(1)
لاأعرف لماذا انزعجت.
(2)
كنت أرتدي فستان الشيفون الأسود. وكنت أعاني صداعاً نصفياً حاداً. الغرفة المحجوزة لي في الطابق الرابع، واسعة: سريران ونافذة تطلّ على ساحة المدينة. قرنفلة حمراء في الكأس، وحبوب الصداع على الطربيزة.
شراشف ملونة كأن خريفاً تساقط عليها. موعد الحفلة لم يحن بعد. مازالت الطريق التي اجتزتها عالقة بقدمي. أجرجره من الغرب باتجاه الشمال والشرق. ساحبة البحر معي إلى تلك المدينة الصحراوية.
يتنازعني صمتٌ وباب ونافذة وانتظار، وبهو في الطابق السفلي يخبئ لي الأسرار والمفاجآت، ومساء لا أعرف كيف سأطوي عتمته، وهاتف أخرس طيلة الوقت يرنّ فجأة، فيخربط الهدوء ويلمّني عن السرير.
(3)
أنا أتفقد الغرفة.
كل حطام روحي جمعته وجلبته معي.
نزق أمي، نزق الزمن، صراخ أبي، وجوه بعض الأصدقاء، ثم الصداع. إني لاأترك شيئاً حين أسافر، من فرشاة الأسنان إلى آخر الهموم.
الهاتف يرن. لماذا دعوني وأنا لاوقت لديَّ للفرح؟
الهاتف يرنّ. ثمة أحد يستعجلني النزول. أتكاسل في رفع السماعة، لارغبة لدي بالتحدث والمجاملة ونثر الأسئلة. الهاتف يرن. ولكن لماذا انزعجت؟
(4)
كنت متأهبة لملاقاته. لقد حدثني أحمد عنه كثيراً حتى قلت له مرة "صرعتني به" ابتسم وقال: "اسمعي" إنه رجل رائع. وهو صديقي جداً جداً.
سرد تاريخ معرفتهما. هززت رأسي. ماعلاقتي أنا؟ ومرة أعطاني السماعة وقال: سلمي عليه. إنه يعرفك، لقد حدثته عنك، كدت أغلق الخط.
لماذا أسلّم على رجل لاأعرفه؟ لم أحب هذه الطريقة، مع ذلك.
أخذت السماعة وسلمت.
"حدثني أحمد عنك كثيراً"
"وأنا كذلك. نحن نعرف بعضنا"
وإذ أغلقت السماعة لاأعرف لماذا اعتراني الفضول كي أشاهد هذا الرجل.
ثم تتالت حواراتنا عبر الهاتف في المناسبات. كان يعرف عني كلّ شيء من خلال أحمد. وكان قد شاهد بعض لوحاتي المرسومة على الخشب. وأنا بالمقابل عرفت عنه أشياء كثيرة، لكنّها لاتهمني. مع ذلك وجدتني مع كل هاتف أرسم له شكلاً معيناً.
مرة أعطيه شكل أخي الكبير. ومرة أعطيه شكل أبي، ولكن سرعان ماأعتقد أنه يشبه خالي كامل.. هكذا: طويل، وسيم، عريض المنكبين، له صوت جميل، وربما كان أجمل من خالي.
في مكالمة تالية، أعطيته شكل عمي: قصير القامة، ممتلئ الجسم، أسمر الوجه، بعد ذلك أمحو كل التصورات والملامح والأسماء زاعمة بأنها لاتعنيني.
(5)
كان أحمد صلة الوصل بيننا.
صرت أعرف متى يسافر عليّ، ماذا يحبّ، كيف يعيش تقريباً. ولكن كنت أثبت لأحمد دائماً أن اهتمامي بعليّ -الذي لم أره أبداً- يعني اهتمامي بأحمد.
وعندما كنّا نتحدث عليّ وأنا، كان أحمد محور الحديث. أحياناً كنت أدير ظهري لكل هذه المجاملات والطقوس وأتمرد على قوانين العلاقات المعتمدة على الزيف، في الوقت الذي نكون فيه نكاد ننفجر.
كنت أبرر لنفسي دائماً: لاشيء يقيدني، أنا أتحدث مع من أشاء، ساعة أشاء، وليس من أجل إرضاء أحد. هذا الـ -علي- لايعنيني كصديق.
إنه صديق صديقي وكفى. عالمه غير عالمي، وهمومه لاتشبه همومي. إنه لايقع ضمن دائرة تخيلاتي. والقواسم المشتركة بيننا قليلة.
أحمد عاتبني بشدة. قلت له: آن لنا أن نختار أصدقاءنا. ماعدت قادرة على المجاملة.
"آن لي أن أكون أنا. أنا"
"ولكن عليّ رائع"
"لا أحد رائع إلا بعد تجربة. كنت ملدوغة من الزمن، ومن الأصدقاء، لذلك كنت سريعة الحكم والهروب. "ولكن لماذا انزعجت عندما تقابلنا لأول مرة؟! "
"لا أعرف."
(6)
كان تشرين في أواخره.
هوى تشرين يحرر الورق الأصفر الحزين. الغيوم تتكدس وراء نافذة الغرفة في الطابق الرابع، تطلّ على ساحة المدينة.
الساحة واسعة، موحشة، غريبة، الباب مقفل وأنا غريبة ومتعبة لا اعرف كيف أرمي أكداس القلق من هذه النافذة في الساحة ليتشظّى ويتناثر والناس يقولون: امرأة بحرية رمت أسماءها ووجعها الساحلي في ساحتنا، فهل لأحدكم اعتراض؟!
كنت أسمع الجدران تتكلم: "سيعترض عمال البلدية. سيعترض رئيس البلدية، والمحافظ، سيقولون: من أين لنا بالعمال ينظفون هذا الكم الهائل من الحزن والهذيان المتناثر في الساحة.
الساحة للاحتفالات. للعروض التي تظهر قوة المدينة وعظمة المحافظ وضخامة رئيس البلدية. الساحة للفرح. يستعرض بها الناس مقتنياتهم النادرة وكتبهم العملاقة وسيوفهم الفتّاكة. إنها لاتخصّ فرداً يلقي بها أحزانه ويجلبنا لنتفرج عليها.
"ولكن أنا من الشعب. والشعب يعني أنا".
"الحزن كالفرح، نحتاج لنعبّر عنه"
"من أنت يا امرأة؟"
"أنا ..سيدي امرأة غريبة، تشيل همومها اليومية وإرثها القديم من البطش على كتفيها. رأيت الساحة خالية، وأريد أن أذهب إلى حفل صديقي. لم أستطع إيجاد مكان أفضل من الساحة الواسعة ألقي بهمومي كي أرتاح، وأذهب إلى الحفلة مبتجهة. كي.."
"..... "
"لا. لم يعترضني حراس المفارق. ولم يفتشوا رأسي في الطريق. آه" رأسي يؤلمني الصداع اللعين...آخ"
ينتشلني الهاتف الذي يرن. أركض إليه حافية. أتزحلق. أصطدم بحافة السرير. أقع. أظلّ على الأرض مكومة. ينتهي الرنين وأنا ماأزال كقطة خائفة، لا أقدر على النهوض.
ظننت أن صديقي يستعجلني. أتلمس صدري المرضوض. أعتقد أن ضلعاً قد كسر. نهضت بتثاقل. شتمت الفندق، وعماله الذين رفعوا الموكيت. شتمت الذي اتصل. عاد الهاتف إلى الرنين. رفعت السماعة. حاضر. سأنز.. ولم أكمل. كان الصوت هادئاً: أنا علي، علمت أنك موجودة هنا. هل أقدر أن أراك؟
"طبعاً"
تلعثمت: أنا في الغرفة "407" في الطابق.. وفي الجهة.. في المدينة التي تجرّدني من اسمي وعناويني ويبقى شكلي الخارجي فقط: أنثى سمراء، طولها كذا، وزنها كذا، أصدقاؤها هم كذا.. مرت هنا و.
قال: مسافة الطريق.
مسافة؟!
أي مسافة يقصد؟!
الآن سيأتي. يريد اجتياز الساحة التي تفصلنا. لن يقدر. سيرى الساحة مملوءة بالتماثيل الصغيرة التي فرّخها التمثال الكبير. لا . لن يستطيع العبور. عليه أن ينحني ويلتفّ. تماثيل القلق التي نثرتها في الساحة تشكل مطبّات وحواجز.
ولكن: كل هذه التماثيل أنا جلبتها؟!
لا أظن. ربما تشجّع غيري ورمى بعض تماثيله التي تثقل ظهره؟ أو كنسّ بيته الذي ضاق بهذه التماثيل وأراد أن يتخلّص منها؟!
لاأعتقد بأنها كلها تخصّني. أرقب الساحة وأنا أفكر بالحوار الذي سأديره مع علي. إنه حوار وجه لوجه. حوار مختلف عن حوارات الهاتف
أوه..
مسافة؟!
أحاول اختراع حوارات لطيفة أحدّث بها عليّ" الصداع يشجّ رأسي. أستلقي على السرير. غيوم تتساقط في الغرفة. صَدري يؤلمني. لابدّ أن ضلعاً قد كسر. ليكنْ. أصير ناقصة ضلعين بدلاً من ضلع واحد. سيكون ذلك ميزة أنثوية فائقة بالنسبة لي. أتأوه وحدي. أتقلّب على السرير حتى لايتجعّد فستان الشيفون الأسود، المنسدل على جسدي.
"ترى كيف يتصورني عليّ؟!"
أنا أتصوره وسيماً. أنيقاً. أحمد قال: بأنه دار العالم. نهل من ثقافات كثيرة. وتعرّف على نساء كثيرات. إذن يجب أن يكون وسيماً.
بالتأكيد هو لايشبه فلاحي قريتي المشققة أكفهم بالمطر والوحل. لايشبه زملائي الموظفين الذي يرتدون القميص طيلة العام، يغسلونه ويكوونه ثم يعيدون الكرّة حتى تتنسَّل خيوطه ويجرد لونه. قد يشبه ابن عمي عامر الفنان. أو يشبه صديقي الجراح الكبير. أو. يُقرع الباب: انهض. أسدل ثوبي الأسود الشيفون. "من؟"
"أنا عليّ"
أدير قبضة الباب. القبضة لاتدور. أحاول شدّها. "لحظة من فضلك الباب لاينفتح" أشعر بالحرج. أحاول مرات حتى أجرح أصابعي.
يظنني مشغولة بوضع العطر. أعارك الباب مرّة أخرى. يديرُ أكرة الباب. أخيراً ننجح: هاهو أمامي. أتراجع إلى الوراء. تتلعثم أصابعي في كفّه الرقيقة. أهتدي إلى كلمة "تفضل".
جلس على حافة السرير. ظللت واقفة لا أعرف كيف أبدد خيوط الدهشة. تأملني. أطرقتُ رأسي. ساد الصمت. كنت خجلة جداً.
... ... ...
(7)
ماذا لو أن الباب لم ينفتح.
"أنا أعرفك جيداً.." قال كي يكسر زجاج الصمت. لم أستطع الكلام. أربكتني المفاجأة. وأحزنني الرهان الخاسر مع خيالاتي. للأسف هو لايشبه أبي أو عمي ولا أخي الكبير. إنه لايشبه خالي. ولايشبه عامر.. لماذا؟ لماذا انزعجت؟ ماعلاقتي به؟!
"أتشرب القهوة؟ "
"لا. لن أعطلك عن الحفلة"
اعتراني إحساس بالحزن والأسى. لقد خسرت مع نبوءتي. إذن الصوت لايحدد الشكل.
"ولكن لدي وقت كافٍ لنشرب القهوة"
لكنه يرفض. هكذا ببساطة يأتي، وببساطة ينسحب. "لن أعطلك" ما أثقل هذه العبارة! ليكن. أظنه جاء ليرى شكلي، وأنا كنت أريد أن أرى شكله بعد المهاتفات والحوارات. ولكن لماذا حضرَ الشكل وغاب الحوار؟
نزلنا معاً البهوَ. ودعني. كانت يده باردة، وكان صوتي بارداً. راقبته من بعيد. تكسر غصن برتقال في روحي. هل كنت أنتظر صورة أخرى لصوت أعرفه؟!
في السهرة نسيت اللقاء، وعاتبت نفسي كلما تذكرت انزعاجي. ليكن طويلاً، قصيراً، نحيلاً، شاباً، عجوزاً، بشعاً، ماعلاقتي به؟!
.... ... ...
لا. لم يغير لقاؤنا من طريقة الحوار. نبدأ بالطقس، وآخر لوحاتي، وننهي الحديث بالكلام عن أحمد وعن آخر أعماله. لكني صرت أستفقد هواتفه عندما يتأخر.
وقد أسال عنه أو أتصل به. وشيئاً فشيئاً صار وجهه يطغى ويحتل غرفتي. لم أكن أخطط لذلك، فأنا لاأميل بالتدريج. دائماً أخشى اللقاء الأول. ولقائي الأول به مرّ. لم يبق في ذاكرتي إلا لون ثيابه -طقمه الأخضر- أو الزيتوني. والباب الذي رفض أن ينفتح مباشرة كأن الأبواب تدرك ماوراءها؟ يضحك. "أتذكر ذلك؟"
غمرني بنظرة شفيفة وقال: أذكره، وأذكر ماذا كنت ترتدين. إنه ثوب الشيفون الأسود. الجميل. المثير. الـ.
وأنت كنت ترتدي اللون الزيتوني المخضّر. يومها لا أعرف لماذا انزعجت؟ لم أخبرك إلا بعد زمن طويل وكان الوقت ليلاً، والهواء الشمالي يعصف بالمدينة. كانت الآلهة خائفة، والأشجار خائفة، المدفأة تئن، وأنا أرسم، وإذ رنّ الهاتف وسمعت صوتك ارتبكتُ. رحت أهرب من ارتباكي بأسئلة عابرة عن الطقس والبرد والمكان الذي تتكلم منه.
"أكلمك من المدينة التي التقينا بها لأول مرّة.
"صحيح..؟ أتذكر تفاصيل ذلك اللقاء الآن"
"كيف الطقس عندك؟ برد؟ بردانة؟"
"جداً.. برد وهواء شمالي يصفرّ على النوافذ""
"عندك برد؟"
"لا.. المكان مدفأ. تعالي أدفئك بين ذراعي. ألو."
ساد الصمت. وجهك ملأ الغرفة. انصهرت ألوان ثيابك مع ثوبي الشيفون الأسود.
"لماذا قلتها؟
"ماذا قلت؟"
"قلت: تعالي أدفئك؟
"الحق على البرد" ابتسم.
كلمة واحدة حملتني إلى غرفتك. اجتزت مسافات وجبال صقيع وتكومت بين يديك. يبدو أن لكل حالة توحد كلمة واحدة. كلمة تكفي لتصير أنت كل الرجال وأصير أنا كل النساء. كلمة؟! قد نقضي العمر ولانجدها. وقد تنبجس فجأة من بين ركام الكلام والوجوه والألوان فتزيل تماثيل القلق من الساحات وتلغي البرد والمسافات وكل الوجوه والأسماء و. هناك أشياء تُحسّ ولاتقال.
(9)
غمرت رأسها في صدره وقالت: "ماذا لو لم ترتدِ أنت الأخضر" وأنا لم أرتدِ فستان الشيفون الأسود. أو أنني ماجئت المدينة لحضور حفلةٍ. ماذا لو أن الباب لم ينفتح؟ كنت ستظلّ صديق صديقي لا أكثر”
طوقها بذراعيه. شعرت رائحته تتغلغل إلى مسام روحها.. تأملته. إنه ليس الذي رأته أول مرّة. إنه الذي تراه بقلبها. وهو لايشبه أباها ولا أخاها ولا... إنه يشبه كل الذين تحبهم. نظرت إلى عينيه "ماذا لو أن الباب لم ينفتح؟
مرر أنامله في شعرها الأسود. همس. "مع ذلك كنّا التقينا"
لاأعرف لماذا انزعجت.
(2)
كنت أرتدي فستان الشيفون الأسود. وكنت أعاني صداعاً نصفياً حاداً. الغرفة المحجوزة لي في الطابق الرابع، واسعة: سريران ونافذة تطلّ على ساحة المدينة. قرنفلة حمراء في الكأس، وحبوب الصداع على الطربيزة.
شراشف ملونة كأن خريفاً تساقط عليها. موعد الحفلة لم يحن بعد. مازالت الطريق التي اجتزتها عالقة بقدمي. أجرجره من الغرب باتجاه الشمال والشرق. ساحبة البحر معي إلى تلك المدينة الصحراوية.
يتنازعني صمتٌ وباب ونافذة وانتظار، وبهو في الطابق السفلي يخبئ لي الأسرار والمفاجآت، ومساء لا أعرف كيف سأطوي عتمته، وهاتف أخرس طيلة الوقت يرنّ فجأة، فيخربط الهدوء ويلمّني عن السرير.
(3)
أنا أتفقد الغرفة.
كل حطام روحي جمعته وجلبته معي.
نزق أمي، نزق الزمن، صراخ أبي، وجوه بعض الأصدقاء، ثم الصداع. إني لاأترك شيئاً حين أسافر، من فرشاة الأسنان إلى آخر الهموم.
الهاتف يرن. لماذا دعوني وأنا لاوقت لديَّ للفرح؟
الهاتف يرنّ. ثمة أحد يستعجلني النزول. أتكاسل في رفع السماعة، لارغبة لدي بالتحدث والمجاملة ونثر الأسئلة. الهاتف يرن. ولكن لماذا انزعجت؟
(4)
كنت متأهبة لملاقاته. لقد حدثني أحمد عنه كثيراً حتى قلت له مرة "صرعتني به" ابتسم وقال: "اسمعي" إنه رجل رائع. وهو صديقي جداً جداً.
سرد تاريخ معرفتهما. هززت رأسي. ماعلاقتي أنا؟ ومرة أعطاني السماعة وقال: سلمي عليه. إنه يعرفك، لقد حدثته عنك، كدت أغلق الخط.
لماذا أسلّم على رجل لاأعرفه؟ لم أحب هذه الطريقة، مع ذلك.
أخذت السماعة وسلمت.
"حدثني أحمد عنك كثيراً"
"وأنا كذلك. نحن نعرف بعضنا"
وإذ أغلقت السماعة لاأعرف لماذا اعتراني الفضول كي أشاهد هذا الرجل.
ثم تتالت حواراتنا عبر الهاتف في المناسبات. كان يعرف عني كلّ شيء من خلال أحمد. وكان قد شاهد بعض لوحاتي المرسومة على الخشب. وأنا بالمقابل عرفت عنه أشياء كثيرة، لكنّها لاتهمني. مع ذلك وجدتني مع كل هاتف أرسم له شكلاً معيناً.
مرة أعطيه شكل أخي الكبير. ومرة أعطيه شكل أبي، ولكن سرعان ماأعتقد أنه يشبه خالي كامل.. هكذا: طويل، وسيم، عريض المنكبين، له صوت جميل، وربما كان أجمل من خالي.
في مكالمة تالية، أعطيته شكل عمي: قصير القامة، ممتلئ الجسم، أسمر الوجه، بعد ذلك أمحو كل التصورات والملامح والأسماء زاعمة بأنها لاتعنيني.
(5)
كان أحمد صلة الوصل بيننا.
صرت أعرف متى يسافر عليّ، ماذا يحبّ، كيف يعيش تقريباً. ولكن كنت أثبت لأحمد دائماً أن اهتمامي بعليّ -الذي لم أره أبداً- يعني اهتمامي بأحمد.
وعندما كنّا نتحدث عليّ وأنا، كان أحمد محور الحديث. أحياناً كنت أدير ظهري لكل هذه المجاملات والطقوس وأتمرد على قوانين العلاقات المعتمدة على الزيف، في الوقت الذي نكون فيه نكاد ننفجر.
كنت أبرر لنفسي دائماً: لاشيء يقيدني، أنا أتحدث مع من أشاء، ساعة أشاء، وليس من أجل إرضاء أحد. هذا الـ -علي- لايعنيني كصديق.
إنه صديق صديقي وكفى. عالمه غير عالمي، وهمومه لاتشبه همومي. إنه لايقع ضمن دائرة تخيلاتي. والقواسم المشتركة بيننا قليلة.
أحمد عاتبني بشدة. قلت له: آن لنا أن نختار أصدقاءنا. ماعدت قادرة على المجاملة.
"آن لي أن أكون أنا. أنا"
"ولكن عليّ رائع"
"لا أحد رائع إلا بعد تجربة. كنت ملدوغة من الزمن، ومن الأصدقاء، لذلك كنت سريعة الحكم والهروب. "ولكن لماذا انزعجت عندما تقابلنا لأول مرة؟! "
"لا أعرف."
(6)
كان تشرين في أواخره.
هوى تشرين يحرر الورق الأصفر الحزين. الغيوم تتكدس وراء نافذة الغرفة في الطابق الرابع، تطلّ على ساحة المدينة.
الساحة واسعة، موحشة، غريبة، الباب مقفل وأنا غريبة ومتعبة لا اعرف كيف أرمي أكداس القلق من هذه النافذة في الساحة ليتشظّى ويتناثر والناس يقولون: امرأة بحرية رمت أسماءها ووجعها الساحلي في ساحتنا، فهل لأحدكم اعتراض؟!
كنت أسمع الجدران تتكلم: "سيعترض عمال البلدية. سيعترض رئيس البلدية، والمحافظ، سيقولون: من أين لنا بالعمال ينظفون هذا الكم الهائل من الحزن والهذيان المتناثر في الساحة.
الساحة للاحتفالات. للعروض التي تظهر قوة المدينة وعظمة المحافظ وضخامة رئيس البلدية. الساحة للفرح. يستعرض بها الناس مقتنياتهم النادرة وكتبهم العملاقة وسيوفهم الفتّاكة. إنها لاتخصّ فرداً يلقي بها أحزانه ويجلبنا لنتفرج عليها.
"ولكن أنا من الشعب. والشعب يعني أنا".
"الحزن كالفرح، نحتاج لنعبّر عنه"
"من أنت يا امرأة؟"
"أنا ..سيدي امرأة غريبة، تشيل همومها اليومية وإرثها القديم من البطش على كتفيها. رأيت الساحة خالية، وأريد أن أذهب إلى حفل صديقي. لم أستطع إيجاد مكان أفضل من الساحة الواسعة ألقي بهمومي كي أرتاح، وأذهب إلى الحفلة مبتجهة. كي.."
"..... "
"لا. لم يعترضني حراس المفارق. ولم يفتشوا رأسي في الطريق. آه" رأسي يؤلمني الصداع اللعين...آخ"
ينتشلني الهاتف الذي يرن. أركض إليه حافية. أتزحلق. أصطدم بحافة السرير. أقع. أظلّ على الأرض مكومة. ينتهي الرنين وأنا ماأزال كقطة خائفة، لا أقدر على النهوض.
ظننت أن صديقي يستعجلني. أتلمس صدري المرضوض. أعتقد أن ضلعاً قد كسر. نهضت بتثاقل. شتمت الفندق، وعماله الذين رفعوا الموكيت. شتمت الذي اتصل. عاد الهاتف إلى الرنين. رفعت السماعة. حاضر. سأنز.. ولم أكمل. كان الصوت هادئاً: أنا علي، علمت أنك موجودة هنا. هل أقدر أن أراك؟
"طبعاً"
تلعثمت: أنا في الغرفة "407" في الطابق.. وفي الجهة.. في المدينة التي تجرّدني من اسمي وعناويني ويبقى شكلي الخارجي فقط: أنثى سمراء، طولها كذا، وزنها كذا، أصدقاؤها هم كذا.. مرت هنا و.
قال: مسافة الطريق.
مسافة؟!
أي مسافة يقصد؟!
الآن سيأتي. يريد اجتياز الساحة التي تفصلنا. لن يقدر. سيرى الساحة مملوءة بالتماثيل الصغيرة التي فرّخها التمثال الكبير. لا . لن يستطيع العبور. عليه أن ينحني ويلتفّ. تماثيل القلق التي نثرتها في الساحة تشكل مطبّات وحواجز.
ولكن: كل هذه التماثيل أنا جلبتها؟!
لا أظن. ربما تشجّع غيري ورمى بعض تماثيله التي تثقل ظهره؟ أو كنسّ بيته الذي ضاق بهذه التماثيل وأراد أن يتخلّص منها؟!
لاأعتقد بأنها كلها تخصّني. أرقب الساحة وأنا أفكر بالحوار الذي سأديره مع علي. إنه حوار وجه لوجه. حوار مختلف عن حوارات الهاتف
أوه..
مسافة؟!
أحاول اختراع حوارات لطيفة أحدّث بها عليّ" الصداع يشجّ رأسي. أستلقي على السرير. غيوم تتساقط في الغرفة. صَدري يؤلمني. لابدّ أن ضلعاً قد كسر. ليكنْ. أصير ناقصة ضلعين بدلاً من ضلع واحد. سيكون ذلك ميزة أنثوية فائقة بالنسبة لي. أتأوه وحدي. أتقلّب على السرير حتى لايتجعّد فستان الشيفون الأسود، المنسدل على جسدي.
"ترى كيف يتصورني عليّ؟!"
أنا أتصوره وسيماً. أنيقاً. أحمد قال: بأنه دار العالم. نهل من ثقافات كثيرة. وتعرّف على نساء كثيرات. إذن يجب أن يكون وسيماً.
بالتأكيد هو لايشبه فلاحي قريتي المشققة أكفهم بالمطر والوحل. لايشبه زملائي الموظفين الذي يرتدون القميص طيلة العام، يغسلونه ويكوونه ثم يعيدون الكرّة حتى تتنسَّل خيوطه ويجرد لونه. قد يشبه ابن عمي عامر الفنان. أو يشبه صديقي الجراح الكبير. أو. يُقرع الباب: انهض. أسدل ثوبي الأسود الشيفون. "من؟"
"أنا عليّ"
أدير قبضة الباب. القبضة لاتدور. أحاول شدّها. "لحظة من فضلك الباب لاينفتح" أشعر بالحرج. أحاول مرات حتى أجرح أصابعي.
يظنني مشغولة بوضع العطر. أعارك الباب مرّة أخرى. يديرُ أكرة الباب. أخيراً ننجح: هاهو أمامي. أتراجع إلى الوراء. تتلعثم أصابعي في كفّه الرقيقة. أهتدي إلى كلمة "تفضل".
جلس على حافة السرير. ظللت واقفة لا أعرف كيف أبدد خيوط الدهشة. تأملني. أطرقتُ رأسي. ساد الصمت. كنت خجلة جداً.
... ... ...
(7)
ماذا لو أن الباب لم ينفتح.
"أنا أعرفك جيداً.." قال كي يكسر زجاج الصمت. لم أستطع الكلام. أربكتني المفاجأة. وأحزنني الرهان الخاسر مع خيالاتي. للأسف هو لايشبه أبي أو عمي ولا أخي الكبير. إنه لايشبه خالي. ولايشبه عامر.. لماذا؟ لماذا انزعجت؟ ماعلاقتي به؟!
"أتشرب القهوة؟ "
"لا. لن أعطلك عن الحفلة"
اعتراني إحساس بالحزن والأسى. لقد خسرت مع نبوءتي. إذن الصوت لايحدد الشكل.
"ولكن لدي وقت كافٍ لنشرب القهوة"
لكنه يرفض. هكذا ببساطة يأتي، وببساطة ينسحب. "لن أعطلك" ما أثقل هذه العبارة! ليكن. أظنه جاء ليرى شكلي، وأنا كنت أريد أن أرى شكله بعد المهاتفات والحوارات. ولكن لماذا حضرَ الشكل وغاب الحوار؟
نزلنا معاً البهوَ. ودعني. كانت يده باردة، وكان صوتي بارداً. راقبته من بعيد. تكسر غصن برتقال في روحي. هل كنت أنتظر صورة أخرى لصوت أعرفه؟!
في السهرة نسيت اللقاء، وعاتبت نفسي كلما تذكرت انزعاجي. ليكن طويلاً، قصيراً، نحيلاً، شاباً، عجوزاً، بشعاً، ماعلاقتي به؟!
.... ... ...
لا. لم يغير لقاؤنا من طريقة الحوار. نبدأ بالطقس، وآخر لوحاتي، وننهي الحديث بالكلام عن أحمد وعن آخر أعماله. لكني صرت أستفقد هواتفه عندما يتأخر.
وقد أسال عنه أو أتصل به. وشيئاً فشيئاً صار وجهه يطغى ويحتل غرفتي. لم أكن أخطط لذلك، فأنا لاأميل بالتدريج. دائماً أخشى اللقاء الأول. ولقائي الأول به مرّ. لم يبق في ذاكرتي إلا لون ثيابه -طقمه الأخضر- أو الزيتوني. والباب الذي رفض أن ينفتح مباشرة كأن الأبواب تدرك ماوراءها؟ يضحك. "أتذكر ذلك؟"
غمرني بنظرة شفيفة وقال: أذكره، وأذكر ماذا كنت ترتدين. إنه ثوب الشيفون الأسود. الجميل. المثير. الـ.
وأنت كنت ترتدي اللون الزيتوني المخضّر. يومها لا أعرف لماذا انزعجت؟ لم أخبرك إلا بعد زمن طويل وكان الوقت ليلاً، والهواء الشمالي يعصف بالمدينة. كانت الآلهة خائفة، والأشجار خائفة، المدفأة تئن، وأنا أرسم، وإذ رنّ الهاتف وسمعت صوتك ارتبكتُ. رحت أهرب من ارتباكي بأسئلة عابرة عن الطقس والبرد والمكان الذي تتكلم منه.
"أكلمك من المدينة التي التقينا بها لأول مرّة.
"صحيح..؟ أتذكر تفاصيل ذلك اللقاء الآن"
"كيف الطقس عندك؟ برد؟ بردانة؟"
"جداً.. برد وهواء شمالي يصفرّ على النوافذ""
"عندك برد؟"
"لا.. المكان مدفأ. تعالي أدفئك بين ذراعي. ألو."
ساد الصمت. وجهك ملأ الغرفة. انصهرت ألوان ثيابك مع ثوبي الشيفون الأسود.
"لماذا قلتها؟
"ماذا قلت؟"
"قلت: تعالي أدفئك؟
"الحق على البرد" ابتسم.
كلمة واحدة حملتني إلى غرفتك. اجتزت مسافات وجبال صقيع وتكومت بين يديك. يبدو أن لكل حالة توحد كلمة واحدة. كلمة تكفي لتصير أنت كل الرجال وأصير أنا كل النساء. كلمة؟! قد نقضي العمر ولانجدها. وقد تنبجس فجأة من بين ركام الكلام والوجوه والألوان فتزيل تماثيل القلق من الساحات وتلغي البرد والمسافات وكل الوجوه والأسماء و. هناك أشياء تُحسّ ولاتقال.
(9)
غمرت رأسها في صدره وقالت: "ماذا لو لم ترتدِ أنت الأخضر" وأنا لم أرتدِ فستان الشيفون الأسود. أو أنني ماجئت المدينة لحضور حفلةٍ. ماذا لو أن الباب لم ينفتح؟ كنت ستظلّ صديق صديقي لا أكثر”
طوقها بذراعيه. شعرت رائحته تتغلغل إلى مسام روحها.. تأملته. إنه ليس الذي رأته أول مرّة. إنه الذي تراه بقلبها. وهو لايشبه أباها ولا أخاها ولا... إنه يشبه كل الذين تحبهم. نظرت إلى عينيه "ماذا لو أن الباب لم ينفتح؟
مرر أنامله في شعرها الأسود. همس. "مع ذلك كنّا التقينا"
Comment