ذات الخمار (قضايا بوارو المبكرة) اجاثا كريستي
لاحظت مؤخرا أنبوارو قد أصبح منذ بعض الوقت غير قانع وقلقا متبرما بشكل متزايد. لم تأتنا مؤخرا
قضايا مثيرة لم يأتنا شئ يمكن لصديقي أن يمارس من خلاله مواهبه العقلية الحادةوقدراته الاستنتاجية
البارزة. لقد قذف صباح اليوم بالصحيفة مطلقا لفظة "تشاه!" الدالة على نفاذ صبره, وهي لفظة عجب
مفضلة لديه يبدو عندما يطلقها كقطة تعطس. أطلق تلك اللفظة وقال: انهم يخشونني يا هيستنغز مجرمو
بلدك -بريطانيا- يخشونني! عندما يكون القط موجودا فان الفئران الصغيرة لا تقترب الجبن!
- لا أحسب أنالغالبية العظمى منهم تعرف بوجودك.
نظر بوارو الي مؤنبا. انه يتصور دوما أنالعالم كله يفكر ويتحدث عن هيركيول بوارو. لا شك أنه حقق
لنفسه شهرة في لندنولكنني لا أعتقد بأن وجوده يدب الذعر في عالم الاجرام. سألته: ماذا عن حادث
السطو على الجواهر الذي حصل في شارع بوند في وضح النهار قبل أيام؟
أجاببوارو باستحسان: ضربة مميتة... مع أنها لا تقع ضمن اختصاصي. خطوة رشيقة نتيجةجرأتها على
الأقل! رجل يحمل عصا ثقيلة يهشم زجاج واجهة محل للجواهروينتزع عددا من الأحجار الكريمة. يمسكه
مواطنون غيورون فورا ويصل شرطي, وبعدهايتبين بأن الأحجار الكريمة التي بحوزته مزيفة فقد مرر
الأحجار الحقيقية الىشريك له كان من المواطنين الغيورين سالفي الذكر. سيذهب الرجل الى السجن, هذا
صحيح, ولكن عندما يخرج فانه سيجد ثروة رائعة صغيرة بانتظاره. نعم, قضية فيهاخيال لا بأس به
ولكنني لا أستطيع القيام بما هو أفضل من ذلك. انني أشعر أحيانا -يا هيستنغز- بالأسف لامتلاكي هذه
النزعة الأخلاقية فالعمل ضد القانون سيكونأمرا مسليا على سبيل التغيير.
- ابتهج يا بوارو؛ فأنت تعلم أنك فريد في حقلاختصاصك.
- ولكن أين هي القضايا المتوفرة في حقل اختصاصي؟
أخذتالصحيفة, ثم قلت: هاهو رجل انجليزي قتل بشكل غامض في هولندا.
- انهم يقولونذلك دوما وبعدها يجدون انه قد تناول سمكا معلبا فاسدا وأن وفاته طبيعيةتماما.
- حسنا, هذا شأنك ان كنت مصرا على التذمر.
قال بوارو بعد أنمشى حتى وصل النافذة: مرحى! هاهي في الشارع من تسمى في الروايات "بذات الخمار
السابغ". انها تصعد الدرج... لا بد أنها آتية لاستشارتنا. هاهي فرصةلوجود شئ مثير.
عندما تكون المرأة الشابة هكذا فانها لا تضع خمارا على وجهها الالأمر عظيم.
دخلت ضيفتنا بعد دقيقة أو نحوها. وكما قال بوارو كان خمارهاسابغا حقا وكان من المستحيل تمييز
ملامحها حتى رفعت خمارها الأسود الحريريوعندها أدركت أن حدس بوارو كان صحيحا فقد كانت المرأة
بارعة الجمالشقراء الشعر زرقاء العينين. وقد استنتجت على الفور -من البساطة المكلفة لملابسها- بأنها
تنتمي الى الطبقات العليا في المجتمع.
قالت السيدة بصوت موسيقيناعم: سيد بوارو, انني أعيش مشكلة كبرى. لا أعتقد أن بامكانك مساعدتي
ولكننيسمعت عنك أشياء رائعة دفعتني الى القدوم اليك باعتبارك الأمل الأخير... متوسلة اليكأن تفعل
المستحيل.
- المستحيل... انه أمر لطالما يسرني. استمري -أرجوك- يا آنستي.
ترددت ضيفتنا الشقراء, فأضاف بوارو مستدركا: ولكن ينبغي أن تكونيصريحة. يجب أن لا تتركيني
جاهلا تجاه أية نقطة.
قالت الفتاة فجأة: سأثقبك. هل سمعت بالليدي ميليسنت كاسل فوغان؟
التفت اليها باهتمام شديد فقد ظهراعلان خطبة الليدي ميليسنت لدوق ساوثشير الشاب قبل بضعة أيام.
وعملت أنها كانتالابنة الخامسة لشريف ايرلندي مفلس وأن دوق ساوثشير كان واحدا من أفضل الأكفاء
لها في انكلترا.
استمرت الفتاة قائلة: أنا الليدي ميليسنت. ربما تكون قدقرأت عن خطوبتي. يفترض أنني من أسعد الفتيات
ولكن... آه يا سيد بوارو... اننيفي ورطة فظيعة! بسبب رجل, رجل رهيب... اسمه لافينغتن, وهو... لا
أكاد أعرف كيفأخبرك. المشكلة في رسالة كتبتها. كنت وقتها في السادسة عشرة من عمري فقط, وهو...
وهو...
- رسالة كتبتها لهذا السيد لافينغتن؟
- آه, كلا... ليسله! بل الى جندي شاب كنت مغرمة جدا به وقد قتل في الحرب!
قال بوارو بلطف: نعم, فهمت.
- كانت رسالة حمقاء, رسالة طائشة, ولكنها لم تكن -فعلا- أكثر منذلك يا سيد بوارو. ولكن فيها عبارات
قد... قد تحمل تفسيرات متباينة.
- نعم, وقد جاءت تلك الرسالة لتقع في حوزة السيد لافينغتن؟
- نعم, وقد أخذيهدد. الم أدفع له مبلغا هائلا من المال, مبلغا يستحيل علي تماما أن أجمعه فانهسيرسلها
الى الدوق.
هتفت فجأة: الخنزير القذر... أستميحك عذرا يا آنسةميلسنت.
قال بوارو: أليس من الحكمة أن تعترفي بكل شئ لزوجالمستقبل؟
- لا أجرؤ على ذلك يا سيد بوارو. ان الدوق ذو شخصية فريدة بعضالشئ غيور وشكاك ويميل الى
تصديق أسوأ التفسيرات. قد يؤدي ذلك الى فسخ خطوبتيعلى الفور.
قال بوارو بتودد معبر: يا عزيزتي المسكينة, وما الذي تريدين منيفعله؟
- ظننت أنه ربما كان بوسعي أن أطلب من السيد لافنغتن أن يزورك. أستطيعأن أخبره بأنني خولتك
بمناقشة الأمر معه. ربما كان بوسعك أن تخفف منمطالبه.
- ما المبلغ الذي يطلبه؟
- عشرين ألف جنيه... أمر مستحيل. انني أشك في قدرتي حتى على جمع ألف واحدة.
- ربما كان بوسعك أن تقترضي مالااعتمادا على زواجك المقبل المأمول, ولكنني أشك في امكانية
حصولك على نصف ذلكالمبلغ. وبالاضافة الى ذلك فانه لأمر بغيض -بالنسبة لي- أن تضطري للدفع! لا,
انعبقرية هيركيول بوارو ستهز أعداءك! أرسلي لي هذا السيد لافينغتن. هل يحتمل أن يحضرالرسالة
معه؟
هزت الفتاة رأسها بالنفي وقالت: لا أظن ذلك؛ فهو حذرجدا.
- والمفترض أن الرسالة معه بلا شك, أليس كذلك؟
- لقد أرانياياها عندما ذهبت الى بيته.
- ذهبت الى بيته؟... كان ذلك تصرفا طائشا ياسيدتي.
- حقا؟ لقد كنت يائسة جدا. كنت آمل أن تحركه توسلاتي.
- آه! لا, لا!! ان من شاكلة هذا الرجل لا تحركهم التوسلات! بل انه قد يرحب بها لأنها تظهرمدى الأهمية
التي تعلقينها على الوثيقة. أين يعيش هذا السيد الظريف؟
- في منزل يدعى بونا فيستا في ويمبلدون. ذهبت اليه هناك بعد حلول الظلام. قلت له اننيسأبلغ الشرطة
في نهاية الأمر, ولكنه اكتفى بالضحك بطريقة بغيضة هازئة وقال: "بكل ترحيب يا عزيزتي الليدي
ميليسنت, افعلي ذلك ان أردت".
- نعم, انهاقضية يصعب ايكالها للشرطة.
- بعد ذلك مضى قائلا: "أعتقد انك أكثر حكمة من أنتبلغي الشرطة. اُنظري هاهي رسالتك في صندوق
الألغاز الصيني هذا!" ورفعها بحيثأستطيع رؤيتها. حاولت أن أخطفها منه ولكنه كان أسرع مني. طواها
وهو يبتسمابتسامته الكريهة وأعادها الى الصندوق الخشبي الصغير وقال: "ستكون آمنة جدا هناأؤكد لك
ذلك كما أن الصندوق نفسه موضوع في مكان خفي بحيث لن تجديه أبدا". وعندما تحولت عيناي الى
الخزنة الجدارية الصغيرة هز رأسه وضحك وقال: "كلا, انلدي خزنة أفضل من هذه". آه, لقد كان
بغيضا! هل تعتقد يا سيد بوارو أن بوسعكمساعدتي؟
- ضعي ثقتك في "بابا بوارو"... سأجد طريقة لمساعدتك.
وعندماودع بوارو زبونته مصطحبا ايها الى أسفل الدرج, فكرت بأن تأكيداته تلك كانت كلهاأمرا لا بأس
به ولكن بدا لي أن أمامنا صخرة صلدة علينا أن نناطحها. قلت ذلكلبوارو عندما عاد الى الغرفة فهز رأسه
بحزن وقال: نعم, فالحل لا يبدوظاهرا للعيان. وهذا السيد لافنغتن هو صاحب الأفضلية واليد العليا ولست
أرى الآنكيف يمكن لنا أن نحتال عليه.
زارنا السيد لافنتغن عصر ذلك اليوم. كانتالليدي ميليسنت محقة عندما وصفته بأنه بغيض
فقد شعرت بوخز حقيقي في نهاية قدمييدفعني بشدة لأركله من أعلى الدرج. كان صخابا متغطرسا في
أسلوبه وقد عاملمقترحات بوارو اللطيفة بمنتهى الازدراء وفرض نفسه -بشكل عام- سيدا للموقف. ولم
أستطع تجنب الاحساس بأن بوارو لم يكن في أحسن حالاته, اذ بدا خائبامكتئبا.
قال لافنتغن وهو يتناول قبعته: حسنا أيها السادة. يبدو أننا لانتقدم كثيرا. القضية الآن هي كما يلي: سأحرر
الليدي ميليسنت من هذاالأمر لقاء ثمن بخس كونها شابة رائعة الجمال. ولنقل: ثمانية عشر ألفا. سأسافر
الى باريس اليوم فلدي عمل بسيط علي الاعتناء به هناك وسوف أعود يوم الثلاثاء. وما لم تدفع الأموال
مساء الثلاثاء فستذهب الرسالة الى الدوق. لا تقولا لي انالليدي ميليسنت لا تستطيع جمع المبلغ؛ فبعض
أصدقائها من الرجال سيكونون على أتمالاستعداد لتطويق عنق امرأة فاتنة كهذه بدين يبذلونه لها... ان
اتبعت الطريقةالمناسبة في ذلك.
تورد وجهي خجلا وحنقا, وتقدمت خطوة للأمام ولكن لافنغتنكان قد غادر الغرفة فور انهاء كلامه.
صحت قائلا: يا الهي! لابد أن نفعلشيئا. انك تبدو وكأنك ستقبل ذلك صاغرا يا بوارو.
- ان لك قلبا بالغ الطيبةيا صديقي, ولكن خلايا دماغك الرمادية بحالة يرثى لها. لم تكن لدي الرغبة بابهار
السيد لافنغتن بقدراتي. كلما رأى في مزيدا من الجبن كان ذلك أفضل.
- لماذا؟
تمتم بوارو متذكرا: انه لمن الغريب أنني عبرت عن رغبة بالعمل ضدالقانون مباشرة قبل وصول الليدي
ميليسنت!
قلت بلهفة: هل ستسطو على منزلهوهو مسافر؟
- أحيانا يكون تفكيرك يا هيستنغز سريعا الى حد مدهش.
- واذا افترضنا أنه أخذ الرسالة معه؟
هز بوارو رأسه مشككا وقال: احتمال ضعيفتماما. من الواضح أن لديه مخبأ في منزله يظنه حصينا جدا.
- ومتى نقوم... بالفعلة؟
- ليلة غد. سننطلق من هنا في نحو الحادية عشرة ليلا.
فيالموعد المحدد كنت جاهزا للانطلاق وقد ارتديت بدلة سوداء وقبعة سوداء رقيقة. أشرقوجه بوارو
وقال ملاطفا: أراك ارتديت ما يناسب الدور. هيا, دعنا نستقل قطارالأنفاق الى ويمبلدن.
- ألن نأخذ معنا أدوات لمعالجة الباب واقتحامالمنزل؟
- يا عزيزي هيستنغز! ان هيركيول بوارو لا يلجأ الى وسائل بدائيةكهذه.
تراجعت وقد خذلتني ملاحظته, ولكن فضولي كان يقظا مشحوذا. كانت الساعةتمام الثانية عشرة ليلا عندما
دخلنا الحديقة الصغيرة للمنزل المسمىبونا فيستا الواقع في ضواحي المدينة. كان البيت مظلما ساكنا, وقد
مضى بوارومباشرة الى نافذة خلف المنزل, حيث رفع اطار زجاجها بهدوء وأومأ ليبالدخول.
همست وقد بدا الأمر لي بالغ الغرابة: كيف عرفت بأن هذه النافذةستكون مفتوحة؟
- لأنني نشرت مزلاجها بالمنشار صباح اليوم.
- ماذا؟
- نعم. كان ذلك أسهل ما يكون, فقد زرت هذا البيت وقدمت بطاقة تعريفمزيفة كواحدة من بطاقات
المفتش جاب الرسمية. وقد قلت بأنني أرسلت بناء علىتوصية من سكوتلانديارد لكي أعنى بتركيب الأقفال
التي تستعمل ضد السطووالتي طلب السيد لافنغتن تركيبها أثناء غيابه, وقد رحبت بي مدبرة المنزل بكل
حماسة. ويبدو أنهم تعرضوا لمحاولتي سطو هنا مؤخرا دون فقدان شئ ذي قيمة, فمنالواضح أن فكرتنا
الصغيرة هذه قد خطرت لأناس آخرين من المتعاملين مع السيدلافنغتن. وهكذا تفحصت جميع النوافذ وقمت
بهذا الترتيب البسيط وحرمت علىالخدم لمس النوافذ حتى يوم غد باعتبارها موصولة بالتيار الكهربائي, ثم
انسحبت بكل احترام.
- أنت حقا رائع يا بوارو.
- ياصديقي, كان ذلك من أبسط الأمور. والآن, الى العمل! ان الخدم ينامون في الطابقالعلوي من
المنزل, ولذلك ينبغي أن لا نجازف بايقاظهم.
- أفترض أن الخزنةمبنية داخل أحد الجدران في مكان ما, أليس كذلك؟
- الخزنة؟ هراء! لاتوجدخزنة؛ فالسيد لافنغتن رجل زكي. وسترى بأنه قد ابتكر مخبأ أذكى بكثير من
الخزنة. فالخزنة هي أول ما يبحث عنه الجميع.
وهكذا بدأ بوارو بحثا منظما في البيتكله. ولكن بعد بضع ساعات من التفتيش الدقيق للمنزل لم يكن بحثنا
قد حقق أيجدوى, ورأيت أعراض الغضب تتجمع على وجه بوارو وقال: آه! تبا! هل سيغلب بوارو؟ أبدا!
دعنا نهدأ قليلا. دعنا نفكر ونستخدم المنطق. دعنا -أخيرا!- نستخدمخلايا دماغنا الرمادية!
ثم صمت بضع دقائق وقد قطب جبينه لأغراض التذكير, وبعدها التمع في عينيه ذلك الضوء الأخضر الذي
أعرفه جيدا, ثم قال: لقدكنت أحمق... المطبخ!
- المطبخ؟ ولكن ذلك مستحيل. والخدم؟!
- بالضبط. هذا من شأنه أن يقوله تسعة وتسعون بالمئة من الناس! ولهذا السبب بالذات فان المطبخهو
الخيار المثالي, فهو مليء بالأواني المنزلية المختلفة. امض قدما الىالمطبخ!
تبعته وأنا مرتاب تماما, ووقفت أراقبه وهو يغوص برأسه في حاوياتالخبز والقوارير والأواني, ويدخل
رأسه في فرن الغاز. وفي النهاية سئمت منمراقبته فعدت الى غرفة المكتب. كنت مقتنعا بأننا لن نجد
بغيتنا الا هناك, وهناكفقط. أجريت تفتيشا دقيقا آخر ولاحظت أن الساعة قد بلغت عندئذ الرابعة والربع
وبالتالي فان الفجر قد بات وشيكا, ثم عدت المطبخ.
وقد كان من دواعيدهشتي الكاملة أن أجد بوارو واقفا في وسط سلة الفحم تماما مفسدا بذلك بدلته الأنيقة
ذات اللون الفاتح. أومأ الي وقال: نعم يا صديقي... ان افساد بدلتي على هذاالنحو مناقض لكل طبائعي,
ولكن ماذا عساني أفعل؟
- ولكن من غير الممكن أنيكون لافنغتن قد دفنها تحت الفحم؟
- لو أنك استخدمت عينيك لرأيت أن ماأتفحصه ليس الفحم.
رأيت على رف خلف حاوية الفحم بعض جذوع الحطب المكومة. كانبوارو ينزل تلك الجذوع ببراعة
واحدا بعد الآخر, وفجأة هتف بصوت منخفض: أعطنيسكينك يا هيستنغز!
أعطيته اياها. وبدا وكأنه يدخلها في الجذع الخشبي, وفجأةانفلقت الحطبة الى نصفين. كانت قد نشرت
بشكل متقن من المنتصف وحفرت فجوة فيوسطها. أخرج بوارو من تلك الفجوة علبة خشبية صغيرة
صينية الصنع.
صحت وقدنسيت نفسي: أحسنت صنعا!
- بهدوء يا هيستنغز! لا ترفع صوتك أكثر. تعال, دعناننصرف قبل أن يداهمنا ضوء النهار.
دس العلبة الخشبية في جيبه, وقفز بخفة منسلة الفحم, ونفض الأوساخ عن ثيابه قدر المستطاع. وبعد أن
غادرنا المنزل -بنفسالطريقة التي دخلناه بها- انطلقنا بسرعة باتجاه لندن.
قلت: ولكن يا له منمخبأ غريب! كان يمكن لأي واحد أن يستخدمالحطبة للوقود.
- في شهر تموز ياهيستنغز؟ كما أنها كانت في أسفل كومة الحطب... مخبأ عبقري جدا. آه, هاهي سيارة
أجرة قادمة! والآن الى البيت, وبعدها حمام يزيل الأوساخ ثم نومة تعيدالنشاط.
بعد انفعلات تلك الليلة نمت الى وقت متأخر. وعندما توجهت أخيرا الىغرفة الجلوس قبيل الساعة الواحدة
ظهرا فوجئت برؤية بوارو وقد استند الىالخلف في أريكته, والعلبة الصينية مفتوحة بجانبه وهو يقرأ -
بهدوء- الرسالةالتي أخرجها من العلبة.
ابتسم لي بمودة ونقر بأصابعه على الورقة التي يحملهاوقال: لقد كانت الليدي ميليسنت صادقة تماما فيما
قالته. لم يكن الدوق ليغفر مثلهذه الرسالة! انها تحوي بعضا من أكثر عبارات الحب والعشق التي
صادفتها في حياتيتهورا واسرافا.
قلت بشئ من التقزز: لا أعتقد -فعلا- يا بوارو أن من حقكقراءة الرسالة؛ فمثل هذه الأمور ينبغي عدم
فعلها.
أجاب صديقي بهدوء: انهيركيول بوارو يفعلها.
- وأمر آخر... فأنا أعتقد أن استخدام بطاقة تعريفخاصة بالمفتش جاب البارحة لم يكن أبدا من أصول
اللعبة.
- ولكنني لم أكنألعب لعبة يا هيستنغز, بل كنت أحل قضية.
رفعت كتفي امتعاضا؛ فلا يمكن للمرءأن يحاجج في وجهة نظر مع بوارو, أما هو فقال: أسمع خطوات
على الدرج, لا بد أنهاالليدي ميليسنت.
دخلت زبونتنا الحسناء وعلى وجهها تعبير لهفة تغير الى تعبيرسعادة لدى رؤيتها الرسالة والعلبة اللتين
رفعهما بوارو أمامها. قالت: آه يا سيدبوارو. كم هو رائع منك ما فعلت! كيف فعلت ذلك؟
- بأساليب تستحق الشجب نوعاما يا سيدتي. ولكن السيد لا فنغتن لم يمضي -بعد- في مضايقتك. هاهي
رسالتك, أليست هي؟
ألقت نظرة على الرسالة ثم قالت: بلى, كيف لي أن أشكرك! انك رجلرائع, رائع. أين كانت مخبأة؟
أخبرها بوارو بذلك, فقالت: "كم هو ذكي منك مافعلته!", وتناولت العلبة الصغيرة عن الطاولة قائلة:
سأحتفظ بهاتذكارا.
- كنت آمل -يا سيدتي- أن تسمحي لي بأن أحتفظ بها أنا... أيضاتذكارا.
- آمل أن أرسل لك تذكارا أفضل من هذا في يوم زواجي. سوف لن تجدنيقليلة العرفان يا سيد بوارو.
- ان سعادتي في أداء خدمة لك أكبر من أي مال, ولذلك اسمحي لي بأن أحتفظ بالعلبة.
صاحت ميليسنت وهي تضحك: "آه, كلا يا سيدبوارو. علي -ببساطة- أن آخذ العلبة". ومدت يدها لتأخذها
ولكن بوارو سبقها فغطىالعلبة بيده وقال بصوت تغيرت نبرته: لا أعتقد ذلك.
بدا وكأن صوتها يزداد حدةوهي تقول: ما الذي تعنيه؟
- اسمحي لي -على أي حال- أن نستخرج محتوياتهاالأخرى. لعلك لاحظت بأن الفراغ الأصلي للعلبة تم
اختصاره بمعدل النصف. في النصفالعلوي توجد الرسالة الغرامية, وفي النصف السفلي...
ثم قام بحركة رشيقة, مدبعدها يده وفي راحتها أربعة أحجار كريمة ضخمة براقة, ولؤلؤتان كبيرتان بلون
الحليب.
تمتم بوارو: الجواهر التي سرقت من شارع بوند قبل أيام كما يخيلالي... جاب سيخبرنا ان كانت كذلك.
كان من دواعي دهشتي التامة أن يخرج جاب منغرفة نوم بوارو. قال بوارو يخاطب الليدي ميليسنت
بأدب: أعتقد أنه من أصدقائكالقدامى.
قال الليدي ميليسنت وقد تغير سلوكها تماما: "اعتقلت والله! يا لكمن شيطان عجوز لعين!". ثم نظرت الى
بوارو برهبة تكاد تصل حدالاعجاب.
قال لها جاب: حسنا يا عزيزتي غيرتي... أظن أن اللعبة انتهت هذهالمرة. ما أروع أن أراك ثانية بهذه
السرعة! لقد وقع زميلك أيضا, الرجل الذي أتىالى هنا أمس وقد سمى نفسه لافنغتن. أما لافنغتن الحقيقي
نفسه,المعروف باسمكروكر أيضا, وباسم ريد, فلا أدري أي رجال العصابات طعنه بسكين قبل أيام في
هولندا. لقد ظننتِ أنه أخذ "البضاعة" معه, أليس كذلك؟ ولكنه لم يأخذها. لقدخدعك بشكل ذكي, وخبأ
الجواهر في بيته. ولقد استأجرت رجلين للبحث عنها, ثم اتصلتبالسيد بوارو هنا, وقد وجدها بضربة حظ
عجيبة.
قالت الليدي المزورة: انكتحب الكلام حقا, أليس كذلك؟ على رسلك, لا داعي للشدة. سأذهب معك
بهدوء... لايمكنك الادعاء بأنني لست سيدة كاملة. وداعا جميعا!
قال بوارو حالماً فيماكنت أنا ذاهلا عن الكلام: كان الخطأ في حذائها. لقد جمعت كثيرا من الملاحظات
الصغيرة عن شعبك الانكليزي, ومن هذه الملاحظات أن سيدة ابنة عائلة ذات منبتكريم تكون -عادة-
شديدة الاهتمام بحذائها. قد تكون رثة الملابس ولكنها تكون -معذلك- جيدة الحذاء. أما هذه الليدي ميليسنت
فقد ارتدت ملابس أنيقة باهظة الثمن, وحذاء رخيصا.
لم يكن من المحتمل أن نكون أنا أو أنت قد رأينا الليدي ميليسنتالحقيقية؛ فهي نادرا ما تكون في لندن.
وهذه الفتاة لديها شبه ظاهري بها يمكن لهأن يمرر الخدعة بشكل جيد. وكما قلت: لقد كان الحذاء هو أول
ما أيقظ شكوكي, ثمقصتها, وخمارها... كانا مؤثرين قليلا, أليس كذلك؟ ولا بد أن العلبة الصينية التي
تحوي الرسالة الغرامية المزيفة في فجوتها العليا كانت معروفة لكل العصابة, ولكنحطبة الخشب كانت
فكرة السيد لافنغتن الراحل.
آه, ولذلك يا هيستنغز فاننيآمل أن لا تجرح مشاعري ثانية كما فعلت أمس بقولك انني غير معروف في
عالمالاجرام؛ فحتى المجرمون يلجؤون الي عندما يفشلون هم شخصيا!
قضايا مثيرة لم يأتنا شئ يمكن لصديقي أن يمارس من خلاله مواهبه العقلية الحادةوقدراته الاستنتاجية
البارزة. لقد قذف صباح اليوم بالصحيفة مطلقا لفظة "تشاه!" الدالة على نفاذ صبره, وهي لفظة عجب
مفضلة لديه يبدو عندما يطلقها كقطة تعطس. أطلق تلك اللفظة وقال: انهم يخشونني يا هيستنغز مجرمو
بلدك -بريطانيا- يخشونني! عندما يكون القط موجودا فان الفئران الصغيرة لا تقترب الجبن!
- لا أحسب أنالغالبية العظمى منهم تعرف بوجودك.
نظر بوارو الي مؤنبا. انه يتصور دوما أنالعالم كله يفكر ويتحدث عن هيركيول بوارو. لا شك أنه حقق
لنفسه شهرة في لندنولكنني لا أعتقد بأن وجوده يدب الذعر في عالم الاجرام. سألته: ماذا عن حادث
السطو على الجواهر الذي حصل في شارع بوند في وضح النهار قبل أيام؟
أجاببوارو باستحسان: ضربة مميتة... مع أنها لا تقع ضمن اختصاصي. خطوة رشيقة نتيجةجرأتها على
الأقل! رجل يحمل عصا ثقيلة يهشم زجاج واجهة محل للجواهروينتزع عددا من الأحجار الكريمة. يمسكه
مواطنون غيورون فورا ويصل شرطي, وبعدهايتبين بأن الأحجار الكريمة التي بحوزته مزيفة فقد مرر
الأحجار الحقيقية الىشريك له كان من المواطنين الغيورين سالفي الذكر. سيذهب الرجل الى السجن, هذا
صحيح, ولكن عندما يخرج فانه سيجد ثروة رائعة صغيرة بانتظاره. نعم, قضية فيهاخيال لا بأس به
ولكنني لا أستطيع القيام بما هو أفضل من ذلك. انني أشعر أحيانا -يا هيستنغز- بالأسف لامتلاكي هذه
النزعة الأخلاقية فالعمل ضد القانون سيكونأمرا مسليا على سبيل التغيير.
- ابتهج يا بوارو؛ فأنت تعلم أنك فريد في حقلاختصاصك.
- ولكن أين هي القضايا المتوفرة في حقل اختصاصي؟
أخذتالصحيفة, ثم قلت: هاهو رجل انجليزي قتل بشكل غامض في هولندا.
- انهم يقولونذلك دوما وبعدها يجدون انه قد تناول سمكا معلبا فاسدا وأن وفاته طبيعيةتماما.
- حسنا, هذا شأنك ان كنت مصرا على التذمر.
قال بوارو بعد أنمشى حتى وصل النافذة: مرحى! هاهي في الشارع من تسمى في الروايات "بذات الخمار
السابغ". انها تصعد الدرج... لا بد أنها آتية لاستشارتنا. هاهي فرصةلوجود شئ مثير.
عندما تكون المرأة الشابة هكذا فانها لا تضع خمارا على وجهها الالأمر عظيم.
دخلت ضيفتنا بعد دقيقة أو نحوها. وكما قال بوارو كان خمارهاسابغا حقا وكان من المستحيل تمييز
ملامحها حتى رفعت خمارها الأسود الحريريوعندها أدركت أن حدس بوارو كان صحيحا فقد كانت المرأة
بارعة الجمالشقراء الشعر زرقاء العينين. وقد استنتجت على الفور -من البساطة المكلفة لملابسها- بأنها
تنتمي الى الطبقات العليا في المجتمع.
قالت السيدة بصوت موسيقيناعم: سيد بوارو, انني أعيش مشكلة كبرى. لا أعتقد أن بامكانك مساعدتي
ولكننيسمعت عنك أشياء رائعة دفعتني الى القدوم اليك باعتبارك الأمل الأخير... متوسلة اليكأن تفعل
المستحيل.
- المستحيل... انه أمر لطالما يسرني. استمري -أرجوك- يا آنستي.
ترددت ضيفتنا الشقراء, فأضاف بوارو مستدركا: ولكن ينبغي أن تكونيصريحة. يجب أن لا تتركيني
جاهلا تجاه أية نقطة.
قالت الفتاة فجأة: سأثقبك. هل سمعت بالليدي ميليسنت كاسل فوغان؟
التفت اليها باهتمام شديد فقد ظهراعلان خطبة الليدي ميليسنت لدوق ساوثشير الشاب قبل بضعة أيام.
وعملت أنها كانتالابنة الخامسة لشريف ايرلندي مفلس وأن دوق ساوثشير كان واحدا من أفضل الأكفاء
لها في انكلترا.
استمرت الفتاة قائلة: أنا الليدي ميليسنت. ربما تكون قدقرأت عن خطوبتي. يفترض أنني من أسعد الفتيات
ولكن... آه يا سيد بوارو... اننيفي ورطة فظيعة! بسبب رجل, رجل رهيب... اسمه لافينغتن, وهو... لا
أكاد أعرف كيفأخبرك. المشكلة في رسالة كتبتها. كنت وقتها في السادسة عشرة من عمري فقط, وهو...
وهو...
- رسالة كتبتها لهذا السيد لافينغتن؟
- آه, كلا... ليسله! بل الى جندي شاب كنت مغرمة جدا به وقد قتل في الحرب!
قال بوارو بلطف: نعم, فهمت.
- كانت رسالة حمقاء, رسالة طائشة, ولكنها لم تكن -فعلا- أكثر منذلك يا سيد بوارو. ولكن فيها عبارات
قد... قد تحمل تفسيرات متباينة.
- نعم, وقد جاءت تلك الرسالة لتقع في حوزة السيد لافينغتن؟
- نعم, وقد أخذيهدد. الم أدفع له مبلغا هائلا من المال, مبلغا يستحيل علي تماما أن أجمعه فانهسيرسلها
الى الدوق.
هتفت فجأة: الخنزير القذر... أستميحك عذرا يا آنسةميلسنت.
قال بوارو: أليس من الحكمة أن تعترفي بكل شئ لزوجالمستقبل؟
- لا أجرؤ على ذلك يا سيد بوارو. ان الدوق ذو شخصية فريدة بعضالشئ غيور وشكاك ويميل الى
تصديق أسوأ التفسيرات. قد يؤدي ذلك الى فسخ خطوبتيعلى الفور.
قال بوارو بتودد معبر: يا عزيزتي المسكينة, وما الذي تريدين منيفعله؟
- ظننت أنه ربما كان بوسعي أن أطلب من السيد لافنغتن أن يزورك. أستطيعأن أخبره بأنني خولتك
بمناقشة الأمر معه. ربما كان بوسعك أن تخفف منمطالبه.
- ما المبلغ الذي يطلبه؟
- عشرين ألف جنيه... أمر مستحيل. انني أشك في قدرتي حتى على جمع ألف واحدة.
- ربما كان بوسعك أن تقترضي مالااعتمادا على زواجك المقبل المأمول, ولكنني أشك في امكانية
حصولك على نصف ذلكالمبلغ. وبالاضافة الى ذلك فانه لأمر بغيض -بالنسبة لي- أن تضطري للدفع! لا,
انعبقرية هيركيول بوارو ستهز أعداءك! أرسلي لي هذا السيد لافينغتن. هل يحتمل أن يحضرالرسالة
معه؟
هزت الفتاة رأسها بالنفي وقالت: لا أظن ذلك؛ فهو حذرجدا.
- والمفترض أن الرسالة معه بلا شك, أليس كذلك؟
- لقد أرانياياها عندما ذهبت الى بيته.
- ذهبت الى بيته؟... كان ذلك تصرفا طائشا ياسيدتي.
- حقا؟ لقد كنت يائسة جدا. كنت آمل أن تحركه توسلاتي.
- آه! لا, لا!! ان من شاكلة هذا الرجل لا تحركهم التوسلات! بل انه قد يرحب بها لأنها تظهرمدى الأهمية
التي تعلقينها على الوثيقة. أين يعيش هذا السيد الظريف؟
- في منزل يدعى بونا فيستا في ويمبلدون. ذهبت اليه هناك بعد حلول الظلام. قلت له اننيسأبلغ الشرطة
في نهاية الأمر, ولكنه اكتفى بالضحك بطريقة بغيضة هازئة وقال: "بكل ترحيب يا عزيزتي الليدي
ميليسنت, افعلي ذلك ان أردت".
- نعم, انهاقضية يصعب ايكالها للشرطة.
- بعد ذلك مضى قائلا: "أعتقد انك أكثر حكمة من أنتبلغي الشرطة. اُنظري هاهي رسالتك في صندوق
الألغاز الصيني هذا!" ورفعها بحيثأستطيع رؤيتها. حاولت أن أخطفها منه ولكنه كان أسرع مني. طواها
وهو يبتسمابتسامته الكريهة وأعادها الى الصندوق الخشبي الصغير وقال: "ستكون آمنة جدا هناأؤكد لك
ذلك كما أن الصندوق نفسه موضوع في مكان خفي بحيث لن تجديه أبدا". وعندما تحولت عيناي الى
الخزنة الجدارية الصغيرة هز رأسه وضحك وقال: "كلا, انلدي خزنة أفضل من هذه". آه, لقد كان
بغيضا! هل تعتقد يا سيد بوارو أن بوسعكمساعدتي؟
- ضعي ثقتك في "بابا بوارو"... سأجد طريقة لمساعدتك.
وعندماودع بوارو زبونته مصطحبا ايها الى أسفل الدرج, فكرت بأن تأكيداته تلك كانت كلهاأمرا لا بأس
به ولكن بدا لي أن أمامنا صخرة صلدة علينا أن نناطحها. قلت ذلكلبوارو عندما عاد الى الغرفة فهز رأسه
بحزن وقال: نعم, فالحل لا يبدوظاهرا للعيان. وهذا السيد لافنغتن هو صاحب الأفضلية واليد العليا ولست
أرى الآنكيف يمكن لنا أن نحتال عليه.
زارنا السيد لافنتغن عصر ذلك اليوم. كانتالليدي ميليسنت محقة عندما وصفته بأنه بغيض
فقد شعرت بوخز حقيقي في نهاية قدمييدفعني بشدة لأركله من أعلى الدرج. كان صخابا متغطرسا في
أسلوبه وقد عاملمقترحات بوارو اللطيفة بمنتهى الازدراء وفرض نفسه -بشكل عام- سيدا للموقف. ولم
أستطع تجنب الاحساس بأن بوارو لم يكن في أحسن حالاته, اذ بدا خائبامكتئبا.
قال لافنتغن وهو يتناول قبعته: حسنا أيها السادة. يبدو أننا لانتقدم كثيرا. القضية الآن هي كما يلي: سأحرر
الليدي ميليسنت من هذاالأمر لقاء ثمن بخس كونها شابة رائعة الجمال. ولنقل: ثمانية عشر ألفا. سأسافر
الى باريس اليوم فلدي عمل بسيط علي الاعتناء به هناك وسوف أعود يوم الثلاثاء. وما لم تدفع الأموال
مساء الثلاثاء فستذهب الرسالة الى الدوق. لا تقولا لي انالليدي ميليسنت لا تستطيع جمع المبلغ؛ فبعض
أصدقائها من الرجال سيكونون على أتمالاستعداد لتطويق عنق امرأة فاتنة كهذه بدين يبذلونه لها... ان
اتبعت الطريقةالمناسبة في ذلك.
تورد وجهي خجلا وحنقا, وتقدمت خطوة للأمام ولكن لافنغتنكان قد غادر الغرفة فور انهاء كلامه.
صحت قائلا: يا الهي! لابد أن نفعلشيئا. انك تبدو وكأنك ستقبل ذلك صاغرا يا بوارو.
- ان لك قلبا بالغ الطيبةيا صديقي, ولكن خلايا دماغك الرمادية بحالة يرثى لها. لم تكن لدي الرغبة بابهار
السيد لافنغتن بقدراتي. كلما رأى في مزيدا من الجبن كان ذلك أفضل.
- لماذا؟
تمتم بوارو متذكرا: انه لمن الغريب أنني عبرت عن رغبة بالعمل ضدالقانون مباشرة قبل وصول الليدي
ميليسنت!
قلت بلهفة: هل ستسطو على منزلهوهو مسافر؟
- أحيانا يكون تفكيرك يا هيستنغز سريعا الى حد مدهش.
- واذا افترضنا أنه أخذ الرسالة معه؟
هز بوارو رأسه مشككا وقال: احتمال ضعيفتماما. من الواضح أن لديه مخبأ في منزله يظنه حصينا جدا.
- ومتى نقوم... بالفعلة؟
- ليلة غد. سننطلق من هنا في نحو الحادية عشرة ليلا.
فيالموعد المحدد كنت جاهزا للانطلاق وقد ارتديت بدلة سوداء وقبعة سوداء رقيقة. أشرقوجه بوارو
وقال ملاطفا: أراك ارتديت ما يناسب الدور. هيا, دعنا نستقل قطارالأنفاق الى ويمبلدن.
- ألن نأخذ معنا أدوات لمعالجة الباب واقتحامالمنزل؟
- يا عزيزي هيستنغز! ان هيركيول بوارو لا يلجأ الى وسائل بدائيةكهذه.
تراجعت وقد خذلتني ملاحظته, ولكن فضولي كان يقظا مشحوذا. كانت الساعةتمام الثانية عشرة ليلا عندما
دخلنا الحديقة الصغيرة للمنزل المسمىبونا فيستا الواقع في ضواحي المدينة. كان البيت مظلما ساكنا, وقد
مضى بوارومباشرة الى نافذة خلف المنزل, حيث رفع اطار زجاجها بهدوء وأومأ ليبالدخول.
همست وقد بدا الأمر لي بالغ الغرابة: كيف عرفت بأن هذه النافذةستكون مفتوحة؟
- لأنني نشرت مزلاجها بالمنشار صباح اليوم.
- ماذا؟
- نعم. كان ذلك أسهل ما يكون, فقد زرت هذا البيت وقدمت بطاقة تعريفمزيفة كواحدة من بطاقات
المفتش جاب الرسمية. وقد قلت بأنني أرسلت بناء علىتوصية من سكوتلانديارد لكي أعنى بتركيب الأقفال
التي تستعمل ضد السطووالتي طلب السيد لافنغتن تركيبها أثناء غيابه, وقد رحبت بي مدبرة المنزل بكل
حماسة. ويبدو أنهم تعرضوا لمحاولتي سطو هنا مؤخرا دون فقدان شئ ذي قيمة, فمنالواضح أن فكرتنا
الصغيرة هذه قد خطرت لأناس آخرين من المتعاملين مع السيدلافنغتن. وهكذا تفحصت جميع النوافذ وقمت
بهذا الترتيب البسيط وحرمت علىالخدم لمس النوافذ حتى يوم غد باعتبارها موصولة بالتيار الكهربائي, ثم
انسحبت بكل احترام.
- أنت حقا رائع يا بوارو.
- ياصديقي, كان ذلك من أبسط الأمور. والآن, الى العمل! ان الخدم ينامون في الطابقالعلوي من
المنزل, ولذلك ينبغي أن لا نجازف بايقاظهم.
- أفترض أن الخزنةمبنية داخل أحد الجدران في مكان ما, أليس كذلك؟
- الخزنة؟ هراء! لاتوجدخزنة؛ فالسيد لافنغتن رجل زكي. وسترى بأنه قد ابتكر مخبأ أذكى بكثير من
الخزنة. فالخزنة هي أول ما يبحث عنه الجميع.
وهكذا بدأ بوارو بحثا منظما في البيتكله. ولكن بعد بضع ساعات من التفتيش الدقيق للمنزل لم يكن بحثنا
قد حقق أيجدوى, ورأيت أعراض الغضب تتجمع على وجه بوارو وقال: آه! تبا! هل سيغلب بوارو؟ أبدا!
دعنا نهدأ قليلا. دعنا نفكر ونستخدم المنطق. دعنا -أخيرا!- نستخدمخلايا دماغنا الرمادية!
ثم صمت بضع دقائق وقد قطب جبينه لأغراض التذكير, وبعدها التمع في عينيه ذلك الضوء الأخضر الذي
أعرفه جيدا, ثم قال: لقدكنت أحمق... المطبخ!
- المطبخ؟ ولكن ذلك مستحيل. والخدم؟!
- بالضبط. هذا من شأنه أن يقوله تسعة وتسعون بالمئة من الناس! ولهذا السبب بالذات فان المطبخهو
الخيار المثالي, فهو مليء بالأواني المنزلية المختلفة. امض قدما الىالمطبخ!
تبعته وأنا مرتاب تماما, ووقفت أراقبه وهو يغوص برأسه في حاوياتالخبز والقوارير والأواني, ويدخل
رأسه في فرن الغاز. وفي النهاية سئمت منمراقبته فعدت الى غرفة المكتب. كنت مقتنعا بأننا لن نجد
بغيتنا الا هناك, وهناكفقط. أجريت تفتيشا دقيقا آخر ولاحظت أن الساعة قد بلغت عندئذ الرابعة والربع
وبالتالي فان الفجر قد بات وشيكا, ثم عدت المطبخ.
وقد كان من دواعيدهشتي الكاملة أن أجد بوارو واقفا في وسط سلة الفحم تماما مفسدا بذلك بدلته الأنيقة
ذات اللون الفاتح. أومأ الي وقال: نعم يا صديقي... ان افساد بدلتي على هذاالنحو مناقض لكل طبائعي,
ولكن ماذا عساني أفعل؟
- ولكن من غير الممكن أنيكون لافنغتن قد دفنها تحت الفحم؟
- لو أنك استخدمت عينيك لرأيت أن ماأتفحصه ليس الفحم.
رأيت على رف خلف حاوية الفحم بعض جذوع الحطب المكومة. كانبوارو ينزل تلك الجذوع ببراعة
واحدا بعد الآخر, وفجأة هتف بصوت منخفض: أعطنيسكينك يا هيستنغز!
أعطيته اياها. وبدا وكأنه يدخلها في الجذع الخشبي, وفجأةانفلقت الحطبة الى نصفين. كانت قد نشرت
بشكل متقن من المنتصف وحفرت فجوة فيوسطها. أخرج بوارو من تلك الفجوة علبة خشبية صغيرة
صينية الصنع.
صحت وقدنسيت نفسي: أحسنت صنعا!
- بهدوء يا هيستنغز! لا ترفع صوتك أكثر. تعال, دعناننصرف قبل أن يداهمنا ضوء النهار.
دس العلبة الخشبية في جيبه, وقفز بخفة منسلة الفحم, ونفض الأوساخ عن ثيابه قدر المستطاع. وبعد أن
غادرنا المنزل -بنفسالطريقة التي دخلناه بها- انطلقنا بسرعة باتجاه لندن.
قلت: ولكن يا له منمخبأ غريب! كان يمكن لأي واحد أن يستخدمالحطبة للوقود.
- في شهر تموز ياهيستنغز؟ كما أنها كانت في أسفل كومة الحطب... مخبأ عبقري جدا. آه, هاهي سيارة
أجرة قادمة! والآن الى البيت, وبعدها حمام يزيل الأوساخ ثم نومة تعيدالنشاط.
بعد انفعلات تلك الليلة نمت الى وقت متأخر. وعندما توجهت أخيرا الىغرفة الجلوس قبيل الساعة الواحدة
ظهرا فوجئت برؤية بوارو وقد استند الىالخلف في أريكته, والعلبة الصينية مفتوحة بجانبه وهو يقرأ -
بهدوء- الرسالةالتي أخرجها من العلبة.
ابتسم لي بمودة ونقر بأصابعه على الورقة التي يحملهاوقال: لقد كانت الليدي ميليسنت صادقة تماما فيما
قالته. لم يكن الدوق ليغفر مثلهذه الرسالة! انها تحوي بعضا من أكثر عبارات الحب والعشق التي
صادفتها في حياتيتهورا واسرافا.
قلت بشئ من التقزز: لا أعتقد -فعلا- يا بوارو أن من حقكقراءة الرسالة؛ فمثل هذه الأمور ينبغي عدم
فعلها.
أجاب صديقي بهدوء: انهيركيول بوارو يفعلها.
- وأمر آخر... فأنا أعتقد أن استخدام بطاقة تعريفخاصة بالمفتش جاب البارحة لم يكن أبدا من أصول
اللعبة.
- ولكنني لم أكنألعب لعبة يا هيستنغز, بل كنت أحل قضية.
رفعت كتفي امتعاضا؛ فلا يمكن للمرءأن يحاجج في وجهة نظر مع بوارو, أما هو فقال: أسمع خطوات
على الدرج, لا بد أنهاالليدي ميليسنت.
دخلت زبونتنا الحسناء وعلى وجهها تعبير لهفة تغير الى تعبيرسعادة لدى رؤيتها الرسالة والعلبة اللتين
رفعهما بوارو أمامها. قالت: آه يا سيدبوارو. كم هو رائع منك ما فعلت! كيف فعلت ذلك؟
- بأساليب تستحق الشجب نوعاما يا سيدتي. ولكن السيد لا فنغتن لم يمضي -بعد- في مضايقتك. هاهي
رسالتك, أليست هي؟
ألقت نظرة على الرسالة ثم قالت: بلى, كيف لي أن أشكرك! انك رجلرائع, رائع. أين كانت مخبأة؟
أخبرها بوارو بذلك, فقالت: "كم هو ذكي منك مافعلته!", وتناولت العلبة الصغيرة عن الطاولة قائلة:
سأحتفظ بهاتذكارا.
- كنت آمل -يا سيدتي- أن تسمحي لي بأن أحتفظ بها أنا... أيضاتذكارا.
- آمل أن أرسل لك تذكارا أفضل من هذا في يوم زواجي. سوف لن تجدنيقليلة العرفان يا سيد بوارو.
- ان سعادتي في أداء خدمة لك أكبر من أي مال, ولذلك اسمحي لي بأن أحتفظ بالعلبة.
صاحت ميليسنت وهي تضحك: "آه, كلا يا سيدبوارو. علي -ببساطة- أن آخذ العلبة". ومدت يدها لتأخذها
ولكن بوارو سبقها فغطىالعلبة بيده وقال بصوت تغيرت نبرته: لا أعتقد ذلك.
بدا وكأن صوتها يزداد حدةوهي تقول: ما الذي تعنيه؟
- اسمحي لي -على أي حال- أن نستخرج محتوياتهاالأخرى. لعلك لاحظت بأن الفراغ الأصلي للعلبة تم
اختصاره بمعدل النصف. في النصفالعلوي توجد الرسالة الغرامية, وفي النصف السفلي...
ثم قام بحركة رشيقة, مدبعدها يده وفي راحتها أربعة أحجار كريمة ضخمة براقة, ولؤلؤتان كبيرتان بلون
الحليب.
تمتم بوارو: الجواهر التي سرقت من شارع بوند قبل أيام كما يخيلالي... جاب سيخبرنا ان كانت كذلك.
كان من دواعي دهشتي التامة أن يخرج جاب منغرفة نوم بوارو. قال بوارو يخاطب الليدي ميليسنت
بأدب: أعتقد أنه من أصدقائكالقدامى.
قال الليدي ميليسنت وقد تغير سلوكها تماما: "اعتقلت والله! يا لكمن شيطان عجوز لعين!". ثم نظرت الى
بوارو برهبة تكاد تصل حدالاعجاب.
قال لها جاب: حسنا يا عزيزتي غيرتي... أظن أن اللعبة انتهت هذهالمرة. ما أروع أن أراك ثانية بهذه
السرعة! لقد وقع زميلك أيضا, الرجل الذي أتىالى هنا أمس وقد سمى نفسه لافنغتن. أما لافنغتن الحقيقي
نفسه,المعروف باسمكروكر أيضا, وباسم ريد, فلا أدري أي رجال العصابات طعنه بسكين قبل أيام في
هولندا. لقد ظننتِ أنه أخذ "البضاعة" معه, أليس كذلك؟ ولكنه لم يأخذها. لقدخدعك بشكل ذكي, وخبأ
الجواهر في بيته. ولقد استأجرت رجلين للبحث عنها, ثم اتصلتبالسيد بوارو هنا, وقد وجدها بضربة حظ
عجيبة.
قالت الليدي المزورة: انكتحب الكلام حقا, أليس كذلك؟ على رسلك, لا داعي للشدة. سأذهب معك
بهدوء... لايمكنك الادعاء بأنني لست سيدة كاملة. وداعا جميعا!
قال بوارو حالماً فيماكنت أنا ذاهلا عن الكلام: كان الخطأ في حذائها. لقد جمعت كثيرا من الملاحظات
الصغيرة عن شعبك الانكليزي, ومن هذه الملاحظات أن سيدة ابنة عائلة ذات منبتكريم تكون -عادة-
شديدة الاهتمام بحذائها. قد تكون رثة الملابس ولكنها تكون -معذلك- جيدة الحذاء. أما هذه الليدي ميليسنت
فقد ارتدت ملابس أنيقة باهظة الثمن, وحذاء رخيصا.
لم يكن من المحتمل أن نكون أنا أو أنت قد رأينا الليدي ميليسنتالحقيقية؛ فهي نادرا ما تكون في لندن.
وهذه الفتاة لديها شبه ظاهري بها يمكن لهأن يمرر الخدعة بشكل جيد. وكما قلت: لقد كان الحذاء هو أول
ما أيقظ شكوكي, ثمقصتها, وخمارها... كانا مؤثرين قليلا, أليس كذلك؟ ولا بد أن العلبة الصينية التي
تحوي الرسالة الغرامية المزيفة في فجوتها العليا كانت معروفة لكل العصابة, ولكنحطبة الخشب كانت
فكرة السيد لافنغتن الراحل.
آه, ولذلك يا هيستنغز فاننيآمل أن لا تجرح مشاعري ثانية كما فعلت أمس بقولك انني غير معروف في
عالمالاجرام؛ فحتى المجرمون يلجؤون الي عندما يفشلون هم شخصيا!
Comment