أن مجيء ذلك الخطاب كان ممتعاً ومسلياً لنا أكثر من أي شيء .
أذكر أنهوصل بينما نحن نتناول الإفطار . قلبته في يدي , بتلك الطريقة الكسولة التي يتبعهاالمرء عندما يمر الوقت ببطء ويجب الغوص في كل حدث حتى نهايته . لقد كان مرسلاً منداخل البلدة وقد كتب عنوانه على آلة كاتبة .
فتحته قبل الخطابين الآخرين اللذانيحملان طوابع بريد لندن , حيث إن أحدهم كان يحوي فاتورة والآخر كان من أحد أبناءعمومتي المضجرين .
وبداخله كانت هناك كلمات و حروف مطبوعة , وقد لصقت على ورقةبيضاء . أخذت أحدق لدقيقة أو دقيقتين إلى الكلمات دون أن أستوعبها , ثم شهقت .
نظرت إلي جوانا , التي كانت تطالع بعض الفواتير مقطبة جبينها .
وقالت : " مرحباً , ما هذا ؟ تبدو مروعاً . "
لقد عبر الخطاب , الذي يستخدم مصطلحات بذيئة , عن رأي الكاتب بأنني أنا وجوانا لسنا أخوين .
قلت لجوانا : " إنه خطاب قذر منمجهول . "
كنت لا أزال أعاني من آثار الصدمة . فلم أتوقع مثل ذلك الشيء في منطقةهادئة مثل لايمستوك .
وفجأة , أبدت جوانا اهتمامها , وقالت : " حقاً ؟ ماذايقول ؟ "
كنت قد قرأت في الروايات أن الخطابات البذيئة والمثيرة للاشمئزاز لاينبغي أن تطلع عليها النساء , ما أمكن ذلك . حيث يجب تجنيب المرأة الصدمة التي قديتعرض لها الجهاز العصبي الحساس .
ويؤسفني القول إنه لم يتراء لي أن أُطلعجوانا على الخطاب , لذا سلمته لها فوراً .
قالت : " يا له من خطاب قذر ! لقدسمعت كثيراً عن الخطابات المجهولة , لكنني لم يسبق لي أن رأيت أحدها . هل هي دائماًهكذا ؟ "
قلت : " لا أستطيع الجزم بذلك . فهذه أول مرة أشاهد فيها خطاباً مثلهذا . "
شرعت جوانا في الضحك .
" لابد أنك كنت محقاً فيما يخص مساحيقالتجميل التي كنت أضعها يا جيري . أعتقد أنهم يحسبونني فتاة هاربة من أهلها . "
قلت : " إضافة إلى حقيقة أن ابانا كان رجلاً طويلاً ذا فكين طويلين أسودينوأمنا كانت امرأة شقراء الشعر زرقاء العينين قصيرة القامة , وقد ورثت أنا صفات أبي , أما أنت فقد ورثت صفات أمي . "
أومأت جوانا برأسها مفكرة .
" نعم , نحنلسنا متشابهين إلى حد ما , ولن يظن المرء أننا أخوان . "
قلت : " لابد أن أحدهملاحظ ذلك . "
قالت جوانا إنها تعتقد أن الأمر ممتع .
أمسكت الخطاب من إحدىزواياه وتركته يتدلى , ثم سألتني عما ينبغي فعله به .
قلت: " أعتقد أن الإجراءالصحيح هو إلقاءه في النار مع إطلاق صيحة اشمئزاز ."
نفذت ما قلته عملياً , وصفقت جوانا بيديها .
أضافت : " لقد فعلتها بشكل جميل , كان ينبغي أن تكونممثلاً . من حسن حظنا أن النار متقدة , أليس كذلك ؟ "
وافقتها , قائلاً : " عندئذ كانت سلة المهملات ستصبح حلاً أقل إثارة . كان بوسعي بالطبع أن أشعله بعودثقاب وأستمتع به وهو يحترق ببطء . "
قالت جوانا : " إن الأشياء لا تحترق عندماتريدها أن تحترق , بل إنها تسلم من النيران , وربما كان عليك إشعال عود ثقاب بعدآخر . "
نهضت واتجهت نحو النافذة , وعندما وصلت إلى هناك التفتت فجأة , وقالت : " إنني أتساءل , من الذي قام بكتابته ؟ "
قلت : " لن نعرف أبداً على الأرجح . "
" نعم ـ لا أعتقد أننا قد نتمكن من ذلك . " صمتت لبرهة , ثم قالت : " يراودنيإحساس أحياناً بأن الأمر ليس ممتعاً . أتعلم ؟ لقد حسبت ـ حسبت أنهم أحبونا هنا ."
أظن ذلك ؟ أوه ـ إنه عمل شرير ! "
عندما خرجت لتستمتع بالشمس المشرقة , فكرت بيني وبين نفسي أثناء تدخيني لسيجارتي بأنها كانت محقة تماماً . إنه عمل شرير . لقد استاء أحدهم من مجيئنا إلى هنا , وكان مستاءً من جمال جوانا الخاطف , لقدأراد إيذاءنا . ربما كانت مقابلة مثل هذا الأمر بالضحك أفضل طريقة ـ ولكن في أعماقنفوسنا لم يكن ممتعاً أبداً...
جاء الدكتور جريفيث هذا الصباح . لقد اتفقت معهعلى إجراء فحص أسبوعي . وقد أحببت أوين جريفيث , لقد كان ذا بشرة سمراء , ضئيلالجسم . يتحرك في رشاقة وخفة , ويداه ماهرتان في الفحص , وكان يتلعثم في حديثهقليلاً , وكان خجولاً إلى حد كبير .
أشار إلى تقدمي في العلاج كي يشجعني , ثمقال : " إنك تشعر بالتحسن , أليس كذلك ؟ يبدو أنك متعكر المزاج هذا الصباح , أم هذاوهم مني ؟ "
قلت : " فعلاً , لقد تسلمت هذا الصباح خطاباً بذيئاً من مجهول , وقدشعرت ببعض الضيق والمرارة بعد قراءته . "
ألقى حقيبته على الأرض , واعترى وجههالنحيف الأسمر شعور بالإثارة .
" هل تعني أنك تسلمت واحداً منها ؟ "
شعرتبالاهتمام والإثارة . فقلت : " فإنه أمر شائع إذاً ؟ "
" منذ فترة من الوقت . "
قلت: " أوه , فهمت . لقد حسبت أن وجودنا في هذا المكان أمر غير مرغوب فيه ."
" كلا , كلا , الأمر لا علاقة له بذلك . إنه مجرد ـ " توقف عن الكلام ثمسألني : " ماذا كان محتوى الخطاب ؟ على الأقل ـ " احمر وجهه وشعر بالحرج : " ربمالم يكن لي أن أسأل مثل هذا السؤال . "
قلت : " سأخبرك بكل سرور , بقد قال إنالفتاة التي أحضرتها معي ليست أختي ـ ويمكنني القول بأن هذا ملخصاً لمحتوى الخطاببعد تنقيحه من البذاءات . "
احمر وجهه غضباً. وقال : " اللعنة , لعل أختك ـ إنهاليست مستاءة, أليس كذلك ؟"
قلت : " إن جوانا تبدو كملاك طاهر , ولكنها فتاةعصرية وصلبة جداً . لقد وجدِت أن الأمر مسلٍ للغاية . فهي لم تصادف مثل هذه الأشياءمن قبل . "
قال جريفيث بحرارة : " أتمنى لو لم تصادفها في الحقيقة . "
قلتبحزم : " على أية حال , فإن هذا هو الأسلوب الأنسب لمواجهة مثل هذه السخافات على ماأعتقد . "
قال أوين جريفيث : " نعم , لكن ــ "
توقف عن الحديث , فسارعتقائلاً : " ولكن ماذا , ماذا تقصد ؟ "
قال : " المشكلة أن مثل هذه الأفعال إذاما بدأت, فإنها تتفشى وتنتشر بشكل كبير ."
" علي أن أتوقع هذا . "
" إنهاحالة مرضية بالطبع . "
أومأت برأسي ثم سألته : " ولكن هل من ثمة فكرة عمن يكونوراء إرسال مثل هذه الخطابات ؟ "
قال : " ليتني كنت أعرف . أتدري إن الخطاباتالمجهولة نوعان ؟ إما أنها خاصة, أي إنها موجهة لشخص بعينه , أو مجموعة من الأشخاص , أي تستطيع أن تقول إن هناك دافعاً لذلك , حيث إن الشخص الذي يرسل الرسائل يحملضغينة ( أو يعتقد أنه كذلك ) ضد أحد الأشخاص , ثم يختار أسلوباً قذراً ومنحطاًليعبر عن كراهيته , إنه أسلوب دنيء , ويثير الاشمئزاز ولكنه لا ينم عن جنون صاحبه , وفي تلك الحالة يكون من السهل معرفة ما وراء الخطاب المرسل ــ خادمة تم طردها ــامرأة غيورة ــ وهكذا . ولكن إذا كانت عامة وليست خاصة , فإنها تمسي أكثر خطورة . حيث ترسل الخطابات دونما تفرقة وبطريقة عشوائية , وتؤدي الغرض بالتنفيس عن إحباط مافي ذهن الكاتب . وكما قلت فإنه أمر مرضي . وتزداد إصابة الشخص بالجنون . وفيالنهاية تتعقب الشخص محل الشبهة ــ غالباً ما يكون شخصاً مكروهاً من الجميع , وهذاكل ما في الأمر . لقد حدث شيء مثل هذا على الجانب الآخر من المقاطعة في العامالماضي ــ وتبين أن رئيسة قسم القبعات بمؤسسة كبيرة للملابس هي من تقف وراء ذلك . كانت امرأة رقيقة جداً ــ عملت هناك لسنوات . أذكر أن ذلك حصل في آخر سنة لي هناكعندما كنت أقضي فترة التكليف ــ ولكن تبين أن ضغينة شخصية هي السبب . وكما أقولفإنني رأيت شيئاً من هذا القبيل , وبصراحة فإنه يخيفني ! "
سألته : " هل يحدثذلك منذ فترة طويلة ؟ "
" لا أعتقد , وإن كان يصعب الجزم بذلك , بالطبع , لأن منيتلقون هذه الرسائل لا يعلنون عنها , وإنما يكتفون بإحراقها ... " توقف للحظة . ثمأكمل : " لقد تلقيت واحدة منها , كما أن سيمنجتون , المحامي , تلقى واحدة , وكذلكاثنان من مرضاي المساكين أخبراني بتلقيهما رسائل من هذا النوع . "
" كلها من نفسالعينة ؟ "
" أوه , نعم , كلها تعزف على وتر الجنس . هذه هي الخاصية الرئيسيةالمشتركة بينها . " ثم ابتسم وأضاف : " لقد اتهم سيمنجتون بإقامة علاقة غير شرعيةمع كاتبته ـ السيدة جنش المسكينة , التي تبلغ من العمر بضعة وأربعين عاماً تقريباً , وترتدي نظارة سميكة وأسنانها تشبه أسنان الأرنب . ولقد أخذ سيمنجتون الرسالةوتوجه بها إلى الشرطة . أما الرسائل التي تلقيتها أنا , فإنها تتهمني بانتهاك آدابالمهنة مع مرضاي من النساء . لقد كتبت بأسلوب طفولي وسخيف , ولكنها سامة للغاية . " تغير وجهه , وبدت عليه أمارات الحزن وهو يقول : " ولكن مع ذلك أشعرب بالخوف , فهذهالأشياء يمكن أن تكون في غاية الخطورة , كما تعلم . "
" أعتقد ذلك . "
" لعلكترى أنه على الرغم من تفاهة وسخافة هذه النكات , فإن إحدى هذه الرسائل ستصيب الهدفعاجلاً أو آجلاً . والله وحده يعلم ما سيحصل حينذاك ! إنني خائف أيضاً من تأثيرهاعلى أصحاب العقول الضعيفة الشكاكة الخالية من الثقافة والعلم . فإذا ما رأى أحدهمشيئاً مكتوباً , فسوف يعتقد بصحته , وعندئذ قد تظهر كل أنواع العقد . "
قلتمتأملاً : " إنها تنم عن جهل كاتبها , إذ يبدو لي أنه شخص أمي . "
قال أوين : " أهي كذلك فعلاً ؟ " ثم خرج ...
بينما كنت أفكر فيها فيما بعد وجدت أن عبارة " أهي كذلك فعلاً ؟ " محيرة لي
فك الأطباء الجـصعـنـي أخـيـراً , ونـظـروا إلـي بـشـفـقـة , وحـاولـت الممرضات استدراجي إلى تحريكأطرافي بحذر , وقد ضايقني حديثهن معي كما لو كـنت طفلاً رضيعاً , وقال ماركوس إننييجب أن أعيش في الريف .
هواء نظيف , حياة هادئة , الامتناع عن فعل أي شيء ـ هذاهو علاجك . وسوف تعتني بك أختك , فكل ما عليك هو أن تأكل وتنام وتقلد مملكةالنباتات قدر الإمكان.
لم أسأله ما إذا كنت سأستطيع الطيران مرة أخرى أم لا . فهناك أسئلة يخشى المرء من طرحها خوفاً من الإجابة . لذلك , لم أسأله في الأشهرالخمسة الأخيرة ما إذا كان قد حُكم علي أن أعيش طريح الفراش للأبد . كنت خائفاً منعبارات الطمأنينة البراقة التي تفوح منها رائحة النفاق كقول الممرضة لي : " ما هذاالسؤال الذي تطرحه ؟ إننا لا نسمح لمرضانا بالتحدث بهذه الطريقة أبداً ! "
لذا , لم أسأل ـ وسارت الأمور على ما يرام . فلم يكن مقدراً لي أن أظل عاجزاً إلى الأبد . حيث أستطيع تحريك ساقيّ , والوقوف عليهما , وأخيراً أستطيع المشي لبضع خطوات ـ وإنكنت أشعر بأنني طفل مغامر يتعلم المشي , بركبتين مرتعشتين ولفائف من القطن والصوفتلتف حول قدمي ـ حسناً , إن هذا مجرد ضعف سرعان ما سيزول . وقد أجاب الدكتور ماركوسكِنت ـ وهو طبيب قدير ـ عما أطرحه من أسئلة .
قال : " سوف تتعافى تماماً . لمنكن متأكدين من ذلك حتى الثلاثاء الماضي عندما أجرينا لك ذلك الفحص , ولكن بوسعيإخباري بذلك الآن وأنا مطمئن ـ غير أن ذلك سيستغرق وقتاً طويلاً . ستكون رحلة طويلة , وإن جاز لي القول , فستكون شاقة بعض الشيء . فعندما يتعلق الأمر بشفاء الأعصابوالعضلات , فيجب أن يقوم العقل بمساعدة الجسم . وأي استعجال سوف يتسبب في انتكاسة , وأياً ما كنت تمارسه من قبل , فعليك التوقف عنه الآن , حاول أن تساعد نفسك علىالشفاء بسرعة . إذا فعلت أي شيء من هذا القبيل , ستعود إلى دار الرعاية مجدداً . يجب عليك مراعاة البطء والتمهل . فليس جسدك وحده هو الذي يحتاج إلى شفاء , بل إنأعصابك أيضاً أصابها الضعف نتيجة لإخضاعك للأدوية لفترة من الزمن .
لذا , أنصحكبالعيش في الريف , استأجر منزلاً , واهتم بالسياسة المحلية , وبالفضائح المحلية , وبالقيل والقال في القرية , اهتم بجيرانك بشكل فضولي , وإذا كان لي أن أقترحاقتراحاً , فاذهب إلى جزء من العالم ليس لك فيه أصدقاء . "
أومأت برأسي قائلاً : " هذا ما فكرت فيه بالفعل . "
لا أعتقد أن ثمة شيئاً أفضع من زيارات الأصدقاءوالأقارب , وإبداء تعاطفهم , والتحدث عن شؤونهم الشخصية .
سيقولون : " ولكنجيري يبدو رائعاً ـ أليس كذلك ؟ يجب أن أخبرك يا صديقي ـ خمن ما الذي فعله باستر ؟ "
كلا , لا أريد شيئاً كهذا يحدث معي . إن الكلاب تتمتع بالحكمة , فهي تنزويبعيداً في أحد الأركان الهادئة وتلعق جراحها , ولا تعود للعالم من حولها حتى تبرأتماماً مرة أخرى .
لذا فقد قمت أنا وجوانا ـ بـعـد طـول بحث من خلال وكلاءالعقارات في جميع أنحاء بريطانيا ـ باختيار " ليتـل فـيـرز " بقريـة لايـمـسـتـوك , كأحد المنازل التـي يـمـكـن رؤيتها . وخاصة أننا لم نذهب إلى لايمستوك أبداً ولانعرف أي أحد هناك .
وعندما رأت جوانا ليتل فيرز قررت أنه المنزل الذي نبحث عنه .
إنه يقع على نصف ميل تقريباً عن لايمستوك على الطريق المؤدي إلى المستنقعات . وهو منزل أنيق أبيض غير مرتفع , به شرفة على الطراز الفيكتوري , بلون أخضر باهت , ويطل على منحدر مغطى بنبات الخلج .
ويمتلك البيت أسرة تتكون من سيدات عوانس , منعائلة بارتون , واللاتي لم يبق منهن إلا واحدة فقط , وهي أصغرهن , الآنسة إيميليبارتون .
كانت الآنسة إيميلي سيدة ضئيلة الجسم , كبيرة السن وكانت تتناغم معمنزلها بشكل غريب . شرحت لجوانا بصوت ناعم وبه رنة أسف أنها لم تترك المنزل من قبل , ولم تفكر في ذلك أصلاً . قالت : " ولكنك ترين يا عزيزتي , فإن الظروف قد تغيرتهذه الأيام ـ الضرائب . بالطبع , وهناك أسهمي الآمنة , كما كنت أتخيل دائما , والتيقد أوصاني مدير البنك نفسه بشرائها , ولكن يبدو أنها لا تدر عائداً هذه الأيام ـ ماأقوله لا علاقة له بموضوعنا , بالطبع ! صارت الأمور صعبة جداً . إن المرء لا يحبفكرة ترك المرء لبيته للغرباء ـ ولكن يجب فعل شيء ما , وبعدما رأيتكما , فإننيسعيدة بوجودكما هنا ـ إن المنزل بحاجة لوجود شباب . ويجب أن أعترف بأنني أتجنب فكرةوجود رجال هنا ! "
عند هذه النقطة , كان على جوانا أن تخبرها بحالتي .وكان ردفعل الآنسة إيميلي رقيقاً .
" أوه يا عزيزتي , لقد فهمت . حادث طيران ؟ إن هؤلاءالشباب يتمتعون بقدر هائل من الشجاعة .ولكن هل سيبقى شقيقك عاجز عملياً ؟ "
يبدوأن الفكرة هدأت السيدة الرقيقة . فمن الواضح أنني لن أستطيع ممارسة تلك الأنشطةالذكورية التي تخشاها إيميلي بارتون وسألَت باستيحاء عما إذا كنت أدخن .
أجابتهاجوانا : " كالمدخنة . " ثم أوضحت قائلة : " ولكنني أنا أيضاً أدخن . "
" بالطبع , بالطبع , يا لغبائي . أخشى أنني لم أتغير مع الزمن . فقد كانت شقيقاتي أكبر منيسناً , وقد عاشت أمي العزيزة حتى وصلت التاسعة والسبعون ـ تخيلوا ـ وكانت صارمة إلىأبعد الحدود . نعم , نعم , إن الجميع يدخنون هنا بَيد أنه لا توجد منفضة للتدخين فيهذا البيت. "
قالت جوانا أننا سوف نحضر الكثير منها , وأضافت ابتسامة : " لننقوم بإطفاء السجائر في الأثاث الفخم .لا شيء يضايقني بقدر رؤية بعض الناس يفعلونذلك . "
وهكذا تمت تسوية الأمر واستأجرنا ليتل فيرز لستة أشهر , مع إمكانية مدهالثلاة أشهر أخرى , وأوضحت إيميلي بارتون أنها تشعر بالراحة لأنها ستقيم عند خادمتناالعجوز المخلصة فلورنسا , والتي توجت بعد أن قضت معنا خمسة عشر عاماً . قالت إيميلي : " إنها فتاة لطيفة , وزوجها يعمل في مجال العقارات . إن لديهما منزل جميل في منزلهاي ستريت وحجرتين جميلتين بالطابق العلوي , حيث سأكون أكثر راحة هناك , وستسرفلورنسا بوجودي معها . "
إذاً , يبدو أن كل شيء يسير على ما يرام , فقد تم توقيعالعقد , ووصلنا أنا وجوانا في الوقت المناسب , ورحبت بارتريدج ـ خادمة إيميليبارتون ـ بفكرة بقائها معنا . كما يتم الاعتناء بشؤونها بفضل " فتاة " كانت تأتي كلصباح والتي كان ذكاؤها محدوداً ولكنها لطيفة .
كانت بارتريدج سيدة في منتصفالعمر نحيلة وقاسية الملامح ـ تجيد الطهي , وعلى الرغم من رفضها تأخير موعد العشاء ( كان من عادة إيميلي أن تتناول عشاء خفيفاً يتكون من بيض مسلوق ) إلا أنها كيفتنفسها على أسلوبنا , حتى أنها اعترفت بأنني يجب أن أستعيد قوتي ...
بعدما استقربنا الحال وأقمنا في ليتل فيرز أسبوعاً , جاءت الآنسة إيميلي بارتون وتركت بعضالبطاقات , وهكذا فعلت السيدة سيمنجتون . زوجة المحامي , والآنسة جريفيث , أختالطبيب , والسيد باي " رئيس برايرز إند " .
لقد ترك ذلك انطباعاً جميلاً في نفسجوانا .
قالت جوانا بصوت يعبر عن انبهارها : " لك أكن أن هؤلاء الناس مهووسونفعلاً ـ بالبطاقات . "
قلت : " هذا يا عزيزتي لأنك لا تعرفين شيئاً عن الريف . "
" هراء . لقد قضيت من عطلات نهاية الأسبوع في الريف . "
إنني أكبر من جوانابخمس سنوات , وأتذكر ذلك البيت المطلي باللون الأبيض الباهت , وغير المتهالكوالمنظم الذي كنا نعيش فيه أيام طفولتي , حيث كانت تمتد الحقول حتى النهر . وبوسعيتذكر قيامي بالزحف تحت أشجار التوت دون أن يراني البستاني , ورائحة التراب الأبيضفي الإسطبل , وقطة برتقالية تعبره , وسماع صوت حوافر الحصان وهي تضرب الأرض فيالإسطبل .
ولكن عندما بلغت السابعة وكانت جوانا في الثانية, ذهبنا للعيش في لندنمع عمتي, ومنذ ذلك الحين ونحن نقضي جميع العطلات و الأعياد في دور السينما والمسرح, حيث كنا نخرج للتنزه في حديقة كنجستون جاردنز ونركب القوارب , ثم مؤخراً أصبحنانمارس رياضة التزلج . وفي شهر أغسطس كنا نحجز غرفة في أحد الفنادق المطلة على البحر .
وبينما كنت أشرد بذهني هكذا , قلت لجوانا متأملاً , وبإحساس من وخر الضميروبعد أن أدركت كم أصبحت عاجزاً وأنانياً في نفس الوقت .
" أنا آسف , سيكون ذلكفضيعاً بالنسبة لك . سوف تفتقدين كل شيء . "
قلت ذلك لأن جوانا جميلة جداًومليئة بالحيوية , وتحب الرقص والحفلات وقيادة السيارات بسرعة جنونية .
ضحكتجوانا وقالت أنها لا تبالي بذلك إطلاقاً .
" في الحقيقة , أنا سعيدة بالابتعادعن ذلك كله . فقد مللت من الزحام , وعلى الرغم من أنك لن تبدي تعاطفك , فقد تأثرتكثيراً لفراق باول , وسيستغرق الأمر مني وقتاً طويلاً حتى أتناساه يا جيري . "
كنت أشك في هذا , فقصص الحب الخاصة بجوانا دائماً ما تسير على هذا النحو . فهيتفتتن بشاب ضعيف الشخصية , وتعتقد أنه عبقري لا يستطيع الناس فهمه , وتنصت إلىشكواه التي لا تنتهي وتفعل أي شيء لتحوز تقديره , وعندما يجحد مجهوداتها , فإنهاتتأثر بشدة وتقول أن قلبها قد جرح ـ حتى يأتي شاب آخر , وعادة ما يأتي بعد ثلاثةأسابيع !
لذا لم آخذ مسألة جرح قلب جوانا على محمل الجد . ولكن بدا لي أن العيشفي الريف لعبة جديدة لشقيقتي الجذابة .
قالت : " على كل حال , فإن مظهري جيد , أليس كذلك ؟ "
تفحصتها بنظرة كلها نقد ولم أستطع الاتفاق معها .
كانت جواناترتدي ملابس رياضية , كانت ترتدي تنورة قصيرة وضيقة , وعلى نصفها العلوي كانت ترتديقميصاً قصيراً يدعو للسخرية . كانت تلبس جوربين من الحرير الشفاف , وحذاء لا غبارعليه , وكله يعد من علامات الموضة .
قلت : " كلا , إن مظهرك ليس مناسباً علىالإطلاق , بل وبه الكثير من الأخطاء , ينبغي أن ترتدي تنورة ذات لون أخضر أو بنيباهت , وحري بك ارتداك سترة من الكشمير تناسبها , وربما معطف صوفي , ويمكنك أنتلبسي قبعة من اللباد وجوربين من قماش سميك وحذاء قديم . فقط , عندئذ , يمكنك السيرعبر شارع هاي ستريت بلايمستوك دون أن تبدي شاذة عن الآخرين كما أنت الآن.وبالمناسبة , فإن وجهك كله أخطاء أيضاً . "
" ما الخطأ فيه ؟ لقد وضعت مساحيق من الدرجةالثانية تناسب الريف . "
" نعم , إذا أردت العيش في لايمستوك , فلا تضعي إلاالقليل من المساحيق حتى لا تلفتي النظر إلى أنفك , وربما يجب عليك وضع القليل منأحمر الشفاه ـ مع عدم توخي الدقة الشديدة ـ وعليك وضع كل رموشك تقريباً بدلاً منربعها . "
صاحت جوانا وبدت أنها وجدت المزيد من ضروب التسلية .
قالت : " أتعتقد أنهم سيضنونني فظيعة ؟ "
قلت : " كلا , بل شاذة . "
استأنفت جواناقراءتها للبطاقات التي تركها زوارنا . زوجة رجل الدين هي الوحيدة التي أسعدها , أوربما ساءها الحظ بأن تستضيف جوانا في منزلها .
تمتمت جوانا قائلة : " تبدوالأسر هنا سعيدة , أليس كذلك ؟ فهذه زوجة محامٍ , وتلك أخت طبيب ... الخ " ثم أضافتبحماس : " أعتقد أن هذا المكان لطيف يا جيري ! عالم قديم جميل جداً . لا يمكنكالتفكير بأن شيئاً شريراً سيحدث هنا , أليس كذلك ؟ "
وعلى الرغم من أنني أعرف أنما تقوله محض هراء , إلا أنني وافقتها الرأي . ففي مكان مثل لايمستوك لا يمكن أنيحدث شيء شرير , والغريب أننا تلقينا أولى خطاباتنا بعد أسبوع واحد فقط .
2
أعرف أنني بدأت بشكل سيء , فلم أعط وصفاً لقرية لايمستوك , وبدون فهمأوصاف لايمستوك لا يمكن فهم قصتي .
بادئ ذي بدء , فإن لايمستوك لها جذور ضاربةفي الماضي . ففي أيام الغزو النورماندي , كانت لايمستوك على قدر كبير من الأهمية , وتنبع أهميتها من كونها مركزاً دينياً حينذاك . فقد كان في لايمستوك دير للرهبانوتعاقب عليه الكثير من الرهبان الطموحين وذي النفوذ . وكان اللوردات والباروناتالذين يعيشون في الريف المحيط به يتركون جزءاً من أراضيهم تحت تصرف الدير . وازدادثراء وأهمية الدير واكتسب نفوذاً لقرون عدة . بيد أنه بمرور الزمن قام هنري الثامنبإلغاء كل تلك الامتيازات ولحق بالدير ما لحق بأقرانه . ومنذ ذلك الحين هيمنت قلعةالبلدة . كانت لا تزال مهمة وآلت لها الحقوق والميزات والثروات .
وثم , فيحوالي القرن الثامن عشر , جاء المد التقدمي ليطيح بنفوذ لايمستوك ويتركها في غياهبالتخلف . حيث انهارت القلعة , ولم يتم إنشاء شوارع رئيسية ولا سكك حديدية بالقرب منلايمستوك , التي تحولت إلى سوق محلي غير ذي أهمية تمتد بها المستنقعات والمزارعوتحيط بها الحقول الهادئة .
كان يقامبها سوق مرة كل أسبوع , وفي ذلك اليوميصادف المرء قطعان الماشية في الأزقة والطرقات . وكا يقام بها سباق للخيل مرتين فيالسنة لا يتبارى فيه إلا الخيول الضعيفة .
وكان بها شارع رئيسي خلاب , تصطف علىجانبيه المنازل التي تقف بشموخ , والتي كانت تبدو غريبة بعض الشيء بنوافذهاالمتواجدة في الطابق الأرضي والتي كان دائماً ما يوجد عليها الفطائر أو الفاكهة أوالخضروات . وكان بالشارع أيضاً متجر ضخم لتجارة الألبسة والجوخ يمتد على نحو مستقمع الشارع , وهناك أيضاً تجد متجراً هائلاً للحدادة , ومكتباً للبريد له أهمية فيهذا المكان .
وكذلك هناك في ذات الشارع مجموعة من المتاجر والمحال المتنوعة , فهناك متجران يتنافسان لبيع اللحوم , وكان بالشارع لافتة لعيادة طبيب ومؤسسةقانونية يديرها السيدان جالبرث والسيد سيمنجتون , وكان بالشارع أيضاً إحدى دورالعبادة والتي يرجع تاريخها إلى عام 1420 م , ولا يزال يفوح منها رائحة العصرالساكسوني . وهناك أيضاً مدرسة أنشئت حديثاً وحانتين .
هذه هي لايمستوك , وبدافعإيميلي بارتون , حضر جميع من في البلدة لكي يتعرفوا علينا , ومن أجل هذا اضطرتجوانا لأن تبتاع زوجاً من القفازات وقلنسوة مخملية , بدلاً من ملابسها التي تفتقرإلى الذوق , حتى تتمكن من رد زيارتهم .
بالنسبة لنا كان كل شيئاً جديداً ومسلياً , فنحن لم نذهب إلى هناك للإقامة الدائمة . لقد كانت بالنسبة لنا شيئاً مؤقتاً . وقد استعددت لإطاعة تعليمات طبيبي والاتهمام بجيراني .
لقد وجدت أنا وأختيجوانا الأمر ممتعاً للغاية .
أعتقد أنني تذكرت تعليمات ماركوس كِنت بالاستمتاعبالفضائح المحلية . بالقطع كنت أشك في كيفية معرفتي بهذه الفضائح .
والشيءالغريب أن مجيء ذلك الخطاب كان ممتعاً ومسلياً لنا أكثر من أي شيء .
أذكر أنهوصل بينما نحن نتناول الإفطار . قلبته في يدي , بتلك الطريقة الكسولة التي يتبعهاالمرء عندما يمر الوقت ببطء ويجب الغوص في كل حدث حتى نهايته . لقد كان مرسلاً منداخل البلدة وقد كتب عنوانه على آلة كاتبة .
فتحته قبل الخطابين الآخرين اللذانيحملان طوابع بريد لندن , حيث إن أحدهم كان يحوي فاتورة والآخر كان من أحد أبناءعمومتي المضجرين .
وبداخله كانت هناك كلمات و حروف مطبوعة , وقد لصقت على ورقةبيضاء . أخذت أحدق لدقيقة أو دقيقتين إلى الكلمات دون أن أستوعبها , ثم شهقت .
نظرت إلي جوانا , التي كانت تطالع بعض الفواتير مقطبة جبينها .
وقالت : " مرحباً , ما هذا ؟ تبدو مروعاً . "
لقد عبر الخطاب , الذي يستخدم مصطلحات بذيئة , عن رأي الكاتب بأنني أنا وجوانا لسنا أخوين .
قلت لجوانا : " إنه خطاب قذر منمجهول . "
كنت لا أزال أعاني من آثار الصدمة . فلم أتوقع مثل ذلك الشيء في منطقةهادئة مثل لايمستوك .
وفجأة , أبدت جوانا اهتمامها , وقالت : " حقاً ؟ ماذايقول ؟ "
كنت قد قرأت في الروايات أن الخطابات البذيئة والمثيرة للاشمئزاز لاينبغي أن تطلع عليها النساء , ما أمكن ذلك . حيث يجب تجنيب المرأة الصدمة التي قديتعرض لها الجهاز العصبي الحساس .
ويؤسفني القول إنه لم يتراء لي أن أُطلعجوانا على الخطاب , لذا سلمته لها فوراً .
قالت : " يا له من خطاب قذر ! لقدسمعت كثيراً عن الخطابات المجهولة , لكنني لم يسبق لي أن رأيت أحدها . هل هي دائماًهكذا ؟ "
قلت : " لا أستطيع الجزم بذلك . فهذه أول مرة أشاهد فيها خطاباً مثلهذا . "
شرعت جوانا في الضحك .
" لابد أنك كنت محقاً فيما يخص مساحيقالتجميل التي كنت أضعها يا جيري . أعتقد أنهم يحسبونني فتاة هاربة من أهلها . "
قلت : " إضافة إلى حقيقة أن ابانا كان رجلاً طويلاً ذا فكين طويلين أسودينوأمنا كانت امرأة شقراء الشعر زرقاء العينين قصيرة القامة , وقد ورثت أنا صفات أبي , أما أنت فقد ورثت صفات أمي . "
أومأت جوانا برأسها مفكرة .
" نعم , نحنلسنا متشابهين إلى حد ما , ولن يظن المرء أننا أخوان . "
قلت : " لابد أن أحدهملاحظ ذلك . "
قالت جوانا إنها تعتقد أن الأمر ممتع .
أمسكت الخطاب من إحدىزواياه وتركته يتدلى , ثم سألتني عما ينبغي فعله به .
قلت: " أعتقد أن الإجراءالصحيح هو إلقاءه في النار مع إطلاق صيحة اشمئزاز ."
نفذت ما قلته عملياً , وصفقت جوانا بيديها .
أضافت : " لقد فعلتها بشكل جميل , كان ينبغي أن تكونممثلاً . من حسن حظنا أن النار متقدة , أليس كذلك ؟ "
وافقتها , قائلاً : " عندئذ كانت سلة المهملات ستصبح حلاً أقل إثارة . كان بوسعي بالطبع أن أشعله بعودثقاب وأستمتع به وهو يحترق ببطء . "
قالت جوانا : " إن الأشياء لا تحترق عندماتريدها أن تحترق , بل إنها تسلم من النيران , وربما كان عليك إشعال عود ثقاب بعدآخر . "
نهضت واتجهت نحو النافذة , وعندما وصلت إلى هناك التفتت فجأة , وقالت : " إنني أتساءل , من الذي قام بكتابته ؟ "
قلت : " لن نعرف أبداً على الأرجح . "
" نعم ـ لا أعتقد أننا قد نتمكن من ذلك . " صمتت لبرهة , ثم قالت : " يراودنيإحساس أحياناً بأن الأمر ليس ممتعاً . أتعلم ؟ لقد حسبت ـ حسبت أنهم أحبونا هنا ."
أظن ذلك ؟ أوه ـ إنه عمل شرير ! "
عندما خرجت لتستمتع بالشمس المشرقة , فكرت بيني وبين نفسي أثناء تدخيني لسيجارتي بأنها كانت محقة تماماً . إنه عمل شرير . لقد استاء أحدهم من مجيئنا إلى هنا , وكان مستاءً من جمال جوانا الخاطف , لقدأراد إيذاءنا . ربما كانت مقابلة مثل هذا الأمر بالضحك أفضل طريقة ـ ولكن في أعماقنفوسنا لم يكن ممتعاً أبداً...
جاء الدكتور جريفيث هذا الصباح . لقد اتفقت معهعلى إجراء فحص أسبوعي . وقد أحببت أوين جريفيث , لقد كان ذا بشرة سمراء , ضئيلالجسم . يتحرك في رشاقة وخفة , ويداه ماهرتان في الفحص , وكان يتلعثم في حديثهقليلاً , وكان خجولاً إلى حد كبير .
أشار إلى تقدمي في العلاج كي يشجعني , ثمقال : " إنك تشعر بالتحسن , أليس كذلك ؟ يبدو أنك متعكر المزاج هذا الصباح , أم هذاوهم مني ؟ "
قلت : " فعلاً , لقد تسلمت هذا الصباح خطاباً بذيئاً من مجهول , وقدشعرت ببعض الضيق والمرارة بعد قراءته . "
ألقى حقيبته على الأرض , واعترى وجههالنحيف الأسمر شعور بالإثارة .
" هل تعني أنك تسلمت واحداً منها ؟ "
شعرتبالاهتمام والإثارة . فقلت : " فإنه أمر شائع إذاً ؟ "
" منذ فترة من الوقت . "
قلت: " أوه , فهمت . لقد حسبت أن وجودنا في هذا المكان أمر غير مرغوب فيه ."
" كلا , كلا , الأمر لا علاقة له بذلك . إنه مجرد ـ " توقف عن الكلام ثمسألني : " ماذا كان محتوى الخطاب ؟ على الأقل ـ " احمر وجهه وشعر بالحرج : " ربمالم يكن لي أن أسأل مثل هذا السؤال . "
قلت : " سأخبرك بكل سرور , بقد قال إنالفتاة التي أحضرتها معي ليست أختي ـ ويمكنني القول بأن هذا ملخصاً لمحتوى الخطاببعد تنقيحه من البذاءات . "
احمر وجهه غضباً. وقال : " اللعنة , لعل أختك ـ إنهاليست مستاءة, أليس كذلك ؟"
قلت : " إن جوانا تبدو كملاك طاهر , ولكنها فتاةعصرية وصلبة جداً . لقد وجدِت أن الأمر مسلٍ للغاية . فهي لم تصادف مثل هذه الأشياءمن قبل . "
قال جريفيث بحرارة : " أتمنى لو لم تصادفها في الحقيقة . "
قلتبحزم : " على أية حال , فإن هذا هو الأسلوب الأنسب لمواجهة مثل هذه السخافات على ماأعتقد . "
قال أوين جريفيث : " نعم , لكن ــ "
توقف عن الحديث , فسارعتقائلاً : " ولكن ماذا , ماذا تقصد ؟ "
قال : " المشكلة أن مثل هذه الأفعال إذاما بدأت, فإنها تتفشى وتنتشر بشكل كبير ."
" علي أن أتوقع هذا . "
" إنهاحالة مرضية بالطبع . "
أومأت برأسي ثم سألته : " ولكن هل من ثمة فكرة عمن يكونوراء إرسال مثل هذه الخطابات ؟ "
قال : " ليتني كنت أعرف . أتدري إن الخطاباتالمجهولة نوعان ؟ إما أنها خاصة, أي إنها موجهة لشخص بعينه , أو مجموعة من الأشخاص , أي تستطيع أن تقول إن هناك دافعاً لذلك , حيث إن الشخص الذي يرسل الرسائل يحملضغينة ( أو يعتقد أنه كذلك ) ضد أحد الأشخاص , ثم يختار أسلوباً قذراً ومنحطاًليعبر عن كراهيته , إنه أسلوب دنيء , ويثير الاشمئزاز ولكنه لا ينم عن جنون صاحبه , وفي تلك الحالة يكون من السهل معرفة ما وراء الخطاب المرسل ــ خادمة تم طردها ــامرأة غيورة ــ وهكذا . ولكن إذا كانت عامة وليست خاصة , فإنها تمسي أكثر خطورة . حيث ترسل الخطابات دونما تفرقة وبطريقة عشوائية , وتؤدي الغرض بالتنفيس عن إحباط مافي ذهن الكاتب . وكما قلت فإنه أمر مرضي . وتزداد إصابة الشخص بالجنون . وفيالنهاية تتعقب الشخص محل الشبهة ــ غالباً ما يكون شخصاً مكروهاً من الجميع , وهذاكل ما في الأمر . لقد حدث شيء مثل هذا على الجانب الآخر من المقاطعة في العامالماضي ــ وتبين أن رئيسة قسم القبعات بمؤسسة كبيرة للملابس هي من تقف وراء ذلك . كانت امرأة رقيقة جداً ــ عملت هناك لسنوات . أذكر أن ذلك حصل في آخر سنة لي هناكعندما كنت أقضي فترة التكليف ــ ولكن تبين أن ضغينة شخصية هي السبب . وكما أقولفإنني رأيت شيئاً من هذا القبيل , وبصراحة فإنه يخيفني ! "
سألته : " هل يحدثذلك منذ فترة طويلة ؟ "
" لا أعتقد , وإن كان يصعب الجزم بذلك , بالطبع , لأن منيتلقون هذه الرسائل لا يعلنون عنها , وإنما يكتفون بإحراقها ... " توقف للحظة . ثمأكمل : " لقد تلقيت واحدة منها , كما أن سيمنجتون , المحامي , تلقى واحدة , وكذلكاثنان من مرضاي المساكين أخبراني بتلقيهما رسائل من هذا النوع . "
" كلها من نفسالعينة ؟ "
" أوه , نعم , كلها تعزف على وتر الجنس . هذه هي الخاصية الرئيسيةالمشتركة بينها . " ثم ابتسم وأضاف : " لقد اتهم سيمنجتون بإقامة علاقة غير شرعيةمع كاتبته ـ السيدة جنش المسكينة , التي تبلغ من العمر بضعة وأربعين عاماً تقريباً , وترتدي نظارة سميكة وأسنانها تشبه أسنان الأرنب . ولقد أخذ سيمنجتون الرسالةوتوجه بها إلى الشرطة . أما الرسائل التي تلقيتها أنا , فإنها تتهمني بانتهاك آدابالمهنة مع مرضاي من النساء . لقد كتبت بأسلوب طفولي وسخيف , ولكنها سامة للغاية . " تغير وجهه , وبدت عليه أمارات الحزن وهو يقول : " ولكن مع ذلك أشعرب بالخوف , فهذهالأشياء يمكن أن تكون في غاية الخطورة , كما تعلم . "
" أعتقد ذلك . "
" لعلكترى أنه على الرغم من تفاهة وسخافة هذه النكات , فإن إحدى هذه الرسائل ستصيب الهدفعاجلاً أو آجلاً . والله وحده يعلم ما سيحصل حينذاك ! إنني خائف أيضاً من تأثيرهاعلى أصحاب العقول الضعيفة الشكاكة الخالية من الثقافة والعلم . فإذا ما رأى أحدهمشيئاً مكتوباً , فسوف يعتقد بصحته , وعندئذ قد تظهر كل أنواع العقد . "
قلتمتأملاً : " إنها تنم عن جهل كاتبها , إذ يبدو لي أنه شخص أمي . "
قال أوين : " أهي كذلك فعلاً ؟ " ثم خرج ...
بينما كنت أفكر فيها فيما بعد وجدت أن عبارة " أهي كذلك فعلاً ؟ " محيرة لي
Comment