عش الزنابير (قضايا بوارو المبكرة) اجاثا كريستي
عشالزنابير
خرج جون هاريسن من المنزل ووقف على المصطبة الأمامية بعض الوقتينظر الى الحديقة أمامه. كان رجلا ضخما ذا وجه نحيل شديد الشحوب. كانت سيماه عادةتميل الى الجهامة ولكن عندما ترق القسمات المتغضنة -كما هو الآن- فتصبح ابتسامةيصبح فيه شئ ما شديد الجاذبية.
لقد أحب جون هاريسن حديقته ولم يسبق لها أنبدت أفضل مما تبدو عليه هذا المساء الصيفي من شهر آب باعثة على الاسترخاء. لم تزلالورود المعترشة جميلة والبازلاء الحلوة تملأ الجو بعبقها.
صوت صرير مألوفتماما جعل هاريسن يدير رأسه بحدة. من هو القادم من بوابة الحديقة؟ بعد دقيقة علىوجهه تعبير الدهشة التامة لأن هيئة الرجل المهندم القادم عبر ممر الحديقة كانت آخرما يتوقع رؤيته في هذا المكان من العالم.
صرخ هاريسن: هذا والله عجيب, السيدبوارو!
وكان حقا هيركيول بوارو الشهير الذي طبقت شهرته الآفاق.
- نعم. لقد قلت لي يوما: "ان وجدت نفسك يوما في هذا الجزء من العالم فتعال لزيارتي", وقد أخذت بجريرة كلمتك وجئت.
أجاب هاريسن بحماسة: وأنا ممتن لذلك اجلس واشربشيئا.
وأشار الى طاولة على الشرفة فقال بوارو وهو يغرق في كرسي شبكيالقاعدة: "أشكرك لا أظن أن لديك عصير فواكه محلى؟ كلا, لا أظن ذلك. قليل من ماءالصودا اذن, لا مشروبات كحولية". ثم أضاف بصوت حساس معبر بينما كان هاريسن يضع لهكأس الصودا بجانبه: خسارة.. شاربان متهدلان! والسبب هو هذا الحر.
سألههاريسن وهو يجلس على كرسي آخر: وما الذي جاء بك الى هذه البقعة الهادئة؟المتعة؟
- كلا يا صديقي, بل العمل.
- العمل؟ في هذا المكانالنائي؟
هز بوارو رأسه بالايجاب وهو متجهم الوجه ثم قال: نعم يا صديقي, فليست كل الجرائم ترتكب بين الحشود الغفيرة كما تعلم.
ضحك الآخر وقال: أظنهاكانت ملاحظة بلهاء من طرفي. ولكن ما هي الجريمة المحددة التي تحقق فيها هنا, أم أنذلك شئ يجب أن لا أسأل عنه؟
- تستطيع أن تسأل, والحقيقة أنني أفضل أنتسأل.
نظر اليه هاريسن بفضول؛ فقد أحس بأن في أسلوب صديقه وطريقة كلامه شيئاغير عادي. بعدها تقدم بحديثه على نحو متردد بعض الشئ, قال: هل قلت انك تحقق بجريمة؟جريمة جدية؟
- من أكثر ما يمكن أن تكون الجرائم جدية.
- ماذاتعني...
- جريمة قتل.
وقد نطق بوارو هاتين الكلمتين بجدية بالغة جعلتهاريسن تأخذه المفاجئة. كان بوارو يحدق اليه مباشرة وأيضا كان في نظرته شئ غير عاديتماما بحيث لم يعد هاريسن يعرف كيف يستمر في الحديث. ولكنه قال أخيرا: ولكنني لمأسمع بأية جريمة قتل.
- نعم, فأنت لم تكن لتسمع بها.
- ومن هوالقتيل؟
- حتى الآن, لا أحد.
- ماذا؟
- ولذلك قلت انك لم تسمعبها. انني أحقق في جريمة لم ترتكب بعد.
- اسمعني يا بوارو, هذاهراء.
- أبدا. ان كان بوسع المرء أن يحقق في جريمة قبل حدوثها فان ذلك أفضلبكثير -بالتأكيد- من التحقيق بعد الجريمة. يمكن للمرء حتى أن يمنعها.
نظرهاريسن اليه ثم قال: انك لست جادا يا سيد بوارو.
- بلى, انني جاد.
- أتعتقد حقا بأن جريمة قتل سترتكب؟ آه, هذا سخيف!
أنهى بوارو الجزء الأول منجملته دون أن يلقى بالا لتعجب صاحبه: مالم نستطع أن نمنعها. نعم يا صديقي, هذا ماأعنيه.
- نمنعها؟
- نعم قلت: نمنعها نحن. فسأحتاج الىتعاونك.
- ألهذا أتيت الى هنا؟
مرة أخرى نظر بوارو اليه ومرة أخرىجعله ذلك الشئ غير المحدد في نظرة بوارو يضطرب ويقلق.
- جئت الى هنا يا سيدهاريسن لأنني.. حسنا, لأنني أحبك.
ثم أضاف بصوت مختلف كليا: انني أرى ياسيد هاريسن بأن لديك هناك عش زنابير. عليك أن تدمره.
أدى تغيير الموضوعبهاريسن الى أن يقطب جبينه بطريقة تلفها الحيرة. ثم تبع بعينيه نظرة بوارو وقالبصوت مذعور: أنا في الحقيقة سأدمره... أو بالأحرى سيدمره الشاب لانغتن. هل تتذكركلود لانغتن؟ كان حاضرا في نفس دعوة العشاء تلك التي قابلتك فيها. انه قادم هنا هذهالليلة ليدمر هذا العش. يبدو شغوفا بعض الشئ بهذا الأمر.
- آه, وكيفسيدمره؟
- بالنفط وحقنة الحديقة. ولكنه سيحضر ابرته الحاقنة؛ فحجمها أكبر منحجم ابرتي.
- ألا توجد طريقة أخرى؟ باستخدام سيانيد البوتاسيوم؟
بداوكأن هاريسن قد فوجئ قليلا, وقال: بلى, ولكن تلك مادة خطيرة ومن المجازفة دوماالاحتفاظ بها في البيت.
هز بوارو رأسه موافقا ببطء وقال: "نعم, انه سمقاتل". تريث قليلا وردد مرة أخرى بصوت وقور: سم قاتل.
علق هاريسن ضاحكا: انهمفيد ان كنت تريد "تصريف" حماتك, ايه؟
ولكن بوارو ظل جادا, وقال: وهل أنتواثق يا سيد هاريسن بأن ما سيستخدمه السيد لانغتن في تدمير عش الزنابير هوالنفط؟
- واثق تماما, لماذا؟
- انني أتعجب! لقد كنت عند الصيدليفيبارتشيستر عصر اليوم. وكان علي أن أوقع في سجل السموم مقابل احدى العقاقير التياشتريتها ورأيت في السجل آخر مادة وآخر توقيع. كانت المادة سيانيد البوتاسيوم وقدوقع أمامها كلود لانغتن.
نظر هاريسن اليه وقال: غريب!... لقد أخبرني لانغتنأمس بأنه لم يحلم أبدا باستخدام هذه المادة والحقيقة أنه قال يجب عدم بيعها لهذهالأغراض.
أرسل بوارو ناظريه الى الحديقة. وكان صوته هادئا جدا وهو يطرحسؤاله: هل تحب لانغتن؟
جفل هاريسن؛ اذ بدا وكأن السؤال قد فاجأه على حينغفلة. قال: أنا... أنا... حسنا, بالطبع أحبه, ولماذا لا أحبه؟
- قال بواروبهدوء: كنت أتساءل فقط ان كنت تحبه.
ولما لم يجب هاريسن مضى بوارو قائلا: وقد تساءلت أيضا ان كان هو يحبك؟
- ما الذي تريد الوصول اليه يا سيد بوارو؟في عقلك شئ لا أستطيع سبر غوره.
- سأكون صريحا جدا معك. انك خاطب, وستتزوجيا سيد هاريسن. وأنا أعرف الآنسة مولي دين. انها فتاة جميلة وفاتنة جدا وقبل أنتكون مخطوبة لك كانت مخطوبة لكلود لانغتن وقد تركته من أجلك.
هز رأسه موافقاواستمر بوارو: أنا لا أسأل عن دوافعها في ذلك فربما تكون لها مبررتها. ولكنني أقوللك ما يلي: ليس من المستكثر عليك أن تفترض بأن لانغتن لم ينس ولم يغفرذلك.
- أنت مخطئ يا سيد بوارو... أقسم أنك مخطئ. لقد تحلى لانغتن بروحرياضية وتقبل الأمر كرجل وقد كان شريفا معي الى حد مدهش... بذل كل ما بوسعه ليكودودودا.
- ولم يسترع ذلك انتباهك كأمر غير عادي؟ لقد استعملت تعبير"الى حدمدهش" ولكنك لا تبدو مدهوشا.
- ما الذي تعنيه يا سيد بوارو؟
قالبوارو وفي صوته نبرة جديدة: أعني بأنه يمكن لرجل أن يخفي كرهه حتى يأتي الوقتالمناسب.
- كرهه؟
هز رأسه بالنفي وهو يضحك.
- الانكليز أغبياءجدا؛ يعتقدون أنهم يستطيعون خداع الجميع وأن أحدا لا يستطيع خداعهم. هذا روحهرياضية, وهذا شاب طيب... لن يصدقوا أبدا وجود الشر فيه ولأنهم شجعان -رغم غبائهم- فهم أحيانا يموتون في وقت ليسوا مضطرين للموت فيه.
قال هاريسن بصوت منخفض: انك تحذرني. أنا أدرك ذلك الآن... أدرك ما حيرني طوال هذا الوقت. انك تحذرني منكلود لانغتن. وقد جئت هنا اليوم لتحذرني...
هز بوارو رأسه موافقا, فقزهاريسن واقفا وقال: ولكنك أنت المجنون يا سيد بوارو. نحن نعيش في انكلترا والأمورلا تجري بهذا الشكل هنا, فالخاطبون الذين تركتهم خطيباتهم لا يركضون في الشوارعطاعنين الناس في ظهورهم. وأنت مخطئ بخصوص لانغتن؛ فذلك الشاب غير مستعد أن يؤذيذبابة.
قال بوارو بهدوء: حياة الذباب ليست موضع اهتمامي. ورغم أنك تقول انالسيد لانغتن غير مستعد لقتل ذبابة فانك تنسى أنه يعد العدة الآن لقتل عدة آلاف منالزنابير.
لم يجب هاريسن على الفور. ونهض بوارو بدوره وتقدم من صديقه ووضعيده على كتفه. كان بوارو ثائرا منفعلا حتى انه كاد أن يهز جسد الرجل الضخم وبينماكان يفعل ذلك همس بأذن صديقه قائلا: تغلب على غفلتك يا صديقي, تغلب على غفلتك. وانظر... انظر الى حيث أشير. هناك عند الحافة تماما قرب جذر الشجرة. انظر الىالزنابير وهي تعود الى عشها هادئة في نهاية النهار. خلال ساعة قصيرة سيحل بهاالدمار وهي لاتعرف ذلك. ليس هناك من يخبرها.. ليس لديها -كما يبدو- أحد مثل هيركيولبوارو. انني أقول لك يا سيد هاريسن بأنني قد جئت الى هنا في عمل وان جرائم القتل هيعملي, وهي عملي قبل أن ترتكب بقدر ما هي عملي بعد ارتكابه. في أي وقت سيأتي السيدلانغتن لنزع عش الزنابير هذا؟
- لانغتن لن...
- سألتك في أيوقت؟
- في الساعة التاسعة. ولكنني أقول لك: انك مخطئ تماما. لانغتن لن يقدمأبدا...
صاح بوارو مقاطعا في نوبة عاطفة: يا لهؤلاء الانكليز!
ثم أخذقبعته وعصاه ومضى عبر الممشى توقف قليلا ليلتفت ويقول: لن أبقى لكي أتجادل معك فلنأجني من ذلك الا اغضاب نفسي, ولكن, ليكن بعلمك: سأعود في الساعةالتاسعة.
فتح هاريسن فمه ليتكلم, ولكن بوارو لم يعطه فرصة لذلك اذ قال: أعرفما ستقوله... لانغتن لن يقدم أبدا... الخ. حسنا, أنت تقول: ان لانغتن لم يقدم أبدا! ولكنني -مع ذلك- عائد اليك في الساعة التاسعة. نعم, وسيسرني ذلك, اعتبرها هكذا: يسرني أن أشاهد تدمير عش الزنابير. اعتبرها رياضة من رياضاتكمالانكليزية!
لم ينتظر جوابا بل مضى سريعا في ممر الحديقة ثم الى الخارج عبرالبوابة التي تصدر صريرا. وما أن أصبح في الشارع حتى خفت سرعة خطواته وتلاشت حيويتهونشاطه وأصبح وجهه قلقا وقورا. أخرج ساعته من جيبه ونظر اليها. كانت العقارب تشيرالى الثامنة وعشر دقائق. تمتم قائلا: أكثر من ثلاثة أرباع الساعة. عجبا, هلاستعجلت؟
تباطأت خطواته, بل بدا وكأنه وصل الى نقطة يكاد يعود فيها. بدا أننذير شر غامضا يهاجمه ولكنه طرد ذلك الهاجس عنه بتصميم واستمر في سيره باتجاهالقرية. ولكن وجهه كان ما يزال قلقا, وقد هز رأسه مرة أو مرتين صنع رجل لا يملك الابعض القناعة.
كانت الساعة قبل التاسعة ببضع دقائق عندما اقترب مرة أخرى منبوابة الحديقة. كان المساء صافيا ساكنا لا تكاد ترى فيه هبة نسيم تحرك أوراق الشجر. ربما كان في هذا السكون شئ ما شرير كالهدوء الذي يسبق العاصفة.
تحركت قدمابوارو بشكل أسرع قليلا اذ شعر فجأة بالذعر وعدم اليقين. كان يخاف شيئا لا يدرككنهه. وفي تلك اللحظة فتحت بوابة الحديقة وخرج منها كلود لانغتن بسرعة الى الشارع. وقد جفل عندما رأى بوارو وقال: آه...مـ... مساء الخير.
- مساء الخير يا سيدلانغتن. لقد خرجت مبكرا.
نظر لانغتن اليه وقال: لا أدري ما الذيتعنيه؟
- هل عالجت عش الزنابير؟
- في الحقيقة... لا, لمأعالجه.
قال بوارو بلطف: آه, أنت لم تعالج عش الزنابير. فماذا فعلتاذن؟
- جلست فقط وتحدثت قليلا مع هاريسن العجوز. انني مضطر حقا للاسراعبالانصراف الآن يا سيد بوارو. لم تكن لدي فكرة بأنك باق في هذا الجزء منالعالم.
- لدي عمل هنا.
- آه! حسنا, ستجد هاريسن على المصطبة. أناآسف لأنني لا أستطيع البقاء.
وأسرع مبتعدا. تابعه بوارو بنظراته. كان شاباعصبي المزاج حسن الهيئة ذا فم ينم عن الضعف! تمتم بوارو قائلا: فسأجد هاريسن علىالمصطبة اذن. ترى هل سأجده؟
دخل من بوابة الحديقة ثم عبر الممر. كان هاريسنجالسا على كرسي قرب الطاولة. جلس ساكنا بل انه لم يدر رأسه عندما اقترب منه بواروقائلا: آه! يا صديقي. أأنت على ما يرام؟
ساد صمت طويل, قال بعده هاريسن بصوتذاهل: ماذا قلت؟
- قلت: هل أنت على ما يرام؟
- بخير, نعم... أنابخير. ولماذا لا أكون كذلك؟
- ألا تشعر بأية آثار سيئة؟... هذاجيد.
- آثار سيئة؟ من ماذا؟
- من مسحوق غسول الصودا.
نهضهاريسن فجأة وقال: غسول الصودا؟ ما الذي تعنيه؟
قام بوارو بحركة اعتذاروقال: انني آسف جدا لاضطراري لذلك, ولكنني وضعت بعض حبيبات مسحوق الصودا فيجيبك.
- وضعت حبيبات الصودا في جيبي؟ لماذا بالله عليك؟
حدق هاريسناليه. تكلم بوارو بهدوء وبأسلوب موضوعي وكأنه محاضر نزل الى مستوى طفل صغير: أنتتعلم أن واحدة من محاسن -أو مساوئ- العمل كرجل تحر أن ذلك يجعلك على اتصال مع طبقاتالمجرمين وهؤلاء يستطيعون أن يعلموك بعضا من أغرب الأمور وأشدها اثارة. صادفت نشالاذات يوم واهتممت به لأنه -في تلك المرة تحديدا, من بين آلاف المرات- لم يكن قدارتكب ما اتهم به, وهكذا أنقذته ولأنه شعر بالامتنان لي فقد وفاني أجري بالطريقةالوحيدة التي وصل اليها تفكيره, وهي تعليمي حيل مهنته. وهكذا فانني استطيع نشل جيبرجل -ان أردت- دون أن يحس أبدا ذلك. أضع احدى يدي على كتفه ثم أمثل دور المنفعل ولايحس هو بشئ فيما أكون قد تمكنت من نقل ما في جيبه الى جيبي وترك بعض حبيبات الصودامكانه.
ثم تابع بوارو حالما: أرأيت؟ ان أراد رجل أن يصل الى بعض السم بسرعةليضعه في كأس دون أن يلحظه أحد فان عليه أن يحتفظ به في جيب معطفه الأيمن ليس منمكان آخر. لقد عرفت أنه سيكون هناك.
ثم دس يده في جيبه وأخرج بعض الحبيباتالبيضاء المتكتلة المبلورة, وتمتم قائلا: خطيرة جدا... ولا ينبغي حملها هكذا دوناناء محكم.
ومن جيبه الآخر أخرج ببطء وهدوء زجاجة واسعة الفوهة. أدخلالحبيبات المتبلورة فيها ثم تقدم من الطاولة وملأ الزجاجة بالماء الصافي. بعد ذلكأغلق سدادتها بحذر وأخذ يرجها حتى ذابت الحبيبات. كان هاريسن يراقبه وكأنه مسحور. وبعد أن اقتنع بوارو بمحلوله مشى الى عش الزنابير... فتح الزجاجة وأدار رأسه جانباوسكب المحلول في العش ثم تراجع خطوتين ليراقب الوضع.
كانت بعض الزنابير التيتحط عائدة الى عشها ترتجف قليلا ثم ترتمي ساكنه فيما زحفت زنابير أخرى خارج فتحةالعش لترتمي ميتة بعدها. راقب بوارو ذلك برهة ثم هز رأسه وعاد الى الشرفة قائلا: موت سريع, سريع جدا.
وجد هاريسن أخيرا صوته وقال: ما هو مدىمعرفتك؟
نظر بوارو أمامه تماما وقال: كما قلت لك, لقد رأيت اسم كلود لانغتنفي السجل. أما ما لم أخبرك به فهو أنني صادفته بعد ذلك مباشرة. وقد أخبرني بأنه كانيشتري سيانيد البوتاسيوم بناء على طلبك أنت لتدمير عش الزنابير. وقد أثار ذلكانتباهي باعتباره أمرا غريبا يا صديقي لأنني أتذكر أنك -في ذلك العشاء الذي تحدثتعنه- تكلمت مطولا عن الحسنات الكبيرة لاستخدام النفط واستنكرت شراء السيانيدباعتباره خطيرا وغير ضروري.
- استمر.
- وعرفت شيئا آخر. لقد رأيتكلود لانغتن وموليدين معا في مكان لم يكونا يعتقدان أن أحدا سيراهما فيه. انني لاأعرف تلك المشاجرة بين المحبين التي جعلتهما أساسا يفترقان ودفعت الفتاة اليكولكنني أدركت بأن سوء التفاهم بينهما قد زال وأن الأنسة دين كانت في طريق عودتهاالى حبيبها.
- استمر.
- وقد علمت شيئا آخر يا صديقي. لقد كنت في شارعهارلي شارع الأطباء قبل أيام وقد رأيتك تخرج من عيادة طبيب معين. وأنا أعرف الطبيبوأعرف المرض الذي يلجأ اليه الناس من أجله وقد رأيت التعبير على وجهك. ذلك التعبيرالذي لم أره سوى مرة أو مرتين طوال حياتي ولكنه تعبير لايمكن الخطأ فيه. كان وجهكوجه رجل حكم عليه بالاعدام. أنا على حق في هذا أليس كذلك؟
- على حق تماما, وقد قرر الطبيب أنني لن أعيش سوى شهرين.
- أنت لم ترني يا صديقي؛ لأنك كنتمشغولا جدا بأمور أخرى تفكر فيها. وقد رأيت شيئا آخر على وجهك ذلك الشئ الذي قلت لكعصر اليوم ان الرجال يحاولون اخفاءه... رأيت فيه الكراهية يا صديقي. انك لم تكلفنفسك عناء اخفاءها, لأنك لم تظن أن أحدا كان يراقبك.
- استمر.
- لميعد لدي كثير مما يقال. جئت هنا ورأيت اسم لانغتن بالمصادفة في سجل السموم كما قلتلك, ثم قابلته وجئتك هنا. لقد نصبت لك فخاخا. أنت أنكرت أنك طلبت من لانغتن الحصولعلى السيانيد أو بالأحرى عبرت عن دهشتك لفعلته ذاك. لقد فوجئت في البداية لدى رؤيتيولكنك سرعان ما أدركت أن وجودي سيكون مناسبا لما تفكر فيه, فشجعت شكوكي. كنت أعرفمن لانغتن نفسه أنه سيأتي هنا في الساعة الثامنة والنصف, ولكنك قلت انه سيجئ فيالتاسعة معتقدا أنني سآتي لأجد كل شئ منتهيا, وهكذا كنت أعرف كل شئ.
- لماذاأتيت؟ لو أنك فقط لم تأت!
اعتدل بوارو في جلسته وقال: لقد قلت لك, ان القتلهو اختصاصي.
- القتل؟ بل قل: الانتحار.
صدع صوت بوارو حادا واضحا وهويقولك كلا, بل أعني القتل. كان موتك سيكون سريعا وسهلا ولكن موت لانغتن الذي خطط لهكان أسوأ موت يمكن لانسان أن يلقاه, فهو الذي اشترى السم وهو الذي جاء لزيارتك وهو -وحده- الذي كان معك. تموت فجأة ويكشف السيانيد في كأسك ويشنق كلود لانغتن... تلككانت خطتك.
زمجر هاريسن مرة أخرى نائحا: لماذا أتيت؟ لماذا أتيت؟
- لقد أخبرتك. ولكن يوجد سبب آخر؛ وهو أنني أحبك. اسمع يا صديقي انك رجل يحتضر وقدفقدت الفتاة التي أحببتها ولكن شيئا واحدا لا يمكن أن تكونه... فأنت لست قاتلا. قللي الآن: أأنت سعيد أم آسف لحضوري.
ساد لحظات صمت, واعتدل هاريسن في جلسته. بدت في وجهه هيئة جديدة: هيئة رجل استطاع أن يتحكم بدخيلة نفسه العميقة. مد يده عبرالطاولة وصاح: شكرا لله أنك أتيت... آه, شكرا لله أنكأتيت.
خرج جون هاريسن من المنزل ووقف على المصطبة الأمامية بعض الوقتينظر الى الحديقة أمامه. كان رجلا ضخما ذا وجه نحيل شديد الشحوب. كانت سيماه عادةتميل الى الجهامة ولكن عندما ترق القسمات المتغضنة -كما هو الآن- فتصبح ابتسامةيصبح فيه شئ ما شديد الجاذبية.
لقد أحب جون هاريسن حديقته ولم يسبق لها أنبدت أفضل مما تبدو عليه هذا المساء الصيفي من شهر آب باعثة على الاسترخاء. لم تزلالورود المعترشة جميلة والبازلاء الحلوة تملأ الجو بعبقها.
صوت صرير مألوفتماما جعل هاريسن يدير رأسه بحدة. من هو القادم من بوابة الحديقة؟ بعد دقيقة علىوجهه تعبير الدهشة التامة لأن هيئة الرجل المهندم القادم عبر ممر الحديقة كانت آخرما يتوقع رؤيته في هذا المكان من العالم.
صرخ هاريسن: هذا والله عجيب, السيدبوارو!
وكان حقا هيركيول بوارو الشهير الذي طبقت شهرته الآفاق.
- نعم. لقد قلت لي يوما: "ان وجدت نفسك يوما في هذا الجزء من العالم فتعال لزيارتي", وقد أخذت بجريرة كلمتك وجئت.
أجاب هاريسن بحماسة: وأنا ممتن لذلك اجلس واشربشيئا.
وأشار الى طاولة على الشرفة فقال بوارو وهو يغرق في كرسي شبكيالقاعدة: "أشكرك لا أظن أن لديك عصير فواكه محلى؟ كلا, لا أظن ذلك. قليل من ماءالصودا اذن, لا مشروبات كحولية". ثم أضاف بصوت حساس معبر بينما كان هاريسن يضع لهكأس الصودا بجانبه: خسارة.. شاربان متهدلان! والسبب هو هذا الحر.
سألههاريسن وهو يجلس على كرسي آخر: وما الذي جاء بك الى هذه البقعة الهادئة؟المتعة؟
- كلا يا صديقي, بل العمل.
- العمل؟ في هذا المكانالنائي؟
هز بوارو رأسه بالايجاب وهو متجهم الوجه ثم قال: نعم يا صديقي, فليست كل الجرائم ترتكب بين الحشود الغفيرة كما تعلم.
ضحك الآخر وقال: أظنهاكانت ملاحظة بلهاء من طرفي. ولكن ما هي الجريمة المحددة التي تحقق فيها هنا, أم أنذلك شئ يجب أن لا أسأل عنه؟
- تستطيع أن تسأل, والحقيقة أنني أفضل أنتسأل.
نظر اليه هاريسن بفضول؛ فقد أحس بأن في أسلوب صديقه وطريقة كلامه شيئاغير عادي. بعدها تقدم بحديثه على نحو متردد بعض الشئ, قال: هل قلت انك تحقق بجريمة؟جريمة جدية؟
- من أكثر ما يمكن أن تكون الجرائم جدية.
- ماذاتعني...
- جريمة قتل.
وقد نطق بوارو هاتين الكلمتين بجدية بالغة جعلتهاريسن تأخذه المفاجئة. كان بوارو يحدق اليه مباشرة وأيضا كان في نظرته شئ غير عاديتماما بحيث لم يعد هاريسن يعرف كيف يستمر في الحديث. ولكنه قال أخيرا: ولكنني لمأسمع بأية جريمة قتل.
- نعم, فأنت لم تكن لتسمع بها.
- ومن هوالقتيل؟
- حتى الآن, لا أحد.
- ماذا؟
- ولذلك قلت انك لم تسمعبها. انني أحقق في جريمة لم ترتكب بعد.
- اسمعني يا بوارو, هذاهراء.
- أبدا. ان كان بوسع المرء أن يحقق في جريمة قبل حدوثها فان ذلك أفضلبكثير -بالتأكيد- من التحقيق بعد الجريمة. يمكن للمرء حتى أن يمنعها.
نظرهاريسن اليه ثم قال: انك لست جادا يا سيد بوارو.
- بلى, انني جاد.
- أتعتقد حقا بأن جريمة قتل سترتكب؟ آه, هذا سخيف!
أنهى بوارو الجزء الأول منجملته دون أن يلقى بالا لتعجب صاحبه: مالم نستطع أن نمنعها. نعم يا صديقي, هذا ماأعنيه.
- نمنعها؟
- نعم قلت: نمنعها نحن. فسأحتاج الىتعاونك.
- ألهذا أتيت الى هنا؟
مرة أخرى نظر بوارو اليه ومرة أخرىجعله ذلك الشئ غير المحدد في نظرة بوارو يضطرب ويقلق.
- جئت الى هنا يا سيدهاريسن لأنني.. حسنا, لأنني أحبك.
ثم أضاف بصوت مختلف كليا: انني أرى ياسيد هاريسن بأن لديك هناك عش زنابير. عليك أن تدمره.
أدى تغيير الموضوعبهاريسن الى أن يقطب جبينه بطريقة تلفها الحيرة. ثم تبع بعينيه نظرة بوارو وقالبصوت مذعور: أنا في الحقيقة سأدمره... أو بالأحرى سيدمره الشاب لانغتن. هل تتذكركلود لانغتن؟ كان حاضرا في نفس دعوة العشاء تلك التي قابلتك فيها. انه قادم هنا هذهالليلة ليدمر هذا العش. يبدو شغوفا بعض الشئ بهذا الأمر.
- آه, وكيفسيدمره؟
- بالنفط وحقنة الحديقة. ولكنه سيحضر ابرته الحاقنة؛ فحجمها أكبر منحجم ابرتي.
- ألا توجد طريقة أخرى؟ باستخدام سيانيد البوتاسيوم؟
بداوكأن هاريسن قد فوجئ قليلا, وقال: بلى, ولكن تلك مادة خطيرة ومن المجازفة دوماالاحتفاظ بها في البيت.
هز بوارو رأسه موافقا ببطء وقال: "نعم, انه سمقاتل". تريث قليلا وردد مرة أخرى بصوت وقور: سم قاتل.
علق هاريسن ضاحكا: انهمفيد ان كنت تريد "تصريف" حماتك, ايه؟
ولكن بوارو ظل جادا, وقال: وهل أنتواثق يا سيد هاريسن بأن ما سيستخدمه السيد لانغتن في تدمير عش الزنابير هوالنفط؟
- واثق تماما, لماذا؟
- انني أتعجب! لقد كنت عند الصيدليفيبارتشيستر عصر اليوم. وكان علي أن أوقع في سجل السموم مقابل احدى العقاقير التياشتريتها ورأيت في السجل آخر مادة وآخر توقيع. كانت المادة سيانيد البوتاسيوم وقدوقع أمامها كلود لانغتن.
نظر هاريسن اليه وقال: غريب!... لقد أخبرني لانغتنأمس بأنه لم يحلم أبدا باستخدام هذه المادة والحقيقة أنه قال يجب عدم بيعها لهذهالأغراض.
أرسل بوارو ناظريه الى الحديقة. وكان صوته هادئا جدا وهو يطرحسؤاله: هل تحب لانغتن؟
جفل هاريسن؛ اذ بدا وكأن السؤال قد فاجأه على حينغفلة. قال: أنا... أنا... حسنا, بالطبع أحبه, ولماذا لا أحبه؟
- قال بواروبهدوء: كنت أتساءل فقط ان كنت تحبه.
ولما لم يجب هاريسن مضى بوارو قائلا: وقد تساءلت أيضا ان كان هو يحبك؟
- ما الذي تريد الوصول اليه يا سيد بوارو؟في عقلك شئ لا أستطيع سبر غوره.
- سأكون صريحا جدا معك. انك خاطب, وستتزوجيا سيد هاريسن. وأنا أعرف الآنسة مولي دين. انها فتاة جميلة وفاتنة جدا وقبل أنتكون مخطوبة لك كانت مخطوبة لكلود لانغتن وقد تركته من أجلك.
هز رأسه موافقاواستمر بوارو: أنا لا أسأل عن دوافعها في ذلك فربما تكون لها مبررتها. ولكنني أقوللك ما يلي: ليس من المستكثر عليك أن تفترض بأن لانغتن لم ينس ولم يغفرذلك.
- أنت مخطئ يا سيد بوارو... أقسم أنك مخطئ. لقد تحلى لانغتن بروحرياضية وتقبل الأمر كرجل وقد كان شريفا معي الى حد مدهش... بذل كل ما بوسعه ليكودودودا.
- ولم يسترع ذلك انتباهك كأمر غير عادي؟ لقد استعملت تعبير"الى حدمدهش" ولكنك لا تبدو مدهوشا.
- ما الذي تعنيه يا سيد بوارو؟
قالبوارو وفي صوته نبرة جديدة: أعني بأنه يمكن لرجل أن يخفي كرهه حتى يأتي الوقتالمناسب.
- كرهه؟
هز رأسه بالنفي وهو يضحك.
- الانكليز أغبياءجدا؛ يعتقدون أنهم يستطيعون خداع الجميع وأن أحدا لا يستطيع خداعهم. هذا روحهرياضية, وهذا شاب طيب... لن يصدقوا أبدا وجود الشر فيه ولأنهم شجعان -رغم غبائهم- فهم أحيانا يموتون في وقت ليسوا مضطرين للموت فيه.
قال هاريسن بصوت منخفض: انك تحذرني. أنا أدرك ذلك الآن... أدرك ما حيرني طوال هذا الوقت. انك تحذرني منكلود لانغتن. وقد جئت هنا اليوم لتحذرني...
هز بوارو رأسه موافقا, فقزهاريسن واقفا وقال: ولكنك أنت المجنون يا سيد بوارو. نحن نعيش في انكلترا والأمورلا تجري بهذا الشكل هنا, فالخاطبون الذين تركتهم خطيباتهم لا يركضون في الشوارعطاعنين الناس في ظهورهم. وأنت مخطئ بخصوص لانغتن؛ فذلك الشاب غير مستعد أن يؤذيذبابة.
قال بوارو بهدوء: حياة الذباب ليست موضع اهتمامي. ورغم أنك تقول انالسيد لانغتن غير مستعد لقتل ذبابة فانك تنسى أنه يعد العدة الآن لقتل عدة آلاف منالزنابير.
لم يجب هاريسن على الفور. ونهض بوارو بدوره وتقدم من صديقه ووضعيده على كتفه. كان بوارو ثائرا منفعلا حتى انه كاد أن يهز جسد الرجل الضخم وبينماكان يفعل ذلك همس بأذن صديقه قائلا: تغلب على غفلتك يا صديقي, تغلب على غفلتك. وانظر... انظر الى حيث أشير. هناك عند الحافة تماما قرب جذر الشجرة. انظر الىالزنابير وهي تعود الى عشها هادئة في نهاية النهار. خلال ساعة قصيرة سيحل بهاالدمار وهي لاتعرف ذلك. ليس هناك من يخبرها.. ليس لديها -كما يبدو- أحد مثل هيركيولبوارو. انني أقول لك يا سيد هاريسن بأنني قد جئت الى هنا في عمل وان جرائم القتل هيعملي, وهي عملي قبل أن ترتكب بقدر ما هي عملي بعد ارتكابه. في أي وقت سيأتي السيدلانغتن لنزع عش الزنابير هذا؟
- لانغتن لن...
- سألتك في أيوقت؟
- في الساعة التاسعة. ولكنني أقول لك: انك مخطئ تماما. لانغتن لن يقدمأبدا...
صاح بوارو مقاطعا في نوبة عاطفة: يا لهؤلاء الانكليز!
ثم أخذقبعته وعصاه ومضى عبر الممشى توقف قليلا ليلتفت ويقول: لن أبقى لكي أتجادل معك فلنأجني من ذلك الا اغضاب نفسي, ولكن, ليكن بعلمك: سأعود في الساعةالتاسعة.
فتح هاريسن فمه ليتكلم, ولكن بوارو لم يعطه فرصة لذلك اذ قال: أعرفما ستقوله... لانغتن لن يقدم أبدا... الخ. حسنا, أنت تقول: ان لانغتن لم يقدم أبدا! ولكنني -مع ذلك- عائد اليك في الساعة التاسعة. نعم, وسيسرني ذلك, اعتبرها هكذا: يسرني أن أشاهد تدمير عش الزنابير. اعتبرها رياضة من رياضاتكمالانكليزية!
لم ينتظر جوابا بل مضى سريعا في ممر الحديقة ثم الى الخارج عبرالبوابة التي تصدر صريرا. وما أن أصبح في الشارع حتى خفت سرعة خطواته وتلاشت حيويتهونشاطه وأصبح وجهه قلقا وقورا. أخرج ساعته من جيبه ونظر اليها. كانت العقارب تشيرالى الثامنة وعشر دقائق. تمتم قائلا: أكثر من ثلاثة أرباع الساعة. عجبا, هلاستعجلت؟
تباطأت خطواته, بل بدا وكأنه وصل الى نقطة يكاد يعود فيها. بدا أننذير شر غامضا يهاجمه ولكنه طرد ذلك الهاجس عنه بتصميم واستمر في سيره باتجاهالقرية. ولكن وجهه كان ما يزال قلقا, وقد هز رأسه مرة أو مرتين صنع رجل لا يملك الابعض القناعة.
كانت الساعة قبل التاسعة ببضع دقائق عندما اقترب مرة أخرى منبوابة الحديقة. كان المساء صافيا ساكنا لا تكاد ترى فيه هبة نسيم تحرك أوراق الشجر. ربما كان في هذا السكون شئ ما شرير كالهدوء الذي يسبق العاصفة.
تحركت قدمابوارو بشكل أسرع قليلا اذ شعر فجأة بالذعر وعدم اليقين. كان يخاف شيئا لا يدرككنهه. وفي تلك اللحظة فتحت بوابة الحديقة وخرج منها كلود لانغتن بسرعة الى الشارع. وقد جفل عندما رأى بوارو وقال: آه...مـ... مساء الخير.
- مساء الخير يا سيدلانغتن. لقد خرجت مبكرا.
نظر لانغتن اليه وقال: لا أدري ما الذيتعنيه؟
- هل عالجت عش الزنابير؟
- في الحقيقة... لا, لمأعالجه.
قال بوارو بلطف: آه, أنت لم تعالج عش الزنابير. فماذا فعلتاذن؟
- جلست فقط وتحدثت قليلا مع هاريسن العجوز. انني مضطر حقا للاسراعبالانصراف الآن يا سيد بوارو. لم تكن لدي فكرة بأنك باق في هذا الجزء منالعالم.
- لدي عمل هنا.
- آه! حسنا, ستجد هاريسن على المصطبة. أناآسف لأنني لا أستطيع البقاء.
وأسرع مبتعدا. تابعه بوارو بنظراته. كان شاباعصبي المزاج حسن الهيئة ذا فم ينم عن الضعف! تمتم بوارو قائلا: فسأجد هاريسن علىالمصطبة اذن. ترى هل سأجده؟
دخل من بوابة الحديقة ثم عبر الممر. كان هاريسنجالسا على كرسي قرب الطاولة. جلس ساكنا بل انه لم يدر رأسه عندما اقترب منه بواروقائلا: آه! يا صديقي. أأنت على ما يرام؟
ساد صمت طويل, قال بعده هاريسن بصوتذاهل: ماذا قلت؟
- قلت: هل أنت على ما يرام؟
- بخير, نعم... أنابخير. ولماذا لا أكون كذلك؟
- ألا تشعر بأية آثار سيئة؟... هذاجيد.
- آثار سيئة؟ من ماذا؟
- من مسحوق غسول الصودا.
نهضهاريسن فجأة وقال: غسول الصودا؟ ما الذي تعنيه؟
قام بوارو بحركة اعتذاروقال: انني آسف جدا لاضطراري لذلك, ولكنني وضعت بعض حبيبات مسحوق الصودا فيجيبك.
- وضعت حبيبات الصودا في جيبي؟ لماذا بالله عليك؟
حدق هاريسناليه. تكلم بوارو بهدوء وبأسلوب موضوعي وكأنه محاضر نزل الى مستوى طفل صغير: أنتتعلم أن واحدة من محاسن -أو مساوئ- العمل كرجل تحر أن ذلك يجعلك على اتصال مع طبقاتالمجرمين وهؤلاء يستطيعون أن يعلموك بعضا من أغرب الأمور وأشدها اثارة. صادفت نشالاذات يوم واهتممت به لأنه -في تلك المرة تحديدا, من بين آلاف المرات- لم يكن قدارتكب ما اتهم به, وهكذا أنقذته ولأنه شعر بالامتنان لي فقد وفاني أجري بالطريقةالوحيدة التي وصل اليها تفكيره, وهي تعليمي حيل مهنته. وهكذا فانني استطيع نشل جيبرجل -ان أردت- دون أن يحس أبدا ذلك. أضع احدى يدي على كتفه ثم أمثل دور المنفعل ولايحس هو بشئ فيما أكون قد تمكنت من نقل ما في جيبه الى جيبي وترك بعض حبيبات الصودامكانه.
ثم تابع بوارو حالما: أرأيت؟ ان أراد رجل أن يصل الى بعض السم بسرعةليضعه في كأس دون أن يلحظه أحد فان عليه أن يحتفظ به في جيب معطفه الأيمن ليس منمكان آخر. لقد عرفت أنه سيكون هناك.
ثم دس يده في جيبه وأخرج بعض الحبيباتالبيضاء المتكتلة المبلورة, وتمتم قائلا: خطيرة جدا... ولا ينبغي حملها هكذا دوناناء محكم.
ومن جيبه الآخر أخرج ببطء وهدوء زجاجة واسعة الفوهة. أدخلالحبيبات المتبلورة فيها ثم تقدم من الطاولة وملأ الزجاجة بالماء الصافي. بعد ذلكأغلق سدادتها بحذر وأخذ يرجها حتى ذابت الحبيبات. كان هاريسن يراقبه وكأنه مسحور. وبعد أن اقتنع بوارو بمحلوله مشى الى عش الزنابير... فتح الزجاجة وأدار رأسه جانباوسكب المحلول في العش ثم تراجع خطوتين ليراقب الوضع.
كانت بعض الزنابير التيتحط عائدة الى عشها ترتجف قليلا ثم ترتمي ساكنه فيما زحفت زنابير أخرى خارج فتحةالعش لترتمي ميتة بعدها. راقب بوارو ذلك برهة ثم هز رأسه وعاد الى الشرفة قائلا: موت سريع, سريع جدا.
وجد هاريسن أخيرا صوته وقال: ما هو مدىمعرفتك؟
نظر بوارو أمامه تماما وقال: كما قلت لك, لقد رأيت اسم كلود لانغتنفي السجل. أما ما لم أخبرك به فهو أنني صادفته بعد ذلك مباشرة. وقد أخبرني بأنه كانيشتري سيانيد البوتاسيوم بناء على طلبك أنت لتدمير عش الزنابير. وقد أثار ذلكانتباهي باعتباره أمرا غريبا يا صديقي لأنني أتذكر أنك -في ذلك العشاء الذي تحدثتعنه- تكلمت مطولا عن الحسنات الكبيرة لاستخدام النفط واستنكرت شراء السيانيدباعتباره خطيرا وغير ضروري.
- استمر.
- وعرفت شيئا آخر. لقد رأيتكلود لانغتن وموليدين معا في مكان لم يكونا يعتقدان أن أحدا سيراهما فيه. انني لاأعرف تلك المشاجرة بين المحبين التي جعلتهما أساسا يفترقان ودفعت الفتاة اليكولكنني أدركت بأن سوء التفاهم بينهما قد زال وأن الأنسة دين كانت في طريق عودتهاالى حبيبها.
- استمر.
- وقد علمت شيئا آخر يا صديقي. لقد كنت في شارعهارلي شارع الأطباء قبل أيام وقد رأيتك تخرج من عيادة طبيب معين. وأنا أعرف الطبيبوأعرف المرض الذي يلجأ اليه الناس من أجله وقد رأيت التعبير على وجهك. ذلك التعبيرالذي لم أره سوى مرة أو مرتين طوال حياتي ولكنه تعبير لايمكن الخطأ فيه. كان وجهكوجه رجل حكم عليه بالاعدام. أنا على حق في هذا أليس كذلك؟
- على حق تماما, وقد قرر الطبيب أنني لن أعيش سوى شهرين.
- أنت لم ترني يا صديقي؛ لأنك كنتمشغولا جدا بأمور أخرى تفكر فيها. وقد رأيت شيئا آخر على وجهك ذلك الشئ الذي قلت لكعصر اليوم ان الرجال يحاولون اخفاءه... رأيت فيه الكراهية يا صديقي. انك لم تكلفنفسك عناء اخفاءها, لأنك لم تظن أن أحدا كان يراقبك.
- استمر.
- لميعد لدي كثير مما يقال. جئت هنا ورأيت اسم لانغتن بالمصادفة في سجل السموم كما قلتلك, ثم قابلته وجئتك هنا. لقد نصبت لك فخاخا. أنت أنكرت أنك طلبت من لانغتن الحصولعلى السيانيد أو بالأحرى عبرت عن دهشتك لفعلته ذاك. لقد فوجئت في البداية لدى رؤيتيولكنك سرعان ما أدركت أن وجودي سيكون مناسبا لما تفكر فيه, فشجعت شكوكي. كنت أعرفمن لانغتن نفسه أنه سيأتي هنا في الساعة الثامنة والنصف, ولكنك قلت انه سيجئ فيالتاسعة معتقدا أنني سآتي لأجد كل شئ منتهيا, وهكذا كنت أعرف كل شئ.
- لماذاأتيت؟ لو أنك فقط لم تأت!
اعتدل بوارو في جلسته وقال: لقد قلت لك, ان القتلهو اختصاصي.
- القتل؟ بل قل: الانتحار.
صدع صوت بوارو حادا واضحا وهويقولك كلا, بل أعني القتل. كان موتك سيكون سريعا وسهلا ولكن موت لانغتن الذي خطط لهكان أسوأ موت يمكن لانسان أن يلقاه, فهو الذي اشترى السم وهو الذي جاء لزيارتك وهو -وحده- الذي كان معك. تموت فجأة ويكشف السيانيد في كأسك ويشنق كلود لانغتن... تلككانت خطتك.
زمجر هاريسن مرة أخرى نائحا: لماذا أتيت؟ لماذا أتيت؟
- لقد أخبرتك. ولكن يوجد سبب آخر؛ وهو أنني أحبك. اسمع يا صديقي انك رجل يحتضر وقدفقدت الفتاة التي أحببتها ولكن شيئا واحدا لا يمكن أن تكونه... فأنت لست قاتلا. قللي الآن: أأنت سعيد أم آسف لحضوري.
ساد لحظات صمت, واعتدل هاريسن في جلسته. بدت في وجهه هيئة جديدة: هيئة رجل استطاع أن يتحكم بدخيلة نفسه العميقة. مد يده عبرالطاولة وصاح: شكرا لله أنك أتيت... آه, شكرا لله أنكأتيت.
Comment